![]() |
رواية عبق الفراشة (الفراشة البيضاء 2) الفصل الخامس 5 بقلم سارة نيلنوفيلا "عبق الفراشة" الفراشة البيضاء 2 ==================== [الفصل الخامس] انقشع الظلام وأقبل الفضاء يُشرق من جديد ومرّت ليلة تفتحت فيها جروح لتنزف من جديد تاركة ندوب ليست بهيّنة.. تفرقت جفونها المرهقة التي داعبتها بريق أشعة الشمس، تنهدت بتعب وأحداث ليلة أمس تروح وتجيء في ذاكرتها، لا تصدق هذه الوحشية والقسوة التي تفوهت بها.. نعم لم تسامحه ولكن لم تعهد نفسها بهذه القسوة، كانت تعلم أن هذا اليوم سيأتي واتفقت مع ذاتها أنها ستتسلح بالجمود والبرود واللامبالاة فقط.! لكن من أين جاءت تلك القسوة والوحشية.! زفرت بحدة وهي تعتدل مستندة بظهرها على الفراش وجاءت تتناول كوب ماء من فوق وحدة الأدراج لتتفاجىء بوالدها الذي يجلس على مقعد بجانب الفراش يراقبها بترقب.. ابتسم بحنان ثم مال على جبينها يطبع قبلة حانية قائلًا:- - صباح الياسمين على نور عيني. ارتمت بأحضانه متنهدة وهي تقول بإبتسامة عذبة:- - صباح الحنية والجمال على أحن أب في الدنيا.. ملس على خصلاتها المموجة بنعومة وهو يحتويها داخل حصنها المنيع:- - فوقتي يا ليلو. ابتسمت باتساع وهي تقرر ترك ليلة الأمس للأمس حيث أرخى الليل سُدُوله عليها، رددت وقد أبلج وجهها يُشرق كأنّ فيه لألئ الذهب:- - اليوم أكيد هيبقى مثالي مش صاحيه على وجهك الجميل يا جميل.. عَلَت ضحكته ليقرص وجنتيها وهو يقول:- - طب يلا صحصحي كدا واتوضي وصلي الضحى ويلا على الفطار.. تسائلت بدهشة:- - إنت حضرت الفطار يا هيما.؟! قال وهو على باب الغرفة:- - وعملت الشاي بلبن كمان يا نور عين هيما.. ابتسمت بإمتنان فوالدها يغدقها بحنانه الجارف ويدللها جاعلها ملكة على عرش أيامه.. حقًا لم تُحرم من شيء فقد عوضها عن والدتها حتى أنها لم تفكر بغيابها ولم تشعر به.. هبطت من فوق الفراش بحماس تحاول توليده بداخلها لئلا تترك نفسها للحزن، تنعمت بحمام بارد ثم أرتدت فستان ناعم طويل باللون الأبيض على سطحه تنتشر نِقاط صغيرة باللون الليموني، ثم أكملت طلتها بحجاب بنفس ألوان النِقاط.. أدت صلاة الضحى وأخذت تردد الأذكار ثم خرجت وعلى وجهها إبتسامة عريضة.. وفي جو من الألفة والحنان تناولوا الإفطار كعادتهم في حديقة منزلهم الصغيرة أسفل شجرة الزينة.. تنفست بعمق وهي ترتشف مزيج الشاي والحليب بتلذذ قائلة:- - تسلم إيدك يا بابا، معلش تعبتك معايا.. قال بعتاب لين:- - عمري كله فداكِ يا ليلى .. وبطلي هبل. بمجرد سماع صوت والدها الحاني ينفتح بقلبها مسارب أودية الطمأنينة، قبلت يده بحب وهمست:- - ربنا يخليك ليا يا بابا .. ويحفظك ويبعد عنك أي شرّ. ابتسم لها وما تلّبس إلا يسيرًا ثم ردد بحنان:- - مش هتقوليلي أيه إللي حصل إمبارح..؟ صمتت تواري الحالة التي انتابتها فور أن حضرتها حاضرة من ذكرى الأمس، الدمع الذي أحرق جفنيها لا تريد إراقته مرةً أخرى، تبغي أن تجعل كيد هذا الحزن الذي يتربص بها في تضليل فما رأت منه إلا عذابٌ واصب. اختلج الذي هو في صدرها وقالت بكلمات مرتعشة تُحاول ألا تُقلقه بما اندمج عليه قلبها:- - يعني دا فات يا بابا مفيش داعي نفتح فيه .. أصل يعني حاجة تافهة ملهاش لازم.. رفع حاجباه وهو يردد بتعجب:- - حاجة تافهة..!! هربت بأعينها بعيدًا فأمسك يدها يقول بحنان ونبرة ليّنة:- - لو ماحكتيش ليا يا ليلو هتحكي لمين، مش أنا صاحبك قبل ما أكون بابا ولا أيه، وعمرك ما خبيتي عليا .. يلا افتحيلي قلبك يا حبيبتي.. تنهدت بثقل مشردة الفِكر .. فمن لها غيره، أبيها ركنها الحصين، وتشدقت تسرد ما حدث بالأمس دون نقصان شيء فيقال أن القلب يُطبب بالبوح.. طالعها بعتاب لائم وقال بتأنيب:- - ليه يا ليلى يا حبيبتي، عمرك ما كنتِ قاسية كدا.. حقك تزعلي وتثوري وتاخدي جمب وعامر كمان غلطان وإللي عمله مش من حقه.. بس كلامك كان جارح أوي يا ليلى وإنتِ معرفتيش باقي الحكاية.. معرفتيش عامر عمل كدا ليه، أيوا هو أخد الورق ومشى بيه بس لولاه مكانش حد عرف يخرج من المصيبة دي وأولهم أنا .. يعني هو قبل ما ينقذ أي حاجة أنقذني أنا.. تماسكت لئلا تجيش أعينها بالدمع وهمست باعتراض:- - مش عايزه أعرف حاجة يا بابا، خلاص هي صفحة واتقفلت .. لا عايزه أعرف عنه حاجة ولا عايزه أشوفه تاني، لو سمحت يا بابا مش تخليه يخرج قدامي تاني.. تنهد إبراهيم بحزن فهي تخدع نفسها.. هي لم تنزع الجذور التالفة إنما تُكمل البناء فوقها، ولم تغلق الصفحة أو حتى تقلبها وإنما تكتب حاضر فوق كلمات الماضي في ذات الصفحة.. ليلى كانت تعاني من تجربة شقيقتها وجعلت منها ناموسًا وسياجًا حول قلبها كي لا تتعرض لذات الألم، لكن يأتي عامر ويكرر الخطوات ذاتها ليقتل أي أمل داخل ليلى، ليرسخ نموذجًا آخر جانب نموذج "ورد" شقيقتها المغدورة... ردد إبراهيم بتفكير، من أين علم عامر بأمر حسان ليضيء عقله:- - أكيد عرف لما كنت بتكلم مع عمار باشا عن موضوع حسان، يبقى هو بقاا كان فايق.. بس ميعرفش إنك رفضتي.. رددت ليلى بانفعال:- - وهو ماله يا بابا .. ملهوش يدخل في حياتي أنا حره، هو هيقولي أعمل أيه ومعملش أيه.. ابتسم إبراهيم واكتفى بالصمت.. تنفست ليلى على مهل تخبر والدها بما قررته:- - بابا.. - يا عيون بابا. ابتسمت قائلة:- - أنا هروح قبائل الغجر.. ردد بصدمة:- - الغجر..!!! *************** دلف إلى مكتبه بخطى ثابتة قوية رغم إرهاقه، جلس خلف المكتب وهو يزفر بحِدة، أخذ يفرك جبينه بتعب فلم تذق عيناه سِنة من النوم.. بقى ساهرًا مع الليل الذي أشبه موج البحر في طوله وأسدل على قلبه كل أنواع الهموم.. أفزعته