رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والتاسع عشر
رغم خجل نوح السابق كانت سيرين تدرك أنه طفل هادئ بطبعه لا يُحدث جلبةً إلا حين يضطره الألم لذلك… كان وجهه الصغير يشحب أحيانًا من شدّة مرضه ومع ذلك ما إن تقع عيناه على لعبة حتى تلمع فيهما شرارة الحياة لذا لم تستغرب انفعاله حين لم تُتح له فرصة الحصول على الدمية.
اقتربت منه تُهدئه بحنوٍّ:
ــ “لا تبكِ يا نوح، سأجد طريقة أخرى، أعدك.”
لكن قبل أن تُتم كلماتها تدخّل كارم بصوتٍ عزمٍ لطيف:
ــ “نوح، سأفوز لك باللعبة مع أمك، ما رأيك؟”
توقفت دموع نوح في الحال ورفع نظره إلى كارم باندهاشٍ ممزوج بالأمل ثم قال وهو يشهق:
ــ “حسنًا، لكن… ابذلا قصارى جهدكما!”
ابتسمت سيرين بخجلٍ وحيرة ثم تبعتهما نحو منصة اللعبة حيث سُجّل الثلاثة أسماءهم ومع اكتمال العشرة أزواج بدأ الموظف بشرح القواعد بصوتٍ حماسي.
كانت اللعبة بسيطة في ظاهرها: يقف كل ثنائي متقابلين، تُعصب أعينهما، ثم يُسقط المشرف شيئًا على الحبل أمامهما — تفاحة، أو ورقة، أو حتى بالون — وعليهما أن يمنعا الجسم من السقوط دون استخدام الأيدي.
حين صعدت سيرين إلى المسرح إلى جانب كارم كان البالون الضخم أول اختبارٍ لهما. أُعلنت البداية فخطا كلاهما خطوة للأمام بثقة ولامس البالون بين جسديهما في توازنٍ محكم.
من طرف الصالة دوّى صوت نوح مفعمًا بالحماس:
ــ “حظًا سعيدًا يا أمي! حظًا سعيدًا يا أبي!”
ارتسمت على شفتي سيرين ابتسامةٌ صغيرة ثم شدّت من عزمها… لم تكن تريد الفوز بالباندا فقط بل كانت تريد أن تفرّح ابنها المريض، أن ترى ذلك البريق الطفولي يعود إلى عينيه.
توالت الجولات وكلّ جولةٍ كانت تُقرب بين جسديهما أكثر… تماسّ خفيف، ثم دفء، ثم صمتٌ غامض يتسلل بينهما وسط ضحكات الحاضرين.
وبعد أن أُقصي الجميع تقريبًا لم يبقَ سوى فريقين. أعلن المشرف بابتسامةٍ مشوقة:
ــ “أما الجولة الأخيرة… فالعنصر هو— ورقة!”
بدت الكلمة خفيفة لكنها حملت معها ما هو أثقل من التحدي نفسه.
حين بدأت اللعبة تقدّمت سيرين بخطواتٍ مترددة إلى الأمام لامست الورقة وجهها بخفةٍ كنسمةٍ عابرة وقبل أن تستوعب الموقف كان كارم قد جذبها إليه دون قصد يحتضنها ليمنع الورقة من السقوط… انحنى قليلًا، فالتقت شفتاه بخاصتها في لحظةٍ خاطفةٍ أربكت الزمن ذاته فبدا وكأن العالم قد توقف عن الدوران ثم اخترق صوت الموظف سكون اللحظة قائلًا بمرح:
“تهانينا! لقد فزتما!”
في تلك الأثناء كان نوح يلتقط صورة لهما بهاتف كارم وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة.
دوّى تصفيق الجمهور من حولهما بينما احمرّ وجه سيرين خجلًا حتى غدت وجنتاها كزهرتي رمان وسرعان ما خلعت العصابة عن عينيها دون أن تجرؤ على النظر إلى كارم.
بعد قليل اصطحباه إلى المستشفى… كان نوح يحتضن دميته الجديدة – باندا ضخمة – ووجهه يفيض سعادةً لا تخلو من الانتصار ومن ثم قال بصوته الضعيف المفعم بالأمل وشيء من المؤامرة:
“أمي، هل ستأتين مع أبي لزيارتي في المرة القادمة؟”
أومأت سيرين برأسها وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة يغمرها الذهول:
“بالطبع، يا عزيزي.”
وحين غادر نوح التفت إليها كارم قائلاً بلطف:
“دعيني أوصلك إلى المنزل.”
هزّت رأسها رافضة برقةٍ وحرص:
“لا داعي، قدتُ السيارة بنفسي، وإن أوصلتني ستبقى سيارتي هنا وسيكون الأمر مزعجًا لي.”
تجنّبت النظر إليه وهي تتحدث فابتسم بخفوتٍ وقال في هدوءٍ صبور:
“كما تشائين. متى تكونين متفرغة لِنذهب معًا لزيارة نوح مرة أخرى.”
ترددت قليلًا ثم أجابت:
“لست متأكدة بعد… كنت قد وعدت كوثر بزيارتها منذ أيام.”
أدرك كارم ما وراء كلماتها فعرف أنها ما زالت تضع بينهما مسافةً من الحذر فاختار أن يمنحها الوقت وقال بلطفٍ متفهم:
“حسنًا، أخبريني عندما تكونين جاهزة.”
أومأت بهدوءٍ دون أن ترفع عينيها نحوه واكتفت بكلمةٍ قصيرةٍ كأنها تخشى أن يفضح صوتها اضطرابها:
“نعم.”
بعد مغادرتها أخرج كارم هاتفه ببطء وألقى نظرة على الصورة التي التقطها نوح فابتسم لا إراديًّا وقد ارتسم على وجهه مزيج من الدفء والحنين كأن تلك الصورة التقطت شيئًا أعمق من مجرد لحظة لعب — شيئًا لم يكن مستعدًا لمواجهته بعد.
لكن سكون اللحظة لم يدم طويلًا؛ إذ دوّى رنين الهاتف ليقطع خيط أفكاره… رقمٌ مجهول يظهر على الشاشة… ضغط زر الإجابة، فجاءه صوتٌ رجولي رسمي يقول ببرودٍ محسوب:
“سيد كارم، أنا مساعد السيد ظافر أتصل لأحذّرك من الاقتراب من السيدة سيرين. فهي لم تنفصل بعد.”
في تلك اللحظة أدرك كارم أن وراء هذا الاتصال شيئًا من المراقبة المتعمدة… كان ماهر — الذي وجد وظيفة قريبة من صالة الألعاب — قد لمح سيرين برفقته ذلك اليوم.
ارتسمت على شفتي كارم ابتسامة ساخرة ثم ردّ بصوتٍ باردٍ لا يخلو من التحدي:
“حقًا؟ في هذه الحالة، بلّغ السيد ظافر أنني رجل لا أهاب انتزاع ما يظنه الناس ملكًا لهم… ولأطمئنه أكثر، لستُ أتحدث عن زوجته فقط… بل عن مشروعه أيضًا… أخبره أن يعيد ما سلبه مني من قبل قبل أن أستعيده بنفسي.”
ثم أنهى المكالمة بابتسامةٍ أكثر حدة كأنها وعدٌ بالانتقام لا رجعة فيه.
