![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الواحد والثلاثون بقلم فاطيما يوسف
تعَ أيها الفتى المبتدِئُ في الحب؛ سأعطيك الخبر اليقين في قوانين القُرب، يابني لا تجرح من تهواه وإذا جُرحت منه فسامح،
تيقن أيّها الفتى المُبتدِئُ في دروبِ الهوى؛ بأن العِشقُ لا يكتملُ إلّا بقلبٍ يتّسِعُ للغفران لأنه من الغرام اكتوى، واعلمْ يا بُنيّ أنّ المُحبَّ إذا ضاق صدرُهُ عن العفوِ ذبُلَت زهورُ الوصال بين يديه واستوى، فاسْقِ علاقتكَ بالتسامح، تُزهِرُ قلوبكم رغم العثرات، وتنهضُ بعد كلِّ انكسار،
واعفُ عمّن تهواه، فالعاشقُ الحقُّ لا يَحمل في قلبه ثأرًا ولا يَكتبُ في دفاترِه ضغينة ولا يُلقي اعتبار،وتذكّرْ أنّ الحبَّ الذي لا يَغفر، يموتُ عطشًا قبل أن يَبلُغَ نبعَ السكينة ويصل حينها إلى حافة الانهيار.
#بقلمي_فاطيما_يوسف✍️✍️
وفجأةً اقترب من شفتيها ليذوق شهد رحيقهما الذي افتقده حتى جفَّ قلبه من العطش، وكان ناقوس البعد قد بلغ حدَّ الخطر في قلب "عمران"، فلم يعد قادرًا على الاحتمال،
وقبل أن تلامس شفاهه شفتيها، وقبل أن تكتمل لحظة العودة، حدث ما لم يكن في حسبانه، وانشقّت اللحظة كغمامةٍ مزّقتها صاعقة مباغتة، وجدها تضع يدها على صدره وهي تتنفس بصعوبة بالغة في مقاومته، ودفعته بعيداً عنها براحة يديها الصغيرتين:
ـ بعد عني هو وقت ما تبَعد عني بمزاجك ووقت ما تقرب بمزاجك يا "عمران" هتفكِرني الجارية اللي وقت ما تشاور لها هتفتح لك دراعاتها وتقول لك شبيك لبيك عبدتك بين يديك!
جذبها من يدها حتى ارتطمت بعظام صدره القوي وهو الآخر ترتفع نبضات صدره برغبة بها، دق ناقوس القرب بداخله بعدما همَّت به وهمًَ بها، بعدما استنشق قربها، ولفحته دفئ أنفاسها الساخنة التي ألهبت مشاعره الثائرة بداخله، احتضن وجنتيها بين كفاي يديه ببعض من العنـ.ـف نظراً لنيران الشوق وهو يتيه بنظرات عينيه الساحرة التى استقرت داخلت مقلتيها فآثرهم بنظراته المغرمة وجعلها هي الأخرى تقف بأعصاب متفككة وتبعثر جـ.ـسدها أمامه وقرأ ذلك في عينيها فبادر بكلمات الشوق والغرام:
ـ بزياداكي عاد يا "سكون" أني تعبت بعاد وهجر وخصام، رحلتي وياكي كانت صعبة قوي يابت الناس، هقول لك اتوحشتك، ورايد قربك، وانتِ لساكي هتبعدي، وتثوري علي، هي الكرامة بيناتنا مهتختفيش ولا ايه عاد؟!
التمعت عينيها بدمع الفراق وهي تتذكر كل تلك الليالي والشهور التي ابتعدت فيها عن أحضانه، تذكرت كم اشتاقت قربه ونفرها! كم أحست بالانهيار من ابتعاده! كم كانت تريده أن يضمها ليالٍ وليال ولم يسمح لها، لقد جرح أنوثتها لا كرامتها، فهمست بشجن جعله يقف أمامها يلوم حاله:
ـ داي مش كرامة يا "عمران" داي جرح لأنوثتي وكبريائي كست وأني كنت هاجي لك وهعرض حضني عليك وانت كنت تنفر، كنت هشتقاق قربك وحضنك وانت كنت تحرمني منيهم، أني انقهرت من حرماني لضمتك ليا، عمرنا ماقعدنا المدة داي كلاتها قبل سابق من غير لسانك ما يخاطب لساني، أني كنت بموت في اليوم ألف مرة وانت بَعيد يا "عمران" .
لم يعد "عمران" قادرًا على احتمال دموعها المتلألئة في عينيها، ولا على الصبر عن الاقتراب منها، ولا على كبح ذلك الاحتياج الذي كان يصرخ في خلاياه كلها أن يقترب،
كان يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو يقترب من عينيها ليطبع عليهما قبلة تشبه اعتذارًا عن كل وجعٍ وجرحٍ خلّفه في قلبها، فهو مثلها تمامًا؛ مكسورٌ ومجروح،
ثم همس لها بصوتٍ خافت كمن يداوي جرحًا بيده المرتعشة، وكانت اللحظة بينهما كطائرٍ عاد إلى عشه بعد أن أنهكته الرياح:
ـ حقك علي يا سكوني، كل دمعة نزلت من عيونك الحلوين دول هعتذر عنيها وأني هبوس العيون اللي دوبوني دول .
كان جسدها كلّه يتفكك لقرب "عمران" منها، ولتلك النظرات التي ما إن تتوغّل في عينيها حتى تنسى الدنيا وما فيها؛ فعيونه وحدها تحمل حكايات ألف ليلة وليلة، وتُغني عن كل كلام،وكان يُشعرها بشوقه من خلال نظراته فقط، كأنّ الشوق يسري من حدقته إلى روحها، حتى إنّ أنفاسها خرجت متنهَّدة بشوقٍ يفوق شوقه مراحل ودرجات، كاللهيب إذا اشتعل في الهشيم لا يهدأ ولا يخمد حتى قالت بتيهة بنظرات مغرمة هي الأخرى وهي تغازل سحر عينيه التي تتآكلها:
ـ هما عيون مين اللي هيدوبوا التاني!
بجد نظرتك ليا في حاجة غريبة هتهزني من جواي، عيونك ليهم سحر معلم في قلبي من أول مرة رشقت سهامهم في عيوني وشفتك وهما سكنو قلبي يا "عمران"، يعني كيف هصدق وآمن بنظراتك بس حتى لو بيني وبينك مليون زعل، مجرد ما هتبص لعيوني بنسى العالم كلاته، أني قلبي هيظلمني معاك وهو هينسى وجيعتك ليا بسبب عيونك دول.
