رواية حسن العطار وبثينه الفصل الرابع بقلم كاتب مجهول
#حسن_العطار_وبثينة
الجزء الرابع
عند حلول المساء رافق الشّيخ نصر الدّين حسن للمسجد ،كانت هناك حلقات لتعليم الصّبيان القراءة والكتابة ،أوصى عليه المعلّم موسى ،فأجابه أن لا يقلق على الصّبي ،كان موسى أديبا وشاعرا بلغ من الكبر عتيّا، وتعوّد أن يجلس كلّ يوم ساعتين للتّدريس إبتغاه مرضاة الله ،ولا يأخذ شيئا من النّاس، ثمّ يصلّي العشاء ويرجع لبييته ..
بعد أن إطمئنّ العطّار عل الصّبي ،أخذ يتقصّى عن بنت ضائعة ،سأل معارفه ،والفقراء الذين كانوا يجلسون أمام المسجد، لكن لم يراها أحد ،أصيب باليأس وقال في نفسه :من المأكّد أنّها لم تأت إلى هنا ،وهذا من شأنه أن يعقّد الوضع ،فحالي الآن كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ ،عندما همّ بالرجوع إلى دكّانه إقترب منه متسوّل رثّ الثياب قد خطّ الشيب لحيته ،وقال له: إن أعطيتني درهمين أخبرتك عمّا تريد معرفته ،دهش الشّيخ نصر الدّين، وقال له: أخبرني أوّلا ، إن كان قولك مهمّا سأعطيك ثلاثة دراهم ،قال المتسوّل :لقد كنت نائما تحت حائط في الزقّاق المؤدّي للمسجد وسمعت صوت صرير مزعج يمرّ أمامي، وعندما فتحت عيني شاهدت على ضوء المصابيح عربة تجرها إثنين من البغال .
زادت لهفة الشّيخ وصاح : نعم ..نعم  !! لقد كانت في ذلك الزقاق..ماذا حصل بعد ذلك؟ مدّ المتسوّل يده ،وقال: الثّلاثة دراهم أوّلا ..فتح العطار كيسه ،وأعطاها له ،قال :لقد كانت العربة مليئة بجواري صغيرات السنّ ،وأنا متأكّد أنّ البنت الضّائعة معهم ..لم يعد الشّيخ يستطيع إخفاء إنفعاله ،وقال : فعلا ذلك محتمل جدّا ،لكن هل تعرف إلى أين ذهبت العربة ؟ قال المتسّول وقد زاد طمعه :بضعة دراهم أخرى من شأنها ان تحلّ عقدة لساني، هزّ الشّيخ كيس المال، وقال : هيّا تكلّم ،وهذا الكيس لك  ..
تنهّد المتسوّل ،وقال : كما تعلم ليس لي مأوى، وقضيت أكثر عمري هائما على وجهي في الأزقّة، لا يوجد من يعرف دروب، وتجّار بغداد أكثر منّي . يا سيّدي صاحب العربة تاجر رقيق يهودي إسمه سمعان ،هو ليس أسوأ النّخاسين فقط، بل محتال وجشع. و لقد تعوّد على إحضار جواري وغلمان صغار السّن إلى قصور الأعيان لتأديبهم فالقوم يحرصون على أسرار قصورهم، ولا يثقون إلا فيمن أدّبوهم عندهم ،ويقال، والله أعلم، أنّه يخطف الأطفال في مدن العراق ويبيعم ،ولم يثبت عليه شيئ لأنّ شرطة السّلطان تغمض عينها عنه . 
قال الشّيخ:  لكن القصور كثيرة في بغداد ، فكيف سأهتدي لمكانها ؟ قال المتسوّل : أكاد أجزم أنّها ذهبت لقصر السّلطان ،هذا الطريق يأدّي إلى الجانب الآخر من المدينة حيث توجد أجمل قصورها ودورها ،ولا يقدر سوى السّلطان على شراء هذا العدد الكبير من الجواري الحسان .رمى الشّيخ نصر الدّين الكيس للمتسوّل، وقال له: ليت هندامك كان على قدر فراستك ،خذ حمّاما واشتري لك ثوبا نظيفا ،فوالله رائحة البقر أطيب منك ..
عندما أتمّ حسن درس الشيخ موسى، وجد العطّار في إنتظاره ،وقد تهلّل وجهه ،وقال له: أبشر لقد عرفت مكان بثينة ،إنها في قصر السّلطان ،فرح الصبي فرحا شديدا وقال :هل رأيتها ؟ أجاب الشّيخ نصر الدّين :للأسف لا .. يجب أولا أن نعثر على تاجر إسمه سمعان، ونجبره أن يخبرنا بكلّ شيئ . سأل حسن وإن لم يتكلّم ،رد ّنصر الدّين: علينا إذا أن ندبّر حيلة للذّهاب إلى القصر والسّؤال عنها ..
