رواية مع وقف التنفيذ الفصل السادس


 الفصل السادس

 

ومر عام يحمل فى طياته الكثير , تتقلب فيه أمزجة البشر وأحوالهم وأحزانهم وأفراحهم , كما تتقلب فصوله بين رعد الشتاء وحرارة صيفه وكآبة خريفه ونسيم الربيع وشذى عبير أزهاره , هكذا هى الحياة لا تدوم على حال , لا تعطى إلا وأخذت , ولا تأخذ إلا وتمنح , يشوبها دائما بعض الملل , بعض الألم, بعض الوجوم , بعض التنحى عن الحياة , ولهذا هى دنيا , متقلبة , متجمدة , تعلو وجهها ابتسامة مودعة, أو باقية, أوقد تكون ساخرة.

و فى نهاية العام , كان الأنتظار هو أصعب شىء حقاً , بل كان جبلاً يجثو على الصدور, يكاد يزهق الأرواح , أنتظار القرار النهائى بعد مقابلات اختبارات وظيفة النيابة , والتى كانت تنبأ عن التفاؤل أحيانا , واليأس غالباً , ولكن يشوبه بعض الأمل.

وبعد ظهر أحد الأيام عاد فارس إلى بيته ليجد الباب مفتوحاً وسمع من الخارج صوت جارتهم أم يحيى وهى تطلق الزغاريد , قرع الجرس ودخل على أثره ليجد مُهرة فى استقباله هاتفةً بسعادة وهى تسرع إليه مقبلة عليه :

- أنا نجحت يا فارس وجبت درجات كبيرة أوى .. هروح أولى أعدادى

لم يكن يستطيع أن يتفاعل معها كما عهدته فى هذه المناسبات , أبتسم ابتسامة باهتة وهو يقول:

- ألف مبروك يا مُهرة

توقفت عن القفز وهى تنظر إليه بعينين حائرتين ووقفت والدته وقد تملكتها الدهشة هى الأخرى من رد فعله وقالت :

- مالك يا فارس؟

ثم قالت بتردد:

- هى نتيجة التعين طلعت؟!

أبتسم فارس وهو يقول بأجهاد:

- متقلقيش يا ماما لسه مطلعتش ..

ثم التفت إلى مُهرة وهو يحاول استعادة روحه السابقة معها قائلا:

- ها يا ستى عاوزه هدية ايه

أخفضت نظرها عنه وقالت بحزن:

- مش عاوزه حاجة

وخرجت مطأطأة رأسها تتبعها ووالدتها التى أغلقت الباب خلفها بهدوء , شرع فارس فى الذهاب إلى غرفته ولكن والدته استوقفته قائلة:

- أنت متخانق مع خطيبتك

أستدار إليها بنفس الأبتسامة الباهتة وقال:

-  ولا متخانق ولا حاجة .. بس تعبان شوية ومحتاج ارتاح

أم فارس:

- مش عادتك يعنى تعامل مُهرة كده.. ده انت كنت بتذاكرلها فى الامتحانات كأنها فى ثانوية عامة

أتجه إلى غرفته مرة أخرى وهو يقول:

- هنام شوية وقبل ما اروح المكتب هصالحها ان شاء الله

دخل غرفته وأغلق الباب خلفه وهى تنظر إلى الباب المغلق بدهشة , أبدل ملابسه وألقى بجسده المرهق على فراشه وأغمض عينيه يطلب الأسترخاء قليلا , ولكن من أين تأتى الراحة فقلبه غير مستقر, والقلب المجهد يجهد معه البدن دائما , لا ينفك إلا فى التفكير فى حياته بعد يومين أو ثلاثة عند ظهور النتيجة , كيف ستكون , وماذا سيحدث إن تم رفضه

يجافيه النوم دائما عند الوصول لهذه النقطة الصماء, لا يريد التفكير فيما بعدها بل لا يريد التفكير فيها من الأصل, فى المساء وهو يغادر لعمله ذكرته والدته بمُهرة فأومأ برأسه موافقا ولكنه لم يكن لديه أى حماس للصعود إليها او مداعبتها كما كان يفعل, فتوجه للمكتب على الفور , أنهى دبلومته التى عكف عليها والتى أهلته للدبلومة الثانية ولكنه لم يكن متحمسا بالشكل المطلوب , فهو لم يحلم يوما بهذه الدرجات العلمية, بل كان حلمه الوحيد هو النيابة فإلى متى ستظل أحلامه كما هى أحكام القضاء أحيانا, مع وقف التنفيذ.