كان "عمران" يُصغي لحديثها وغزلها في عينيه وهو يغتبط في أعماقه، كأنّ نبضات قلبه تتسارع في صدره محاولةً الفرار لتسكن بين يديها. وكانت قد وصفت عينيه كمدينةٍ تحضنهـا بالرعاية والهيمنة، ووصفتهما كجيشٍ يحميها ويحتوي ضعفها؛ فكان لزامًا أن تكون لها المدينةُ وجيشُها وسيفُها الحارس، المستعدّ لأن يقاتل الدنيا بأسرها لكي لا تغادر حدود مملكتهما التي تُقيم في عمق عينيه:
ـ طب بالراحة بقى أني اكده هدوب، خلى شوية من كلامك الحلو دي لبكرة وبعده، العيون دول ملكك يا حبيبي.
وتابع وهو يحذبها من يدها ناحية الأريكة وأجلسها بجانبه ودفن يديه بين خصلات شعرها، وقد قرر فرض الهدنة بينهم، ووضع معاهدة سلام لن ينقضها أيا منهما وهو يطلب منها بحنو:
يا حبيبتي، إنتي عارفة زين إن الحب اللي بيناتنا دي مش عادي، مختلف، حب ارتباط روح بروح، حب يقدر يعدي كل الحواجز ويصد كل الأزمات ،
حبّنا هو اللي بيخلّيني أعدّي من فوق الزعل كإنه مش موجود، وبيخلّيني أنسى أي يوم كان في وجع بيناتنا يا "سكون" ،
معاكي بتعلم كل يوم إن اللي جاي أهم من اللي فات، وإني لما أبَعد عنيكي لحظة ألاقي قلبي بيشدّني ليكي تاني، وكأنك النفس اللي لو خرج ولا بعد معرفش أعيش.
ثم اقترب بوجهه منها أكتر وهمس:
ـ أني دلوك بطلب منك لو بيناتنا حاجة اتكسرت بعد اكده لازمن نصلحها بعشقنا من غير ما حد فينا يجرح التاني، ووقتها هجرى عليكي وهقولك حقك عليّ من قبل ما تنطقي،
يا "سكون" إنتي اللي بتخفّفي مرارة الأيام، واللي لو اتقلب مزاجي مجرد ما أناديكي ألاقِيكِ جنبي، تأكدي لي إني مهم عنديكي.
ثم شدّد على يديها وتابع معاهدة سلامه معها:
ـ أني عايزك دايمًا جاري، متفارقنيش ولا لخظة، مش عايز أمشي ولا خطوة من غيرك، ولا أبدأ أي طريق واحنا مش ماسكين يد بعض.
ثم ابتسم وهو ينظر لها بحنان:
اوعديني إننا مانتفارقش تاني ابدا، ولا اللي بيناتنا تهده اي حيرة، ولا يهزه خوف،
اوعديني إن أزماتنا اللي مرينا بيها نفضل فاكرينها علشان نحاذر من البعد ونبقى بنفس اللهفة ونفس الإحساس، وإن تكوني إنتي زماني الحلو اللي هعيشه، ومكاني الآمن اللي هرتاح فيه،
ثم قربها لحضنه وقال بنبرة ثابتة مغرمة:
ـ وأني كمان مطرح ما الأيام تاخدني، ومهما حصل بيناتنا مش ممكن هسيب حضنك تاني، ولا هغيب عنك،إنتي أماني، وبيتي، وعمري اللي ما يتبدّلش أبداً يا "سكون" القلب والروح.
ثم صمت الاثنان عن الكلام، ولم يبقَ في روحيهما طاقةٌ ولا صبرٌ يمنعهما من الاقتراب، فدنا "عمران" منها وجذبها إلى حضنه، كأنّه يشدّها إلى عالمهما الخاص؛ عالمٍ جميلٍ تصنعه لهفةُ الشوق وغرامُ القرب بعد طول فُراق، وبعد أن قضيا ليلةً في حضن الهوى كان فيها الشوق سيّد الشعور وبطل الحكاية، انقضى وقتٌ ليس باليسير، وفجأة شهقت "سكون" بدهشة وهي تبتعد عن دفئ ذراعيه، وتهوي بكفّيها على ساقيها ضربًا، وتقول بذهولٍ من ضعفها ومن ضعفه معها:
ـ يا نهار مش فايت! اللي احنا عِملناه دي حرام، انت ازاي تستغل ضعفي بالشكل دي وتقرب مني وانت محرمني عليك، حرام عليك ربنا مش هيسامحنا ابدا على اللي احنا عِملناه دي، ازاي يا "عمران" ما اخدتش بالك من حاجة زي داي؟! اني مش مصدِقة حالي ان اني عِملت اكده، احنا وقعنا في الغلط.
صُعق "عمران" من كلماتها، ومن فكرة التحريم التي لم تخطر له ببالٍ قطّ؛ فلم تكن نيّته يومًا أن يُحرِّمها بالمعنى الذي ظنّت، غير أنّ الصدمة انعكست في صدره هو أيضًا، فتملّكه الارتباك، ولم يعد يدري أكان ما فعلاه صوابًا أم خطأ، ولا ما حكم الدين في أمرٍ لم يمرّ به من قبل، ولم ير في حياته مشهدًا يشبهه، واحتار وهو ينظر إلى "سكون" بعينٍ متعجّبة يسألها، وقد كان شعوره مثل سفينةٍ ألقتها الأمواج فجأة إلى بحرٍ مجهول:
ـ كيف الكلام دي، اللي أعرِفه انك مرتي ويحق لي اقرب منك وقت ما نفسيتنا ترتاح من شوية الزعل اللي كانوا بيناتنا، ايه اللي حُصل للكلام دي خلاكي تظني الظن السيء دي اني ما فاهمكيش؟
كانت "سكون" واعية تمامًا لما قصدته، فقد نشأت بجوار أختها "مكّة" التي كانت شديدة العناية بأمور الدين والأحكام والفتاوى، فامتلكت هي بدورها قدرًا قليلا من المعرفة يجعلها تُدرك مواطن الخطر وإن لم تُحيط بالحكم الصريح، لذا بدأت تُنبه "عمران" إلى ما انتبهت له، وقد ارتجفت في صدرها دهشة أن تكون قد وقعت في موضع خطأ أو حرام، مؤكدة أنهما كان ينبغي أن يسألا قبل أن يقتربا من بعضهما، حتى لا يندسّ في علاقتهما ذَرّة تحريم، فكانت كلماتها تتعثر كطائرٍ خائف ضلّ عشه:
ـ انت قلت لي باللفظ؛ إنتِ محرم علي، واظن الكلمة داي ليها حكم في الدين قوي وصريح، والمفروض كنا نسأل عنيها ونستفسر عن الحكم، وايه اللي المفروض يُحصل قبل ما تقرب مني؟ أو يُحصل بيناتنا علاقة، أني واثقة ومتوكدة من كلامي يا "عمران" .
