الفصل الثامن
عاد فارس أدراجه إلى منزله وهو شارداً فى كلام صديقه بلال وأخذ يسمعه يصدح فى عقله ويتردد صداه بداخله مرات ومرات " ربنا بيحبك انه ابتلاك فى الدنيا علشان يفوقك وترجعله.. أحسن ما كان الحساب يجمع فى الآخرة .. وانا مش هتكلم كتير.. أنا هقولك حديث النبى صلى الله عليه وسلم " و إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"
عاد من شروده إلى أرض الواقع دفعة واحدة عندما اصطدم بمهرة التى كانت تعبر بوابة بنايتهم وهى تبكى بشدة وتفرك عينيها , حاول أن يحدثها ولكنها أسرعت للداخل فى غضب , لحق بها ووقف يسد الطريق أمامها وقال بأسف حقيقى:
- متزعليش بقى خلى قلبك ابيض.. ده احنا اصحاب من زمان يعنى
صاحت وهى تبكى:
- برضة مخصماك ومش هكلمك .. وانا قلبى مش بيضا
ضحك وهو يقول:
- لاء انتِ قلبك بيضا انا عارف
جلس على أول درجة من السلم ليمنعها من العبور واستند برأسه على قبضته وقال بحزن:
- ولو مصلحتنيش هفضل زعلان على طول
نظرت له نظرة جانبيه وهى تقاوم تعاطفها معه إلى ان استسلمت فى النهاية قائلة بضجر :
- خلاص متزعلش
ضحك براحة ثم قال مستدركاً:
- قوليلى بقى كنتِ بتعيطى ليه؟!
مطت شفتاها وهى تقول بحزن:
- كنت رايحة ألعب مع البنات فى الشارع اللى ورانا بس مرضيوش يلعبونى وقالولى انتِ أوزعة وصغيرة .. قعدت احلفلهم انى عندى 11سنة بس محدش صدقنى
ونظرت إليه وقد اغرورقت عيناها بالدموع وهى تقول:
- مش بحب حد يقول عليا كدابة
حركت دموعها وطريقة بكاؤها أشجانه وقال فى عطف مغلف بالحسم:
- متروحيش تلعبى معاهم تانى ولما حد يضايقك متعيطيش أبدا خليكى قوية .. اللى مش مصدقك عنه ما صدقك
أنهمرت دموعها وهى تستمع إليه ثم قالت:
- وانا ذنبى ايه انى شكلى أصغر منهم ..حتى صحابى فى المدرسة بيضحكوا عليا
لا يعلم فارس لماذا ذكرته بنفسه وبحاله , تذكر كلماته مع الدكتور حمدى وهو يقول له " طب وانا ذنبى أيه انى ساكن فى مكان زى ده و ماليش واسطة " , شعر أنه لابد أن يعلمها درساً , لا بل يريد أن يلقن نفسه هذا الدرس أولاً , نظر لها بجدية وقال:
- شوفى يا مهرة.. أنتِ أه شكلك اصغر من سنك .. لكن انتِ ذكية جدا وكل الناس بتحبك .. وتقدرى تتفوقى وتبقى أشطر منهم كلهم .. ولما تكبرى هتبقى أحسن منهم كلهم إن شاء الله لما تتفوقى عليهم بعقلك مش بشكلك ولابجسمك .. ذاكرى وابذلى مجهود كبير وخلى المدرسين يعجبوا بيكى وبشطارتك ويحبوكى ..هتلاقى صحابك فى المدرسة هما اللى عاوزين يصاحبوكى ويلعبوا معاكى ويذاكروا معاكى كمان علشان يتعلموا منك.. أنتِ تقدرى تغيرى مستقبلك بعقلك ومجهودك مش بطولك ولا بشكلك.
نظر فى عينيها التى كانت تنظر له باهتمام وأنصات وتحاول استيعاب كلماته وقال:
- فهمتينى يا مهرة
حركت رأسها موافقةً ببراءه وهى تقول:
- فهمت
شعر بأنتشاء شديد يغزو كل كيانه وكأنه رسم صورة ذهنية لعقله ووضع فيها كل ما يحب أن يضع, كل فى مكانه تماماً , سيأخذ بالأسباب ويجتهد , وفى نفس الوقت ستكون الآخرة هى غايته وليس الدنيا كما كان يفعل من قبل , لن يجعل أحلامه تطغى على كل شىء وكل شخص حوله كما كان يفعل سابقاً .
