لست رهينتك 

الفصل الثاني
دلفت نحوهم وعيونهم تحدق بها غيظا ...وهى تظهر كثيرا من الاتزان والهدوء..
اقتربت أولا من تلك العجوز التى مازلت ملامحها -رغم علامات الزمن المحفورة على قسمات وجهها- لا تخفى شدتها ...و عينيها القاسيتين تنبىء من يطالعها انها ليست بالواهنة الضعيفة رمقتها بفتور ثم مدت يدها نحوها قائلة: أهلا تيتة ..
صافحتها جدتها دون رد ..مصافحة باردة لا تقل تجمدا عن فتور حفيدتها ..
ثم توجهت تجاه عمها وابنته وصافحتهما بنفس الجليدية التى سبقت وصافحت بها جدتها لبيبة...
قطع الصمت صوت عمها الناعم كجلود الحيات:
حبيبتى مارية وحشتينا كلنا...
مش بتسألى عننا ليه؟!! دى تيتة كل يوم
تقول مارية وحشانى ..
رفعت مارية حاجبها بعدم تصديق وهمست غيظا بخفوت من بين أسنانها : وحش لما يلهفكم واحد ورا التانى يارب ....
ثم رفعت صوتها بحماسة مزيفة وهى تجلس على كرسي مكتبها : والله معقووووول؟!!!
مكنتش عارفة إن تيتة بتعزنى قوى كده ..ليكو عليا بكرة أجيب شنطة هدومى وآجى أقعد معاكم أسبوع أنا وماما كمان؟!!
بادل بعضهم البعض النظرات كمن أوقعوا أنفسهم في مأزق ومارية تراقب نظراتهم وتحاول جاهدة عدم الضحك..
تبسم عمها بسماجة وقال : تشرفينا وتنورى بس أنا وتيتة راحين نعمل عمرة بعد كام يوم...
رسمت الاندهاش على وجهها وتبسمت قائلة :بجد؟!! ألف مبروك..
لم تطق لبيبة الصمت أكثر من ذلك فهدرت بغيظ: عقبال ما ربنا يتوب عليكى انتى كمان ولبسك يتظبط وتلبسى الحجاب زى كل بنت عمك بدل المسخرة اللى انتى ماشية بيها دى..
ثم أردفت وهى تتحدث من جانب فمها بتهكم : بس إزاى صحيح ؟!!! ده أمك مالبستش طرحة إلا لما شعرها إبيض!!!
هبت واقفة وصاحت بحنق : مش هسمح لأى حد
مهما كان إنه يجيب سيرة ماما مفهووم؟!!!
نهض عمها من مقعده واقترب منها مربتا على كتفها
ببراعة أداء وهمس : حبيبتى.. تيتة ماتقصدش..وعلى العموم مش ده الموضوع اللى احنا جايين عشانه
لم تلن ملامح وجهها وتسآلت بنفاد صبر: أمال إيه الموضوع بالظبط؟!
التفت جالسا وقال ببرود: أقعدى يابنتى واسمعينى كويس
دلوقتي احنا عايزين ناخد نصيبنا في المطعم كاش
أو تسيبى المطعم وتاخدى نصيبك إنتى ووالدتك قولتى إيه؟!!
ضربت المكتب بيدها بقوة وصدحت بانفعال شديد إحنا مش خلصنا كلام فى الموضوع ده ياعمى واتفقنا ان المطعم هيفضل زى ماهو وكل شهر تاخدوا جزء من أرباحه حسب نسبة ورثكم الشرعى؟!!
إيه اللى غير رأيكم ؟!!
هدرت لبيبة بقوة: حقنا واحنا حرين فيه؟!
واحنا عارفين كويس إنك حاليا ماتقدريش تدفعى نصيبنا
فجايين نعرض عليكى نشترى نصيبك بالسعر اللي
تطلبيه...وهتاخدى فلوسك على داير المليم قالتها وهى تشير بعصاها إلى حقيبة سوداء كبيرة موضوعة أمامها على المنضدة...
لم تستطع أن تتمالك عصبيتها أكثر فقامت نحو الباب ففتحه وزأرت فيهم بكل ما أوتيت من قوة: مش هبيع المطعم لو آخر يوم في عمرى سامعين؟!
