![]() |
رواية قلب ماعت الفصل الرابع بقلم رباب حسين
منذ عامين...
لم يكن يعلم السر الذي تخلل بداخله، قوة لا يضاهيها أحد، لعنة تسرق الروح والعقل، شيطان يتجسد بداخله، وهذا الحجر؛ قلب ماعت، الذي يشع داخل جيبه دون يراه، وكأنه ينبض بلهب سوف يحرق كل شيء، وأول ما سيُحرق... جاد.
لم يعرف ما حدث لعليم، كيف وقع؟! ولماذا؟! لا يدري، هو فقط يذكر أنه أمسك بذلك الحجر، شعر بشيء غريب فقط، ولكن لم يذكر ما حدث له بالتفصيل.
أخذ عليم فورًا إلى المشفى، وتم الكشف عليه، وتفاجأ بأن الطبيب يخبره بأن حالته الصحية جيدة ولا يوجد سبب للإغماء، ظل بجواره لعدة ساعات، حتى دخل الطبيب" ماهر" الغرفة مرة أخرى وقال: لسه مرجعش لوعيه؟!
جاد بقلق: اه يا دكتور، ممكن حضرتك تكشف عليه تاني؟
ماهر: أنا شاكك إن الموضوع نفسي مش عضوي، هو اتعرض لضغط نفسي أو حاجة ضايقته؟
جاد: إحنا كنا في الشغل سوا، معقول يكون خاف لدرجة إنه يغمى عليه؟!
نظر له ماهر بتعجب فقال جاد: أنا عالم آثار وكنت بكتشف مقبرة جديدة.
ماهر: اه كده منطقي، ممكن يكون خاف فعلًا.
جاد: بس مش أول مرة يفتح مقبرة معايا، إيه اللي حصل وصله لكده؟!
لاحظ ماهر أن عليم بدأ يتحرك، ولكن ظهر عليه علامات الضيق، وبدأت ملامحه تنقبض بخوف، اقترب منه ماهر ينظر إليه عن قرب، ينتظر أن يفتح عينيه، وفجأة فتح عينيه بفزع وصرخ بقوة، فارتد ماهر إلى الخلف ونظر له بصدمة، ثم اقترب منه جاد وقال: إهدى يا عليم، مالك فيه إيه؟
نظر له عليم وظل يصرخ بقوة: شيطان، شيطان، طلعوه برا، ده شيطان، أنا شفت الشيطان بيدخل جواه، ملعون، إنت ملعون يا جاد، ملعون.
نظر له جاد بخوف، لقد تبدل حاله تمامًا، بل أُصيب بالجنون، اقترب ماهر منه وأمسك كلتا يديه، وصاح بقوة ينادي على الممرضة، حتى تعطيه عقار مهدئ، ثم أمسك به جيدًا وأعطاه الدواء، كل هذا تحت نظرات جاد الحائرة، لا يعلم ماذا حدث، وعن أيه لعنة يتحدث، ولماذا ينعته بالشيطان؟! بعد قليل، هدأ عليم ونام متأثرًا بالمخدر، خرج جاد من الغرفة مع ماهر الذي قال: واضح إن هي حالة نفسية فعلًا، ولا تكون لعنة فراعنة! إنتو كنت بتفتحو مقبرة مين؟!
جاد: ده قبر كاهن فرعوني.
ضحك ماهر وقال: تلاقي المقبرة مليانة دهب، أنا لو مكانه مش هيجيلي صدمة زي ديه أبدًا.
جاد: لا أبدًا، ده أنا أول مرة أشوف مقبرة فقيرة كده، مفيش فيها غير الحجر ده.
ثم أخرج جاد الحجر من جيبه ورآه ماهر فقال: شكله غريبه كده ليه؟!
جاد: معرفش، طيب دلوقتي هنعمل إيه مع عليم؟
ماهر: أظن لازم يتحول على مصحة نفسية، فيه حد من أهله أو قريبه؟
جاد: كلهم في البلد.
ماهر: طيب الوقت إتأخر جدًا وهو هينام للصبح، تقدر حضرتك تيجي وتنقله لمصحة نفسية، ده أفضل حل ليه.
أومأ له جاد بالإيجاب وهو حزين بسبب ما حل بعليم، ثم عاد إلى منزله، وجد زوجته نائمة، بدل ثيابه ووضع الحجر داخل علبة ثم وضعه بمكتبه، وذهب للنوم.
