رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الرابع والثلاثون 

"لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

احيانا الحياة تفرض قيودًا لا نفهمها،
فتتردد القلوب بين الاقتراب والانكسار،
ويصبح الحب كرقصة على حافة الظلال، بين الأمل والخوف.

وفي النهاية، يفرض القدر ما لا يختاره القلب

زمَّت شفتيها بحنق وسحبت الكرسي لتجلس في مواجهته مباشرة:
_وياترى إيه المقابل يا دكتور؟
أسند ساعديه على الطاولة، نظراته تخترق هدوءها المفتعل:
_رولا، عملتي في رولا إيه يا..
توقَّف يحبس الاسم في صدره، قبل أن يُلقيه كطعنة:
_يا رؤى هانم.

اشتعل صدرها كأنَّ جمرًا سقط فيه، فاعتدلت تحدِّق فيه بعينين تغليان غضبًا:
_رؤى هانم!! دلوقتي بقيت رؤى يا يوسف، مش خالتك اللي كنت بتموت فيها؟ خالتك اللي ربتك، وحضنتك بعد ماأمَّك رمتك، دلوقتي بقيت مش عاجباك؟

اشتدَّ فكِّه، ونظر بعيدًا وكأنَّه يلجم نفسه:
_اسكتي، مش عايز أقلِّب في القديم علشان ماأزعلكيش.

صفقتْ بيديها على الطاولة، وانحنى صوتها المرّ:
_لا يابن إلياس قلِّب، مش إنتَ اللي جيت لحدِّ عندي يبقى اسمع، سمِّموا دماغك بإيه من ناحيتي؟ بدل ماتوقف مع خالتك اللي بسببها بقيت راجل محترم، جاي النهارده تحاسبني؟

رفع يده، قاطعها بجفاءٍ حاد:
_أنا قولت مش عايز أتكلِّم في الماضي.

_بس أنا عايزة.

هوت قبضته على الطاولة، هزَّة زلزلت جسدها تتطلَّع إليه بذهول: 
_مش مكسوفة!! واحدة زيِّك تتكسف على دمَّها، ليكي عين تتبجَّحي؟ لو مكانك أموِّت نفسي.
اقترب بجسده، صوته يخنقها:
_وياريتك بني آدمة، الانحطاط شدِّك لدرجة إنِّك تإذي بنت أخوكي! بس أقول إيه، اللي دَمَّها فاسد تئذي أختها، وسهل عليها تبقى مخزن للشرِّ والحقد.

تجمَّد الهواء بينهما، قبل أن ينفث سؤاله المختنق الذي حمله سنوات:
_سؤال واحد من سنين نفسي أسأله.
أمال برأسه، وقال بصوتٍ متقطِّع رغم القسوة:
_ليه عملتي فيَّ كدا، ليه؟
عرفتي إنِّ أمِّي عايشة، وبدناءتك وكدبك وجعتيني، عايز أعرف إزاي كنتي بتنامي جنبي وتقوليلي إنِّك بتحبِّيني، إزاي كنتي بتاخديني في حضنك وإنتي بتقتلي أمِّي؟

قهقهت بسخريَّة مريرة، تصفِّق بيديها كأنَّها تُحيِّي انهياره:

_ الله يا زمن، شوف بيقول إيه عن الأمِّ اللي رمت ابنها قبل مايكمِّل عشر سنين، وهربت تعمل فيلم طويل عريض!

صرخ بقهرٍ مكبوت، يرفع إصبعه بحدَّة:

_هتتكلِّمي عن أمِّي تاني هنسى كلِّ تربيِّتي، وهخلِّيكي تعرفي يعني إيه تغلطي في حقِّ أم يوسف الشافعي.

اقتربت منه مائلةً برأسها، ملامحها تتلوَّى بخبث:

_واضح إنُّهم معبِّينك جامد، ومخبِّيين الحقيقة اللي مرعوبين تعرفها.
بصراحة، أبوك كان هيتجوِّزني لولا إنِّ أمَّك انهارت وانتحرت.

تسمَّر مكانه، عروقه انتفخت، قبضته تتشنَّج كأنَّها على وشك الانفجار.

نهضت هي واقتربت منه بخطواتٍ محسوبة، كحيَّة تتقدَّم نحو فريستها:

_كان خلاص هيطلَّقها، كانت بتنهار وتهرب منُّه كلِّ شوية..لحدِّ مابقى فاضلُّه خطوة.

قال بغضبٍ يزلزل المكان:

_اخرسي بقى.

ابتسمت ابتسامةً باردة، وضعت يدها على صدره بخفَّة مقزِّزة:

_ياترى قالَّك اتجوِّزها إزاي؟
خلِّيني أقولَّك الحقيقة يا دكتور…

همست قرب أذنه بفحيحٍ بارد:

_مصطفى باشا غصب عليه، قالُّه لو مااتجوزتهاش، لا إنتَ ابني ولا أعرفك.

تراجعت خطوة، لتطلق آخر سهم:

_تعرف ليه؟ علشان فريدة هانم جدِّتك الموقَّرة أمرت بكدا.

عروقه نبضت بشراسة، وصوته خرج مبحوحًا بالغضب:

_اتكلِّمي كلمة واحدة عن أمِّي تاني وهقسم بالله ماهتخرجي من هنا على رجلك.

ابتسمت ابتسامة من يعرف أنَّ النار اشتعلت تمامًا حيث أرادت:

_أتكلِّم؟ ده أنا لسه مابدأتش.

استدار يوسف ببطء، كأنَّه يشعر بعموده الفقري يتجمَّد، ملامحه تتصلَّب فيما هي تواصل قصف الحقيقة كرصاصٍ متتابع:

_علشان فريدة خطفت ميرال من أمَّها.
ماهو أبو ميرال اللي يبقى أبويا، اتجوِّز فريدة بعد موت جدَّك جمال أبو أبوك، 
وطبعًا فريدة ماعجبهاش الوضع فهربت وخدت ميرال معاها، ولعبت على مصطفى باشا، وألِّفت قصَّة طويلة عريضة وخلِّته يغصب على أبوك(ابنها)يتجوِّز ميرال اللي هيَّ بنت عمُّه وخَبُّوا عليه..
عارف ليه؟
علشان إلياس لو عرف إنِّ البنت دي بنت الراجل اللي قتل أبوه، عمره ماكان هيوافق.

ازدادت ارتجافة يوسف، وشهيقه صار أثقل، لسانه انعقد، بينما هي تغرس الخنجر ببطء:

_أبوك اتجوِّزها بالغصب..
والحياة بينهم مستحيلة.
كانت بتهرب منُّه كذا مرَّة، رغم إنُّه أصلًا اتجوِّزها غصب عنُّه.
بس الهانم كانت دلوعة فريدة.

اقتربت خطوة، صوتها صار كحفيف أفعى فوق صدره:

_إلياس زهق وقالَّها نتطلَّق.
لكن الهانم كانت صحفيَّة مشهورة قدِّ الدنيا، وكانت مرعوبة على صورتها قدَّام الناس.
إزاي تتطلَّق من الراجل اللي البنات كلَّها كانت بتحسدها عليه؟

دارت حول يوسف مثل ذئبة تُحاصر فريسةً بدأت تنزف، بينما هو شعر أنَّ نبضه توقَّف فعلًا، وجهه شاحب وملامحه مكسورة بين غضبٍ وصدماتٍ متلاحقة.

ضحكت بسخريَّة خبيثة:

_وقفت قدَّام المأذون وهوَّ بيكتب كتابنا أنا وأبوك وضربت نفسها بالنار؛ 
شافت إنِّ الجوازة دي إهانة ليها..
وده قبل ماأبوك يعرف إنِّي أختها.

انحنت حتى كادت تلمس أنفاسه، نظرت مباشرةً في مقلتيه، بسمتها تتَّسع كلَّما زادت رجفة جفونه:

_ومش بس كدا..
راحت لأبوها المجرم واتَّفقِت معاه يخلَّصها من أبوك.
وحتى طلبت منُّه يخلَّصها منَّك وهيَّ حامل فيك.
وجدَّك جاب لها دكتور مخصوص علشان ينزِّلك..
رغم إنِّ الدكتور حذَّرها، 
لكن هيَّ كانت مش عايزة أي ارتباط بأبوك، بعد ماحاول ياخد حقُّه من راجل قتل أبوه..رفعت رأسها قليلًا وكأنَّها تستمتع بدماره اللحظي:

_ميرال أمَّك، كانت مستعدِّة تموِّتك قبل ماتشوفك.
أفلت ضحكةً صاخبة ولكنَّها باردة، رغم نيران صدره مع دخول العسكري قائلًا: 

-«الزيارة خلصت.»
قالها العسكري وهو يشير بيده، قبل أن يمدَّ يوسف بطاقةٍ ما نحوه:
«عايزها كام دقيقة كمان، جايب لك واسطة، ادخل للظابط وهيقولَّك.»