اتفضلوا وخلال أسبوع هتصرف وهبعت لكم نصيبكم
مع السلامة!!!
صرخت جدتها بحدة مماثلة: هتبعيه ورجلك فوق رقبتك ابن عمك راجع من السفر وعايز المطعم
يعمل مكانه مشروع كبير ..
انتى بنت واخرك الجواز مالك انتى ومال الشغل والمطعم خدى نصيبك وحطيه فى بنك وعيشوا من أرباحه وسيبى ابن عمك يشوف مستقبله
وانتى كده كده مش هتعرفى تمشى المطعم وهيخرب على ايدك إن شاء الله...
تصبغ وجهها باللون الاحمر ووصل غضبها لذروته إثر حديث تلك العجوز المستفزة فصاحت بتحد: المطعم عمره ماهخرب طول ماانتوا بعيد عنه..
أه وبالمناسبة لعبتك اتكشفت ياعمى بالطباخ اللى بعته إمبارح عشان يبوظ الأكل
عايز تفلس المحل عشان خاطر ابنك؟!!
مش عارفة أنا عملت ايه عشان تكرهونى أنا وأمى بالشكل ده ؟!!
منكم لله اطلعوا برة مش عايزة أشوف وشكم تانى
ونصيبكم هيوصلكم عن طريق المحامى...
قام ثلاثتهم لمغادرة المكان يجرون أذيال الخيبة وهم يحدقون فيها بسخط شديد وحقد واضح....
صفقت الباب بقوة بعد خروجهم وألقت بجسدها على الأريكة تبكى بقهر..
سمعت طرقا جديدا على الباب فبادرت بمسح مدامعها وأجابت بصوت مختنق: اتفضل
ولج أحد العمال وقال : الأستاذ اللى كان عامل مشكلة من شويه طالب يشوف حضرتك بقاله عشر دقايق واقف بره..
تعجبت ترى ماسبب مجيئه؟!
فتسائلت : مادخلتوش ليه على طول ليه؟!
فأجابها: حضرتك اللى طلبتى محدش يدخل لحد ما
قرايب حضرتك يمشوا
أومأت برأسها بتفهم وقالت: أوك دخله..
وبعد عدة لحظات ولج ذلك الشاب لمكتبها وألقى عليها التحية
تبسمت بخفوت وهمست برقة: إتفضل يافندم
اتمنى يكون الأكل عجب حضرتك!!
تقدم نحوها بثبات جالسا على المقعد المجاور لها وقال : الحقيقة الأكل كان كويس جدا بس انا رافض إنى أمشى من غير ماأدفع الحساب
هزت كتفيها بخفوت قائلة: دى أبسط حاجة نقدر نقدمها بعد الغلطة اللى حصلت
رمقها بعدم اقتناع وقال باصرار: بس أنا مصمم أدفع
حسابى ثم أخرج مبلغا من المال ووضعه على المنضدة
فحملته ورفعته إليه وقالت بعناد مماثل: وانا كمان مصممة ان الوجبة تكون هدية مننا
وان شاء الله لما تيجى انت وخطيبتك المرة الجاية
هندفعك ماتقلقش ..
تبسم لها للمرة الأولى بعذوبه فتجمدت في مكانها
وكأنها لأول مرة ترى ابتسامة أحدهم
ثم نهض قائلا أولا: دى اختى مش خطيبتى
دمعت عيناها رغم ارتياحها لمعرفة أنها ليست سوى أخته ..
تابع حديثه مستطردا:
ثانيا : لو أصريتى ماادفعش الحساب مش هدخل هنا تانى أنا مااتعودتش أقبل حاجة من غير تمن ....
أخفضت يدها بالمال بخضوع وهمست: اوك زى ما تحب ..واحنا المهم عندنا تمشى وانت مبسوط ومش متضايق
أومأ برأسه ثم سألها بتهذيب : فى مانع آجى أقابلك بكرة هنا ؟!
انتابتها الدهشة من طلبه الغريب
فأجابته بتساؤل: مفيش مشكلة تشرفنى بس بخصوص إيه؟!