مسح "عمران" بيده على شعره وقد تملّكه حيرة مما تقوله "سكون"؛ إذ لم يخطر بباله قطّ أنه قد يكون مسَّ باب التحريم الذي تشير إليه، لكن الخوف الذي انعكس في عينيها تسرَّب إليه كنسمة باردة تخترق العظم، فابتلع أنفاسه بصعوبة خشية أن يكون قد وقع في حرامٍ دون قصد، ثم طلب منها بصوتٍ متهدّج:
ـ صُح انتِ عِندك حق، لازمن الإنسان يكون متوكد من الخطوة اللي هيعملها وخصوصا لما تكون متعلَقة بالأمور داي، قومي خدي دش وروحي عند الولاد والصباح رباح هسأل في الموضوع دي وهشوف ايه اللي المفروض يتم، وكمان اطمَن إذا كان اللي احنا عِملناه حرام وعليه كفارة ولا لاه؟!
وتابع بنبرة ساخرة:
ـ قومي يا "سكون" غلبتيني معاكي فوق ما تتخيلي، قومي؛ اني عارف ان عمري ما هتهنى وياكِ على لحظة سعادة مكتملة ابدا، شكل ما يكون مبصوص لي في حضنك يا شيخة.
تذمرت من سخريته وهتفت بحدة لموقفهم المخزي:
ـ و الله! واني ذنبي ايه كل حاجة تقول لي اني السبب مع انك انت اللي نطقت كلمة التحريم داي، وانت الغلطان ما كانش ينفع تُنطق كلام زي دي ابدا، لسانك حصانك ان صنتَه صانك، وانت السبب في اللي احنا وصلنا له دي ومنظرنا اللي مش ولا بد قدام بعض في اللحظة داي، ربنا يسامحك انت يا شيخ والله.
نظر "عمران" إليها من رأسها حتى قدميها وهي تنهض لتلبس ثيابها الخاصة وتجمع حاجاتها، مستنكرًا حدّة كلماتها، ثم ضرب كفًّا بكفٍّ في غيظٍ مكتوم:
ـ عليكي لماضة وما فيكيش غير لسان وبس، امشي من قدامي دلوك بمنظرك دي علشان ما طايقش حالي ،ولا طايق الدنيا باللي فيها، امشي يا "سكون" .
خرجت "سكون" وهي تكاد تختنق غيظًا من الموقف، ومن حالهما، ومن الصورة المرتبكة التي خُتِم بها ليلهما؛ أما "عمران" فبقي في مكانه، أخرج سيجارةً وأشعلها، ينفث دخانها بغضبٍ يتصاعد معه كأنما يطرد به فوضى قلبه، لم يكن يتخيّل أن تنتهي تلك اللحظة بينه وبين "سكون" بتلك الهيئة، وللحظةٍ عـ.ــضّ الندم قلبه على الكلمة التي تفلّتت منه في ساعةِ غضبه، جلس يلوم نفسه كثيرًا، عازمًا ألّا يسقط مجددًا في شراك الشيطان، وظلّ يشعل سيجارةً بعد أخرى حتى شقشقت أنوار الفجر وارتفع النداء،
نهض إلى الحمّام، اغتسل، ثم خرج إلى المسجد يبحث عن سكينةٍ تطفئ اضطرابه، وبعد الصلاة، استأذن الشيخ الذي اعتاد أن يسأله الفتوى في أموره الملتبسة، وخرجا يتمشيان بعيدًا عن الأسماع؛ فقد أراد الحديث بينهما خاصًا لا يطّلع عليه أحد، جلس "عمران" مع الشيخ منفردين، ثم رفع إليه عينين فيهما قلقٌ ومرارة، وسأله مباشرة عن مسألة التحريم بينه وبين "سكون"، فجاء سؤاله واضحًا :
ـ عايز اعرِف الصيغة اللي انت لفظت بيها التحريم بالظبط يا "ابو سَليم" لأن دي هيفرق جامد؟
ارتبك قليلا بخجل من موقفه ثم أجاب الشيخ:
ـ قلت لها بعدي عني اني محرمك علي وما عايزش اشوفك.
ربت الشيخ على ظهره وأجاب بوجه بشوش مبتسم وهو يطمئنه:
ـ لا تقلق يا "ابو سَليم" ، مالك قافش اكده ليه يا جدع؟ كلاتنا هنتعسر، وكلاتنا مخالينش من الذنوب يا أبو عمو، والموضوع بسيط، وحالتك الحمد لله ما عليها غير الاستغفار والندم ان انت ما تنطقش الكلام دي تاني حتى لو في شدة الغضب، لأن التحريم اللي انت نطقته إسمه إيلاء وليس ظهار.
سأله "عمران" بعيناي تريد الفهم:
ـ يعني ايه إيلاء وظهار يا شيخ ما فاهمش الفرق بيناتهم هم التنين يا ريت توضح لي؟
أجابه الشيخ بإجابة كافية، وافية، شافيك لصدره:
ـ فالإيلاء جاء تعريفه في الشرح الممتع لا بن عثيمين كما يلي؛ الإيلاء مصدر آلى يولي بمعنى حلف يحلف، وهو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر، بأن يقول: والله لا أجامعك، إما لمدة سنة، أو يُطْلِق، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}.
أما تعريف الظهار فقد جاء في الموسوعة الفقهية؛ تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ تَأْبِيدًا، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ كَبَطْنِهَا أَوْ كَفَخِذِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّشْبِيهِ حَرَامٌ نَصًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَ : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا }. انتهى.
