رواية مع وقف التنفيذ الفصل التاسع


 الفصل التاسع

 

صعد والد عزة إلى شقته أخيراً والأبتسامة تعلو شفتيه على أثر دعابة عمرو التى ألقاها عليه منذ قليل , جلس بين زوجته وبناته أمام التلفاز وهو يضرب كفاً بكف ويقول :

- أما والله حاجة عجيبة

نظرت له زوجته باهتمام وابتسمت هى الأخرى لرؤيتها ابتسامته وقالت:

- هو أيه اللى عجيب؟

ألتفت إليها بابتسامتة وهو يستند بساعديه إلى حواف مقعده ويقول:

- البشمنهدس عمرو يا ستى.. بقاله كام يوم مش سايبنى فى حالى وعمال يلف ورايا زى النحلة

حانت منه ألتفاتة إلى عزة التى أشاحت بوجهها سريعاً ونهضت قائلة:

- طب انا هدخل انام بقى تصبحوا على خير

أقتربت عبير من والدها على المقعد المجاور له وهى تتسائل:

- هو كلمك تانى يا بابا؟

هم أن يجيبها ولكن والدتها قاطعته قائلة:

- قالك اشتغل ولا لسه يا ابو عبير

أشاح بوجهه عن زوجته ونظر إلى عبير مرة أخرة وقال:

- يشتغل ولا ميشتغلش دى حاجة تخصه هو.. وانا مالى

ثم نهض واقفاً وتوجه نحو غرفته, تبعته عبير بنظرها حتى دخل غرفته وأغلق بابها خلفه فنهضت واقفةً وهى تقول لوالدتها:

- ماما انا هدخل اتكلم مع بابا شوية .. مينفعش اسكت اكتر من كده !

وقفت عبير أمام غرفة والدها وطرقت الباب بخفة و عندما جاءها صوته يأذن بالدخول دلفت على الفور فوجدته يجلس على الأريكة بجوار النافذة ويقرأ بمصحفه قليلاً قبل النوم كما هى عادته دائماً , نظر لها مبتسماً بحنان وهو يقول:

- تعالى يا عبير

جلست بجواره على الأريكة وقالت برجاء:

- بابا أرجوك توافق على خطوبة عمرو وعزة

صمت برهة وقال بضيق:

- مين اللى قالك تيجى تقوليلى كده.. أمك ؟

أبتلعت ريقها وقالت بوجل:

- بابا ..أنا عارفة حضرتك بتأجل الموضوع ده ليه .. وصدقنى يا بابا انا الحكاية دى متفرقش معايا خالص .. بالعكس والله .. أنا اتمنى ان عزة تتخطب النهاردة قبل بكره

وخفضت نظرها وقالت بخفوت:

- لو سمحت يا بابا متخالنيش احس انى واقفة قدام سعادة اختى ومستقبلها

هتف مستنكراً:

- ايه اللى بتقوليه ده يابنتى .. وانتِ عرفتى منين ان سعادتها فى الجوازه دى

أبتسمت بمرارة وهى تقول:

- يا بابا حضرتك طول عمرك بتشكر فى عمرو .. وزى ما حضرتك قلت من شوية انه عمال يلف زى النحلة وبيزن عليك .. ليه بقى اكون انا السبب انى اضيع على اختى واحد بيحبها وكمان عارفين أخلاقه وأهله وكل حاجة عنه ؟

تذوقت مرارة ابتسامتها لأول مرة وشعرت بها تغص حلقها فابتلعتها برضى وهى تقول:

- الحمد لله يا بابا انا عارفة ان كل شىء نصيب وانا هيجيلى نصيبى لحد عندى سواء دلوقتى ولا بعدين.. لكن انا عمرى ما هبقى سعيدة ابدًا وانا رابطة اختى جنبى كده وهى ذنبها ايه طيب

نظر لها والدها بمشاعر مختلطة بين الفخر والحزن وهو يقول:

- ونعم العقل والإيمان يا بنتى.. أنا كنت بقول لامك عبير قاعدة طول النهار تسمع فى شرايط وداخلة وخارجة تحضر دروس فى المسجد ومكنش عاجبنى .. مكنتش اعرف انك بتستفيدى بيها بالشكل ده .. ربنا يرضى عنك يابنتى