أجابها وهو يخطو نحو الباب: بكرة الساعة سبعة إن شاء الله هتعرفى كل حاجة أستأذن
ثم تركها وغادر فقالت محدثة نفسها بحيرة وهى تحك جبهتها بأطراف أصابعها: هيكون عايز إيه ده كمان؟!
الحكاية مش ناقصة ألغاز مش كفاية اللى أنا فيه يااسمك إيه...
ثم رفعت عيناها للسقف قائلة: إلهى تتقلب بيكى العربيه يالبيبة انتى وابنك ويريحنى منكم ربنا
ثم توجهت نحو النافذة فرأت ذلك الشاب الغامض
ممسكا بيد أخته بحنان جارف
فسالت دموعها رغما عنها وهمست الله يرحمك يا قاسم ياريتك كنت معايا دلوقتي....
.....................
عادا الأخوان في نهاية اليوم تكسو السعادة ملامحها
بعد رحلة ترفيهية قصيرة لكنها كانت كافية لتحسين مزاجهما السىء إلى حد كبير...
صاحت حبيبة بفرحة: ربنا مايحرمنيش منك يا
هشومة ياعسل
تبسم لها ثم قبّل مفرق شعرها بحنو قائلا: إحنا عندنا
كام حبيبة؟!!
فأجابته مازحة: اتنين ..أنا و آلاء مش آلاء حبيبتك برده ولا ايه؟؟
تغيرت ملامح وجهه إلى الحزن الشديد وخرج الكلام من فمه تحمله المرارة: خلاص ياحبيبة موضوعى انا ورؤى خلص خلاص...
قاطعته باعتراض وهى تمسك بيده: مش معنى إن أبوها رفض إنك تستسلم ..لازم تحاول تانى وتالت
تنهد بأسى وقال: ماافتكرش إنه ممكن يغير رأيه
على العموم أنا هسيبه شويه يمكن يفكر ويراجع نفسه وابقى أروح اتقدم لها تانى ولو ان كرامتى موجوعة قوى من اللى عملوه...
ربتت على كتف أخيها محاولة مؤازرته : معلش استحمل شوية عشان خاطر آلاء دى بتحبك قوى
وانت كمان بتحبها...
ثم أردفت ممازحة أخيها محاولة تغير مسار الحديث: بس إيه السيطرة دى ياعم هشام وقفت المطعم على رجل..باشا طول عمرك هههههه
غمز لها بعينيه بتباهى و أجابها : طبعا يابنتى هو أخوكى شوية ولا ايه !!!...وبعدين أنا مااتعودتش أسكت عن حقى...
رفعت يداها بمرح كمن تؤدى تحية عسكرية ثم أردفت ضاحكة: مش بقولك باشا ههههه انت المفروض كنت تدخل كلية الشرطة بس تصدق والله البنت بتاعة المطعم صعبت عليا قوى
كانت واقفة قدامك زى الكتكوت المبلول وأنت روقتها على الآخر هههههه
شرد لثوان فى أمر تلك الفتاة وما تبادر إلى أُذنه من
حديثها الصاخب مع عائلتها وما ينتوى فعله معها
هل هو صواب أم أنه قرار متهور ؟!!!
أخرجه من استغراقه صوت أخته تناديه : هشام !!!
انت سرحت في إيه ومش بترد عليا؟!!!
حرك رأسه نفيا قائلا بلا تعبير: أبدا ولا حاجه
هدخل أنا أنام دلوقت وانتى كمان يلا نامى عشان عندك درس الساعة عشرة الصبح ...
استقامت واقفة وهى تقول بتفهم : حاضر يا حبيبي تصبح على خير....
أجابها وهو يطالعها بوجه طليق: وانتى من أهله ياحبيبة أخوكى...
.......
فى اليوم التالى
وقفت مارية أمام المرآة تهندم ملابسها قبل الذهاب للمطعم وعقلها مشغول مابين أمر عائلتها التى
تريد لها الفشل لتضع يدها على المطعم
ولكى تتخلص منهم لابد من دفع نصيبهم الشرعى فيه والذى لا طاقة لها به
والأمر الثانى هو. ذلك الشاب الذى طلب مقابلتها بالأمس ولم يوضح سبب تلك المقابلة.!!