الوساوس وهو يفسر كُنه الشعور الذي يتلبسه من جهة عامر، رؤية تلك الأسرة زعزعت الذكريات الآسنة وأقامت الروامس المحملة بعبق الماضي.. طفل وحيد منبوذ يجول بين الشوارع من هنا لهناك لتتلقفه يد رجل قروي بسيط يعيش مع زوجته التي لم يكتب الله لها الإنجاب، ليكون هو قرة عينهم.. كان يحيا بين التخبطات التي أهلكته، والتساؤلات التي لم تبرح عقله يومًا ما. من أنا، ومن أين أتيت، ولماذا تركني الجميع..؟! لم يكن يعلم إلا اسمه فقط "عمّار" وقد مُحيّ من عقله أيّ ذكريات، هذا بديهي فأي شيء سيبقى بذاكرة طفل بالكاد يبلغ العام والنصف.! سحبه من سرداب ظلال الذكريات التي سقط به تنهيدة ناعمة جعلت دقات قلبه تتواثب وهو يرفع رأسه لهذا الجسد القابع على الأريكة في نهاية الغرفة.. تنام نومة غير مريحة، جالسة وتميل برأسها على ذراع الأريكة، كيف نسى أمرها هذه الساعات، بعد هروب عامر لم يبقى شيء في عقله من الأساس.. باعدت سرّاء بين جفنيها بكسل معتدلة بألم يسري بأنحاء جسدها من نومتها الغير مريحة، ظلت تدلك عنقها تحت أنظار عمار الذي التزم الصمت.. استدارت لتشهق بفزع قائلة:- - بسم الله الرحمن الرحيم. هتف بتهكم وقد انسابت بسمة على شفتيه دون شعوره:- - أيه .. شوفتي شيطان ولا أيه يا دكتورة.!! حركت يدها بلامبالاة ثم استقامت متجهة نحوه متسائلة بقلق آثار تعجبه:- - عملت أيه، عرفت ترجع الشخص إللي هرب.. أردف عاقدًا حاجباه:- - عرفتي منين.؟! قالت بتلقائية:- - الدنيا هنا كانت مقلوبة، سألت العسكري وقالي.. وتنهدت براحة قائلة دون إنتباه جعل عمّار بقمة صدمته:- - الحمد لله يعني كدا مش هيسببلك مشكلة، أنا اترعبت لما سمعتهم بيقولوا إن الموضوع ده ممكن يأثر على ترقيتك.. ابتسمت براحة سرعان ما اتسع بؤبؤ عينيها بصدمة هزّت كيانها، فغرت فاهها وهي تحاول التبرير لعمّار الذي يحدجها بنظرات متسائلة وقد جعلت كلماتها قلبه يتوقف عن الهدر.. ابتلعت ريقها بتوتر قائلة بتلعثم:- - بصراحة .. يعني علشان سمعت العساكر بيقولوا كدا، يعني خسارة الواحد يبقى هيوصل لحاجة بيتمناها وفجأة تختفي.. يعني دا إللي أقصده فهمتني ... أصل أنا بحب الخير للجميع يعني.. أخفى إبتسامته بإعجوبة وحرك رأسه وهو يدرك كذبها ولم يقتنع بما قالت، أطرقت برأسها خجلًا وهي تسرع للجلوس وتلعن تهور لسانها الأحمق، طفت حمرة لطيفة على وجنتيها فأخذت تتحسسها بتوتر.. قال مغايرًا للموضوع رحمةً بها:- - كلمت مجموعة من المتابعين معاكِ وبعت الأقراص الأصلية على المعمل الجنائي تتحلل.. ومحدش قال إن بيشتكي من حاجة.. بس إنتِ شاكه في حد معين .. يعني بتتهمي حد.. غمر قلبها السعادة لأجل إهتمامه، فهي قد راهنت على نبالته وبسالته، تمتمت تقول بتشفي:- - أيوا ... مش شاكه أنا متأكدة. حرك رأسه