في الصباح، استيقظ جاد ولم يجد فريدة بالمنزل، أخذ حمام دافئ ثم ارتدى حلته مستعدًا للخروج، ذهب أولًا إلى الوزارة، وأبلغ عن موقع المقبرة، وما حدث لعليم، وطلب منهم أن يعقدو مجموعة من الخبرا لفحص المقبرة، ثم عاد إلى المنزل ليحضر الحجر، فتح العلبة وتفاجأ بأن الحجر قد تغير لونه كثيرًا، أصبح أكثر لمعة، تعجب من الأمر، ثم ذهب إلى غرفة نومه، ليبدل ثيابه ويذهب إلى المشفى، فتح الخزانة ليبحث عن ملابسه، ثم أمسك بملابس فريدة ليرفعها عاليًا، ليفتح عيناه في صدمة.
أحاط به ظل أسود كبير، اتسعت عيناه على مصرعيها، شعر بأن هناك إعصار قوي ورياح شديدة تقترب منه، فجأة أختفى ضوء النهار من الغرفة، أصبحت قاتمة، مظلمة، لا يكاد يرى شيئًا بها، ثم رأى في ركن الغرفة نور خافت ينبعث ليزداد وضوحًا أكثر وأكثر، ورأى ما لم يكن يتوقعه، فريدة زوجته تجلس بأحضان أعز أصدقائه، تتمايل عليه بدلال، وهو يتحسس جسدها بيده، انسابت دمعة حارقة من عينيه، التي تحولت إلى اللون الأحمر، وزادت علامات الغضب على وجهه، ثم سمع ما تقوله فريدة: طيب ما أنا كنت قدامك من زمان، بقيت حلوة لما أتجوزت جاد يعني.
طارق: إنتي اللي مكنتيش شايفة غيره، ده من حبي فيكي ساعدتك تخلصي من سجى عشان يبقى ليكي، زي ما يكون قلبي كان حاسس إنك لما تتجوزيه هتعرفي إنه مينفعكيش.
اقترب منها أكثر حتى ارتطمت أنفاسه برقبتها وقال: أظن دلوقتي صدقتي مين اللي بيحبك؟
فريدة: كنت عبيطة، أو كنت فاكرة إنه هيحبني زيها، كنت لما بشوفهم مع بعض بقول ليه هو يحبها كده وأنا لا؟! ليه بنت الملاجئ ديه تتحب بالشكل ده؟! وأنا اللي طول عمري مستنياه يجي ويقولي إنه عايزني ولا بيفكر فيا، عمال يقولي إنتي أختي... إنتي أختي، حد قاله إني عايزة أخوات.
طارق: خلاص يا ستي، خليه زي أخوكي.
ضحكت بقوة وقالت: ما هو زي أخويا فعلًا.
ضحكا معًا وقال طارق: يعني إنتي مبقتيش تحبيه؟
فريدة: لأ، أنا إكتشفت إني حبيت حبه لسجى، أو طمعت فيه، كان نفسي حد يحبني كده.
طارق: ما أنا بحبك، مش مكفيكي حبي؟
وضعت أناملها داخل خصلات شعره وقالت: مكفيني.
ثم أغمض جاد عينيه، لم يتحمل أن يرى أكثر من ذلك، ثم سمع صوت يتحدث داخل رأسه، لم يكن صوتًا عاديًا، ليس وكأنك تتحدث مع ذاتك، لا، إنما صوت لم يسمعه من قبل، هناك أحد يتحدث داخل رأسه، يخبره بأمور عديدة، لم يعرفها من قبل، شعر بالغضب تجاه فريدة، غضب عارم، قادر أن يحرق ما حوله دون رادع، وفي ظل هذا الغضب، تذكرها... تلك التي لم يعرف قلبه الحب بعد أن غادرت، بعد إن اختفت من أمامه، لم يعد لها أي آثر، بالرغم مما عرفه عنها إلا أنه لم ينساها، لم يستطع العيش دونها، حتى أنه قرر أن يسامحها، وتعود إليه مرة أخرى، ولكن لم يعثر عليها، ظل يبحث عنها عام كامل، حتى استغلت فريدة ضعفه وحزنه، وبالأخير تزوجها، لتطعنه بسكين الخيانة، ومع من؟! مع أعز صديق له.
الوقت الحالي...
بداخل ذلك القصر، الذي تصرخ به سجى متألمة، ليس بألم الجسد، ولكن بألم النفس الذي يتحكم بها ذلك الملعون ماعت، لم يترك ذكرى مؤلمة واحدة، إلا وأعادها إليها، ليس كأنها تتذكرها فقط، بل تعيش بها مرارً وتكرارًا، تتذكر كل الألم الذي شعرت به حينها، كل بكاء وكل دمعة.