ماإن خرج العسكري حتى ارتسمت على شفتي يوسف ابتسامة جانبية.
التهمته بنظراتها وهي تزمُّ شفتيها:
_«ممكن أعرف بتضحك ليه؟»

استدار إليها ببطء وعيناه تخترق سكونها: 
_«بضحك على غبائك يا رؤى هانم.»

اقترب خطوةً ثمَّ أخرى
وعيناه مازالت تطلق شررًا، لو أفلتت منه لتحوَّلت إلى لهبٍ يحرقها:

_«اللي قدَّامك دا يوسف إلياس الشافعي، وقبل ماأبقى من الشافعي، كنت سيوفي..
وجدِّي اللي حضرتك أهنتيه، علِّمني مامدِّش إيدي على ست.
تخيَّلي لو الستِّ دي من العيلة نفسها!»

سحب نفسًا عميقًا، زفره بحنقٍ مكبوت:
«ولا كلمة من اللي قولتيه مصدَّقها ولو كانت صح، مش فارقة معايا
ومش مستني حد يقولِّي أمِّي بتحبِّني ولَّا لأ…خصوصًا لمَّا الحدِّ دا يبقى واحدة مريضة بالحقد والكره.»

انحنى قليلًا فوق الطاولة، وقال بصوتٍ منخفض لكنَّه صار أشدُّ قسوة:
«دلوقتي فهمت ليه عملتي في أمِّي كدا..
بس ليه تضرِّي بنت أخوكي، 
ماحزنتيش عليها؟
إزاي ترمي بريئة في حضن واحد واطي يستبيح براءتها، هانت عليكي؟»

ضحكت ضحكة قصيرة استخفافيَّة، باهتة، خالية من الروح:
_«أخــويا؟» تمتمتها بسخرية مشبعة بالوجع:
«هوَّ سبب حبسي دا مش أخويا؟ 
كنت بورِّيه بس قذارة مراته.»

صرخ:
«اخرسي! هوَّ إنتي إيه، إزاي تبقي بني آدمة؟»

وقفت بمحاذاته، وجهها لا يبعد عن وجهه سوى أنفاس:
«بص يابن إلياس، روح دوَّر بعيد عنِّي.
أنا معرفش العيلة دي، ولا البنت اللي حضرتك جاي تسأل عليها، معرفهاش.»

كوَّر قبضته وبرزت عروق ساعده:
_«هعرف ووعد منِّي مش هتخرجي من السجن دا، هتموتي جوَّاه.»

استدار ليغادر، لكن أصابعها أمسكت ذراعه بقوَّة مفاجئة:
«يوسـف استنَّى!»
استدار على أمل أنَّها خشيت، ولكن خاب ظنِّه حينما قالت:
_بلَّغ سلامي للإلياس، وقوله مش رؤى السبب إنتَ السبب. 
نزع ذراعه من كفَّيها وابتعد خطوة عنها: 
_وحياة قهرتي منِّك لأخلَّص حقِّي كلُّه، وحقِّ البنت البريئة اللي دنَّستيها بحقارتك.
_مش هتقدر تعمل حاجة يابن إلياس، تهكَّمت وهي ترمقه: 
_لأنَّك لو عملت حاجة صور البنت هتنزل مانشيت، ومش بس كدا وصور العيلة الكريمة..قال حقَّك، حقِّ إيه يا أبو حق وأبوك وأمَّك وخالك دفنوني بالحيا.
_طيِّب يامرحومة.
خرج من القسم وأنفاسه تكاد تضيق في صدره، كان يتشبَّث بأملٍ واهٍ أنَّه سينتزع منها خيطًا يوصله للحقيقة. توقَّف فجأةً حين ناداه العسكري:

_يافندم، المسجونة بتقول لحضرتك عايزة تقولَّك حاجة مهمَّة.

استدار إليه بجمود، عيناه تتساءلان، 
هل تتلاعب به من جديد؟.
هل يذهب أم يتركها تغرق وحدها في ظلام حقدها؟

زفر طويلًا، اتَّخذ قراره وهو يقنع نفسه:
“لازم، علشان بنت خالي.”

تحرَّك نحوها، وجدها تقف عند باب الزنزانة تنتظره، كأنَّها كانت تسمع حركته قبل أن يقترب.

دنت خطوة، وصوتها يشوبه رجاء خافت:

_أنا هقولَّك كلِّ حاجة بس قولِّي الأوَّل هتخرَّجني إزاي؟

رفع حاجبه ساخرًا دون أن يقترب أكثر:

_من غير ماتقولي أنا كدا كدا هعرف، لسه بابا معرفش حاجة، جيتلك يمكن، يمكن ألاقي عندك ضمير لكن الظاهر مفيش، ومش عايز أعرف حاجة..كفاية إنِّ إلياس يعرف وإنتي عارفة الباقي.

اقتربت أكثر، كأنَّها تستمدُّ قوَّتها من اقتراب غضبه:

_مش هيعمل حاجة.

_مالكيش دعوة أنا ادِّيتك فرصة..لكن بعد اللي سمعته خلاص، خلِّيكي هنا لحدِّ ماتموتي، وزي ماوعدتك هتموتي هنا.

حاولت الإمساك بذراعه، كمن يغرق ويتشبَّث بقشَّة:

_يوسف اسمعني.

_خلاص، مش عايز أسمع بعد اللي قولتيه انتهى.

شدَّت على ساعده بقوَّةٍ مذعورة، تحدِّق في عينيه المشتعلتين:

_وحياة ميرال عندك تطلَّعني من هنا، أكيد هتقنع أبوك، وهوَّ عمره مايرفض لك طلب.

انحنى إلى مستوى وجهها، صوته يقطر احتقارًا:

_ياريتك قولتي كدا من الأوَّل.

ابتلعت ريقها، ثمَّ قالت فجأة:

_حتى لو قولتلك مين اللي اتجوِّز رولا؟

رمقها بحدَّة:

_هنستهبل؟.الورقة مزوَّرة.

هزَّت رأسها:

_الإمضاء إمضاء رولا، بس مش الشخص اللي مضى.

تجمَّدت عروقه:

_يعني إيه؟

همست بصوتٍ مكسور:

_يعني مهما تعمل مش هتعرف توصلُّه.

ضاق صدره أكثر:

_الراجل دا قرَّب منها، صح؟

تراجعت خطوة، تهرب بعينيها بعيدًا:

_معرفش.

جزَّ على أسنانه وصوته ينفجر:

_أومال ليه بعتِّيها له؟ أنا سهل أعمل كشف وأعرف بس مش عايز أرعب البنت، إنتي إزاي واطية كدا؟

دمعة سقطت على خدِّها:

_والله ماكنت أعرف إنُّه هيقرَّب لها، هوَّ قال عايز واحدة من العيلة يضغط بيها، وماكنتش لاقية غير رولا بنت يزن..لأنِّي متأكِّدة إنِّ ضي مش هتيجي لي.

ماإن نطقت اسم زوجته، حتى انفجر ماتبقَّى من صبره..دفعها بقوَّة، بجنونٍ لم يستطع احتوائه، ليرتطم جسدها بالجدار صارخة، لكنَّ صراخها لم يصل لضميره.

اقترب منها، وجهه لا يعرف الرحمة..

ابتلع ريقه بصعوبة، وصوته خرج خافتًا لكنَّه حادٌّ كسكِّين:

_كنتي إلمسيها بس، والله كنت هموِّتك من غير مايرفِّ لي جفن.

قهقهت بسخريَّة ممزوجة بالغلّ:

بكرهكوا كلُّكم..ضيَّعتوا حياتي، وإنتَ جاي تحاسبني، روح حاسب أبوك وعمَّك وخالك، وأمَّك. 

اقترب منها خطوة..ثم أخرى، حتى التصقت أنفاسه بملامحها، ودار حول نفسه قبل أن يبتعد فجأةً كمن اختنق بالهواء نفسه، يلهث، وعروقه تخفق بجنونٍ من هول مايسمعه.