***
جلست عبير بجوار أختها عزة وهى تتفحصها قائلة:
- يعنى مردتيش يا عزة على كلام ماما
نظرت لها عزة فى توتر وهى تقول :
- أقول أيه بس يا عبير .. أصلا بابا مش هيوافق
تدخلت والدتها قائلة:
- أختك بتسألك على رأيك مش على رأى ابوكى
فركت عزة كفيها فى توتر شديد وقالت بتلعثم:
- أنا أصلى اتفاجأت ومحتاجة وقت افكر يا ماما
أرتسمت علامات الغضب على وجه والدتها وهى تهتف بها:
- تفكرى فى أيه.. هو عمرو غريب عاوزه تعرفى أخلاقه ؟ ولا مش عارفين أهله !
أنكمشت عزة من ردة فعل والدتها الغاضبة وأحمر وجهها ولاذت بالصمت فنهضت عبير وهى تقول لوالدتها:
- معلش يا ماما سيبيها دلوقتى .. من حقها تفكر برضة
نهضت والدتهما فى تبرم وهى تتمتم:
- بنات آخر زمن
أغلقت عبير باب غرفتهم واقتربت من أختها وجلست بجوارها وهى تضع ذراعها على كتفيها وقالت بحب:
- أنا حاسة بيكى يا عزة.. متفتكريش ان محدش حاسس بيكى
تسللت دمعة خارج مقلتيها معلنة عن قلق وخوف واضح وهى تقول بخفوت:
- لا يا عبير مش اللى فى دماغك سبب ترددى
أبتسمت عبير وهى تمسح عبرتها بأناملها وقالت بحنان:
- مش مهم أيه السبب.. المهم اننا نعرف رأيك فى عمرو.. طيب انتِ حاسة بقبول ناحيته ؟
أبتعلت ريقها بصعوبة وقالت:
- عادى يا عبير مش حاسة برفض ولا بقبول عادى .. أنا أصلا طول عمرى بتعامل مع عمرو على أنه اخويا مش أكتر
أبتسمت عبير وهى تقول :
- طب أيه رأيك لو بابا وافق تدى لنفسك فرصة وتبدأى تعامليه بطريقة مختلفة
ثم ضحكت وهى تتذكره وقالت:
- وبصراحة الطريقة المجنونة اللى طلبك بيها تخلينى متأكدة أنه هيقدر يخليكى تحبيه .. أديله و ادى لنفسك فرصة
لوحت عزة بيدها متبرمة وهى تقول:
- بتكلمى كأن بابا وافق خلاص
شعرت عبير بمزيج مختلط من المشاعر وهى تقول :
- ملكيش دعوة بـ بابا .. بابا كان دايما يشكر فى عمرو وهو لو رفض يبقى مفيش غير سبب واحد وانا ان شاء الله كفيلة انى اقنعه
ثم نظرت لعينيها بعمق وهى تقول:
- أخلصى بقى من المشاعر السلبية اللى كابسة على نفسك دى.. واللى مخلياكى مش عارفة راسك من رجلك ومأجله حياتك كلها بسببها.. وصدقينى مفيش حاجة هتخرجك من الدوامة دى غير عمرو ..انا متأكدة
رفعت عزة كتفيها وهى تنظر لعبير بدهشة قائلة:
- ومالك متأكدة كده ليه
ضحكت عبير وقالت:
- منا لسه قايلالك.. مجنون وبيحبك وزى ما ماما قالت كده عنده استعداد يفضل يلف ورا بابا لحد ما يقنعه .. يعنى مُصر عليكى يعنى من الآخر كده رخم وهتحبيه يعنى هتحبيه .