نحن نحتاج إلى شهور وربما سنوات، فقط لنستعيد إتزان القلب المجروح، فكيف إذا شعرت بكل جروح قلبها تفتح مرة أخرى معًا.
صرخت سجى تحت يد ماعت بقوة وقالت: كفاية، كفاية بقى.
ليضغط ماعت على عقلها أكثر وهو يقول: إفتكري كل حاجة، عشان أعرف هتفضلي مخلصة ليه لحد إمتى؟!
لتغمض سجى عينيها بقوة، تتذكر هذا اليوم جيدًا.
فلاش باك..
كانت تجلس بمنزلها، تلك الغرفة الصغيرة التي استأجرتها بعد أن تركت الملجأ، والتي لم تعد تستطيع دفع إيجارها، بعد أن طُردت من عملها.
تجلس أمام الحاسوب، تبحث عن عمل جديد، حتى سمعت صوت طرقات الباب بعنف، ركضت لترى من بالباب، وعندما فتحته دفعت فريدة الباب بعنف وقالت بصوت مرتفع وصل لكل سكان المبنى: أهلًا بخطافة الرجالة، تربية الملاجئ، اللي ملهاش حد يلمها، اللي ماشية مع كل راجل شوية، ولما خلصت على كل الرجالة ملقتش غير خطيبي عايزة تخطفه مني.
سجى بتعجب: خطيبك مين اللي عايزة أخطفه؟! إنتي اتجننتي يا فريدة!
تجمع السكان أمام الباب فنظرت لهم فريدة وقالت: تعالو إشهدو يا ناس، إشهدو على ست الحسن اللي عاملة فيها محترمة.
جذبتها سجى بعنف من ذراعه ونظرت لها بغضب وقالت: إحترمي نفسك بقولك، أنا معرفش حتى مين خطيبك ده.
صاحت فريدة بطريقة سوقية: نعم؟! متعرفيش مين خطيبي إزاي؟! مش ده الراجل اللي عرف حقيقتك ورماكي بطول دراعه، جاد اللي ربنا نجاه منك، خطيبي.
فتحت سجى عينيها بصدمة وقالت: جاد! جاد خطبك إنتي؟!
فريدة: اه طبعًا، عرف الفرق بين الست المحترمة اللي خارجة من بيت محترم، من الست اللي متربية في الشارع مش معروف أصلها ولا فصلها، اسمعي يا بت إنتي، لو عرفت إنك حاولتي تتصلي بيه ولا تشوفيه تاني مش هتكلم وازعق بس، لأ، ده أنا هفضحك بكل الصور اللي مع جاد، وهخلي سيرتك على كل لسان، سامعة ولا لأ؟
تركت فريدة المنزل، ووقفت سجى أمام السكان، ينظرون إليها باشمئزاز، نظراتهم كانت كفيلة بأن تحرقها من الخجل، شعور بالحزن والظلم لم تشعر به من قبل، وكأنها ستظل تحاسب على طفولتها التي قضتها في ذلك الملجأ طوال عمرها، ليدخل المنزل مالك العقار، نظر إليها بغضب وقال: بصي يا بنتي، أنا عطفت عليكي لما عرفت إن ملكيش حد، قلت يا واد إكسب فيها ثواب وأجرلها الأوضة، لكن توصل إنك تخلي سمعة العمارة في الوحل... لأ، العمارة فيها ناس محترمة، وفيها أطفال، وميصحش يسمعو الكلام ده أبدًا، خصوصًا إنك لوحدك وأنا مش عايز كلام وحش يطلع على البيت، لمى حاجتك وأمشي من هنا، وربنا يبعدنا عنك وعن أمثالك.
انسابت دموعها، ونظر مالك العقار إلى السكان وقال: يلا يا جماعة، كل واحد على شقته، خلاص غمة وخلصنا منها.
لم تتحمل سجى أكثر، ولم تنتظر لدقيقة واحدة بعد ما سمعت منه، عادت إلى الداخل، ووضعت أغراضها داخل الحقيبة، وتركت المفتاح على الطاولة بمنتصف الغرفة، وغادرت المنزل بعد أن تركت الباب مفتوح، نزلت إلى الشارع، لتواجه تلك العيون التي تحمل الكثير، هناك من يطمع بها، وهناك من ينظر لها باشمئزاز، وهناك من يبصق عليها، لم تتحمل، ركضت وهي تبكي، حتى غادرت الشارع، وعندما ابتعدت، جلست على حافة الطريق، وظلت تبكي بقوة.