رفعت حاجبيها بشماتة ثم قالت كلماتٍ كالقنبلة:

_الراجل دا بياخد البنات "بضاعة" لراجل تاني، واحد واصل لدرجة محدِّش يقدر يقرَّب منُّه، وبيساعدني هنا في السجن.

أنا إدِّتلها العنوان، قولت لها إنِّ في فيديوهات لعمِّك ووالدتك عند المحامي دا، وإنُّه بيهدِّدني بيها وكنت محتاجة حد يروح يقنعه، وهناك نصبوا الفخ.

ابتلعت ريقها، لكن عينيها ظلَّتا تحملان نفس السمّ:

_معرفش عمل معاها إيه، بس اللي أعرفه إنِّ الراجل دا كان مع بنت تانية في نفس الليلة وماتت منُّه.
علشان كدا هرب برَّة مصر، ومن يومها معرفتش أوصل له.

تجمَّد تمامًا كأنَّ الزمن توقَّف عليه وحده حتى شعر بأنَّ قدماه أُلصقت بالأرض، عيناه اتَّسعتا بذهولٍ لم يستوعبه عقله بعد..رفع عيناه ينظر لعينيها مباشرة، يتخيَّل ذاك الحيوان بموضعٍ مزري مع ابنة خاله، ياالله حتى التخيُّل كاد أن يسحب نبضه، ليشعر بصوت دقَّات قلبه تتحوَّل إلى طرقات مطرقة فوق جمجمته..يهزُّ رأسه بجنون: 
أيُّ جحيم هذا!!
وأيُّ روحٍ يمكن أن تقترف ماسمعه الآن دون أن ترتجف؟

رفع بصره إليها ببطء، ببطءٍ قاتل..وكأنَّه يرى كائنًا خرج من تحت الرماد لا امرأةً عرفها يومًا.

ياالله!!.
هل حقًّا هذه إنسانة؟.
هل تحمل قلبًا أم صخرةً سوداء مطموسةُ الرحمة؟
كيف سمح لنفسه أن يعتبرها يومًا في مقام والدته؟

أغمض عيناه بقوَّة، يستنجد بالله أن لا ينفلت غضبه..وأن لا تطيح يده بعنقها في لحظةٍ يفقد فيها سيطرته.
ارتجفت أصابع يده، فقبض عليها بكلِّ مافيه من قهرٍ كي لا يتحوَّل غضبه إلى جريمة.
هنا شعر بانسحاب أنفاسه، وكاد أن يقع صريعًا، أمَّا هي..
فكانت تتلذَّذ بانهياره كأنَّها تشرب انتقامها من الجميع دفعةً واحدة منه هو وحده، دنت منه وغرست عيناها بعينيه:
_ماهو لو مكنوش أذوني مكنشِ ربِّنا أذاهم. 
استدار سريعًا، يركض للخارج بخطواتٍ مترنِّحة قبل أن يلقيها قتيلة،  خرج يشعر بانقباضٍ بصدره، حتى فقد تنفُّسه..اتَّجه إلى سيَّارته وجسده ينتفض بالألم والحزن، إلى متى سيظلُّون يجنون من الماضي الأسود الذي قضى على آمالهم؟.. 
جلس بسيَّارته خلف المقود ينظر بشرود، وذهب عقله لحديث بلال عن رولا..رفع هاتفه للحظات ليستمع إلى الردّ:
_يوسف فيه حاجة؟
_إنتَ فين؟ 
_رايح على المستشفى. 
_جايلك ماترحش في مكان. 
أغلق الهاتف واتَّجه إلى المشفى عند بلال.. 
دلف إلى مكتبه وجدها قد استفاقت.. ابتسم مقتربًا منها: 
_صباح الخير. 
طافت بعينيها بالمكان تنظر للممرِّضة التي تباشر حالتها، ثم قالت:
_أنا نمت قدِّ إيه؟ 
رفعت الممرضة رأسها إلى بلال: 
_هيَّ كويسة بس السكَّر مرتفع شوية. 
أومأ وأخذ تقريرها، أشار إليها بالخروج..ثم تقدَّم وسحب مقعدًا يجلس عليه بمقابلتها: 
_بتِّي في المستشفى، حالتك مكنتش تسمح تخرجي منها، اضطَّريت أعطيكي مهدِّئ علشان تعرفي تنامي. 
اعتدلت تسحب الإبر من الكانولا:
_شكرًا لحضرتك، مكنش ينفع أبات هنا، زمان بنت عمِّي قالبة عليَّا الدنيا، ومش بعيد تروح لطليقي ويحبسها. 
قطب جبينه وأشار إليها بالهدوء:
_تمام اهدي، خدي التليفون كلِّميها، مينفعش تخرجي كدا. 
سحبت الهاتف سريعًا: 
_أيوة يا كنزي إنتي فين؟ 
صرخت الأخرى بها: 
_إنتي كنتي فين؟ من إمبارح بدوَّر عليكي.
_حبيبتي أنا كويسة، تعبت شوية وبتِّ في المستشفى،  وأوَّل مافوقت كلِّمتك. 
_الحمدلله، كنت هموت من القلق عليكي، أنا روحت عند ابن عمِّك علشان يبلَّغ باختفائك، لسة طالعة على السلِّم كويس إنِّك اتَّصلتي. 
_طيب حبيبتي شوية وهرجع على البيت وسلِّميلي على فريد. 
_هتتأخَّري؟ مش عايزة أرجع وإنتي مش موجودة، وكمان مش عايزة أقعد مع مرات أخويا الباردة. 
_لا، ساعة بالكتير، فيه محلول يخلص وأرجع.
_تمام. 
ناولته الهاتف وهدأت قليلًا، لتقول بامتنانٍ حقيقي:
_شكرًا..مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه. 
_هوَّ إنتي إيه حكايتك، ودا طليقك ولَّا جوزك ولَّا إيه؟
_طليقي..بس مش سايبني أعيش. 
_مش فاهم..ليه مفيش حكومة؟ 
_أنا يتيمة..وأسامة ابن صديق بابا، اتجوِّزنا سنتين كانوا أكتر سنوات عذابي، مريض بالغيرة، طلَّقني مرِّتين ورجَّعني، والده الله يرحمه كان بيوقف له، بس من وقت مامات وأنا بقيت ضعيفة لوحدي، ماليش غير ابن عم وحيد، ودا مابحبِّش المشاكل، شغَّال في بنك، وأسامة هدَّده لو قرَّب منِّي هيلفَّق له قضية ويحبسه، هوَّ خاف على مستقبله ومابقاش يوقف معايا، رجَّعني غصب عنِّي، وكلِّ مرَّة غيرته تموِّتني، حبسني في قصره زي العصفور اللي في قفص من ذهب، كلِّ أوامري مجابة، بس هوَّ بشع، منكرش كان أهمِّ حاجة عنده أعيش في راحة وكلِّ اللي أتمناه يكون تحت رجلي خلال ساعات..لكن مرضه تعبني وفي مرَّة خرجنا نتعشَّى برَّة، وعلشان صاحب المطعم عملِّنا ترحيب، لأنُّه كان يعرف بابا وصديق قديم، ضربني قدَّام الكل، ورمى يمين الطلاق، ودي كانت الطلقة التالتة.
ارتعشت شفتيها وانسابت دموعها، وتابعت حديثها المؤلم:
_اتجنِّن طبعًا، وراح لشيوخ وقال غصب عنِّي، بس طبعًا مكنش ينفع لأن الطلقة بائنة، قالوا في حالة اتجوِّزت شخص تاني ممكن ترجَّعها، فكَّر في الموضوع دا وجاب راجل شغَّال معاه، يعتبر المسؤول عن شغله، وقالُّه يكتب عليَّ من غير حتى ماأحضر، واللي يكتب الكتاب يطلَّقكم، أنا ماوافقتش وهربت منُّه وروحت بلَّغت الشرطة إنُّه بيتعرَّض لي، وهوَّ من وقتها زي المجنون كدا.
_بتحبِّيه؟
_كنت..بس دلوقتي مفيش أي مشاعر ناحيته، لا كره ولا حب لأنُّه عيَّشني حياة جحيميَّة، حاولت معاه بكلِّ الطرق، لكن مرض الغيرة مجنِّنه.. 
هدَّدني ببنت عمِّي، خوفت عليها، قولت له هوافق بس بشرط تيجي معايا الأزهر، ولو الموضوع حلال هوافق، وعدني بكدا ورحنا الأزهر وهناك الشيخ قالِّي:

يابني اسمعني كويس، اللي عايزه دا اسمه نكاح تحليل، ودا الشرع حرَّمه بشكل واضح..النبي ﷺ لعن المحلِّل والمحلَّل له، يعني الراجل اللي بيتجوِّز بس علشان يرجَّعك لجوزك، وجوزك اللي وافق على كدا.
_يعني إيه يا شيخنا، افرض حد اتجوِّز وهوَّ ميعرفش؟..تسائلت بها كارما.

