رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثاني والعشرون
جلسا متقابلين يتبادلان صمتًا مثقَلًا بالحرج حتى بادر **ظافر** قائلاً بصوت حاول أن يبدو هادئًا:
“لماذا لم تُخبِريني عندما توقّف سمعُكِ عن الاستجابة؟”
خفضت **سيرين** رأسها كأن الذهول أثقل نظراتها ومن ثم قالت في خفوتٍ مضطرب:
“ظننتُ أن الأمر سيتحسن عندما نعود إلى المنزل.”
مدّ ظافر يده إليها لكنّها ابتعدت بخطوةٍ حذرة فتجمّدت يده في الهواء كعلامة استفهام لا تجد جوابًا فعاد يسألها بقلقٍ متوتر:
“مع مَن كنتِ اليوم يا سيرين؟”
رفعت رأسها إليه بصدمةٍ صريحة تقول باحتجاج:
“هل أرسلتَ أحدًا ليتبعني… مرة أخرى؟”
ارتبكت ملامحه؛ فالكلمة الأخيرة كانت غريبة عليه… لم يكن يتذكّر هل حقاً كان يومًا يرسل أحدًا خلفها ولا يفهم ما الذي تشير إليه.
وقبل أن يجد ما يقوله انفتح باب غرفة فاطمة وخرج الطبيب الذي قال بنبرةٍ مطمئنة رغم جدّيتها إن فاطمة تعرّضت لانهيارٍ عصبي أفضى إلى فقدانٍ مؤقت للوعي وإنها بخير الآن لكن عليها تجنّب الانفعال في الأيام القادمة.
خرج **ماهر** خلفه وألقى على سيرين نظرةً باردة تحمل في عمقها ما شاهده اليوم غير أن وجود ظافر منعه من التفوّه بكلمة.
قال ماهر:
“سنتجه إلى الخارج الآن يا سيد ظافر.”
فأجاب ظافر بإيماءةٍ مقتضبة:
“بالطبع.”
ثم مضى الطبيب وماهر تاركَين **سيرين** و **ظافر** وحدهما في لحظةٍ لم يتبقَّ فيها سوى الأسئلة العالقة… والقلوب المتوترة.
قالت **سيرين** بصوتٍ هادئ يكسوه امتنانٌ خفيف:
“شكرًا لك على إيصالي إلى المنزل اليوم… وعلى استدعاء الطبيب لفاطمة.”
كانت تدرك تمامًا أن ما فعله لا علاقة له بما دار بينهما من شكوك حول مراقبته لها وأن الأمرين لا يلتقيان.
ارتسمت على ثغر **ظافر** ابتسامة باهتة وقال بنبرةٍ حاول أن يجعلها طبيعية:
“نحن زوجان… ولا حاجة لأن تشكريني.”
ثم مدّ يده مرة أخرى محاولًا الإمساك بذراعها وأضاف بلهجةٍ فيها قدر من الدفاع:
“كما أنني لم أرسل أحدًا ليتبعكِ.”
لكن كلمة *الإنكار* لم تجد لها طريقًا إلى قلبها؛ فقد بقيت نظرتها ساكنة لا تصدّقه.
تابعت سيرين حديثها وكأنها تقطع الطريق على أي جدال:
“السنة الجديدة على الأبواب… سأعود بك إلى قصرك غدًا.”
كانت كلماتها تقريرًا لا طلبًا.
قبض **ظافر** على يدها بقلقٍ ظاهر وسأل بصوتٍ يشوبه الارتباك والعوَز:
“وماذا عنكِ أنتِ؟”
فأجابته ببرودٍ خالٍ من الانفعال:
“عليَّ أن أهتم بفاطمة.”
شعر بشيءٍ يشبه الانكسار يهبط على صدره كأن سؤالًا ظلّ حبيسًا في أعماقه فاندفع أخيرًا إلى السطح:
“سيرين… هل تزوجتِني بدافع الحب؟”
ففي كل ما يتذكره من ماضيه كانت سيرين تحبه بعمقٍ لا يُشق له يقين ولم يتخيل يومًا أنها قد تترك في قلبه شرخًا كهذا.