بتفهم ثم أضاف:- - العلاج إللي تم العثور عليه عندك، للأسف مش متصنع في شركات معينة ومقدرناش نوصل لأصله.. قالت بتوضيح:- - لأن بيتصنع في معمل خاص، المجموعة إللي قولت لحضرتك عليهم مش مجرد دكاترة بس ... هما إللي بيحضروا العلاج ده تحت بير السلم زي ما بيقولوا.. حرك رأسه بتفهم ثم قال:- - الكاميرات إللي كانت في العيادة وعلى السلم وقدام العمارة كانت للأسف متعطلة يعني.... قاطعته سرّاء بثقة:- - بس أنا عندي كاميرات إضافيه وسرية جدًا.. اندهش عمّار وتسائل بغرابة:- - طب ما قولتيش من الأول ليه بدل اللفة دي كلها.. قالت بشراسة:- - وهو كان حد سمح ليا .. دا إنتوا ما صدقتوا يا حضرة الضابط، وبردوا زي ما لففتوني لازم كمان أحيركم، كدا يبقى حقي خالص.. تلك الماكرة ... إنها ليست باليسيرة أبدًا.. حرك رأسه بعدم فائدة وقال متبرمًا:- - خلاص كدا ارتاحتي يعني.. عمومًا خلاص النتيجة بتاعة المعمل هتطلع وتخرجي عالطول ترجعي بيتك وأنا بعتذرلك على تقصيرنا وسوء الفهم.. ذمت شفتيها بحزن .. فهل انتهى اللقاء به بهذه السرعة!! باغتته بقولها المحبط:- - يعني كدا خلاص .. بالسرعة دي؟!! هل تريد تلك الفتاة قتله!! ما الذي تحيكه تلك الماكرة وهو يرى حزنها على خروجها!! طوعت له نفسه أن يطرح عليها هذا السؤال فأيضًا شعر فجأة بالصمت ينتشر بداخله وهو يفكر أنها ستخرج ولن يلتقي بها مرةً أخرى، هكذا انتهى كل شيء.! مشاعر لم يعتد عليها .. مشاعر مبهمة غير مألوفة.. تنحنح يقول وأعينه تدور في كافة الأرجاء:- - إنتِ من المنطقة هنا يا دكتورة ! ابتسمت بخبث وأجابت بمكر شديد وهي تدرك إهتمامه وبهوت وجهه هو الأخر، فاليتذوق مما تجرعته:- - يعني .. امم أيوا من هنا.. لم تعطيه الإجابة المجدية التي ترقبها، زفر بضيق وهو ينهر نفسه من هذا الجنون الذي تلبسه ثم وثب قائمًا وهو يقول:- - العسكري هيجبلك القهوة وفطارك.. قالت بتلقائية وهي تقف بلهفة:- - إنت خارج .. رايح فين.؟ استدار يحدق بها بعدم فهم لتتدارك سريعًا مبتلعة لعابها:- - أقصد يعني علشان خروجي وكدا يعني.. أولاها ظهره مبتسمًا ثم قال بخبث وهو يوشك على الخروج:- - لما أرجع .. عمومًا عندي شوية شغل هخلصهم ومش هغيب يا .... سرّاء.. ثم عاد قائلًا بمكر:- - وعلى فكرا .. إللي هرب رجع ... مكانش هرب كان راح يشوف حبيبته.! يعني متقلقيش الترقية شغاله يا .... سرّاء.. وخرج تاركها في حالة يرثى لها، قلبها يجأر عاليًا دون رحمة.. تسارعت أنفاسها وهي تطبطب على قلبها هامسة بحالمية وتتيم:- - إهدى يا قلبي إهدى .. عمّار يا معذبني، يارب اجعله من نصيبي يارب وصبرني.. ************** أطلق سراح جفونه الثقيلة بينما يهلوس بهمس خافت متأوه:- - ليلى .. ليلى.. تكدست الدموع بأعين صفاء لا تعلم أهي حزنًا أم فرحًا من