الشيخ:
البطلان هنا راجع للنيَّة والاتفاق، لو كان في اتفاق صريح بينكم إنِّ الراجل دا يتجوِّزك يومين ويطلَّقك يبقى الزواج دا شرعًا حرام ومذموم بشدَّة.
لكن الذنب على مين؟ الذنب الأكبر على اللي رتَّب واتَّفق وأجبر، وإنتي لو كنتي مكرهة يبقى الإثم مش عليكي.

شعرت بقبضة تعتصرها وهي ترى حممم بركانية في أعينه فقالت:
_طب والرجوع لجوزي بعد كدا ينفع؟

الشيخ:
_ماينفعش، لأنِّ الزواج اللي حصل دا مايعتبرش زواجًا حقيقيًّا ولا بتحليل شرعي..التحليل الشرعي مش لعب، ربِّنا قال:
«حَتّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ»
يعني تتجوِّزي راجل زواجًا طبيعيًّا، زواج عادي بدون اتِّفاقات، وبدون توقيت، وبدون نيَّة إنُّه يسيبك علشان ترجعي لغيره.

نظرت إلى زوجها الذي تصنَّم من كلماته:
_طيِّب والعمل؟! 

الشيخ:
يابنتي اللي بيطلَّق مراته تلات مرَّات لازم يعرف إنُّه فقد حقُّه فيها..دي حدود ربِّنا ومينفعش يتحايل عليها، لو رجعتي له من غير زواج صحيح بعد رجلٍ آخر، تبقى العلاقة حرام ومش زواج شرعي.

ارتجفت شفتيها وقالت دون أن تكترث لنظراته: 
_طيب لو ضغط عليَّ وقاللي إنِّ دا الشرع وإنِّ لازم أعمل كدا؟

الشيخ (بحزمٍ ورفق):
_لأ، هوَّ خدعِك، الشرع ماقالش تتجوِّزي واحد يومين ولَّا أسبوع..
الشرع قال: جواز طبيعي حقيقي، مش تمثيلية، وإجبارك على كدا ظلم كبير، وربِّنا لا يرضى بالظلم..
وإنتي لازم تعرفي إنِّ حدود الله مش للِّعب ولا للحيل، اللي يكسر الحدّ يتحمِّل نتيجته.
ركِّزي على إصلاح حياتك يابنتي… واستغفري ربِّنا، وانسي الضغط اللي اتعرَّضتي له وانزعي فكرة الرجوع لجوزك القديم، لأنُّه خلاص شرعًا لا يحلُّ لكِ إلَّا بزواج صحيح من رجلٍ آخر زواجًا طبيعيًّا بدون نيَّة ولا اتِّفاق، 
وأوعي حد يجبرك تاني، لا شرع ولا قانون بيقبل دا.
أشارت للذي يجلس بجوارها: 
_قولُّه ياعمِّ الشيخ هوَّ قدَّامك أهو اقنعه، خلِّيه يعقتني لوجه الله. 

التفت الشيخ إليه ودقَّق النظر به، ورسم ابتسامة طبيعيَّة:
_ليه قولتي إنُّه أخوكي؟ 
_علشان ميفكَّرش إنَّك قولت أي رأي، لازم يسمع ويعرف.. 
أومأ له وقال:

يابني الطلقة الثالثة تُحرِّم الزوجة على زوجها.

لا تحلُّ له إلَّا بعد زواجٍ حقيقيٍّ برجلٍ آخر، زواجًا مكتملًا بدون شرط ولا اتِّفاق ولا توقيت.

أمَّا المحلِّل بالاتِّفاق أو الإكراه حرام ويدخل تحت «لعن الله المحلِّل والمحلَّل له».

إن كانت الفتاة مُكرهة فالإثم لا يقع عليها.

لا يجوز شرعًا الرجوع للزوج الأوَّل بعد زواج تحليل باطل..اتَّقي حدود الله يابني، وإلَّا هتكون في إثم كبير ومعصية تحت بند اللعن. 
نهض من مكانه يسحبها: 
_شكرًا يا عمِّ الشيخ. 
خرجت من شرودها وأزالت دموعها تنظر إلى بلال: 
_ومن وقتها وهوَّ بيطاردني، رغم البلاغات الكتيرة. 
رسم ابتسامة حزينة يومئُ برأسه: 
_ربِّنا يهديه، تعرفي بعتلي بلطجية يقطعوا طريقي، كان مفكَّرك معايا.
_آسفة وقَّعتك في مشاكل، أنا لازم أحطُّ له حد، لازم يبعد عنِّي. 
_لو عايزة مساعدة؟ 
نهضت تشير إلى الإبرة التي تعلَّق بوريدها:
_لا..شكرًا أنا هتصرَّف، ممكن تشيل الحقنة علشان أرجع بيتي؟
نهض واقترب من فراشها: 
_طيب إيه رأيك أكلِّم عمِّي يبعت لك حراسة؟.هوَّ عنده شركة حراسة على أعلى مستوى، هيعرفوا يحموكي ويتعاملوا معاه. 
_حراسة؟!
_أومأ لها..وحثَّها على الجلوس مرَّةً أخرى. 
_بصِّي الحراسة هتكون أمان غير هتتولَّى كلِّ شؤونك، أي اقتراب منُّه همَّا اللي هيتواجهوا مع الشرطة، إنتي مالكيش دعوة. 
ابتسمت ولمعت عيناها الذابلة:
_تفتكر هيقدروا؟.
أومأ سريعًا بعدما لمح فرحة عيناها وقال:
_سيبي الموضوع عليَّ، وأنا واثق في الاقتراح دا.
_شكرًا أوي يا دكتور، فعلًا عمُّو ماخيَّبش الظنِّ فيك. 
_على إيه، إنتي مشفتيش نفسك كنتي بترتعشي إزاي وحالتك كانت إزاي.
_ميرسي بجد.. 
_إنتي عندك كام سنة؟
_أربعة وعشرين.
_أووه لسة صغيرة أوي. 
ابتسمت بمرارة وردَّت: 
_أنا متجوِّزة على اتنين وعشرين سنة، وكنت غير كدا، نفسي أرجع لحياتي تاني، أرجع كلِّيتي اللي اتحرمت منها بسبب واحد مريض. 
_إنتي مكمِّلتيش تعليمك؟ 
هزَّت رأسها بالنفي وقالت: 
_من أوَّل مااتخطبت وقعَّدني.
_إنتي كليِّة إيه؟ 
_صيدلة. 
_صيدلة!!.إزاي تعملي في نفسك كدا؟ 
_خلاص بقى نصيبي، وجعت لك دماغك، لازم أمشي. 
قاطعهم طرقٌ على الباب ودخول يوسف ملقيًا السلام، استدار مبتسمًا ثم أشار عليه:
_متخافيش، دا يوسف ابن عمِّي، دكتور برضو بس دكتور قلب.
ضيَّق يوسف عيناه يتطلَّع إلى بلال بجهلِ حديثه، ولكنَّها تحرَّكت بعدما أعادت ترتيب ثيابها وحجابها:
_شكرًا لحضرتك مرَّة تانية، تحرَّكت إلى وقوف يوسف وقالت:
_اتشرَّفت بحضرتك يا دكتور. 
_أهلًا أستاذة. 
أومأت له وتحرَّكت للخارج دون إضافة شيئًا آخر. 
_مين دي، وإيه علاقتك بيها؟
_دي مريضة..وقريبة للأستاذ بتاع الرسالة، المهمِّ خير صوتك مكنش مريح؟ 
هوى على المقعد وقال: 
_عايز أعرف إزاي رولا اتورَّطت بالطريقة دي؟
سحب بلال نفسًا وطرده، ثم جلس بمقابلته: 
_قبل فرحك بأسبوع، كنت بوصَّلها وبجيبها عادي للجامعة، في يوم هيَّ خرجت قبل خروجي، بعتت رسالة وقالت هتروح في أوبر، أنا مشفتش الرسالة غير لمَّا خلَّصت، وخرجت بتَّصل بيها، أوَّل مرَّة مردِّتش، تاني مرَّة سمعتها بتصرخ وتقولِّي الحقني، طبعًا مش أقولَّك حالتي كانت إزاي، وهيَّ مش عارفة تقولِّي هيَّ فين، اتَّصلت ببابا وسألته عن مكانها من خلال التليفون بحجِّة بتَّصل ومابتردِّش ومينفعش أرجع من غيرها، علشان عمُّو يزن ميزعلش، وصلت عندها وأنا بحاول أكلِّمها في الطريق ومابتردِّش، لحدِّ ماوصلت للشقَّة اللي موجودة فيها.