حملت حقيبتها وودعت والدتها مغادرة البيت
قابلها جارها المحب لها منذ سنوات " إيهاب"
على سلم العقار
تبسم لها بسعادة وقال متغزلا: أهلا يامارية أنا حظى
حلو أكيد النهارده إنى شوفتك قبل ما اروح شغلى
أنت بتفائل جدا اليوم اللى بشوفك فيه
أجابته بإبتسامة متصنعة: متشكرة يا أستاذ إيهاب علي المجاملة دى
حرك رأسه نفيا وقال: دى مش مجامله يا ماريا وبعدين ايه أستاذ ده كمان؟! احنا مفيش بينا ألقاب
دا احنا يااما لعبنا سوا تحت العمارة دى واحنا صغيرين بتعملى فرق. بينا ليه؟!
ظلت محتفظة بابتسامتها الجوفاء ولم تجد ماتقوله وهى ممتنة لوصولها أخيرا لمدخل العقار
فهمست : مفيش فرق ولا حاجه عن إذنك ياإيهاب...
وأسرعت نحو سيارة والدها القديمة فركبتها وحاولت أن تديرها لكنها فشلت فالسيارة يبدو أن بها عطلا ما..
فنزلت منها بإنفعال وأخذت تمتم حنقا وترجلت لتوقيف أحد سيارات الأجرة( تاكسى)
لبعض الوقت إلى أن نجحت أخيرا فى إيقاف أحدهم
....
بدى الأمر منذ وصولها إلى المطعم عاديا..
شرعت فى الإشراف على قاعة الطعام لتمم على مدى نظافتها و مستوى إعداد الموائد ثم توجهت للمطبخ لتحفيز الطهاه لتقديم أفضل مالديهم
حتى دورات المياه لم تسقط من إهتمامها فبادرت بالمرور ومتابعه مستوى نظافتها...
حتى انزلق الوقت من بين يديها فوجدت عقارب الساعة تدنو من السادسة والنصف
وهى لم تتناول بعد غدائها فجلست على إحدى الطاولات وطلبت وجبة الغداء وفجأة وجدت هشام يخطو تجاهها برفقة أحد العاملين
فأصابها الارتباك مرة أخرى فقد وصل قبل ميعاده بعشر دقائق ...فتركت ما بيدها من طعام
كان العامل أول من بدأ الحديث قائلا: أستاذة ماريا
الأستاذ طالب يقابلك وبيقول ان بينكم معاد
أومأت برأسها ايجابا قائلة: أيوة مظبوط... اتفضل إنت شوف شغلك...
فغادر على الفور ثم رنت إليه قائلة: أهلا بحضرتك
اتفضل ...
أجابها ببعض الحدة : أفضل نتكلم فى المكتب فوق أنا جاى أعرض عليكى شغل مش جاى لتعارف شخصى....
حافظت على ثبات انفعالها وهمست باسمة: أوك مفيش مشاكل...
أنهت مقولتها ثم استقامت واقفة وبدأت تخطو نحو الدرج الموصل إلى غرفة مكتبها وهو من خلفها
لكنه كان مثبت عينيه على الدرج متعمدا عدم النظر
إليها وفى الحقيقة أنه كان منزعجا قليلا من
ملابسها التى لا يراها محتشمة ...
فهو قد لا يكون على قدر كبير من الإلتزام الديني لكنه كان يمتلك الحس الأخلاقي بالفطرة...
فهو غيور إلى حد كبير ودائما مايرى أخته فى كل فتاة يقابلها فيعف عن النظر المتفحص إليها حتى لا تقع أخته فى نفس الموقف بذنب أخيها...
وصلا أخيرا لغرفة المكتب سبقته للدخول ثم أعقبها
دون أن يغلق الباب
وبمجرد جلوسه بدأ الحديث مباشرة: فى الحقيقة
لما جيت امبارح هنا عشان اتكلم معاكى سمعت من بره صوت خناق واللى فهمته ان فيه مشاكل على ملكية المطعم فأنا جاى أعرض عليكى انى أشاركك في المطعم بالنص قولتى إيه؟!
تملكتها المفاجأة من عرضه الأمر دون مقدمات...