****
خرج باسم من حجرة مكتبه وقال موجهاً حديثه لـ دنيا:
- تعالى شوية يا أستاذة دنيا لو سمحتى
نهضت دنيا وهى تحاول أن لا تصطدم بنظرات فارس المحذرة وتوجهت إلى حجرة مكتبه ولكنها لم تنسى تنبيهات فارس لها سابقاً بأن تترك الباب مفتوحاً , جلست أمامه بتساؤل وكانت تتوقع بحكم عمله كمسؤول عن ملفات القضايا فى المكتب أن يكون الحديث حول ذلك ولكنها وجدته ينظر لها مبتسماً وهو يقول:
- أنا هفتح مكتب خاص بيا
تعجبت للحظات وهى تنظر إليه بدهشة , فما شأنها بذلك , ثم قالت بتباطؤ:
- مبروك يا أستاذ باسم .. بس انا أيه دخلى فى الموضوع
أتسعت ابتسامته أكثر وهو يتفحصها بجرأة ويقول:
- أنا عاوزك تيجى تشتغلى معايا
باغتها بطلبه فارتبكت وصمتت برهة لتفكر فى الأمر فقطع شرودها قائلاً:
- هو انتِ مرتبك هنا كام؟
علت دهشتها وقالت بسرعة:
- حضرتك أكيد عارف
فأومأ برأسه وقال بثقة:
- مرتبك عندى هيبقى ضعف مرتبك هنا 3 مرات..ها قولتى أيه
ثم استدرك قائلا :
- بس ده فى الأول .. لكن بعد ما تاخدى خبرة .. ممكن يبقى ليكى نسبة فى القضايا وانتِ وشطارتك
أدارت عبارته رأسها وتسائلت:
- وحضرتك اخترتنى أنا ليه بالذات
قال بجرأة وصراحة:
- عجبتينى
قالت دنيا باستنكار:
- عجبتك يعنى أيه
رمم عبارته المتصدعة وحاول أن يجعلها أكثر تهذيباً وقال:
- قصدى يعنى بيعجبنى طموحك العالى .. و اللى هيموت فى المكتب ده وبالمرتب اللى بتقبضيه هنا
صمتت وهى تنظر أمامها بشرود , تفكر فيما يقول , فقال مؤكدًا :
- معايا ممكن فى يوم من الأيام تحطى يافطة بأسمك جنب يافطتى.. ويبقى ليكى مكتب خاص تستقبلى فيه زباينك .. موافقة؟
نهضت واجمة وهى تقول ببطء:
- أدينى فرصة افكر
فقال موافقاً:
- فكرى براحتك ..عموما انا لسه قدامى مش أقل من شهرين تلاتة علشان انقل شغلى هناك
***
وقفت بجواره لتستقل سيارة أجرة كما تفعل دائما, لا يرحل قبل أن يطمئن عليها , وضع بعض الحدود بينهما فى التعامل فى حدود علاقة الخطبة التى تربط بينهما ولكنه لم يستطع الأنتظار أكثر من هذا , أنها لم تجبه ولم تعطى قرارها حتى هذه اللحظة , ألتفت إليها قائلا بجدية:
- مردتيش عليا لحد دلوقتى فى موضوع كتب الكتاب
زفرت بضيق قائلة:
- أنا مش عارفة أنت مستعجل كده ليه.. أنا وافقت على كل كلامك اللى قلته.. مبقناش نتكلم ولا نتقابل حتى النظرة مبقتش تبصهالى وانا كل ده متكلمتش ووافقتك... أيه المطلوب مني تانى
شعر بكلماتها تقطر حنقاً وضيقاً من هذا الوضع فقال مؤكداً:
- ماهو علشان كده أنا مستعجل على كتب الكتاب
نظرت فى ساعة يدها تستعجل الوقت وهى تقول :
- مش هينفع يا فارس كتب كتاب دلوقتى خالص .. نستنى شوية لما ظروفنا تتحسن.. وكمان فاضلك شهرين تقريبا وتخلص الدبلومة وتبدأ فى الماجستير.. ركز بقى وحاول تخلصها بدرى ولما تخلصها يا سيدى نبقى نشوف هنعمل ايه.. أنا مش عارفة انت قلقان ليه كده !
***
أنكمشت فى فراشها كما تفعل دائما عندما تواجهها مشكلة ما , وظلت عبارات باسم تتردد فى أذنيها :
- مرتب 3 أضعاف .. وفى المستقبل يافطة جنب يافطتى.. نسبة من القضايا
ظلت تقارن هذا الوضع بتلك الذى ينتظرها فى مكتب الأستاذ حمدى مهران , إلى متى ستظل هكذا تجد وتعمل فى أرهاق وتعب والمقابل ضعيف , ولم لا تغير حظها بيدها فى مكان آخر بمقابل افضل.