ذهب بذاكرته لذلك اليوم..

ماإن دخل الشقَّة بصحبة البوَّاب حتى تجمَّد قلبه قبل خطواته.
كانت رولا منكمشة في ركن الغرفة، تضمُّ ركبتيها إلى صدرها، وتهزُّ جسدها كطفلةٍ مذعورة، بينما تتصاعد من حنجرتها شهقات أشبه بالصراخ.

اقترب البوَّاب هامسًا بخوفٍ خافت:
حالِتها صعبة أوي يا أستاذ، الشقَّة دي معرفش واحد جالي إمبارح أخد المفتاح والنهاردة قبل ساعتين رجَّعه، بس مكنتش أعرف فيها حد. 

رفع  بلال عيناه يدقِّق النظر فيها، بعدما ربت على ذراع البوَّاب وقال:
_انتظرنا برَّة لو سمحت..اقترب من جلوسها وجدها بملابس غير مرتَّبة، وخصلاتِ شعرٍ مبعثرة، وعينين جامدتين على الفراش كأنَّهما تشهدان شيئًا لا يُرى.
جثا أمامها ببطء، يُحاذر أن يلمس جسدها الذي يُكشف بعضه، ثم قام بخلع جاكيته ووضعه على أكتافها.. 

قال بصوت حاول أن يثبِّته:
_رولا..إيه اللي حصل؟

هزَّت رأسها بجنون، ارتعشت يدها وهي تشير إلى السرير..
تتحدَّث بكلماتٍ خرجت من فمها مكسورة، محطَّمة:
_معرفش، أنا جيت زي ماهيَّ قالتلي، دخلت الشقَّة وبعد كدا ماحسِّيتش بحاجة صحيت لقيت كدا، دبحوني يا بلال..عمِّتو دبحتني، قالتها بصوتٍ يتهدَّج ويختنق، ثم يتحوَّل إلى همهماتٍ غامضة لا يُفهم منها سوى الرعب.

رنَّ هاتف بلال فجأة، رفع الهاتف سريعًا:
_أيوة يا بابا؟

جاء صوت أرسلان متوتِّرًا، نافذًا:
_وصلت لرولا؟

_أيوة، أيوة يا حبيبي وصلت.

_بتعمل إيه في مكان زي دا؟ اسمعني كويس..كلِّمها تنزل فورًا، جاتلي إخبارية إنِّ الشقَّة مش أمان لازم تمشوا قبل ماالشرطة توصل.

هزَّ بلال رأسه:
_حاضر يا بابا، هيَّ كانت بتحتفل مع صحابها وخلاص…

جاءه صوت أرسلان قاطعًا:
_أنا كلامي واضح امشوا حالًا، مش فاهم إزاي تروح أماكن مش معروفة!!
ثم أغلق الخط بلا انتظار.

انفجرت رولا في بكاءٍ أعلى، اقترب منها بلال أكثر وضمَّها إلى صدره كأنَّه يحاول أن يُوقف انهيارها بيده:
_خلاص، خلاص اهدي..لازم نمشي من هنا حالًا.

تشبَّثت بقميصه بقوَّة، كأنَّها تخشى أن يُسقطها خوفها.
انحنى يلتقط حجابها عن الأرض، ونفضه بلطفٍ ثم وضعه على رأسها وسوَّى خصلاتها تحت القماش.

_يلَّا قومي، امسكي فيَّا.

لكنَّها ترنَّحت، ثم أغمضت عينيها وسقطت بين ذراعيه وكأنَّ قواها قد انسحبت تمامًا.

حملها بلال بسرعة وضغطها إلى صدره في خوفٍ لا يُخفيه، واندفع خارج الشقَّة بخطواتٍ شبه راكضة، وعقله يرفض مايترجمه.

أنهى بلال رواية ماحدث في ذلك اليوم، ثمَّ رفع عينيه إلى يوسف، وكأنَّه يسلِّمه حملًا ثقيلًا لم يعد قادرًا على احتماله.

قال بصوتٍ منخفض:
أخدتها شقِّتي وعالجتها يومها لحدِّ ماهديت، حتى كلِّمت محمد صاحبنا الدكتور النفسي جه شافها، وقعد معانا على إنُّه صاحب عادي، وطمِّني وقال إنَّها صدمة بس.

تكوَّنت غيمة غضب فوق ملامح يوسف، لكنَّه سيطر على نفسه وسأل:
طيب..إزاي خالو وطنط رحيل ماشكُّوش في غيابها؟

تنفَّس بلال ببطء، ثم قال:
_ أوَّلًا كان عندها محاضرات وتدريب، يعني موعد رجوعها على سبعة بالليل، وأنا كلِّمت طنط رحيل وقولتلها صاحبتها عيد ميلادها، ورولا نفسها تروح والبنت خارج القاهرة، وأنا هكون معاها ومتقلقيش..رفضت في الأوَّل بس أقنعتها..وعمُّو يزن كان مسافر أصلًا.

مرَّر يوسف يده على وجهه بعنف، كأنَّه يحاول نزع الألم من تحته، ثم قال بصوتٍ مبحوح بالغضب:
تفتكر الحيوان دا..قرَّب لها؟

أطرق بلال رأسه قليلًا قبل أن يهمس:
للأسف يا يوسف، حالتها كانت بتدلِّ على كدا.

كأنَّ صاعقة هوت فوق رأس يوسف.
ظلَّ ينظر إلى بلال بذهولٍ لا يصدِّقه، وعقله يحاول التشبُّث بأيِّ أمل، بأيِّ كذبة ممكنة..قال بصوتٍ مرتعش:
_مايمكن خدعة؟

هزَّ بلال رأسه ببطء، ثمَّ ابتلع ريقه وهو يخفض بصره نحو الأرض:
مفتكرش، لأن…

توقَّف لحظة، كأنَّه يخشى أن يقول الكلمة، ثم أكمل:
شفت الدليل على السرير وحالتها كانت بتقول كدا، أنا حاولت أقرَّب منها، وفعلًا خرَّجتها، بس…

رفع عينيه إلى يوسف، نظرة تحمل مرارة الخيبة:
_هيَّ في عقلها إنِّ انتقام عمِّتها من أبوها وأمَّها همَّا اللي ضيَّعوها.

انفلتت من صدره زفرة حارقة، كادت تسحب ماتبقَّى من أنفاسه وهو يجاهد ليُبقي صوته ثابتًا رغم الاضطراب الذي يعصف بداخله.

قال يوسف وعيناه تحملان قلقًا:
_طيِّب..طيِّب يا بلال إيه الحل؟ أنا مش عايز خالي يعرف حاجة، الراجل يادوب لسه بيتعافى… 

هزَّ بلال كتفيه في استسلام ثقيل:
_والله ماعرفش، أنا حتى بابا سألني عنها ومصاحبة مين، بحاول ألهيه بكلام وخلاص.

نهض يوسف يمرِّر أصابعه بين خصلات شعره:
كنت ناوي أسافر كام يوم أنا وضي، الضغط اللي حصل الفترة اللي فاتت خلَّاني فاضي من جوَّا قولت نغيَّر جو شوية.

ربت بلال على ذراعه بلطف لم يخفِ ارتباكه:
_خلاص يا سيدي سافروا، ولمَّا ترجع نبقى نشوف هنعمل إيه.
هزَّ يوسف رأسه بقوَّة وقال:
_أنا خايف من عمِّتها معرفش دماغها فيها إيه، اللي مش داخل عقلي إنَّها وصلت لرولا إزاي.

تنهَّد بلال وهو يسند ظهره للمقعد:
_صاحبتها واحدة اسمها تقى؛ راحتلها الجامعة وقالتلها كلمتين عن مامتها ورؤى وإنتَ عارف البنات إحساسهم رهيف.