ومن خلال التعريفين السابقين يتبين أن الإيلاء ليس بنوع من الظهار فالظهار كله محرم ويعتبر من زور القول، أما الإيلاء فقد يباح إذا كان لغرض شرعي. وهو غير منسوخ والحكمة منه تأديب الزوجة إذا أهملت معاملة زوجها أو شؤون بيتها لعلها ترجع إلى الصواب،
جاء في الموسوعة الفقهية، وَالْحِكْمَةُ فِي مَوْقِفِ الشَّرِيعَةِ الإْسْلاَمِيَّةِ مِنَ الإْيلاَءِ هَذَا الْمَوْقِفَ: أَنَّ هَجْرَ الزَّوْجَةِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَسَائِل تَأْدِيبِهَا، كَمَا إِذَا أَهْمَلَتْ فِي شَأْنِ بَيْتِهَا أَوْ مُعَامَلَةِ زَوْجِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأْمُورِ الَّتِي تَسْتَدْعِي هَجْرَهَا، عَلَّهَا تَثُوبَ إِلَى رُشْدِهَا وَيَسْتَقِيمَ حَالُهَا، فَيَحْتَاجُ الرَّجُل فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالاَتِ إِلَى الإْيلاَءِ، يُقَوِّي بِهِ عَزْمَهُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ تَأْدِيبًا لَهَا وَرَغْبَةً فِي إِصْلاَحِهَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأْغْرَاضِ الْمَشْرُوعَةِ. فَلِهَذَا لَمْ تُبْطِل الشَّرِيعَةُ الإْسْلاَمِيَّةُ الإْيلاَءَ جُمْلَةً، بَل أَبْقَتْهُ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ؛ لِيُمْكِنَ الاِلْتِجَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
يعني انت يا "ابو سليم" ليس عليك إثم، الحرام انك تقول لزوجتك؛ أنتِ محرمة علي كأمي او كأختي زي ما قلت لك في الحكم الموضح بالآيات القرآنية، توكل على الله فزواجك صحيح،طالما ما تمش على المدة اربع شهور.
بعد أن استمع الشيخ إليه مليًّا، خفّف عنه وأسكن ما في صدره، فتنفّس عمران بارتياح عميق وشكر ربه على أن الأمر لم يبلغه باب الحرام. شكر الشيخ بحرارة على فتواه المبسّطة التي أزاحت عنه ثِقَل الليل وهمّه، ثم غادره مُسرعًا عائدًا إلى البيت، وقد شعر أنّ الساعات التي قضاها يُعذّب نفسه خوفًا من الخطأ كانت ليلته الأشدّ ظلمة،
حين وصل إلى منزله، وجد سكون منهمكة في تجهيز الأولاد وإعدادهم للمدرسة، ثم بدأت ترتّب فوضى البيت بعد خروجهم، كان الحزن واضحًا على وجهها، فقد أثقلها ما جرى، وجرحها مثلما جرحه، وما إن دخل البيت ولم يجد غيرها حتى تقدّم وأمسك بيدها، يجذبها بلطف وقوة معًا، ودخل بها إلى غرفتهم، رأت في عينيه رغبة واشتياقًا واعتذارًا في آنٍ واحد، لكنّ الخطر الذي أحسّت به البارحة عاد يدقّ قلبها، انتفضت مبتعدة عن يده بسرعة، وخوفها يسبق كلماتها:
ـ بلاش يا "عمران" بالله عليك بلاش، إحنا امبارح اتهورنا وغلطنا من قبل ما نسأل عن وضعنا، وكانك نسيت اللي حُصل بيناتنا واللي اتفقنا عليه، استنى يا "عمران" لما تسال ونعرِف راسنا من رجلينا.
توقّف "عمران" أمامها، وتحولت نظرته من رغبة إلى وجع، وقد امتلأت عيناه بقلقٍ أثقل صدره:
أني مش جاي أغلط ولا أكرر اللي حُصل، بس إنتِ فاهمة أني كنت هموت من خوفي ليلة كاملة وأني بجلد في نفسي، وما استريحتش الا لما رحت سألت الشيخ في المسجد وقال لي؛ ان احنا ما غلطناش ولا حاجة، وان تحريمي ليكي كانت كلمة عادية ما لهاش علاقه بالتحريم اللي في دماغك، وفهمني كل حاجة، يعني أني وانتِ دلوك وضعنا كزوج وزوجة سليم، اطمَني يا "سكون".
أطرقت "سكون" رأسها، تحاول ضبط أنفاسها المرتبكة، فاقترب هو خطوة واثقة وحصرها في أحضانه برعاية، لتنطق هي بسعادة وقد ارتاح قلبها:
ـ صُح يا "عمران"! هتتحدت صُح؟ بجد سألت الشيخ وهو قال لك؛ ان ما فيش أي ذنب ولا عليا ولا عليك، اوعى تكون هتقول اكده علشان هتوحشك وما هتقدرش تمسك حالك عاد؟
حرك سبابته يداعب وجنتيها برقة ونعومة جعلتها تبتلع أنفاسها بصعوبة:
ـ يعني كيف هكدب عليكي عاد! ولا أني هتحمل حرمانية مش قدها، والله اللي هقوله لك صُح وسَليم ومفيهوش كدب ،
بس الليلة داي علمتني ماقولش كلمة وأني غضبان واصل وهمسك لساني بعد اكده.
ثم غمز لها بعيناي متلهفة ومشتاقة للغاية:
ـ يعني عايز حبة دلع من اللي اتمنع، على حبة دلال من اللي اتحرمت منيهم المدة داي كلاتها ، على وصلة للحكمدار تعوض الليلة الهباب اللي قضيتها امبارح أتقلب على جمر النار ولا أني مستحقش عاد ؟
تنهدت بأنفاس يملؤها الارتياح أخيراً بعدما استمعت إلى كلماته التى أثلجت صدرها، ثم اقتربت منه بدلال وحاوطت رقبته بكلتا يديها وهي تنظر لعينيه الساحرتين بهيام، ونطقت بوله وهي تداعب قلبه وروحه:
ـ وه! كيف مهتستحقش عاد يا "ابو سليم"، من العين داي قبل العين داي ، بس بلاها وصلة الحكمدار بتاعتك داي احنا الصبح خليها ليلة لوحدها ونكون بالليل وعلى رواق عاد ؟
جذبها من خصرها ونطق بتصميم :
ـ وه! وليه لا؟ أني مزاجي طلبها دلوك، وكمان احنا وحدينا والعيال في المدرسة، إنتي مفهماش عاد لقا النهار دي له متعة لذيذة، فمن الآخر لا مفر ولا مهرب وهتعملي لي كل اللي اني عايزَه، ومتحاوليش تعترضي يا سكوني علشان اللي في دماغي هيتنفَذ .
دبت قدميها في الأرض باعتراض على تصميمه:
ـ وه! هو ايه المزاج الغريب اللي على الصبح دي واصل؟
يعني رقص إيه اللي الست هترقصه لجوزها الساعة تمانية الصبح يا "عمران" ؟
جذبها من يدها بتصميم وأوقفها أمام خزانة الملابس و فتح ضلفتها الخاصة وانتقى لها ذاك الثوب الحريري اللامع بلونه الأبيض، وهو يعطيه لها في يدها وكأنها لم تقل شئ:
ـ مزاجي اكده، وبعدين في ست تلاقي الدلع والدلال وترفض وتعترض؟
أني راجل محروم من مرته بقى لي شهور وهعوض اللي فاتني واحدة واحدة وبمزاج كمان.