لمعت دموع الفرح فى عينيها وهى تقول بلهفة:

- يعنى حضرتك وافقت يا بابا

أبتسم وهو يربط على ساعدها قائلا:

-  وافقت

نهضت فى سعادة وهى تهتف بفرحة حقيقية:

- أنا هروح ابشر ماما

 

***

كانت عبير منحنية تزيل بعض آثار التراب فى غرفة الأستقبال فاعتدلت عندما سمعت نداءات والدتها المتتالية قائلة :

- خلاص يا ماما انا خلصت أهو

أقبلت والدتها مسرعة وهى تنهرهما قائلة:

- معقوله كده الناس زامنهم جايين ولسه مخلصتوش

ونظرت إلى عزة وقالت بعتاب ثم قالت  وهى تدفعها للخارج:

- جهزى نفسك بسرعة خلاص زمانهم جايين

خرجت عزة وهى تتمتم ببعض الكلمات معترضة, بينما نظرت الأم إلى عبير وهى تجتهد فى أبراز جمال الغرفة باهتمام فاقتربت منها وقالت برفق:

- عقبال يومك يا عبير يا بنتى

أستدارت لها عبير وهى مبتسمة فوجدت نظرة مشفقة تطل من عيني والدتها , غاصت تلك النظرات فى قلب عبير حتى شعرت بأنها شجته نصفين , قاتلت حتى تستطيع رسم ابتسامة عذبة على شفتيها وقالت تداعبها:

- أيه بقى يا ست ماما انتِ عاوزه تخلصى مننا كلنا علشان الجو يخلالك انتِ وحبيب القلب ولا ايه

ضحكت أمها وقد تلاشت نظرة الحزن من عينيها وقالت :

- أنتِ بس لو تعقلى كده وتشيلى البتاع ده من على وشك وانتِ خارجة..  والعرسان تشوفك بدل ما انتِ مخبية نفسك كده محدش عارف انتِ حلوة ولا وحشة

قالت عبير بثقة وهدوء:

- يا ماما اللى هيجى يتقدملى علشان انا حلوة.. و اللى هيخاف يتقدملى احسن اكون وحشة.. الاتنين ميلزمونيش وقلتهم أحسن ومش طالباهم بصراحة

فقالت أمها وهى تدفعها هى الأخرى للخارج:

- طب يالا روحى شوفى اختك بتعمل ايه  يا ام لسانين

تجهز البيت وتزين لاستقبال جيرانهم الأعزاء عمرو ووالده ووالدته, وبعد الترحيب والاستقبال الحار وعبارات الود والمحبة , جلس الجميع فى غرفة الأستقبال , ثم نهضت والدة عزة واقفةَ بابتسامة واسعة وتوجهت نحو غرفة الفتيات  فوجدت عزة تكاد تبكى وهى تقول لعبير:

-  مش عاوزه اخرج يا عبير.. طب خلى مامته هى اللى تيجى هنا

قاطعتهما والدتهما وهى تهتف بها بصوت خفيض:

- تيجى هنا فين يا بت انتِ

حاولت عبير دفع عزة تجاه والدتهما وهى تقول بتشجيع:

- يابنتى اطلعى أومال هتكلمى معاه ازاى .. مش انتِ اللى طلبتى تقعدى معاه الأول

أخذتها والدتها من يدها كالأطفال وخرجت بها وهى خافضة لرأسها إلى الارض خجلا من الموقف , وقفت والدة عمرو واحتضنتها وقبلتها بشدة وهى تضغط على ساعديها مرة وعلى ظهرها وكتفيها مرة أخرى مرحبة بها ومستكشفة لها عن قرب وأجلستها بجوارها , أبتسمت عزة بخجل وهى تجيب أسألتهم عن أحوالها بصوت خفيض مرتبك بينما كان عمرو مسلط نظره عليها يريد منها التفاتة واحدة فقط نحوه ولكنها لم تفعل, حتى عندما سألها عن أحوالها اجابت بصوت يكاد يكون مسموعاً , لاحظ ذلك والدها , أنها لم ترفع عينيها لعمرو قط  فنهض وهو يقول موجهاَ حديثه لزوجته:

- هاتلنا بقى يا حجة العصير هنا .. وخدى الولاد بره فى الصالة يقعدوا يتكلموا مع بعض شوية

نهض عمرو من فوره فى سرعة وسعادة بينما وقفت عزة على مضض , جلست عزة على المقعد المواجه لغرفة الأستقبال  حيث يقع عليها نظر والدها كما تم الأتفاق مسبقاَ معه وجلس عمرو على المقعد المجاور , ذهبت والدتها للمطبخ لأحضار العصائر التى كانت عبير قد أتمت أعدادها وأعطتها لوالدتها على الفور, خرجت من المطبخ ووضعت أكواب العصير أمام عزة وعمرو وعادت لغرفة الأستقبال مرة أخرى.

ظل عمرو يعصر ذهنه ليتذكر وصايا فارس له ولكنه لم يتذكر شىء على الأطلاق , فقرر أن يتصرف بنفسه , فألقى نظرة على غرفة الأستقبال  ثم نظر إليها يتفحصها وقال بصوت تسمعه هى فقط:

- أزيك يا وزة

ألتفتت إليه باستنكار فشعر أنه ارتكب جرماَ فقال بتلعثم:

- قصدى أزيك يا أنسه عزة

خفضت نظرها مرة أخرى وهى تقول:

- الحمد لله كويسة

مسح عمرو شعره وقال بتردد:

- طيب انا سامعك لو فى حاجة عاوزه تسالينى فيها

ألقت عليه نظرة خاطفة أنهتها سريعاَ وقالت بجدية:

- أنا كنت عاوزه اعرف انت عاوز تجوزنى ليه.. واشمعنى انا يعنى ؟؟

باغتته بالسؤال , شعر بالارتباك وصمت قليلا وهو ينظر إليها , فقالت :

- أيه مش لاقى أجابة ولا محرج تجاوب

رفع حاجبيه بدهشة وقال:

- يعنى أيه محرج أجاوب

أرتسمت على جانبى شفتيها ابتسامة ساخرة صغيرة وهى تقول:

- يعنى محرج تقولى أنك زيك زى شباب كتير عاوز يتجوز وخلاص ومش فارق معاك انا بالذات يعنى .. علشان كده محرج تجاوب ...صح؟

زال الارتباك الذى كان قد شعر به كلياَ وشبك أصابع كفيه أمامه وهو يتكأ إلى ركبتيه وقال بثقة:

- لا مش صح

فقالت ببطء  :

- أومال سكت ليه.. مكنتش محضر أجابة

هز رأسه نفياَ وقال بثقة أكبر:

- لاء مش علشان مكنتش محضر اجابة ..علشان خايف أجابتى تسببلك أحراج

رفعت كتفيها وأخفضتهما سريعاَ وهى تنظر إليه قائلة:

- لا عادى .. مفيش أحراج ولا حاجة

نظر فى عينيها بعمق وقال بهدوء:

- علشان بحبك

أحمرت وجنتيها تلقائياَ وخفضت عينيها فتابع حديثه:

- بحبك من زمان .. من زمان أوى .. من واحنا لسه فى الثانوية العامة.. بالتقريب كده من ساعة ما مشاعرى ابتدت تتحرك أساساَ واعرف الحب

كانت تستمع إليه فى ارتباك وخجل وتكاد تقطع شفتاها من كثرة الضغط عليها بدون وعى

فقال وهو مازال ينظر إليها ويتابعها حركاتها وسكناتها:

- عرفتى بقى مكنتش عاوز اجاوب ليه

لم تستطع أن تنتظر أكثر من هذا , كلماته ونظراته اخترقت خجلها وشعرت أنه يرى قلبها من خلف ضلوعها وهو ينبض بعنف ويتابع اندفاع دماء جسدها كله من خلف شراينها إلى وجهها ورأسها , لامت نفسها على السؤال الذى طرحته والذى كان السبب فيما قال

كانت تعرف أن عمرو جرىء ومندفع ولكن لم تكن تعلم انه من الممكن أن يقول ما قال بهذا الشكل المفاجىء والصريح لابعد الحدود , بل وكأنه كان يود أن تسأله هذا السؤال ليفصح عن مكنون قلبه ومشاعره تجاهها فنهضت وقد تحشرج صوتها وهى تقول:

- طب عن أذنك

ودخلت فى سرعة لغرفتها وهى ترى ما حولها باللون الاصفر, أو هكذا يبدو!, أستقبلتها عبير وهى تنظر لوجهها بدهشة قائلة:

- جيتى بسرعة كده ليه ..هو انتِ لحقتى تتكلمى معاه

وضعت عزة كفيها على وجنتيها تتحسس حرارتهما وهى تقول باستنكار:

- لو كنتِ سمعتى كلمة واحدة من اللى قالهالى كان زمانك قمتى من بدرى

أبتسمت عبير وقالت بشغف:

- قالك ايه

نظرت لها عزة بخجل وقالت بخفوت:

- سألته سؤال واحد بس وياريتنى مكنت سألت .. أحرجنى أوى يا عبير وقالى.. قالى بحبك من زمان

ضحكت عبير ثم وضعت كفها فوق فمها لتكتم ضحكتها وقالت:

- مش بقولك رخم

 

غادر عمرو وأسرته منزلهم ودخلت والدة عزة غرفة بناتها وجلست بجوارهما لتعرف رأى ابنتها ولكنها وجدتها مرتبكة ولم تحدد رأيها بعد , فقالت لها عبير:

- خلاص يا ماما احنا اتفقنا انها تستخير الأول وبعدين نشوف

نظرت عزة إلى والدتها وقالت برجاء:

- ماما انا عارفة انك انتِ وبابا متحمسين لعمرو وبتحبوه .. بس من فضلكم متضغطوش عليا وسبونى افكر على مهلى

قالت والدتها بدهشة :

- ومين قالك انى جايه اضغط عليكى..انا جاية اعرف رأيك بس مش أكتر.. عمرو لسه قدامه شوية على ما يجهز

نظرت لها عزة باستنكار وقالت بحنق:

- اومال لما هو مش مستعد دلوقتى مستعجل ليه.. وكان عمال يزن على بابا كل شوية

استندت والدتها إلى ظهر السرير ورفعت حاجبيها وهى تقول مداعبة:

- أصله خايف حد تانى ياخدك منه

ضحكت عبير من أسلوب والدتها وطريقة ألقائها للعبارة وشعرت عزة بالدماء تتصاعد لوجنتيها مرة أخرى , تباَ لهذا العمرو الذى يدفع الدماء إلى رأسها بين الحين والآخر بكلماته , سواء ألقاها هو بنفسه, أم أرسلها لها عن طريق غير مباشر.

***

أنطفأت الأنوار وخلد الجميع للنوم وقد سكنت العيون, ولكنها لم تستطع , النوم جافاها  وعصتها عيناها فلم تستجب لها, ظلت مفتوحةَ طوال الليل , عبير , ولكن من هو الذى سيستنشق عبيرها المقيد بداخلها, ومتى سيخرج للنور,  لماذا تعانين , ما هذه المرارة التى تشعرين بها , بل وتتذوقينها على شفتيكِ , لعلها مرارة الوحدة ؟ , نعم هى ذاك , الوحدة التى تشعر بها رغم كل البشر حولها والأهل والجيرة الطيبة ..ولكن..هى امرأة.. أنثى رغم كل شىء , بداخلها طاقة حب لا تعرف كيف توجهها وإلى من تمنحها , هى أنثى أتمت الثلاثون من عمرها ومازال فراشها بارداً خالياً , بل ومتجمد , ولو لم تكن أختها تشاركها نفس الغرفة لشعرت أنها ملقاة بالصحراء تكاد وحوش وحدتها تلتهمها وهى فريسة وحيدة , بلا مأوى , فاين هو المستقر الدافىء , نعم منتقبة ولكنها ليست متبلدة المشاعر , متجمدة الحس , ليست جماد , ولكن أيضاَ ترفض أن تكون ريشة بمهب الريح لتحركها الشهوات كيف تشاء, فتذهب مترنحة وتعود خاوية , فتتلمس ركعتين فى جوف الليل تناجى ربها , يارب عجل لي الخلاص والمفر.

***

الفصل العاشر من هنا 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1