ارتعشت نظرة يوسف وهو يتذكَّر كلمات رؤى التي نخرت صدره:
_ "كنت عايزة أي بنت من العيلة… حتى كنت هختار بنت عمَّك".

رفع يوسف رأسه إلى بلال فجأة، وأردف بصوتٍ متردِّد لكنَّه حاسم:
_دلوقتي العقد مزوَّر، والراجل مش مصري ومش عارفين هوَّ مين أصلًا، وإنتَ بنفسك بتقول إن…
توقَّف يهزُّ رأسه رافضًا إكمال مايجيش صدره..ظلَّ صامتًا ينظر بشرودٍ لدقائق، وبلال يراقبه الى أن 

اقترب خطوة يحدِّق في ملامح بلال:
_بلال..إيه رأيك في رولا؟

رمش بلال بدهشة:
_يعني إيه رأيي؟

اقترب يوسف أكثر، وقال بصوتٍ خفيض كأنَّه يهمس بسرّ:
_تتجوِّزها.

شهِق بلال وهو يرفع يديه رفضًا:
_إيه!! لا طبعًا إنتَ بتقول إيه يا يوسف؟ أنا عمري مافكَّرت فيها كدا!

قبض يوسف على كتفيه بقوَّة توقفه :
_اهدَى بس واسمعني.

هدأ يوسف قليلا ثم قال:
_البنت دلوقتي مغتصَبة، قدَّامنا حلِّين:
_ياالعيلة كلَّها تعرف وساعتها الشرطة هتدَّخل، وسمعتها هتتقطَّع والناس هتاكل في لحمها.. 

يانلاقي طريقة نلمِّ بيها الموضوع، كام شهر وتطلَّق، المهمِّ يبقى فيه ورق يثبت إنَّها كانت متجوِّزة بحق.

هزَّ بلال رأسه بعنف، وصوته خرج منهزمًا:
_يوسف لا، مقدرش..والله مقدرش.

تنهَّد يوسف بحُرقة، يربت على كتفه برفق يخفي انكساره:
_ولا يهمَّك، أنا هلاقي حل.

سأله بلال متردِّدًا:
_حل!! زي إيه؟

ردَّ يوسف بصوتٍ أثقلته المسؤولية:
_ياإمَّا أقول لبابا وهوَّ يعرف يتصرَّف، 
ياإمّا أحاول أقنع ضي..
بس خالي مستحيل يعرف دلوقتي.
المهم محدِّش يعرف ولا حتى آسر.

قالها ثم استدار يسير نحو الباب بخطواتٍ ثقيلة وبلال يراقب تحرُّكه. 

بمنزل مالك…
كانت غادة تلاعب طفلَيها، ضحكاتهما الصغيرة تتردَّد في أرجاء المكان، قبل أن يرنَّ جرس الباب، خرجت الخادمة لترى من القادم، وماإن فُتح الباب حتى اخترقت نبرة أنثويَّة المكان:

_المدام موجودة؟

أومأت الخادمة بخفوت، لكنَّ الزائرة أزاحتها بجرأة ودلفت للداخل بخطواتٍ تمتلئ ثقة لا تخلو من الاستفزاز؛ نهضت غادة حين سمعت الصوت وتقدَّمت حتى توقَّفت أمام فتاة جميلة، ترتدي فستانًا يصل إلى الركبة وتترك خصلاتها تنسدل بتمرُّد.. نظرت إليها غادة بترقُّب، والفتاة تتفحَّص ملامحها دون خجل.

قالت غادة بحدَّة خفيفة، وقد أدركت فورًا التشابه بينها وبين مالك:
_مين الأستاذة اللي داخلة البيت من غير إذن صاحبته؟

اقتربت الفتاة خطوة، ورفعت زاوية فمها بابتسامةٍ ضيِّقة:
_أنا مايسة بنت عمِّ مالك.

بادلتها غادة ابتسامة متماسكة:
_أهلًا مدام مايسة، مش مدام برضه؟ مالك قالِّي إنِّك اتجوِّزتي.

رمشت مايسة بدهشةٍ عابرة ثم ابتسمت ببرودٍ لاذع:
_"يااه، مكنتش أعرف إنِّ مالك لسه بيفكَّر فيَّا."

تشبَّثت غادة بسخريتها، ثم أشارت إلى البيبي سيتر:
_خدي فارس وفريدة لفوق…
ثم التفتت للخادمة:
_شوفي الضيفة تشرب إيه.

جلست مايسة واضعةً ساقًا فوق الأخرى، تراقب المكان بعينين متفحِّصتين:
_حلو بيتكم، هوَّ مالك مش موجود؟

عادت غادة لمقعدها بجفاء:
_في الشغل..زمانه على وصول، لو محتاجاه أكلِّمه يجي مش هيتأخَّر.

انحنت مايسة قليلًا تحدِّق مباشرةً في عيني غادة:
_متأكِّدة من كدا.

ابتسمت غادة ابتسامة باردة:
_أيوه عارفة، بدليل إنُّكم بقالكم شهر هنا وهوَّ محاولش حتى يسأل.

قهقهت مايسة بخفَّة ناريَّة، وانحنت للأمام تزرع نظراتها في عيني غادة:
_يااه، دا أنتوا معبِّيين أوي.

زمَّت غادة شفتيها تحافظ على اتِّزانها:
_ليه نتعب منِّك؟ على ماأظن مالكيش أي أهميَّة عندنا..الشخص بيتضَّايق من اللي بيكنِّ له مشاعر، إنَّما إحنا أوَّل مرَّة نتقابل.

رفعت مايسة حاجبًا:
_متأكِّدة؟

_أكيد.

قطع حوارهما دخول مالك ملقيًا السلام، توقَّف في منتصف خطوته 
حين وقعت عيناه على مايسة..تبدَّل لونه وشحب وجهه، وارتفع حاجباه بصدمةٍ مكبوتة.

اقتربت غادة منه فور استشعارها اضطرابه، بينما ابتسمت مايسة بانتصارٍ لامع:

_طنط ليال قالتلي إنَّك مشغول ومش فاضي تعدِّي، قولت آجي أشوفك بنفسي.

أجابها مالك بعد لحظةِ صمتٍ أثقل من الرصاص:
_أهلًا يا بنتِ عمِّي.

قالها بصوتٍ باردٍ، صلب، يختلف تمامًا عن اضطراب عينيه..التفت نحو غادة وقبض على كفِّها في حركةٍ بدت ثابتة رغم ارتجاف أنفاسه، ثم عاد بنظره إلى مايسة:
_قدِّمتي واجب الضيفة يا دودي؟

وصلت الخادمة تحمل كوب العصير ووضعته أمام مايسة.
رمق مالك الكوب، ثم قال بسخريَّة ظاهرة:
_اتفضلي يا أستاذة مايسة الجوِّ حر، وأكيد محتاجة حاجة تهدِّيكي.

بمنزل طارق: 
دلف إلى غرفة طفله وجده يغطُّ بنومه، توقَّف للحظاتٍ يراقب نومه مع دخول هند: 
_طارق رجعت إمتى؟. 
رفع رأسه إليها للحظاتٍ 
ثم أعاد النظر إلى طفله وقال كلماتٍ خرجت كسهامٍ نفذت إلى صدرها:
_الولد طلع ابني فعلًا يا هند، ولازم أكتب كتابي علشان أسجِّله.
لم يقوَ على النظر في عينيها، ليختلَّ توازنها تتراجع تستند على الجدار، تحاول أن تسيطر على ارتعاشة جسدها:
_يعني إيه تكتب كتابك، هتتجوِّزها؟!
التفت إليها بعدما اخترقت نغمة صوتها الحزين كيانه، ثم خطا إلى وقوفها: 
_هند لازم الولد يتسجِّل باسمي.
رجفة قوية أصابتها تهمس بضياع:
_يعني هتتجوِّزها يا طارق؟!.
سحب رأسها لأحضانه:
_توثيق بس حبيبتي علشان الولد،  وهطلَّقها على طول.
خرجت من أحضانه تنظر إليه بعيونها الباكية:
_والولد هتعمل معاه إيه؟
_هيفضل معاها، هوَّ في حضانتها دلوقتي لحدِّ مايكبر ويقرَّر عايز مين منِّنا.
_يعني إيه يا طارق؟ 

احتوى  وجهها بين راحتيه ينظر لعينيها:
_هند أوعدك حياتنا هتفضل زي ماهيَّ، وظهور الولد مش هيأثَّر على حياتنا، بس أنا كأب لازم أدِّي دوري ناحيته، أنا محتاجك جنبي، رجاءً.. 
حاوطت خصره تدفن رأسها بصدره وآااه حارقة أخرجتها من جوف نيران ماتشعر به.