مرت شهور آخرى وبدأ فى دبلومته الثانية والحال هو الحال , النتيجة لم تظهر بعد , وهو يكاد يكون منفصلاً عن واقعه تماما , حتى حانت اللحظة الفارقة واستدعاه الدكتور حمدى إلى حجرة مكتبه  , بمجرد وصوله للمكتب مساءاً طرق الباب ودخل بعد الأستأذان , نظر إلى الدكتور حمدى نظرة متفحصة وهو يقول ببطء:

- فى حاجة يا دكتور

نهض الدكتور حمدى ووقف قبالته وتنحنح قائلا:

- نتيجه النيابة طلعت يا فارس .. أنا عرفتها النهاردة الصبح بس قلت لما اشوفك بالليل ابقى ابلغك

خفق قلب فارس وزادت نبضاته بقوة وشعر بألم فى جميع أجزاء جسده ومرت الثوان عليه ساعات وهو ينظر فى عينيى الدكتور حمدى اللتان كانتا خاليتان من أى علامات البشرى وهو يقول:

- كل شىء نصيب يا فارس .. وان شاء الله تلاقى نفسك فحاجة تانية

أصابه التبلد وعدم التصديق للحظات وهو يكرر:

-  يعنى قبلونى ولا لاء

ربت الأستاذ حمدى على كتفه مشجعاً داعماً له وهو يقول:

- أنت أنجزت الدبلومة الأولى بسهولة ومشيت شوط كبير فى التانية وهتكمل الماجيستير ان شاء الله وبعدها الدكتوراة ومش هتحتاج النيابة دى خالص.. أنت ليك مستقبل كبير فى المحاماة وانا أصلا كنت مستخسرك فى حكاية النيابة دى

هوى فارس إلى أقرب مقعد وهو يشعر بأنه يهوى من فوق سبع سموات , وكأن روحه فارقت جسده ,  حلم جميل واستيقظ على واقعه المرير, زاغت عيناه بدون هدى, هتف بداخله ولكن هتافه  أصاب شفتاه وهو يقول:

- طب ليه.. ليه .. أنا جايب التقديرات المطلوبة وجاوبت كل الأسئلة اللى اتسألتها فى المقابلات من غير ولا غلطة.. يبقى ليه طيب ليه

جلس الأستاذ حمدى بجواره وهو يشعر بالأسى لأجله وقال بشفقة:

- يابنى انت مش عايش فى البلد دى ولا أيه.. بصراحة يا فارس انا من الأول وانا متأكد من النتيجة حتى من غير ما تدخل الامتحانات.. مفيش حد بيتعين فى المهنة دى إلا اذا كان ليه واسطة جامده ..  عم أو خال أو قريب وكيل نيابة .. وكمان مش أى وكيل نيابة.. ده لازم يبقى وكيل نيابة مرضى عنه يابنى

ألتفت إليه فارس بحدة قائلا:

- مرضى عنه من مين

نظر إليه الأستاذ حمدى قائلاً:

- يعنى مش عارف يا فارس !

واستدرك قائلا:

- وانا يابنى لو كان مرضى عنى كنت اتوسطلك .. بس انت عارف انى طول عمر راجل دوغرى ومش تبع حد .. وهما عاوزين حد تباعهم ..علشان كده كانت وسطتى هتضرك مش هتنفعك

وضع فارس وجهه بين كفيه وهو غير مصدق ما يسمع , ها قد انهارت أحلامه على صخرة الفساد المتفشى فى المجتمع والذى توارثناه جيلاً بعد جيل حتى أصبح شىء طبيعى للغاية, فالعين عندما تعتاد على القبح لم تعد تراه قبيحًا بل لو رأت جمالاً بعده نفرت منه واستنكرته وقبحته , بدون أرادة منه وجدت العبرات طريقها لعينيه أخيراً فزفر زفرة ساخنة يائسة وقال بصوت متحشرج:

- ليه يا دكتور مفهمتنيش كده من زمان

قال الأستاذ حمدى وهو يتطلع للفراغ بحزن:

- كان عندى أمل يابنى .. ومكنتش عاوز احبطك .. كنت فاكر ان ممكن حاجة تتغير لكن مع الأسف بالعكس ده الفساد بيزيد يوم عن يوم

ثم أردف قائلا:

- أتعمل عليك تحريات فى مكان سكنك..وكان من ضمن أسباب الرفض أنك ساكن فى مكان شعبى وليك صديق ملتحى

توقفت الدموع دفعة واحدة ونظر إليه مندهشاً قائلا باستنكار :

- طب وده يخليهم يرفضونى حتى لو كنت كفأ

أبتسم الدكتور حمدى ابتسامة خلت من أى تعبيروقال بسخرية مريرة:

- هو انت فاكر ان التعين بالكفاءة..  ده انت غلبان أوى.. يالا يابنى قوم وانسى كل حاجة وابدأ حياتك من جديد.. وأيه يعنى حلم يضيع ووراه أحلام تانية كتير.. يمكن تكون أفضل منه .

نهض فارس واقفاً بوهن وقال بصوت بعيد:

- ممكن أخد  باقى اليوم أجازة يا دكتور.. أنا مش هعرف اركز فى شغل النهاردة

أومأ الأستاذ حمدى وهو يربت على كتفه بعطف قائلا:

- طب خلاص روح انت ارتاح ومتشلش هم

خرج فارس من حجرة الدكتور حمدى واجماً يتحاشى النظر لزملاءه فى مكتبه وهو يجمع بعض أوراقه الخاصة وهم يتابعونه بنظراتهم المتسائلة , نهضت دنيا من خلف مكتبها واتجهت إليه وعلامات التساؤل والفضول تشع من عينيها , أقتربت منه متسائلة:

- مالك يا فارس ايه اللى حصل جوى عند الدكتور

هز رأسه نفيا وهو يقول:

- مفيش حاجة يا دنيا ...

دنيا بأصرار:

- لاء..شكلك فى حاجة

زفر بضيق وقال بعصبية:

- بقولك مفيش..

طوى أوراقه وهو يقول:

- لما ارتاح شوية هبقى اكلمك فى التليفون ..سلام

وقفت تنظر إليه بدهشة واتجهت لتعود لمكتبها , ولكن نورا لم تنتظر أكثر من هذا

تبعته للخارج ولحقت به عند المصعد وقبل أن يستقله سألته قائلة:

- أستنى يا أستاذ فارس

أستدار إليها بدهشة كبيرة ونظر إليها بصمت فقالت بتردد:

- الدكتور قالك حاجة زعلتك

هز رأسه نفيا لا يخلو من التعجب وقال:

- متشكر على سؤالك يا أستاذة .. محصلش حاجة انا بخير الحمد لله

وكاد أن يفتح باب المصعد ولكنها استوقفته مرة أخرى قائلة:

- موضوع النيابة مش كده؟

زادت دهشته ولكنها لم تنسيه ألمه بعد فقال حانقاً وهو يغادر :

- عن أذنك

أخذ المصعد طريقه للهبوط وهو بداخله وظلت هى تتابعه ببصرها فى حيرة منه ومن اندفاعها هكذا , وأخذت تلوم نفسها بشدة وهى مازالت واقفة فى مكانها فى شرود وصمت أخرجها منه صوت دنيا التى قالت بشك:

- هو فى ايه

ألتفتت نورا إليها بعدم انتباه ولكنها استعادت وعيها سريعاً وقالت بلامبالاة وهى تعود أدراجها إلى المكتب مرة أخرى:

- مفيش حاجة يا دنيا ..عن أذنك

تابعتها دنيا ببصرها وهى تضيق عينيها بارتياب وتنقل بصرها بين نورا والمصعد ولكنها سرعان ما نفضت عن عقلها تلك الأفكار وعادت لعملها من جديد ولكنها لم تستطع أن تنفضها من قلبها.