ثم باغتها بقبلة من شفتيها أذابتها وفككت أعصابها الثائرة وهو يخبرها من بين قبلاته العنـ.ـيفة:
ـ بزيادانا بقى تضييع في الوقت ونبص نلاقي العيال رجعوا من المدرسة، وتبقي هادمة اللذات يا سكوني، أني عايز اتدلع واتهنى واتمنى كيف ما اتمنى وانتي تمشي وراي وبوعدك هبهرك.
اقترب منها اقتراب السِّحر من قلبٍ عطِش فاشتعل الهواء بينهما كجمرٍ يتنفّس لهفةً لا تُروى، وما إن عانقها حتى تهاوت المسافات كلّها كأن الكون طوى نفسه ليُبقِيَهُما وحدهما في دائرةٍ من نورٍ خفيّ، وكان عناقُه لهيبًا يلتفّ حولها يذيب ما تراكم في روحها من بردٍ ووحدة، والتقت أنفاسهما لقاءَ عاشقين خُلِقا من نفس واحدة لا يفصل بينهما إلا خفقة ترتجف ثم تذوب، وفي حضنه شعرت كأنّها تعود إلى وطنٍ مسحور يفتح ذراعيه لها بكل ما فيه من دفءٍ وقُدرة واشتياق ولهفة لم تراهم من قبل وبدورها أشعلت عاصفة اقترابه بدلالها ونعومتها ، ورقصتها الساحرة كما الفراشة الهائمة في سماء الهوى .
********
ـ الحقيني يا "سكون" عندي مغص شَديد وكمان نزل عليا نقط دم ومقدراش أتحمل الوجع.
اجابتها "سكون" وهي تشعر بالقلق لأجلها:
ـ طب خلي "جاسر" يجيبك على المستشفى واني هاجي وراكي على طول لعل وعسى تكون ولادة اكون وياكي .
ظلت تسألها عدة أسئلة عن حالتها فتيقنت "سكون" ، أنها ولادة، وكما أن الطبيبة التي كانت تتابع معها حددت لها موعد الولادة في ذاك الأسبوع، فانطلق بها "جاسر' إلى المشفى وهي تشعر بالوجع الشديد يضـ.ــرب بطنها؛ واخذت هي "عمران" وراحت الى المشفى كي تشرف على ولادتها وتقوم بمساعدتها،
وصلوا جميعا إلى المشفى فاحتضنتها "سكون" و "ماجدة" بحنو، وهم يطمئنوها بحفاوة، بينما دخلت هي و"سكون" إلى غرفة الفحص وقامت بمساعدة الطبيبة على فحصها، وتيقنوا أنها حالة ولادة، وعلى الفور جهزوا غرفة العمليات لإجراء القيصرية، كان "جاسر" يقف في الخارج يشعر بالقلق الشديد عليها وهو يحمل ابنته ذات الأربعة أعوام بين أحضانه يقبلها، وهي تسأل أبيها ببراءة:
ـ هي مامي هتجيب نونو ألعب معاه يا بابا وأنام جنبه ويبقى اخويا؟
قبلها بنهم وهو بجيبها ببسمة زينت ثغرة لتلك الجميلة التي ورثت البراءة والجمال والرقة من والدتها الحنون:
ـ اه يا حبيبتي ادعي لها بقى وقولي يا رب مامي تقوم بالسلامة، علشان تمسكي النونو وتحضنيه بين ايديكي،
وقولي لي بقى هتحبي اخوكي كَتير ولا ايه طمنيني؟
ابتسمت عيناي الطفلة بشغف وهي تفتح يديها على وسعيهم وتجيب أبيها :
ـ هحبه قد الدنيا بحالها وقد عينيا، بس ياجي علشان ألعب وياه،
هو لما يخرج من بطن مامي هيعرف اسمي وهيعرف إن أنا أخته يا بابا؟
قبلها أبيها من ثغرها بنهم وهو يجيبها :
ـ لا هو هُيبقى صغنون خالص، لما يكبر شوي هيعرف اسمك وهيلعب معاكي، أهم حاجة انك تحبيه وتحضنيه بالراحة، وما تزعقيش جاره واصل، ماشي يا حبيبه بابي؟
حركت رأسها ببراءة ورددت بطاعة:
ـ ما تخافش يا بابا اني هحبه قد الدنيا ومش هزعق جاره ابدا، بس انت هتحبني اني اكتر ولا هو اكتر؟
ابتسم بشغب لسؤال طفلته الذي يبدو عليه الغيرة الشديدة ليداعبها بانامله:
ـ هو في حد يقدر ياخد مكان حبيبة بابي، اللي هيحبك كد الدنيا بحالها، بس هو هيُبقى صغنون، المفروض ان احنا نحبه ونخلي بالنا منه، و انتي هتكوني زي أمه بالظبط ولا ايه؟
صفقت الطفلة بسعادة وقالت :
ـ ما تخافش يا بابي، أني جبت له مع مامي من مصروفي اللي أني كنت محوشاه بدلة جميلة هيلبسها لما يخرج من بطنها، وكمان هغني له وهلعب معاه ومش هنغلب مامي.
هنا خرجت "مها" وهي على تخت الولادة وقد تجهزت للدخول إلى غرفة العمليات فأعطى "جاسر" طفلته لحماته ثم اقترب منها وأمسك كف يديها وقبلهما، ثم قبلها من راسها بحنون وهو يطمئنها:
ـ حبيبتي اللي زي القمر ان شاء الله هتقومي بالسلامة وترجعي لنا مجبورة الخاطر، وأني هقف اهنه مستنيكي تخرجي تنوري الدنيا، إنتي والكتكوت الصغير، ما عايزكيش تقلقي خالص، شايفك ملامحك تعبانة ومرهقة هي أول مرة ولا ايه عاد يا "ام الزين" ؟
تمسكت بيديه وهي تشعر بالرهبة الشديدة لدخول غرفة الولادة ثم طلبت منه:
ـ خلي بالك من بتي يا "جاسر" خليها في حضنك لحد ما اخرج بالسلامة.