ليرفع ماعت يده عنها، بعد أن بكت سجى مرة أخرى، كأنها تعيش بداخل تلك الذكرى، تشعر بذات الألم، تتذكر نظراتهم، حديثهم، كل شيء.
ابتعد ماعت عنها وتركها تبكي، منتظر أن تغير رأيها، إما أن تسمح له بقتل جاد، أو تظل مخلصة له.
أما براء، فكان ينظر إلى الهاتف بيأس، ينتظر أن تتصل به سجى، ثم تفاجأ برنين هاتفه، لينظر إليه بلهفة، وجد عامر من يتصل به، فتلقى المكالمة وقال عامر: أيوة يا أستاذ براء، فيه إخبار جديدة؟! طمني.
تنهد براء وقال: لأ مفيش جديد، لسة مخرجتش ولا اتصلت بيا، بقالها حوالي ٥ ساعات دلوقتي.
عامر: ربنا يخرجها بالسلامة، أنا اتصلت أطمن عليها، وكمان أقولك إن لقيت رقم الراجل اللي قال على حجر ماعت، لو تحب تاخد النمرة وتكلمه، هو فاهم الموضوع أكتر مني.
براء: ياريت، أبقى متشكر ليك جدًا.
عامر: مفيش داعي للشكر، أنا هقفل معاك وأبعتلك رقمه.
أنهى عامر المكالمة وأرسل رقم هاتف مراد إليه واتصل براء به على الفور.
براء: استاذ مراد، أنا براء مساعد الكاتبة سجى ممدوح، كنت بتصل بحضرتك بخصوص حجر ماعت اللي حضرتك شفته في القصر الملعون.
مراد: قصدك قلب ماعت؟!
براء: اه، تقدر حضرتك تقابلني دلوقتي؟!
مراد: أنا لسه مخلص شغل وخارج من المتحف، لو تقدر حضرتك تيجي نتقابل عنده مفيش مشكلة.
براء: تمام، هجيلك دلوقتي.
ذهب براء له على الفور، وتقابل معه وجلسا معًا، وبعد وقت بدأ مراد يشرح له كل ما رآه بالقصر، فقال براء: يعني إنت شفت الحجر ده بس جوا؟
مراد: اه، واستغربت بصراحة، أصل الحجر إختفى مع عالم الآثار جاد علام، بس أنا وقتها طلعت أجري من الخوف، مفكرتش في حاجة تانية غير إني أهرب من المكان.
براء: هو إيه حكاية الحجر ده بالظبط؟
مراد: بالتفصيل محدش يعرف، أو ناس قليلة اللي عرفت الحقيقة كلها، بس كفاية اللي حصل لجاد والمساعد بتاعه عليم، وده اللي خلى الحكومة تأمر بقفل المقبرة تاني، بعد ما وصل وفد من الوزارة عشان يعاين المقبرة، وبعد ما فتحو التابوت، لقو بردية مدفونة معاه، اللي عرفته إنهم رجعو البريدية مكانها وقفلو التابوت تاني، ولما لقو مرات جاد علام وصديقه ميتين وبطريقة بشعة، وبعدها اختفى جاد، أمرو إن المقبرة ديه متتفتحش تاني أبدًا.
براء بتعجب: طيب مش غريب إن الحجر يبقى موجود في القصر ده، وكمان اللي عرفته إن القصر مكنش فيه أي حاجة، لحد سنتين بالظبط، مش ملاحظ بربط غريب بين قصة جاد علام والقصر؟!
صمت مراد قليلًا يفكر ثم قال: تصدق معاك حق، أنا كنت ساكن هناك، كان بيت والدي، وبعد اللي حصل في القصر مشيت، هو فعلًا القصر كان مقفول، لكن محدش كان بيسمع عنه أي حاجة، لحد ما صاحب القصر باعه من سنتين، ومن بعدها والقصر بقى بالحالة ديه.
براء: تعرف باعه لمين؟!
مراد: لأ، بس ممكن أتصل بصاحب القصر القديم وأعرف منه، لأنه كان صديق بابا الله يرحمه.
اتصل مراد بمالك القصر القديم، وعندما سأله عن المشتري، نظر إلى براء بصدمة، وأنهى المكالمة معه وقال: اللي اشتري القصر هو جاد علام.
نظر له براء بصدمة، لم يكن يعلم أن القصر به لعنة فرعونية، بل لم يصدق بأن هناك لعنة فراعنة من قبل، وها هو يواجه هذه اللعنة، وتلك الفتاة التي ذهبت بنفسها داخل القصر، تتعرض للعنة قوية، تُرى... هل ستخرج سجى؟ أم تظل مع جاد بداخل تلك اللعنة؟!