لم يشعر إلى أين تأخذه قدميه ولكنه سار فى استسلام شديد لا يعلم كم قضى من ساعات ولكنه كان يمشى فقط فى اتجاه اللاشىء , فقد الأحساس بالزمن وبمن يمر أمامه وحوله وخلفه لا يسمع لشىء ولا يرى شىء , لم يرى إلا نظرات والدته المكسورة وهى تستمع للخبر , لم يسمع إلا شهقات أصدقائه وجيرانه دهشةً ولوعةً عند معرفتهم بالخبر, ماذا سيقول لهم , هل يقول لقد رفضونى من أجل حياتى بينكم وحبكم لى وحبى لكم , ماذا سيقول لصورة والده المحتفظ بها فى غرفته تنتظر النتيجة بفارغ الصبر, هل يقول له عفواً والدى لقد رفضونى لأنهم لا ينظرون للكفاءة ولي صديقاً ملتحياً , هل يقول لقد رفضونى لأنك يا والدى لست قاضياً أو ومستشاراً أو وكيل نيابة , أو أنك ليس لك أخ أو قريب موالياً لهم يتوسط لى عندهم,  وجد نفسه عائداً لمنزله , كيف ومتى لا يعلم, ولكن من الواضح أن قدميه قد حفظت الطريق عن ظهر قلب فأشفقت عليه وحملته إلى بيته بدون توجيه منه

كان الوقت قد تعدى منتصف الليل فحمد الله أن الجميع نيام ولم يراه أحد وقرأ ما كتب على جبينه من شقاء , دخل غرفته فى خفوت ولم يجرؤ على النظر لصورة والده التى يحتفظ بها بجانبه , خاف أن ينظر إليها فيرى العبرات تقفز منها لتبلل وجهه وتخنقه وتغص حلقه وتشقيه , فلقد شقى بما يكفى اليوم.

ظل يتقلب فى سهاده طوال الليل حتى كاد أن يلفظه فراشه ويطرده بعيدًا عنه ليظل خاليا للأبد , فذلك أفضل له من هذا الحانق الغاضب الذى يرقد عليه دائما, بالكاد استطاع أن ينام بعد أذان الفجر , بل ويغط فى نوم عميق , ولكن أحلامه وكوابيسه طاردته حتى فى النوم ولم تتركه ينعم به.

أستيقظ فزعاً على صوت والدته التى كانت واقفة بجوار فراشه توقظه وتهتف به:

- قوم يا فارس قوم يابنى أتأخرت على شغلك الساعة بقت تسعة

تقلب على فراشه وقال دون أن يفتح عينيه :

- معنديش شغل النهاردة يا ماما

جلست على طرف فراشه بدهشة ممزوجة بالقلق وهى تقول:

- من أمتى بقى انت بتاخد أجازات.. مالك تعبان ولا أيه

وضع الوسادة على وجهه وهو يقول:

- مجهد بس شوية .. سيبينى اصحى براحتى لو سمحتى يا ماما

تركته والدته , خرجت وأغلقت الباب خلفها , توضأت وصلت الضحى وظلت تعمل بالبيت حتى الظهيرة وعندما دخلت المطبخ لتعد طعام الغذاء استمعت لرنين الهاتف فشعرت بأن المتصل ماهو إلا دنيا بالتاكيد فقررت تجاهله ولكن الرنين ظل متواصلاً بأصرار حتى اسمعت إلى صوت باب غرفة فارس يفتح وسمعته يجيب الأتصال فخرجت من المطبخ تنظرإليه وهو يتحدث :

- أنا فى البيت يا دنيا

- ده انت تعبان بجد بقى !

قال بتردد:

-  لا أنا كويس بس ....

 نظر إلى والدته وركز بصره عليها وهو يخشى من ردة الفعل وقال:

- الدكتور حمدى بلغنى انهم رفضونى فى النيابة

شهقت والدته وهى تضع يدها على صدرها واتسعت عينيىها بصدمة بينما وهتفت دنيا غير مصدقة:

- بتقول ايه يا فارس

قال مؤكداً وقد لمعت عيناه بالدموع وهو ينظر إلى والدته التى بدا عليها عدم الأتزان واستندت إلى  الجدار بجوارها :

- بقولك رفضوا يا دنيا رفضونى

هتفت دنيا صارخة فى نفس اللحظة التى سقطت والدته فيها مغشياً عليها.

 

***

الفصل السابع من هنا 

 

 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1