عند حمزة:

انطلقت السيَّارة كطلقةٍ هاربة، وعيناه تلتهمان الطريق بعنفٍ يكاد يشرخ الهواء، ارتجفت شمس في مقعدها وهي تصرخ بلهاثٍ مضطَّرب:

_اوقف بقولَّك، لو ماوقََّفتش العربية دلوقتي والله هرمي نفسي.

لكنَّه لم يسمع، أو ربَّما سمع وتجاهل، فقد غلبه الغليان الذي يعصف بداخله..
كانت كلُّ عضلةٍ في وجهه مشدودة وكأنَّها تخفي وراءها بركانًا.

استدارت بكلِّ قوَّتها، ورفعت يدها تهوي بلكمةٍ على كتفه:

_إنتَ بتعمِل كدا ليه، ليه مصرّ تفضحني؟!

زمَّ شفتيه وصوته ينفجر كالرعد:

_اسكتي، مش عايز أسمع صوتك مفهوم؟

رمقته بعينين تشتعلان غضبًا وروحًا مجروحة:

_الراجل اللي يخطف بنت من ورا أهلها، يبقى مش راجل يا كابتن.

كانت الجملة كصفعةٍ على روحه لا على وجهه، فجأةً توقَّف بكلِّ عنف، فارتجَّت السيارة وانحرفت على الإسفلت كأنَّها توشك على الانقلاب.

ثوانٍ قليلة…
لكنَّها كانت كفيلة بأن تعرِّي كلَّ شيء.

تجمَّد جسده ويده ترتجف فوق المقود، ونظراته إليها غارقةً في صدمةٍ مُهينة كأنَّها اخترقت صدره إلى حدِّ الوجع..دمعة مجهضة خرجت رغمًا عنه، فسارع يمسحها قبل أن تفضحه أكثر.

ثم أعاد تشغيل السيارة بصمتٍ قاتل كأنَّه فقد القدرة على الكلام، أو فقد شيئًا أعمق من الكلام.

ارتجف جسدها ليس من الخوف فقط، بل من ردَّة فعله التي تراه بها لأوَّل مرَّة.

وصل إلى بوَّابة الكمبوند، توقَّف كتمثالٍ من جليد، وجهه جامدٌ نحو الطريق..فتحت الباب وخرجت بخطواتٍ متعجِّلة، وقلبها يعنِّفها بقوَّة.

وماإن وقعت عيون إلياس عليها حتى التهبت روحه، ترجَّل من سيَّارته كعاصفة، يتبعه رجال الحراسة واتَّجه مباشرةً نحو سيَّارة حمزة.

فتح الباب بعنف، جذبه من قميصه صارخًا:

_إزاااي تتجرَّأ تعمل كدا؟!

قالها ورفع يده يلطم وجهه بقسوة كأنَّها تحمل ثقل الألم الذي عصف به، ثم عاد ليرفع الكفّ مرَّةً أخرى، ولكن ذراع أرسلان اعترضه قبل أن تهوي.

_إلياس..اهدى!

وصل يوسف، ووصل آسر، وعمَّ المكان هرجٌ كأنَّ السماء هبطت على الأرض من شدَّة الغضب.

صرخ إلياس وهو يحاول الفكاك من أرسلان:

ابعد، دا راجل مش عيِّل علشان يعمل كدا، سكت له مرَّة..ساق فيها.

قاطعه أرسلان بنبرةٍ حازمة:

_الموضوع مش هيتحلِّ كدا.

تقدَّم آسر بقلق:

فيه إيه يا عمُّو؟

لكن حمزة لم يرفع رأسه، اكتفى بصوتٍ مبحوح، محترق، كأنَّ الكلمات تخرج من صدرٍ يُنزع:

_آسف، وعد مش هقرَّب لها تاني.

قالها ثم استدار ليغادر، دون أن يدافع عن نفسه، دون أن يشرح، دون أن يقسو…
فقد كانت القسوة تسكنه هو.

نادى أرسلان يوسف بسرعة:

_يوسف الحقه شوفه رايح فين، وإنتَ تعال معايا يا إلياس.

لكنَّ إلياس دفع أرسلان بعنف، وصوته يرتجف من وجعٍ لا يُقال:

_ماهي مش بنتك، لو بنتك عمرك ماكنت هتقول كدا!

ثمَّ تركهم ودخل المنزل، يغلي، يختنق، ينهار بصمت رجلٍ لا يعرف كيف يحمي إلَّا حين يخاف.

تجمَّد أرسلان…
فلقد أصابته الكلمات كالرصاص.

وصل يوسف إلى حمزة وأمسك بذراعه :

_إنتَ عملت إيه، إيه اللي وصَّل بابا للحالة دي؟

فتح حمزة باب سيَّارته، جلس خلف المقود لم ينظر إليه:

_أنا اتأسِّفت خلاص، بعد إذنك.

أدار المحرِّك بقوَّة، وانطلق كالمجنون 
والدموع تغرق وجهه دون أن يحاول إيقافها.

دلف إلياس إلى منزله يبحث بعينيه عن ابنته، توقَّفت ميرال أمامه:
_ممكن تهدى، ماتدخلش عندها وإنتَ كدا. 
_ميرال..تمتم بها بغضب مع خروج فريدة من غرفة مصطفى: 
_ماقولنا اهدى، من إمتى العصبيَّة بتنفع، وبعدين علشان ضغطك، اهدى البنت مالهاش ذنب. 
_ماما لازم تفهم كلِّ حاجة هيَّ مبقتش صغيرة، الجوازة دي هتقهرها.
_مش يمكن يابني تبقى غير ماإحنا متخيِّلين؟
_ماما..صاح بها حتى انفلت الصبر من قاموسه، وأشار بسبَّباته:
_المفروض تقعدوا معاها وتفهِّموها، حمزة مينفعهاش، مش عايز أسمع اسمه تاني هنا، دا واحد بجح. 
تمتم بها وصعد إلى غرفته بينما تنهَّدت ميرال تنظر إلى فريدة بحزن، ثم قالت: 
_هطلع أشوف شمس دلوقتي منهارة. 
_اطلعي حبيبتي. 
وصل يوسف ينظر إلى والدته:
_إيه اللي حصل؟ 
_قصَّت له ميرال ماحدث، كوَّر قبضته بغضب وقال بحدَّة طفيفة:
_إزاي يتجرَّأ يعمل كدا يا ماما، عرفنا إنُّه حبَّها، بس مش بالطريقة دي طبعًا هوَّ غلط.
_يعني عاجبك اللي باباك عمله كدا؟ 
_حبيبتي اهدي، بابا اتصرَّف كأب، أنا هطلع أشوف شمس.
ربتت على ظهره بحنان: 
_بلاش دلوقتي حبيبي، سبها وأنا هشوفها وأطمِّنك، بلاش نضغط عليها. 
قبَّل جبين والدته واستدار إلى غرفة مصطفى التي دلفت إليها فريدة للتو.

عند بلال؛ 
جلس يتابع عمله على مكتبه، وقعت عيناه على سلسالٍ من الذهب، مدَّ يده يسحبه ينظر إليه، اخترقت رائحته رئيته، ابتسامة شقَّت ثغره لا يعلم ماسببها وهو يرى حرفها المنقوش فوقها، رفعه يقلِّبه بين أنامله ثم همس: 
_كارما..اسمك حلو. 
تذكَّر ماقصَّته عليه، شعر بالحزن عليها، ودَّ لو وصل إلى زوجها وقام بخنقه حتى يقع صريعًا لما فعله بها... تنهيدة عميقة لا يعلم ماذا يحدث له، أغمض عيناه يبعد فكرة مشاعره التي تنساق إليها..قام برفع هاتفه واتَّصل بإلياس: 
_إزاي حضرتك يا عمُّو؟
_الحمدلله حبيبي..إنتَ فين؟
_في المستشفى، كنت عايز أكلِّم حضرتك في موضوع مهم.
_قول..قالها إلياس وهو يكاد أن يحترق من الغضب.
_عايز طقم حراسة يكون على أعلى مستوى لصديقة مهدَّدة من طليقها.. قام بقصِّ ماأخبرته به، وإلياس يستمع إليه باهتمام حتى انتهى من حديثه، فقال إلياس: 
_من بكرة هيكون عندها طقم..كلِّم مالك وادِّيله التفاصيل. 
_شكرًا لحضرتك. 