هذا الحب الذي بعثر كيان ولدها.. تبسمت وهي تنظر لعبد الله المترقب بجانب عمّار.. ظلّ بضع دقائق يفتح ثم يُغلق عيناه حتى اعتاد على الضوء، زوى ما بين حاجباه وهو يرى والده أمامه.. هل هو يتخيل أم أصبح يهذي!! دقق النظر واخترقت أذناه كلمات الطبيب فأدرك أنه ليس بأحد أحلامه.. وزع أنظاره في الغرفة لتقع أعينه على والدته الحبيبة التي تزيد في البكاء وهي تطالعه بحنان ودفء.. - عامر .. عامر إنت سامعني.؟ حرك رأسه بإيجاب وهو يخفض أنظاره من فوق والديه بخزي، أخرج صوته من حلقه الجاف بخفوت:- - الحمد لله .. أنا كويس.. ركضت والدته نحوه بلهفة وهي تحيطه بحنان وقلب مفجوع وتقول من بين دموعها:- - عامر يا حبيب أمك، الحمد لله يا رب، الحمد لله على سلامتك يا كبد أمك، إنت كويس يا عامر قولي أيه بيوجعك.. ابتسم وهو يسعل بخفة ثم هتف وهو يحاول الإعتدال وأخذ بكف والدته يُقبله عدة مرات وهو يقول:- - أنا بخير يا أمي .. الحمد لله.. والله أنا كويس يا أمي وبقيت كويس أكتر لما شوفتك.. حقك عليا يا أمي حقك على راسي أنا غلطان.. جذبته لأحضانها فمهما كبر سيظل طفلها وستظل تغدقه بالحنان، مسدت على رأسه وظهره بلهفة وهي تقبل كتفه وفروة رأسه قائلة بصوت يمتلأ بالتحْنان:- - فداك عمري كله يا نور عيني .. قلبي كان هيقف يا عامر .. روحي دلوقتي رجعتلي يا ضيّ عيوني.. وقف عمّار يشاهد هذا الموقف بصمت خارجي، لكن بداخله براكين تتفجر.. أمي...!! ما أجمل حروفها، كل حرفٍ له وقعٌ خاص على قلبه.!! وكم أتمنى أن أكررها دون توقف.. التمعت عيناه ببريق دافىء وهو يقبض كفيه بشدة مقررًا الإنسحاب فتلك المواقف لها من الخطر على قلبه ما ليس للرصاص والقذائف. لا يعلم عبد الله ما الذي أصابه هذا الأثناء، بقى يراقب ردود أفعال عمّار ورقعة الشك بداخله تتسع.. أضاء عقله بفكرةٍ ما وأسرع لتطبيقها.. وبسعادة استدار لعمّار وجذبه لأحضانه مطبقًا عليه بقوة، ليقف عمّار مصدومًا وتلك المشاعر تداهمه دون رحمة، أغمض أعينه بشدة لم يقوى على هذا الحرمان.. فَسرّ الذي صدر من عبد الله نتيجة فرحته وامتنانه لاستيقاظ عامر.. ولم يحسب عبد الله حسبان ما أصاب قلبه فور ضمّ عمّار إليه، هذا الشعور أكد له أن الذي بين ذراعيه ليس إلا ولده المفقود "عمّار". لكن لأجل تمزيق الشك باليقين .. رفع كفه يمسد على رأسه وامتزع خصلةٍ صغيرة، وعندما جاء يبتعد تخشب بصدمة فور أن وقعت أعينه على تلك الندبة التي بعنق عمّار والتي يمتلك ذاتها عامر.. هو .. إنه هو ولده.. يا إلهي ما أعظم تدبيرك..! فلم يكن إبتلاء عامر وإلقائه خلف القضبان وإعتقال يديه بالقيود إلا استجابة لدعوة لحوحة منه وزوجته بقت مُعلقة ثمانيّ وعشرون عامًا..! لو لم يفعل جمال ما فعله بولده عامر ما كان ليلتقي بعمّار.. أجبر نفسه