ودون توقع منها
فأجابته بتوتر: الحقيقة مش هقدر آخد قرار بسرعة
كده على الأقل أعرف مين اللى هشاركه واخد رأي والدتى...تقدر تسيب بياناتك الشخصية وخلال يومين أو تلاته هرد على حضرتك
أخرج ورقة من جيبه مدون بها بياناته فقدمها إليها ثم نهض واقفا من مقعده وهو يقول بثبات: أوك
وأنا فى انتظار ردك ...سلام
فهمست باسمة:مع السلامة...
وما إن خرج حتى بدأت تقرأ متلهفة بياناته ثم أستغرقت تفكر ترى هل جاءها أخيرا
على طبق من ذهب المخرج من تلك الأزمة ؟!!!.
أم أن هذه مؤامرة جديدة من مؤامرات عمها ؟!!!
..
عادت إلى منزلها بعد إنتهاء العمل في المطعم ككل يوم لكنها فوجئت بوجود عمها برفقه ابنه الذى لم تراه الا في جنازة أبيها
تعجبت كثيرا فعمها لم يدخل هذا البيت منذ وفاة أبيها منذ سبعة أشهر
وفى حياته لا تذكر له كثيرا من الزيارات بل كانت نادرة للغاية تكاد تتكرر كل بضع سنوات منذ طفولتها إلى اليوم...
كانت كثيرا ما تسأل أبويها عن سبب تلك القطيعة
والجفاء بين أبيها وعائلته ....فى صغرها كانا يتهربان
من الإجابة وعندما بدأت تكبر وإلحاحها عليهما يزيد
علمت منهما أن والدها " شاكر"فى شبابه كان مستهترا وكان كثيرا مايسبب مشكلات وخسائر لأبيه الذى كان يعمل فى تجارة الأثاث...
حاول أباه كثيرا الإصلاح من شأنه ولكن للأسف كل محاولاته بائت بالفشل إلى أن جاء يوم وأنهى الأمر برمته ذهب والدها لتحصيل أحد المبالغ الكبيرة من أحد التجار ليسلمها لأبيه كما طلب منه كمحاولة أخيرة لتغيره للأفضل ولتعويده على تحمل المسئولية ولكن تلك المحاولة أصبحت -كمثيلاتها-
كرماد يذروه الرياح في يوم عاصف..
فقد أصيب شاكر فى حادث سير حين اصطدمت سيارة والده التى كان يقودها بسيارة نقل اقتحمت الطريق فجأة مخالفة قواعد المرور ولم يستطع تفادى الاصطدام بها..
نقل شاكر على إثر ذلك الحادث إلى المستشفى وعندما بدأ يسترد وعيه أخبر أهله بمكان حقيبة
المال فى السيارة لكنهم لم يجدوا لها أثرا
غضب أبوه بشده فقد كبده ذلك الأحمق خسارة فادحة الأولى بفقدان المال والثانية بتدمير السيارة
فطرده أبيه شر طردة واشترط أن يعود إليه بالمال الذى أضاعه لكى يقبل بعودته مرة أخرى لبيت العائلة
وبدون ذلك فلا مرد له ولا مكان بينهم
وتركوه مصابا فى المشفى بلا مال أو أحد يرعاه ويهتم لشأنه..
كانت زينب إحدى الممرضات تقف بالقرب من فراشه لرعايه إحدى الحالات المجاورة له فسمعت زجر أبيه له وتخليه عنه وهو فى هذه الحالة الحرجة
فرق قلبها له بشدة وتعهدت برعايته حتى إستعاد
صحته ...
فى تلك الفترة التى قاربت الشهرين وقع شاكر فى غرام تلك الفتاة النبيلة
ولم تصمد هى بدورها أمام ذلك الشاب الوسيم
فتحول الإشفاق إلى ٱشتياق وتبدل العطف عشقا وتلهفا...
وفى أحد الأيام ولجت زينب العنبر للإطمئنان على سارق فؤادها فوجدته يجلس واجما مهموما
اقتربت منه بهدوء وتبسمت له كالعادة ابتسامتها
الصافية التى لم يعهد مثلها قبلا وتسائلت بتلهف:
مالك يا أستاذ شاكر؟!شكلك زعلان..