عجزت **سيرين** عن الإجابة وكأن كلمات ظافر فتحت في داخلها صمتًا أعمق من أن يُك.سَر… في البداية ظنّت أنها تُبادله الشعور لكن الحقيقة اتضحت لها متأخرة:
لقد أخطأت في اختيار الرجل الذي يناسب قلبها.
ساد المنزل هدوء ثقيل كالغبار حتى بدا أن ظافر لم يعد يحتمله فاقترب منها فجأة وجذبها إلى ح.ضنه بقلقٍ يفيض من عينيه ومن ثم قال بصوت أجشّ كأن صدى الخوف يضغط على حنجرته:
“ستعيدينني إلى هناك بسبب *كارم* أليس كذلك؟”
ظافر ذاك المتجبر لم يعرف من قبل رجلاً يجرؤ على انتزاع امرأته منه وهذه الفكرة وحدها كانت كفيلة بإشعال غضبه لكن سيرين ردّت بهدوء قاتم كمن تحسم معركة طال انتظارها:
“لا… نحن سننفصل في كل الأحوال عاجلًا أم آجلًا فالأفضل أن يحدث ذلك الآن.”
ثم أضافت بصرامةٍ تُخفي خلفها جرحًا قديمًا:
“ظافر… أنت لم تُحبّني أصلًا… قبل أن تفقد ذاكرتك لم تكن ترى فيَّ شيئًا مميزاً وعندما تستعيد ذاكرتك ستكتشف كم كان كل شيء بيننا مُتعبًا وقبيحًا.”
استغرب ظافر كلامها بل بدا له أقرب إلى العبث.
هو لا يتذكر الماضي، نعم… لكنه يميّز ما يشعر به الآن… فإن لم يكن يحبّها، فكيف ظلّت صورتها أوّل ما عاد إلى ذهنه؟
وإن لم يكن يحبها، لِمَ بقي قربها رغم كل الخلافات؟
وإن لم يكن يحبها، فكيف احتمل جفوتها مرارًا دون أن يغادر؟
قال أخيرًا بصوت حازمٍ يرفض الانهيار:
“حسنًا… عندما تعود ذاكرتي سنتحدث في الأمر.”
كان مُصمّمًا على البقاء وهي كانت تدرك تمامًا أنها لا تستطيع منعه بالقوة ولذا لم يبقَ أمامهما سوى أن يمضيا خطوةً خطوة في طريقٍ غائم لا يعرف أحدٌ أين سينتهي.
لم تعرف **سيرين** طعم النوم تلك الليلة؛ كانت الأفكار تتراكض في رأسها حتى الفجر. وفي الصباح، أيقظها رنينٌ حادٌ اخترق صمت الغرفة. مدت يدها إلى الهاتف، وما إن أجابت حتى تجمّد الدم في عروقها.
صوتٌ تعرفه… صوتٌ طالما زار كوابيسها يقول.
“سيرين…”
كانت **سارة** أمّها.
خفق قلب سيرين بعنف لكن ملامحها ظلت هادئة بلا ارتجافة واحدة ومن ثم قالت بصوتٍ رسميّ لا يشي بقربٍ أو ألفة:
“هل يمكنني مساعدتُكِ… يا سيدة سارة؟”
لم تحتمل سارة هذا اللقب؛ شعرت كأنه صفعة على وجهها… في نظرها كانت سيرين ناكرةً للجميل… جاحدة لا تستحق الرحمة فردّت ببرودٍ قاطع يحمل في ثناياه تهديدًا صريحًا:
“لقد اختلستِ ثمانية مليارات دولار تركها لنا والدك… وحان الوقت لتعيدي المال إلى أصحابه الشرعيين… لقد قُبِض على ماثيو بالفعل… دعيني أنصحك… سلّمي نفسك، وربما—وربما فقط—أسمح أنا وتامر أن نُخرجك من هذه الورطة.”