على الإبتعاد فهو على وشك الانهيار ثم ركض نحو عامر وجذبه لأحضانه بقوة وهو يُقبل على رأسه.. وخرج سريعًا يتوارى عن الأعين ثم انهار بين يدي خالقه يبكي بشدة وهو يحاول إقناع نفسه بتلك المعجزة... - حكمتك يارب .. إنت كبير أووي يارب .. اللهم لك الحمد والشكر يارب .. لك الحمد على ما أعطيت ولك الحمد على ما منعت.. دا درس كبير يعلمني إن أيّ كان قضاءك وحُكمك لازم نرضى بيه، وأكيد خير لنا.. كل قضاءك ومشيئتك خير يارب.. يارب زي ما رجعتلي ابني بعد كل السنين دي، خرج ابني التاني من المحنة دي سالم يارب.. ومِنّ علينا بالستر ورضاك يا الله.. وخرج من المسجد عازمًا على قطع الشك باليقين، اتجه نحو أحد المعامل ولم تكن الخطوة التالية إلا ... تحليل الأبوة..! ********************* جرّ عمّار مقعد بجانب فراش عامر والذي أخذ يعتدل بينما التزمت صفاء الصمت وبقت تشاهد فقط، رصدت أعينها بدقة ملامح عمّار التي أيقظت نبضات مندثرة، أجلى عمّار صوته وغمغم بهدوء:- - عامر .. عامل أيه دلوقتي، تقدر تتكلم.. تشنجت ملامح عامر بالسخط، وقال بحرقة تضطرم بجوارحه من الموقف الذي أصبح به:- - أيوا يا حضرة الظابط أنا كويس، وأقدر أرجع معاك كمان. تعلقت أنظار والدته به بجزع ورعب، لا تعلم ما الذي سيصيب ولدها، لكن ما قاله عمّار قد هوّن على قلبها قليلًا حين قال موضحًا:- - بص يا عامر، أظن بقى واضح إن في حدّ عايز يتخلص منك، وفي حدّ ورا جمال وأكبر منه في الحكاية دي، دلوقتي عايز أسألك سؤال.. هل إنت شوفت الشخص إللي طعنك..؟ ضرب عقله ومضات سريعة طارئة وشردت أنظاره ليقول وهو يقبض على كفيه:- - أيوا شوفته، وأقدر أتعرف عليه.. نمى الإسترخاء على وجه عمّار، واسترسل يقول بنبرة مُستريحة:- - كويس جدًا، أظن هو معاك في الزنزانة، لازم نرجع يا عامر الحبس؛ لأن محدش هيقدر يتصرف ومش هيتوقعوا إنك تفوق وترجع بالسرعة دي، هتتعرف عليه ومن خلاله نقدر نعرف الرأس المدبرة لكل عمليات السطو دي.. جزعت صفاء ووقفت تُمسك بذراع عامر وهتفت بلوعة:- - هتاخد ابني فين يا حضرة الظابط، عامر معملش حاجة .. مش هو إللي وصلكم للمجرمين دول، ليه تاخدوه هو معملش حاجة.. ورغمًا عن ثباتها تصبب الدمع من عينيها وفقدت إتزانها بينما بجنبات صدرها ... هناك قلبها الذي لم يسكن لهيب حرقته على فلذة كبدها، لكن قبل إختلال ثباتها وقبل أن تهوى ساقطة، سارعت كلا ذراع عامر وعمّار في آنٍ واحد فيكونان عكازًا لها ليحلان سقوطها.. رفعت أنظارها تتأمل عمّار الذي كانت ملامحه قريبة منها، ملامحه التي كانت شبيه بجدّه 'والدها' كثيرًا، والتي كانت قريبة جدًا من ملامح عامر أيضًا.. هناك بين خفقاتها خفقات مجهولة .. لكن هل هذا ممكن؟! - أمي.. إنتِ كويسة! التفتت نحو عامر ليرفع أنامله يمسح دموعها بعذاب واقترب منها يُقبل رأسها بأسف، ثم ركع على ركبتيه أمامها يُقبل يديها وقد جرّت دموعه على يديها ثم قال بنبرة تأجّجت بالحزن:- - إلاكِ يا أمي، علشان خاطر عامر تماسكِ، أنا هرجع يا أمي خليكِ واثقة فيا .. خليكِ واثقة من الأخلاق إللي زرعتيها جوا عامر ..