رواية حسن العطار وبثينه الفصل الثالث بقلم كاتب مجهول
#حسن_العطار_وبثينه
الجزء الثالث
...
في الغد رافقتهن القهرمانة إلى قاعة فسيحة فيها آلات الطرب ،وجاء الشّيخ فسلّمن عليه ،وقال : سنبدأ التّدريب على الغناء من اليوم ،كذلك ستتعلّمن القراءة، والكتابة، وتاريخ الموسيقى والمقامات، والشّعر. أمامكنّ عمل طويل ،هذه الأمور سيتكفّل بها يوحنا االأنطاكي وهو راهب من دير السّريان يشرف مع رفاقه النّصارى على تأديب الصّبيان في القصر ،أنا مهمّتي فقط العود والغناء .
هذه الآلة أخذها العرب عن الفرس واحدثوا فيها تحسينات كثيرة ،ومن أهمّها إدخال زرياب لوتر خامس،وجعل الضرب بريشة نسر .سأشرع أوّلا في تعليمكنّ ميزان الشّعر على نقر الدّف، قبل البدأ في الغناء ،سأنشد أبيات من الشّعر تسمعونها ثم ننشدها معا حتى تتقنها، وتعرفن وزنها ،نظر إليهنّ ،إبتسم ،وقال جاهزات يا بنات ؟ صحن بصوت واحد : نعم يا معلّم !!
عندما إنتصف النّهار قال الشّيخ منصور سنتوقّف الآن ستذهبن إلى الطعام وترتحن ساعة، وسيأتي أحد العبيد لإصطحابكم إلى حلقة درس الراّهب يوحنّا في الدّور العلوي من القصر، هناك مكتبة، وكل ما يلزم من الألواح للكتابة والورق ،والأقلام، والحبر ،قالت أحد البنات،لم أكن أعلم أن الغناء شاقّ إلى هذه الدّرجة ويحتاج لكل هذا العلم ،ردّت بثينة وهي تضع قطعة لحم كبيرة في فمها: لا تنسي أنّنا سنغني للسّلطان وأعيان القوم،ألا يستحقّ ذلك كلّ هذا الشّقاء،وأنا اخشى تلك القهرمانة فقد هدّدت برمينا مع الخدم إذا لم نتعلّم ،ودون شكّ فهذا لا يعجب أحدا منّا !!
بعد ذلك تجوّلت الجواري في حدائق القصر، لكنّ بثينة كانت تنظر حولها، و تحفظ كلّ شيئ في ذهنها ،كانت متأكّدة أنّ أدقّ التّفاصيل يمكن أن تفيدها يوما ما . في المساء إنتهى درس الأنطاكي ،وكانت تحسّ أنّ رأسها سينفجر من كثرة الأشياء التي تعلمتها هذا اليوم ،كلّ ما كانت تفكّر فيه هو النّوم،لم يكن عندها رغبة للأكل ،إستلقت في فراشها ونامت ،لم يكن عند المسكينة حتى الجهد لوضع ثوب النّوم ..
مرّت خمسة أشهر على بثينة وهي على هذه الحال ،لكنّها تعوّدت بسرعة على حياة القصر، وعلى حصّة العود الغناء، وحلقات الدّرس ،لكن إثنين من الجواري اللواتي كنّ معها لم يكن لديهن طاقة على تحمل هذا النّسق ،وكانتا تحسّان بالإجهاد حذّرتهما القهرمانة ،وعندما لم تلاحظ تحسّنا عندهنّ ،عينتهن في مطبخ القصر،وقالت :هذا عقاب على كسلكنّ ،سأعوّضكما بجاريتين إشترتيهما البارحة ..
كانت بثينة أفضل الجواري في الغناء ،وضرب العود ،كان أمامها الكثير ،لكنها تعلمت بسرعة على نحو أدهش حتّى الشّيخ منصور نفسه،لقد كانت تحاول نسيان أحزانها بالإقبال على الدّروس .التّفكير في الماضي كان مؤلما جدّا بالنّسبة لها ، لم تسمع أخبار أخيها منذ خمسة أشهر ،ولم يكن هناك أيّ طريقة للإتصال به .حاولت مرّة التّحدث إلى أحد عبيد القصر ،كان من القلائل الذين يسمح لهم بالخروج فقد أمضى نصف عمره هناك ،لكنه ما أن سمع ما تطلبه منه حتى امتقع لونه ،وقال : والله لولا صغر سنّك لرفعت أمرك للسّلطان، ولرماك في سجن مظلم ،لقد دفع في شرائك مالا كثيرا ،وأنت ملكه ،هل تفهمين يا حمقاء ؟
في أحد الأيام لم تقدر بثينة على النّوم ،أخذت عودها ،وذهبت إلى شرفة مطلة على حدائق القصر كان الربيع قد حلّ ،هبت نسمة عطرة على وجهها فأحسّت بالإنتعاش ،وسرحت بها الذكريات،فخنقتها العبرات، أخذت العود ،عدّلت أوتاره ثم غنّت :
...
آه .. يا ليل يا عين
رمى الظلام السّتار
والفجر حلّ يسألكم
هل سمعتم في الأسحار ؟
عن صبيّة تضرب على الأوتار ؟
ترنوا لها الأنظار
أحببتها ..عشقتها
القلب بالهوى محتار
سأجعل الكون فجرا
و تروي أشواقي الأخبار
عيونها سود باسم ثغرها
كأنّها ربّة الأقمار
فيا قوم ما أحلى منطقها
إذا غنّت مع الأطيار
عن جمال الورد والدّيار
...