تكلف الابتسام لمرآها وأجابها بانكسار: الدكتور كتب لى على خروج بكرة حاولت أكلم والدى وأمى
محدش عايز يكلمنى وأخويا راغب بيتهمنى بسرقة الفلوس وانى. دبرت الموضوع ده كله عشان أخدها
سكت لثوان وأستطرد قائلا: مش عارف دلوقتي
أعمل ايه؟!!
ربتت برفق على يده وهمست: كل مشكلة وليها حل وان شاء الله هيجى يوم وتظهر برائتك...
أومأ برأسه وقال: إن شاء الله ..وأنا متأسف انى بشغلك معايا بمشاكلى من يوم ماقابلتك بس انا برتاح لما بتكلم معاكى
اخفضت رأسها خجلا ثم تمالكت أمرها وبدأت تكمل حديثها معه قائلة: أنا عندى فكرة بس مش عارفة
انت ممكن تقبلها ولا لا؟!!
حدق إليها بفضول وسألها باهتمام: فكرة إيه؟!
أجابته بعدم ثقة في قبوله: أبويا عنده مطعم صغير بتاع فول وطعمية و الحمد لله شغال كويس
بس هو دلوقتي صحته بقت فى النازل ومعدش
بيقدر يتابع الشغل زى زمان ومش لاقى حد ابن حلال
يأتمنه على المطعم وكل اما يجيب واحد يلاقيه بيسرق وبيغالط في الحساب
ايه رايك تيجى تمسك حساب المطعم على ما ربنا يفرجها والحال يتصلح بينك وبين أهلك؟!
توقعت أن يرفض الأمر بتعالٍ فكيف لابن الفيومى
التاجر المعروف أن يقبل العمل والعيش في هذا الحى الشعبى المتواضع؟!!!
لكنها تفاجات به ينفجر ضاحكا بصورة أدهشتها فسألته بحيرة: أنا قولت حاجة تضحك؟!! لو شايف انها حاجة مش قد المقام اعتبر إنى ماقولتش حاجة...
أحس أنها أسائت فهمه فقال موضحا الأمر: لا ابدا
بس مستغرب ازاى واثقة فيا كده ده اخويا اللى من لحمى ودمى اتهمنى بالسرقة وانتى. من غير ما تعرفينى هتأمنينى على مطعمكم؟!! وتسلميه ليا
وانتى مش خايفة؟!
جرت الكلمات النابعة بصدق من قلبها بتلقائية وهمست عشقا: واسلمك عمرى كله كمان ومش هكون خايفة!!!!
أنهت مقولتها ثم ارتجفت خجلا وهى لا تدرى كيف تفوهت وصارحته بحبها هكذا دون تمهل
توردت وجنتيها بشدة وهمت على المغادرة دون سماع رده..
فأوقفها ندائه فالتفتت إليه بارتباك
فلم يمنحها فرصة للهدوء إذ ألقى إليها كلمة زلزلتها
حتى أحست أن الأرض تميد بها حين سمعته
يقول بشك: انتى ممكن تقبلى تتجوزيني بظروفى دى يازينب؟!
فتبسمت من بين طوفان المشاعر المحيط بها
مابين فرحة عارمة وعدم تصديق وذهول وكذلك خوف من رفض أبيها للأمر فاستجمعت قواها وقالت: لما تقابل أبويا وتطلب إيدى هيبلغك ردى....
ثم تركته وغادرت العنبر وقد أشرقت الأرض
أمام عينيه بعدما كان يستشعر ثقل ظلمها وظلامها منذ قليل!!!!
ولم يكد يصدق عينيه حين غادر المشفى إلى بيت أبيها الذى رحب به بحفاوة وقبل به زوجا لابنته
وسلم إليه أمر المطعم بثقة واطمئنان...
وأصر ان يعيشا معه في بيته بعد الزواج ليؤنسا وحدته فليس له بعد رحيل زوجته وزواج ابنته أحد..
فأحس شاكر ان الله عوضه بتلك الأسرة عما فقده ظلما...
وأخذ عهدا على نفسه ألا يخذل زوجته وأبيها كما فعل مع أبيه سابقا...