أنا معملتش حاجة يا أمي وهرجع بإذن الله.. احتضنت رأسه لأحضانها وأطلبقت عليه بحنان، وهدرت بثقة وثبات:- - واثقة فيك يا عامر واثقة فيك يا حبيبي.. اعتدل بثبات ومسح وجه يدرأ الضعف عنه وهتف بصوت رخيم ثابت:- - أنا جاهز يا حضرة الضابط يلا بينا.. كان عمّار متصنمًا لكنه أشاح بوجهه في ألم وقال وعيناه مغرورقتان بالدموع ثم همس في توهُّن وهو يعترف أنه في كل مرة يرسب بجدارة أمام هذه المشاعر وبدون أدنى مجهودٍ منه:- - يلا يا عامر.. امتدت أقدام عامر يسير بثبات لكنه قال قبل خروجه وهو يتحكم في غُصة مريرة بحلقه:- - ادعيلي يا أمي.. وخرج بجانب عمّار من الغرفة لتخرج خلفهم صفاء لتقف تشاهد خروجهم بينما تضع كفها على صدرها تشعر بقبضة قوية تعتصر قلبها.. سار كلًا من عامر وعمّار بجانب بعضهم البعض كُلٌ بمشاعر متباينة... عمّار الذي يشعر بمسؤولية غريبة تجاه عامر وحمية نارية تسري بدمه لأجله وخوفٌ يتلبسه من أن يصيبه مكروه ... هذا الشعور يتعزز لديه بقوه كلما مرّ الوقت، وجلّ ما أدركه والذي لا يستحيل إنكاره... أنا عامر له بداخله شيء..!!! لكن ما هو؟!!! ******************* نام قرص الشمس على صدر الأفق متدثرًا بزرقة السماء، مازالت الغيوم عالقة، انتشر الصمت والهدوء مع انتشار ظلمة الليل البهيم والذي أخذ بحلوله يُدثر الكثير من الخبايا.. سطع القمر من خلف الغيوم يسلط ضوءه على بقعة ما وسط الوادي الذي يقبع بجنوب البلدة.. كان يركض برشاقة يرتدي معطف أسود يسدله على وجهه ليُخفي ملامحه بعدما انتهى من مهمته.. استند على ركبتيه يلتقط أنفاسه بصعوبة ثم استقام مسرعًا بعدما وصل إلى الجدار الفاصل بين البلدة والوادي، أخذ يتسلقه بأنفاس لاهثة ثم قفز للجهة الأخرى وواصل ركضه وسط شوارع البلدة الهادئة المظلمة.. تنفس براحة ونظر من حوله بحذر، وقبل أن يعرج حيث منزله التمعت أعينه بوميض الخبث وهو يقرر الذهاب إليها ورؤيتها.. اتجه نحو الشارع الذي يقبع به منزلها، ابتسم بحب ومن يراه في هذه الحالة لا يصدق ما كان يفعل قبل قليل..!! تسلق الشجرة بمهارة حتى وصل لشرفة غرفتها وقفز بداخلها ثم على حين غُرة أخذ يدق فوق باب الشرفة بوتيرة مميزة.. كـــــــانــــت رحـــمـــــة تقرأ بأحد الكُتب قبل خلودها للنوم فُزعت من فوق الفراش حين تسارع لآذانها هذه الطرقة ... فليس إلا هو .. مجنونها ... مــــــــازن. أزاحت الستائر وفتحت باب الشرفة لتقف أمامه عاقدة ذراعيها.. - وبعدين.. رفع طرف السترة عن