داعب أرنبة أنفها بسبابته وهو يمازحها كي يدخل السرور على قلبها:
ـ وه! هو من لقى أحبابه نسى اصحابه ولا ايه عاد؟ وما قلتليش خلي بالك من روحك يعني !شايفك هتحبي عيالك أكتر من ابوهم واكده خطر، واني هغير غيرة عمياء وانتي عارفة اكده زين.
ابتسمت بوهن وهي تداعب روحه برقتها المعتادة:
ـ دي انت يا ابو العيال في قلبي وعلى راسي من فوق وربنا العالم، ربنا يخليكم ليا كلاتكم يارب .
اقترب من أذنها يداعبها بعبث كي يرى ابتسامتها:
ـ طب وهو دي وقت رقة ونعومة يا "ام الزين"
هتخليني دلوك ألغى رحلتك للولادة واخدك رحلة إلى أحضان الجاسر ونقضي وقت سعيد وارجعك تاني لسرير الولادة .
ضحكت بخجل لمداعبته ثم رددت بخجل:
ـ وه منيك عاد يا "جاسر" هو وقته الكلام دي عاد، هتخجلني اياك بس بقى.
ـ أممم... بس بقى! من عنينا يابطل، تخرجي بس بالسلامة وبعدها نكمل الحدودتة الحلوة داي ... نطقها ببسمة رجولية جعلت السكينة والطمأنينة عبرت قلبها ثم دخلت إلى غرفة الولادة، ووقف هو أمام بابها ينتظرها بدقات قلب ترتفع نبضاتها خوفاً عليها ،
بعد مرور ما يقرب من ربع ساعة خرجت "سكون" وهي تحمل الطفل بين يديها بابتسامة سعيدة وهي تناوله لأبيه وهنئته بمباركة:
ـ مبروك يا ابو العيال، رسمياً بقى يطلق اللقب دي عليك، اتفضل النونو الصغير ربي يخلي ويبارك هدخل بقى اشوف مامته.
اطمئن منها على حالة زوجته فطمنته ثم تناوله "جاسر" بقلب يخفق بسعادة وإحساس بشعور جميل مختلف، فصغيره بين يديه ينظر إليه وكانه هدية السماء بجماله، وهو يتحقق من ملامحه الجميلة، ثم كبر في أذنه وقرا من القرآن ما تيسر له، وهو يضمه بين صدره، فاقتربت منه "ماجدة" وابنته وهي تطير الى أحضانه بسعادة عارمة وتفتح يدها لأبيها تطلب منه ببراءة :
ـ هييييه، اخويا النونو الصغنون، عايزة أحمله يا بابا والنبي خليني أشيله، وأحضنه وابوسه.
أخذها من يدها وجلسوا على الأريكة ثم جعلها تجلس هي الأخرى ووضع الطفل بين يديها وهو يسنده بكلتا يديه وخلل اصابعه بين خصلات شعرها متسائلاً إياها :
ـ شفتي النونو جميل إزاي؟ طالع كيف القمر لاخته حبيبته قولي لي بقى نفسك تسميه ايه؟
قبلته الطفله بنهم وحنو وهي تحتضنه برعاية شديدة بين يديها وهي تردد الاسم:
ـ هسميه "زين" ولما مامي تجيب نونو كمان هسميه "زيدان"، هي كانت بتحكي لي دايما عن "زين وزيدان" اللي كانوا صغننين وكانوا هتلعب وياهم، وبعدين هم مشيوا وسافروا، وبتحكي لي حدوتات جميلة عن "زين وزيدان" فاني رايدة أسميه "زين" وكمان مامي كان نفسها تسميه اكده.
ابتسم لها "جاسر" لاختيارها الاسم الذي كان بباله، ثم حرك رأسه بسعادة وهو يوافقها الرأي مما جعلها هللت لموافقة أبيها رأيها :
ـ حلو قوي اسم "زين" خلاص توكلنا على الله "زين جاسر المهدي" والله ما هكسر لك كلمه يا حبيبة بابي انتِ ومامي.
مدت "ماجدة" يدها كي تأخذ الطفل وتطمئن عليه ثم باركت له:
ـ بسم الله تبارك الله مبروك ماجالكم يا حبيبي ربنا يجعله من الصالحين البارين بيك انت وامه، اتحمَلت كَتير وتعبت وربنا رضاها بيهم وبيك انت كمان يا حبيبي، ربنا يبارك لك فيها وفي ولادك ويقومها لك بالسلامة يا رب.
ردد ببسمة بشوشة:
ـ ولا منك يا حبيبتي، الله يبارك فيكي يارب، خلي الاولاد معاكي هدخل اطمَن على "مها" زمانها فاقت دلوك .
تركهم وذهب إلى الغرفة التي انتقلت بها "مها" وقاموا بإفاقتها، اقترب منها وتناول كف يديها بحنو ثم قبلها من جبينها وهو يبارك لها على جنينهم الثاني:
ـ حمد لله على السلامة يا أجمل الجميلات وبقيتي "أم الزين" رسميا، جبتي "زين" كيف القمر اللهم بارك، هيجيبوا منين طالع لمامته عاد هياخد الحلا كلاته.
ربتت بحنو على كف يديه ثم سألته على طفلها بلهفة وهي تشعر بالدوار :
ـ تسلم لي الله يبارك فيك، مبروك علينا احنا الاتنين "زين" الصغير، بجد مبسوطة قوي ان انت سميتَه " زين" ، بس طمَني عليه، رايدة أشوفَه، و ألمسَه، عايزه احضنه.
ـ هو دلوك بين ايدين بنتك عمرها ما هتسيبه دلوك نهائي خليها تفرح بيه شويه وبعدين هاخده منيها علشان ما تحسش بالغيرة من أولها.
وتابع بمكر:
ـ بس تعالي اهنه هو في واحدة هتخرج من الولادة وتُبقى كيف القمر اكده يا "أم الزين" قولي لي عِملتيها كيف داي؟
ابتسمت برقة لتقول :
ـ اه ياني منك ومن بكشك وكلامك دي ، عايزة اشوف "زين" .