فتحمل المسئولية بصدق واجتهد حتى صار ذلك المطعم أشهر مطاعم ذلك الحى ...
ومضت الأيام وشاكر يحيا بسعادة غامرة بجوار حبيبته التى لم تتخلى عنه يوما
وكانت تدخر معه القروش والجنيهات لسنوات عديدة
ليتمكن من سداد المال لأبيه الذى حاول مرارا الذهاب إليه واسترضائه بلا فائدة...
وبعد عدة سنوات كان والد زوجته قد رحل عن الدنيا ورزقهما الله بقاسم ثم ماريا وهو على حاله يعمل كادحا لينفق على أسرته و يدخر ماتبقى معه ليدفع ثمن خطأه في الماضي حتى تمكن أخيرا بعد عشر سنوات من جمع المال المسروق بالإضافة لقيمة السيارة وذهب به أخيرا لڤيلا أبيه
ففوجىء بأخيه يطرده منها ويخبره أن أباه فى سكرات الموت وانه باع له كل مايمتلكه قبل وفاته
ليحرمه من الميراث!!!
خرج شاكر من الڤيلا تضيق الدنيا به من شدة الحزن
وأشد الفواجع على نفسه هو رحيل أبيه وهو غاضب
عنه!!
ذهب لبيته ورمى بنفسه بين أحضان زوجته التى طالما اتسعت له كلما ضاقت به الدنيا فأخذت تهون
الأمر عليه وتشد من أزره لينهض واقفا يواجه فواجعه بشجاعة ...
ولم تمض أيام قلائل حتى وصل إليه نبأ وفاة والده
فذهب مسرعا فحضر جنازته وأخذ العزاء فيه...
وبعد انتهاء الأمر طردته والدته بقسوة وحرمت عليه دخول قصر والده كما أوصى!!!!
أخذ شاكر المال الذى ادخره واشترى به ذلك المطعم فى منطقه راقية ونجح فى كسب ثقة الناس فيه
ولاقى رواجا ونجاحا...
وانتقل بعائلته للعيش فى حى أرقى وأضحت الحياة معهم أكثر نعومة ويسرا..
لكنه مع ذلك لم ييأس من محاولاته مصالحة والدته
فكان يأخذ زوجته وابنته وأخيها لكى بتعرفا على عائلتهما فلا يسمح لهم بالدخول ويرجعون بأسف
كما جاءوا ...
وبعد مرور سنوات كبرت ماريا وأخوها فى كنف أبيهما وأمهما اللذان كانا لهما كل شيء ولكن تلك السعادة لم تدم طويلا فقد رحل أخوها غرقا في أحد السواحل وبعد خمس سنوات رحل شاكر فجأة حين ذهبت مارية لإيقاظه لتناول الإفطار فوجدته جثة هامدة...
كانت فاجعة قوية على ماريا وأمها وما زاد الأمر سوءا و وقاحة أن عمها وجِدتها حضرا عقب العزاء مطالبين بتبجح بإرثهم فى أبيها؟!!
مرت تلك الذكريات القاسية جميعها أمام عينيها عندما وجدت عمها البغيض يجلس بأريحية في بيتها واضعا قدما على قدم وهو يقول بعجرفة: أنا جاى أطلب إيدك ياماريا لإسلام ابنى شاب ممتاز مش هتلاقى زيه ومهما كان هو ابن عمك وهيخاف عليكى ويصونك هااا قولتى إيه؟!!
هبت ماريا واقفة تكاد تنفجر عروقها غيظا صارخة بسخرية :
والمعلومة الفظيعة دى عرفتها إمتى ياعمى؟!!
لما تجارتك بدأت تخسر قولت تيجى تنهب مال أخوك
زى مانهبته قبل كده ؟!
لم تكد تنهى جملتها حتى وجدت صفعة قوية على خدها من ابن عمها الوقح ثم سبها قائلا: انتى بنت قليلة الأدب وعايزة تتربى من جديد
وشكلى أنا اللى هقوم بالموضوع ده؟!!
الفرح هيكون الاسبوع الجاى يإما هتلاقينا من بكرة
خاربين المطعم وابقى قابلينى لو قامت له قومة بعد كده؟!!!!