ولكن ترمومتر فطرتها الأنثوية مازال يعمل , أنبأها بأن باسم لم يريدها إلا لرغبة فى نفسه وأن الأسباب التى قالها تنطق بالكذب , هل تستطيع أن تحسم أمرها وتعمل معه ولكن تنتبه لنفسها وتحسب ألف حساب لكل كلمة وكل حركة وكل ردة فعل ؟ ..أم تبقى كما هى, حتى لو وافقت هل سيوافق فارس . بالطبع لا , سيرفض أيما رفض وسيتمسك برأيه , بل ومن الممكن أن يخيرها بينه وبين العمل مع باسم, وظلت تسأل نفسها فى تردد وقلق , لا بد من حل ما يرضى جميع الأطراف ولكن أين هو؟
****
خرج والد عزة من المسجد الصغير بعد انتهاء صلاة العشاء وهو يبحث بعينيه عن حذاءه بين كومة الأحذية أمام المسجد حتى وجده أخيراً , أنحنى ليلتقطه ولكنه فوجىْ بمن يسبقه إليه ويناوله أياه بابتسامة ودودة فابتسم شاكراً وهو يقول:
- متشكر أوى يا عمرو يابنى
أتسعت ابتسامة عمرو وهو يقول:
- العفو يا عمى.. أستنى حضرتك أجيب الجزمة بتاعى ونروح سوا
وظل يتلفت حوله وهو يقول بتمثيل مكشوف:
- ياترى راحت فين .. مع أنى لما باجى أصلى هنا كل يوم بحطها فى نفس المكان
تبسم والد عزة وهو يشير لقدم عمرو قائلاً:
- ما انت لبسها أهى يابنى
نظر عمرو إلى قدميه بصدمة واضحة وهو يقول:
- أيه ده مش معقول .. لبستنى أمتى دى
ضحك والد عزة وهو يقول:
- طب لو ماشى يالا أنا مستعجل
سار عمرو بجوار والد عزة بمنتهى الأدب والتواضع وهو يتصنع الوقار قائلاً:
- بس انا دايما باجى اصلى هنا هو حضرتك مبتجيش بانتظام ولا ايه
ضحك الرجل مرة أخرى فـ محاولاته مكشوفة دائما وقال:
- معلش بقى يمكن مش بنتقابل من الزحمة ولا حاجة
سارا بعض خطوات فى سكون غير مناسب لشخصية عمرو ولذلك لم يحتمل كثيراً وقال بشغفه المعهود:
- حضرتك مردتش عليا يا عمى فى موضوع الآنسه عزة
وقف والد عزة ونظر إليه بملامح جامدة وقال:
- لا.. رديت عليك وقولتلك ربنا ييسر الأمر لما نشوف اختها الأول
قال عمرو بضيق:
- ياعمى طب انا كده مفهمتش حاجة ..أنا كده متعلق
تابع والدها بنفس ملامحه الجامدة:
- عاوزنى اكسر قلب بنتى الكبيرة ؟
قال عمرو بتبرم واضح:
- لا يا عمى اكسر قلبى انا براحتك
مشي بجواره حتى وصل إلى منزله وهم بالصعود ولكن عمرو لم يتركه , لا يزال يلح باستماتة ووالدها يؤجل باستماتة ايضاً وأخيراً قال :
- طيب يابنى ربنا يعمل اللى فيه الخير..سبنى أطلع بقى
أوقفه عمرو مرة أخرى وهو لا يعلم ماذا يقول , كان يأمل فى أن يقنعه بالموافقة ولكن محاولاته جميعاً باءت بالفشل الذريع , قاطع شروده صوت والد عزة وهو يقول بضيق:
- هتفضل وافقلى كده على السلالم
أبتسم عمرو ابتسامة مصطنعة وهو يقول :
- طب استنى حضرتك بس عاوز اقولك على حاجة وبعدين اطلع
عقد الرجل ساعديه أمام صدره بضيق وقال بغضب :
- أتفضل يا سيدى ...قول
رسم عمرو ملامح الجدية على وجهه وقال باهتمام:
- كان فى مرة فى بلد أوروبى أقلية مسلمة.. وكانوا بيصلوا العصر فى المسجد
بعد ما خلصوا صلاة .. دخل عليهم واحد ماسك سكينة كبيرة وقال:
- مين فيكم هنا مسلم؟
الناس بصت للسكينة اللى مع الراجل ومحدش اتجرأ ينطق إلا واحد بس هو اللى اتشجع وقال :
- أنا مسلم
فالراجل أخده بره المسجد بعيد شوية عن الناس وقاله انا مسلم فى السر ومحدش يعرف وجبت خروف وعاوز أدبحه على الطريقة الأسلامية .. بتعرف تدبح وتسلخ؟
فالراجل قاله :
- أنا بعرف ادبح لكن مبعرفش اسلخ .. روح شوف حد تانى بيعرف يسلخ
بعد ما دبحوا الخروف الراجل رجع للمسجد تانى وكان ماسك السكينة وفيها دم الخروف وقال للناس:
- مين فيكم مسلم تانى
الناس كلها بصت للسكينة اللى فى أيده واترعبوا ومحدش نطق لكن شاوروا على الأمام اللى كان بيصلى بيهم وقالوا:
- ده مسلم
فالأمام اتخض وقالهم برعب:
- فى أيه ..هو علشان صليت بيكم ركعتين خلاص بقيت مسلم ؟!!
أنفجر والد عزة ضاحكاً وبعد أن هدأت ضحكاته , باغته عمرو مرة أخرى قائلاً بلهفة :
- ها يا عمى وافقت على الجواز !!
****