كان الأمير حسيب الدّين إبن السّلطان متكئا على حافة الشّرفة في الجهة المقابلة من القصر ،وبينما كان سارحا في أفكاره سمع صوتا شجيّا يغنّي يرافقه ضرب العود ،كان غناء جميلا لبنت صغيرة ،طرب الفتى لصوت بثينة الرّخيم ،وحاول أن يعرف مصدره ،كان من الجهة المقابة حيث يوجد جناح الحريم والجواري .
بقيت بثينة تغني، والأمير يستمع، قال في نفسه:إنها لا تزال مبتدئة فضربات العود غير متقنة تماما ،ولكنها رغم ذلك رائعة ،لا بدّ أنها أحد جواري الشّيخ منصور، هذه أحد أغانيه ،وقد سمعتها في مجلس والدي كانت هناك ستارة تجلس ورائها نساء أعيان القصر واولادهم لسماع الموسيقى .
عندما أتمّت بثينة غناءها ،وضعت يديها على عينيها ،ثم بكت بشدّة على فراق أمها ،وتذكرت أخاها ،وقالت: أين أنت يا أخي ،باعنا أبونا من أجل عيون امرأة لعينة ،لا شك أنها الآن سعيدة لتخلصها منّا ،سأجعلها تدفع الثمن لو خرجت من هنا .
في اليوم الموالي غنت بثينة أغنية أخرى ،وسمعها إبن السّلطان ،أحسّت البنت براحة كبيرة في الغناء ،وأصبحت تغنّي كل يوم ،وأصبح حسيب الدين ينتظر حلول المساء ليسمع صوتها ،فقد كان يحسّ بالملل من حياة القصر ربّاه أبوه في البادية لكي يصحّ بدنه ،فبقي يحنّ الى الطبيعة والهواء الطلق ،وكان يخرج إلى الشّرفة كل يوم ،ثم أصبح ينزل إلى الحديقةو يقترب من مصدر الصوت ، و يسمع الغناء وفي النهاية أصبح يجلس تحت شرفة بثينة وكان يسمع غناءها وحركاتها و يحس بها وبأحزانها..
كان صوتها يزيد عذوبة مع الأيّام وضربات العود أكثر قوّة وإتقانا ،وقال في نفسه مدهش لقد تحسّنت بسرعة ،أكاد لا أميزها عن الجواري اللواتي يغنين في مجلس أبي ..
غابت بثينة بعض الوقت ،وفي أحد الأيام خرجت، وغنّت :
...
آه .. يا قمر الليل
يا ليل .. يا نجم و يا عين
هل اتى عليكم زمن
غاب فيه الأحباب
قاس هو الفراق ..عذاب
القلب يهفو إليهم
آه ..الدّموع صارت ضباب
لقد بكيت دهرا
وليس علي حالي عتاب
تطير لهم روحي
ترجو لقياهم
ولو حالت دونهم أسباب
...
غنّت بكلّ جوارحها ،وسالت دموعها الحارّة على وجهها ،كان صوتها شجيّا كالبلبل ، وتردّد رنين العود بقوّة في الحديقة ،إستمع الأمير بدهشة ،وخيّل إليه أنّ أغصان الأشجار تتمايل مع الأنغام ،لم تكن هذه من أغاني الشّيخ منصور ،فقد كان يعرفها كلّها ،ثمّ قال فجأة : لقد ألّفت هذه الأغنية بنفسها، لتعبّر عن حزنها لفراق أهلها ،الحزن قد يقضي على بعض النّاس ،لكن عندها فجّر موهبة الموسيقى ..
هذه المرّة خرج بعض أهل القصر إلى الشّرفات ،وقد أعجبهم جدّا هذا الغناء العذب الذي يمسّ شغاف القلوب، وبدأوا في التّساؤل عن صاحبته من تكون؟ عندما إنتهت من الغناء صفّق الحاضرون كثيرا، وطالبوا بالمزيد،كانت بثينة تعتقد أنّها وحدها ،وعندما رأت هذا الجمع حولها ،خافت ،دخلت بسرعة، وأغلقت النّافذة ،كانت تخشى أن تسمع القهرمانة بما حدث وتعاقبها ،تعرف أنّها حادّة الطباع ولن ترحمها إن أخطأت
في اليوم الموالي إنتظر الأمير غنائها ،لكنّها لم تخرج كعادتها ،كل يوم كان يأتي ،ويجلس تحت الشرفة حزينا ،لقد تعوّد على وجودها وغنائها ،لكنها لم تعد تأتي ،فكرّ ،وقال ربما تكون مريضة ،ثم تساءل ما الذي يحدث ،لماذا هو مهتم بصبيّة لا يعرفها ؟
لقد تجاوز الأمير حسيب الدين الثانية عشرة سنة ،وما لا يعرفه أنّه وقع في الحبّ ،وكان كل يوم يحاول أن يتخيّل وجهها ،وفي النهاية قال ...يجب أن أراها سأذهب غدا إلى الشيخ منصور ،و أجد حيلة لمقابلتها ...