كانت "ماجدة" تُدرك تمام الإدراك أنّها ما إن تستفيق "زين" ستتلهّف لرؤية طفلها؛ فهي تحفظ طباعها عن ظهر قلب، وتعلم مقدار تعلّقها بأبنائها، فدخلت "ماجدة" بصحبة "زين" والصغيرة ، وما إن ولجْنَ الغرفة حتى حاولت أن تعتدل، غير أنّ الوجع باغتها، فأسندها "جاسر" بحنوٍّ ورعاية، اقتربت "ماجدة" تبارك لها سلامة قيامها، ثم ناوَلتها طفلها، وما إن احتضنته وشمّت رائحته، حتى انهار جدار صبرها؛ فبكت كما لو أنّها تحمل بين ذراعيها "زين" و"زيدان" معًا ، وكأنّ اللحظة تعيد أبناءها التي فقدتهم إلى أحضانها من جديد بعد غيابٍ موجِع،
ضاق صدر "جاسر" لدموعها، وزادت والدتها همًّا فوق همّ وهي تجلس قربها تُسكّن نحيبها، بينما طفلتها الصغيرة تسأل ببراءة عن سبب بكائها، وهي لا تزال غارقة في نوبة بكاء هستيرية، تُقبّل رضيعها في يديه ورأسه كأنّها تستعيد به روحًا أُخذت منها يومًا، أخذت "ماجدة" الطفل من بين يديها وخرجت، وأخذت معه أخته، فاقترب "جاسر" منها، وضمّها إلى صدره، يسند رأسها فوق قلبه، يسألها عمّا أثار هذا الحزن والانكسار، رغم أنّه يعلم السبب معرفة اليقين :
ـ طب دي ينفع انك تعيطي وانتِ لسه خارجة من الولادة! بجد حرام عليكي يا "مها" اللي انتُ هتعمليه في حالك دي، اني نفسي افهم ايه سبب العياط الشَديد؟!
بعد دي كلاته ما قدراش تتخطي فراقهم! حرام عليكي نفسك بجد.
ظلّت تبكي طويلًا، عاجزة عن كبح فيض شعورها، بينما كان "جاسر" لا يكفّ عن تهدئتها، مدركًا تمام الإدراك شدّة تعلّقها بطفليها اللذين اختارهما الله إلى جواره، ثم عوّضها بطفلين كالبدر ضياءً، ولم تزل تبكي حتى خفَّت وطأة النحيب، فمسحت دموعها، واعتذرت له عن دوّامة الحزن التي سحبتها إليها دون قصد:
ـ معلش حقك علي اني نكدت عليك يوم ولادة ابننا، بس غصب عني اول ما شلته وحضنته افتكرتهم، ما قدرتش امسك حالي، عمري ما اقدر انساهم ولا عمري هقدر اتخطاهم، هما ساكنين في قلبي وروحي، واول ما حضنت "زين" شميت ريحتهم فيه غصب عني والله يا "جاسر" حقك علي.
ربت على ظهرها بحنو وقال:
ـ طب خلاص بقى يا حبيبي ما عايزكيش كل لما تحمليه بين يدك تبكي البكا دي كلانه، لازمن تحاولي تفصلي بين حزنك عليهم وبين وجوده في حضنك، علشان ما يأثرش عليهم ولا عليكي، البنت كانت مرعوبة وانتِ كنتِ هتبكي، عايزين نفرح بابننا، وانتِ كمان تفرحي بيه، أرجوكِ يا "مها" بزياداكي حزن وتفكير في اللي راح وربنا عوضك من عِنده ببنت وولد كيف البدر المنور.
ارتاحت في أحضانه حتى افرغت شحنة تأثرها بأبنائها الراحلين وحاولت تنظيم أنفاسها واستيعاب الموقف، ثم نامت من أثر الدوار التي تشعر به والبكاء الشديد، وبدوره جلس بجانبها يقرأ ما تيسر له من القرآن كي يرزقها السكينة.
******
حلقاتك، برجالاتك، حلقة دهب في وداناتك، يا رب يا ربنا تكبر وتبقى قدنا يا رب يا ربنا تكبر وتروح المدرسة وتصاحب شلة كويسة.
هنا ارتفع صوت "رحمة" وهي تردد بشغب كالمعتاد :
ـ اسمع كلام عمتك "رحمة" وما تسمعش كلام خالتك "سكون" الهبلة، ولا تسمع كلام خالتك "مكة" الشعنونة، واسمع كلام ستك "ماجدة" داي طيبة وعلى نياتها ، ولا اقول لك على حاجة ما تسمعش كلامهم كلاتهم واسمع كلامي اني وبس .
قذفتها "مكة" بالوساده في وجهها وهي تردد بصوت عالي هي الأخرى بنفس الشغب:
ـ اسمع يا واد يا "زين" ما تسمعش كلام عمتك "رحمة" داي قوية ومفترية، خليك طيب وحنين كيف امك وخالتك "سكون" ، اسمع كلام خالتك "مكة" وهتخليك راجل بشوش والنور هيطل من وشك.
وظلت كلتاهن تشاغب الأخرى في جو يملأه السعادة والمزح مما أدخل السرور على قلوبهن جميعا، وبالخارج كانت الذبائح ترعاها الرجال وتشرف عليها في جو يملؤه رضا الرحمن لتلك الأجواء الجميلة، فيأكل الفقير والقريب والجار من تلك الذبيحة التي تنشر البهجة والسرور في قلوب الجميع، وبعد أن انتهوا جلست الفتيات "مها" "سكون" "مكة" "رحمة" بجوار "مها" كالعادة وهي تحتضنهم برعاية،
وفي الخارج كانت "ماجدة" تحمل جميع أحفادها تطعمهم بيديها ،وهي تسعد بهم للغاية فهي تشعر بالطمأنينة والسعادة في وجود أحفادها جميعهم بجانبها، فكانت تراعي الصغار وتدلل آبائهم المجتمعين بدارها، أما في الداخل كانت "رحمة" تضع يدها على بطنها وهي تشعر بحركة جنينها وتبتسم فسألتها "مها" :
ـ إلا صحيح يا "رحوم" سمعت انك سبتي شغلك والمكتب وقعدتي في البيت، هل الكلام دي صُح عاد ما مصدقاش اللي سمعته والله؟
اجابتها رحمه وهي تحرك راسها للامام وتعلو ابتسامة الرضا على وجهها:
ـ صُح يا "أم الزين" حسيت اني تعبت ومقادراش أتحمَل المرمطة اللي وحلت حالي فيها، حسيت اني قلبت راجل من كتر ماأني ما ملحقاش على الشغل والسحلة اللي ورطت حالي فيهم، حسيت اني بعدت عن بتي وبيتي وغير الحادثة الأخيرة اللي حُصلت لي كنت هخسر فيها بتي واللي في بطني، فقررت اني اقعد واخدهم في حضني بزياداني عاد تعبت من المِعافرة.