وجهه ليظهر وجهه الأخر المُحب ولم يكن سوى مـــــــــــــــازن.. سحب يديها ثم لثمها بقوة وهمس بهيام:- - وحشتيني.. تلطخ وجهها بحمرة الخجل وقالت بتمنع:- - مازن وبعدين بقا .. أفرض بابا ولا أمي سمعوا ولا أخدوا بالهم .. اقولهم أيه بقا..! - هقولهم مراتي إللي منشفه ريقي وإللي وحشتني فتسلقت المخاطر وجيت أشوف عيونها.. - مازن بقاا.. وبعدين إنت كنت فين كدا، ولابس كدا ليه! - عيون مازن يا حُب مازن.. تنهدت بثقل ثم هتفت بعقلانية:- - إنت عارف إن كدا غلط .. ولما بتيجي البيت محدش بيبقى عنده إعتراض، لكن الطريقة دي ضد أعرافنا وإللي إتربينا عليه يا مازن.. نظر لها نظرة نارية فقد أطاحت بشوقه عرض الحائط، صك على أسنانه بغضب ترجمته كلماته:- - وهو من أعرافنا إن فرحنا إللي كل يومين يتأجل ده يا رحمة بحجة شكل، وقبل ما تقوليلي صحبتي، أنا مالي ومالها ومال النصاب إللي فتحولوا بيتهم.. هي نفسها بقت كويسه ومعندهاش أي إعتراض نكمل جوازنا إللي وقف بعد كتب الكتاب.. أنا مفروض عليا أنتظر الظروف دي كلها تمر، أنا بقالي قد أيه منتظر وصابر يا رحمة.. ولا دي تلكيك منك بس مش أكتر، لو مش عيزاني يا رحمة قولي أنا خلاص طاقة تحملي خلصت ومش عارف أيه سبب تأجيلك ده.. حمقاء ..مثل كل مرة تُلقي أحجارًا من فمها، لا تعلم ما الذي يحدث لها، ولا ماذا يحدث مع مازن ولماذا هذا التغير الذي طرأ عليه، وتلك العصبية الدائمة منذ مدة.. لكنها تُعطيه الحق فلقد تأجل زفافهم أكثر من ثلاث مرات تحت مسمى بعض الطارئات الذي تُخبئ خلفها مخاوفها الطبيعية من الزواج.. جاءت تُمسكه ذراعه لتتحدث كي تُرضيه بعد غزو كلماتها الضاري لكنه عاد للخلف وخرج للشرفة وهو يُلقي كلماته بينما يُدير ظهره:- - قدامك يومين يا رحمة تكوني فكرتي كفاية عيزاني ولا لأ.. وقفز فوق الشجرة ثم نحو الأسفل وذهب دون أن يستدير تاركها بين حيرتها من نفسها وحزنها على حزنه الذي يفيض من عينيه.. ********************* تراصّ الجميع أمام عمّار وعامر، دقق عامر النظر في وجوههم ثم رفع يده وهدر بقوة وهو يُشير نحو أحد الرجال:- - هو ده يا عمّار باشا.. اتقدت أعين عمار بسعير الغضب ثم هتف بصلابة:- - جيبه يا ابني. وقف رجل قمحي الوجه يرتسم على ملامحه معالم الإجرام، زجره عمّار بنظراته ثم تسائل بهدوء يسبق العاصفة وهو يُدرك صعوبة التعامل في هذا الموقف والعِناد الذي يصرون عليه هؤلاء المجرمون.. - حاولت تتخلص من عامر ليه .. ومين وراك؟! لكن لدهشة عمار أجاب الرجل على الفور قائلًا:- - المسألة مسألة حُب يا باشا، وإللي أمرني هو مازن محمود.. ▪︎▪︎▪︎▪︎ يُتبع.. #عبق_الفراشة #الفراشة_البيضاء2 #سارة_نيل الفصل السادس من هنا |
رواية عبق الفراشة (الفراشة البيضاء 2) الفصل الخامس 5 بقلم سارة نيل
تعليقات