مساءً بمنزل يوسف: 
خرج من الحمَّام وجدها منشغلة بعملها، خطا إلى جلوسها وحاوط مقعدها من الخلف: 
_بتعملي إيه؟ 
_شوية عقود بترجمها وببعتها للسكرتيرة، محتاج حاجة؟ 
سحب منها الجهاز ووضعه جانبًا، ثم حاوط جسدها وأوقفها: 
_أه وحشتيني..قالها وهو يتَّجه بها إلى فراشهم. 
بعد فترة كانت تسكن بأحضانه يملِّس على خصلاتها: 
_فيه موضوع مهمّ عايز أتكلِّم معاكي فيه، بس محتاج فيه عقل ضي الناضج. 
اعتدلت ترمقه بعدم استيعاب.. 
_ليَّا صديقة محتاجة مساعدة، أنا كان ممكن أخبِّي عليكي ومتعرفيش، بس محبتش أخبِّي عليكي حاجة. 
قطبت جبينها: 
_صديقة!! وإنتَ من إمتى عندك أصدقاء؟ 
_مش دا موضوعنا حبيبتي، الموضوع أكبر من كدا. 
_اللي هوَّ.. 
حمحم وحاول أن ينتقي الكلمات التي تنقذ الموقف، فقال: 
_كتب كتاب لمدِّة شهرين مثلًا. 
رفعت حاجبها محاولةً أن تستنبط مقصده: 
_مش فاهمة، كتب كتاب إيه، ماتقول على طول يا يوسف ليه المقدِّمات دي؟ 
صمتت فجأةً تنظر إلى تهرُّبه من عينيها: 
_هوَّ مين اللي هيكتب كتابه؟ قاطع حديثهم رنين هاتفه، التقطه سريعًا يحمد ربَّه أنَّه أنقذه، فهو لم يقو على تكملة الحديث، نظر للمتَّصل ثم رفع الهاتف:
_أيوة يا بلال؟ 
_فكَّرت في كلامك أنا موافق، متقولش حاجة لضي ممكن تقتلك لو عرفت. 
ابتسم بارتياح: 
_مبروك يا دوك، عليك وعلى أبوك بقى، وياريت تروح لإلياس تهدِّيه بعد اللي حصل النهاردة.
_طيب وعمُّو يزن؟
_سبلي الطلعة دي..قالها وهو ينهض من فوق فراشه مع صياح ضي:
_رايح فين يا دكتور، مش هنحلِّ مشكلة صديقتك؟
_صديقتي، هوَّ أنا عندي صديقة؟! 
انحنى يقبِّلها ثم نظر لعينيها: 
_إنتي أحلى صديقة ياروحي، نامي هاخد شاور وأنزل لببلاوي، شكلنا هنفرح بأخوكي طلع بيحبِّ رولا.
_رولا مين؟ 
تحرَّك دون أن يردَّ عليها، بينما ظلَّت بمكانها تتآكل بالغضب:
_ياترى مين الصديقة دي، الراجل دا بيلعب بيَّا أكيد..
لا لا اهدي يا ضي وفكَّري كويس، شكل واحدة لفِّت عليه وهوَّ صدَّقها. 
نهضت تلتقط روبها وتحرَّكت بغضب إلى الحمَّام، توقَّفت على الباب تطرقه بقوَّة: 
_اطلع لي وفهَّمني إيه اللي قولته من شوية، أنا مش هبلة ولا عبيطة. 
خرج يلفُّ نصفه السفلي بالمنشفة وأخرى صغيرة على خصلاته: 
_خلاص بقى يا ضي كنت بهزَّر معاكي.
عرقلت تحرُّكه تنظر إليه بغضب:
_هوَّ إيه اللي بهزَّر معاكي، هتقولِّي إيه الموضوع ولَّا لأ؟
_عايز أغيَّر هدومي، وأنزل أطَّمن على شمس وأشوف خالي ضروري. 
_مش هتتحرَّك يا يوسف لمَّا تقولِّي إيه الموضوع دا، ومين الحيوانة اللي بتلعب عليك؟ 
_إيه اللي بتلعب عليك دي؟ حافظي على ملافظك، اطلعي عايز أغيَّر بلاش أزعَّلك.
ضربت أقدامها بالأرض ثم خرجت غاضبة.
بغرفة شمس: 
كانت تتوسَّد ساق والدتها التي تمسِّد على خصلاتها بحنان وتقصُّ لها بعض الأشياء حتى تخرجها من حالتها، رفعت رأسها تنظر إلى والدتها مع دموعها: 
_ماما أنا بحبِّ حمزة أوي، والنهاردة جرحته أوي، جرحته لدرجة مستحيل يسامحني. 
استمعت إليها باهتمام: 
_إيه اللي حصل حبيبتي؟ 
أخبرتها بما صار وانفجرت بالبكاء: 
_مكنش قصدي أزعَّله، بس أنا زعلت علشان محترمش كلام بابا، بس قلبي وجعني أوي يا ماما من فكرة إنِّي مش هشوفه تاني. 
ضمَّتها ميرال لأحضانها تمسِّد على ظهرها: 
_اهدي حبيبتي..إن شاء الدنيا تهدى وبابا يتصرَّف بالموضوع. 

صباح اليوم التالي:

فتحت عيناها تبحث عنه، اعتدلت جالسةً تجمع خصلاتها، ثم سحبت روبها ونزلت من فوق الفراش ظنًّا أنَّه بالحمَّام، قطبت جبينها تتساءل:
_راح فين معقولة يكون زعل؟.
أووف وبعدين بقى، معنديش خلق أدلِّل في سيادة الدكتور، قالتها بتأفُّف ونزلت للأسفل، نادت على الخادمة: 
_نعم يا مدام. 
_جهِّزي الحمَّام وظبَّطي الأوضة. 
_حاضر قالتها وتحرَّكت ولكن أوقفتها: 
_استنِّي..اعمليلى قهوة وهاتيها الأوَّل وهاتي حاجة للصداع.
حمحمت تفرك كفَّيها ثم همست بتقطُّع:
اسفة يا عداد مش هينفع أدخل المطبخ.

نعم !! روحي اعملي اللي بقولك عليه، دماغي من نقصاكي إنتي كمان.

ابتلعت ريقها تشير إلى المطبخ

والله يا مدام الدكتور خرجنا كلنا من المطبخ، وممعوش غير زهرة بس جوا.

الدكتور في المطبخ ؟!

هزت راسها وقالت:

هو وزهرة بقالهم أكثر من ساعة.

لا والله .. طيب روحي اعملي اللي قولت عليه.

قالتها وتحركت متجهة للمطبخ، والخادمة تراقبها:

معرفش الست دي دايما بتتخالق ليه الله يكون في عونه والله الدكتور يستاهل واحدة هادية

زيه توقفت بجانبها أخرى

يتكلمي نفسك ؟

لا ياختي يحاول أفهم إزاي الدكتور الهادي يتجوز الست قنبلة دي.

ضحكت تجديها

لو سمعتك... تحركت وهي تهمهم

و على إيه علشان حلوة شوية شايفة نفسها علينا.

يا بنتي اسكني وكلي عيش دي بنت أرسلان باشا، ومتعرفيش مين أرسلان باشا؟

طالعتها يتذمر تلوح بيدها ثم صعدت للأعلى، بينما في الداخل:

كدا تمام ؟

ضحكت الفتاة التي تبلغ من العمر عشرين عاما:

تمام أوي، بس خلي بالك دي فيها دهون، وحضرتك ما بتحبون.

مش مهم هاتي واحدة علشان أدوقها وظبطي طبق حلو زي ما وضيتك، عايزة سفرة حلوة

وطلعيها الجنينة.

حضرتك تؤمن أوما لها وقال:

عارفة لو مش عجبتها هعمل فيكي إيه ؟

ضحكت وقالت:

إن شاء الله تعجبها، أنا عارفة هي بتحبها إزاي.

أخذت قطعة وقريتها من فمه:

دوق وقول رأيك يا دوك قالتها وهي تقرب الشوكة من فمه مع دخول في:

يا ما شاء الله طيب كنت عرفني وأنا أكلها لك.


تعليقات