هنا نطقت "مكة" :
ـ بصراحة زين ما قررتي يا "رحمة" قرارك سَليم جداً ،تعرِفي لما كنتي هتمسكي القضية اللي تبعنا اللي عِملت الضجة الإعلامية الجامدة وقتها وقلبت رأي عام ، كنت خايفة عليكي من تهور اخو سيف لا يعمل اللي حصل ليكي ولما عرفت الموضوع شكيت ان هو اللي يعملها لحد ما سكون فهمتني وبعدين يا رحمه انت كنت هتشتغلي بقلبك واعصابك ووقتك.
ثم تبدلت معالمها الى ابتسامة ومزحت معهم وهي تحكي معاناتها في قضيتهم:
ـ تعرِفوا يا بنات لما كانت قاعدة مع البنت اني كانت ركبي هتخبط في بعضها من الخوف عليها، بس انتي كنتي قوية والبنت كانت مرعوبة منك انتي وجوزك لما قعد مع المخفي "سيف" ، وبصراحة بعد ما مشيتو "آدم" ما كانش مصدق اللي حُصل وقعد يقول لي؛ ايه قرايبك دول يابنتي دول جبروت، والله يا "رحمة" اني وقتها قعدت اعيد في الفيديو في كلامك مع البنت ومت على نفسي من الضحك بعد ما فوقت من الموضوع كلاته، بصراحة انتِ بتحطي نفسك في النـ.ــار ومش كل مرة هتسلم الجرة.
استحسنت "سكون" هي الأخرى رأي "رحمة" في الابتعاد عن مهنتها الشاقة والتي ستجلب لها المشاكل الكثيرة والتي في غنى عنها وبالتحديد حينما كانت ستأخذ أبنائها في أعقابها بالشر:
ـ على فكرة يا رحمة فعلا رأي سَليم جدا، اني موافقاكي فيه وبقول لك استمري عليه وما ترجعيش للمرمطة داي تاني، إنتي أثبتتي نجاحك وأثبتتي إنك تقدِري تُبقي محامية شاطرة جدآ ، اني رأيي انتِ حرمتي نفسك من وجودك مع بتك كَتير والمسؤولية هتزيد عليكي لما هتجيبي طفلك التاني، هما اولى بوقتك وكمان جسمك له عليكي حق، انتي كنتي هتخرجي من صباحيتها لغطستها هتتمرمطي في كل محكمة شكل.
هنا وجهت "مها" سؤالها إلى "سكون":
ـ طب وانتِ يا "أم سَليم" سمعت من ماما انك هترجعي شغلك وشغالة في الاوراق صُح الكلام دي؟
أجابتها "سكون" وهي تشعر بالتوتر لذاك القرار التي اتخذته:
ـ والله "عمران" بيحاول معاي من بقاله كَتير إني أرجع الشغل، لكن أني كنت مستنية أولادي يكبروا شويه، وكمان ماما زعلانة على حالي بعد ما تعبت سنين كَتيرة في دراستي، وأقسَمت اليمين وبعدها تخليت عن مهنتي بكل سهولة، وكمان إني عندي وقت دلوك للشغل، ولادي هيروحوا المدرسة، وهيخرجوا من المدرسة على دروسهم، وما هشوفهمش إلا آخر النهار، هكون خلصت شغلي أنا كمان، وخصوصاً إني مش هاخُد ورديات،
فقررت إني أرجع المستشفى العام محتاجاني، وفيها نقص كَتير في دكاترة النسا،
ادعوا لي يا بنات إني أقدر أوفق بين البيت والشغل والأولاد، علشان خايفة من النقطة داي.
هنا فتحت "مها" ذراعيها إليهم جميعا ولملمتهم حولها كعادتها وهي تلقي على مسامعهم تلك النصائح الغاليك التي دوماً يستفيدون منها، بل ويشعرون بالحب والوفاء والاخلاص تجاهها، فهذه هي الـ"مها" التي دائما تبث فيهم روحهم روح الأمومه والنجاح والفلاح:
ـ اسمعوني زين يا بنات، كل ست فينا محتاجة توازن بين حياتها، شغلها، وفي جوزها، وفي بيتها، وعيالها اللي شغلها فيكم هياجي على راحتها وصحتها وعيالها، وتقدر تستغنى عنيه تستغنى، ما فيش أحلى من لمة الأم حوالين ولادها وجوزها وهي هترعاهم بعينيها،
ودي في حالتك يا "رحمة"، انتِ أخذتِ القرار السليم وأشجعك عليه، لأن مهنتك صعبة جداً وشاقة، وخصوصاً إنك توسعتِ فيها بذكائك، وده طبعاً كان هيضر بتك وحياتك، فبلاش لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة،
أما بالنسبة لكِ يا "سكون" ، رجوعك لشغلك دي حاجه زينة قوي، هيخليكي تخرجي برة قوقعة تعلقك بالعيال الشديد، وخصوصاً إنك دَكتورة، ومهنتك ما فيهاش خطر لا عليكِ ولا على أولادك، وخصوصاً جوزِك هيشجعك إنك ترجعي شغلك وتحققي ذاتك،
اللي عايزة أقوله لكم يا بنات، إن الست منّا حضن كبير يساعي كل اللي حواليها، ما ينفعش إنها تهمل في كفة وتراعي الكفة التانية، ربنا سبحانه وتعالى اختص الأم بأنها قوية والجنة تحت أقدامها، علشان دايماً عيونها هتراعي الكبير والصغير،
كل واحدة فيكم تحب بيتها وجوزها وعيالها قبل ما تحب نفسها، وتزرع فيهم الحب والحنان واللمة الحلوة، صدقوني، الحاجات دي هتعمّر البيوت أكتر من الفلوس،
وكمان، كل ست بيت لازم تهتم بحالها وبهيئتها وما تهملش في نفسها حتى لو كانت شغّالة، الراجل هيحب يرجع بيته يلاقي مرته زينة ومستناه ببسمة حلوة وحضن يساعيه من هموم الحياة.
هنا كانت الفتيات تنظرن إليها بفخر بأن تلك الكبيرة بعقلها تحتويهم وتنصحهم بتلك الدرر لينهالوا عليها بالقبلات المحببة إليهم وإليها، وقاموا باحتضانها جميعا واعينهم تلمع دمعا من تلك الراقية الرقيقة حتى نطقن جميعا بصوت واحد إثراءً عليها:
ـ احنا هنحبك قوي يا أجمل "أم الزين" في الدنيا ربنا يبارك لك في ولادك وصحتك ويخليكي لينا وما يحرمناش من حضنك ولا ريحتك القمر.
احتضنتهم بحب جارف:
ـ ولا منكم يا حبايب "أم الزين" وجودكم جاري ولمتنا مع بعض كل فين وفين ما يحرمناش منها ابدا.