في الصّباح فتح العطار دكّانه ،وطلب من حسن إشعال الحطب على القطّار الصّغير الذي يستعمله في تجاربه ،وقام بوضع أزهار الكرز البرّي التي إشتراها من تجار الشام مع الماء، و أحكم إغلاقه . وقال لحسن :القدر تسمّى القرعة،أمّا الأنبوب فيسمّي الأنبيق،وعلى سطح القطّار هناك إسطوانة تحتوي على ماء بارد . 
وأضاف هل تعلم أنّ هذه الآلة إخترعها جابر بن حيّان ؟ ومبدأها بسيط : يصعد البخار من القدر فتقوم الإسطوانة بتبريده، و يتحوّل الى قطرات برائحة الأزهار أو الأعشاب التي نقطّرها ، ثمّ تسيل في الأنبوب ولا يبقى سوى وضع قارورة يسقط فيها ماء أزهار الكرز  قطرة بعد قطرة ،حتى تمتلأ ،.ما يهمّنا هو الزّيت الذي سيطفو أعلى القارورة ...
وصناعة العطر تحتاج أيضا للكحول ،ونحصل عليه من تقطير السّكر المخمّر ،وهذا عندي منه الكثير ،وفي الأخير نحتاج إلى مستحضر لتثبيت الرّائحة ،وهنا يكمن كلّ فن صناعة العطور ،حيث سيأخذ كل عطر لمسته النّهائية ،وسنختبر معا الصّندل، و المرّ ،والجاوي ،والمسك ،والزّباد ،والعنبر مع زيت الكرز البرّي لصنع عطر فوّاح يصلح لنساء الملوك..
سأدرّبك على معرفة الرّوائح ،ومزج المكوّنات ،مع الوقت ستبرع في هذه الصّنعة ،فقط يجب عليك أن تحبّ ما تفعله وتعطيه كل حواسّك ،يجب أن تشعر بالجمال ،وتتركه يأخذك معه إلى عالمه السّحري ،أليس العطر في نهاية الأمر سحرا يفتن القلب والعقل ؟
كان حسن يسمع بإنتباه ،وقد بدأت رائحة بخار الكرز البرى بالإنتشار في القبو ،وقال في نفسه :سأنجح من أجل أمّي التي فارقتنا ،ومن أجل أختى ،ولا يخيب من توكّل على الله .قطع عليه الشّيخ نصر الدّين حبل أفكاره ،و قال : لا تزد الحطب، واترك القطّار على نار هادئة، والا جاء ماء زهر الكرز خفيفا ضعيف الرائحة ..
ستحتاج القارورة إلى وقت طويل قبل أن تمتلأ ،في إنتظار ذلك ستبقى في الدّكان، وتتعلم أنواع الأعشاب والزهور، سأسميها لك قبل أن أخرج ،وبعد ساعة قال له عندما سأعود سأختبرك عليك أن تجيب دون خطأ ،أمامك الوقت الكافي ،أمّا الآن سأذهب للبحث عن ذلك التّاجر اللعين سمعان ..
سأل عن سمعان فقيل له إنّه يسكن في حارة اليهود وسط بغداد ،عندما ذهب إلى داره خرجت زوجته ،وقالت له: لقد سافر منذ يومين ولا أعرف متى سيعود، قد يكون ذلك بعد شهر أو عدّة أشهر .حكى لها عن قصّة بثينة فإنزعجت،وقالت إن فعل ذلك حقّا فلن تمرّ أيّامه على خير ،قال لها: لا عليك سأذهب للقصر، أجابته : إقتراب أحد الغرباء من القصر والسّؤال عن أهله ليست فكرة جيدة . 
لكن سأرسلك إلى رئيس الحرس واسمه معصوم ،وهو مملوك تركماني، يعرفه تجار اليهود الذين يبيعون بضائعهم للقصر، وبهديّة مناسبة يمكن له أن يساعدك ،عندما يقترب منك قل له أرسلتني سارّة زوجة سمعان ،وسيأتي للقائك في المساء ،هذا كل ما يمكن فعله لك يا شيخ نصر الدين ،قال لها لقد أرحت بالي يا سّيدتي ، يكفيني أن أعرف أنها بخير، والباقي متروك لقضاء الله وقدره ...
يتبع الجزء الخامس
