رواية حسن العطار وبثينه الفصل السابع بقلم كاتب مجهول
#حسن_العطار_وبثينة_الجزء_السابع
الزّهرة الغريبة....
ذهب الشّيخ نصر الدين للقصر وطلب مقابلة معصوم رئيس الحرس ،إنتظر قليلا، ثم رآه مقبلا نحوه ،كان ضخما، قاسي الملامح .سأله بصوت أجش ما حاجتك يا رجل ؟ همس له العطار: سارّة امرأة سمعان اليهودي تقرئك السلام ،لمّا سمع معصوم ذلك أظهر له الودّ ،وقال : هل هناك شيئ لي ؟ أخرج الشيخ، قاروة عطر ،وسلّمها له ،وقال : هذا العطر صنعته بنفسي، وهو يليق بالأعيان ،وأنت فيما أعلم من أشراف هذه المدينة وخاصّتها .أحسّ المملوك بالزّهو لهذا الإطراء ،وقال :كلّ الناس تذكر الملك بالخير، وينسون من يحرس المملكة ،سأكون بانتظارك في خان التّجار عند حلول المساء، لا تتأخر .
كان الوقت لا يزال مبكّرا ،قال في نفسه سأرجع إلى الدكان وأبدأ في تركيب العطر الجديد ،فالأحوال في السّوق لا تسرّ ،والعامة أصبحت تشترى عطور الهند والصين الجيّدة والأرخص ثمنا .لهذا سأعوّل على قصر السّلطان لبيع عطوري ،والحصول على أخبار بثينة ، لقد طلب أمس من حسن أن يعدّ قوارير صغيرة من زيت الكرز البرّي ،ويضيف إليه الثّلثين من الحكول المقطّر ،وفي الأخير يضع في كل واحدة منها مستحضرا لتثبيت الروائح ،واليوم سيختبر رائحتها، ويرى أيها سيتفاعل مع الكرز البري لإعطاء أفضل العطور
عندما وصل الدّكان سلّم عليه حسن، وقال له: لقد أصبحت أعرف أسماء وأشكال معظم الزّهور والأعشاب التي تنبت عندنا في العراق وكذلك في جزيرة العرب والشام ومصر .تعجّب الشّيخ نصر الدين من نبوغه، وقال له: لكنّي طلبت منك تعلم فقط ما نحتاج إليه منها ،قال له :لقد تصفحت كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري ، وأعجبني ما جاء فيه، فكنت أقرأ فيه كل يوم حتى أكملته ،فلقد علمني أبي القراءة منذ صغر سني ...
ونظرت أيضا في كتب الكيمياء، وإن لم أفهم كثيرا المواد والأحجار وخواصّها .عندما يكون لك متّسع من الوقت أريدك أن تشرح لي ما يعني كل ذلك ،أجاب العطار : سأفعل ،فأنا أيضا أحب صنعة الكيمياء ،لكن عليّ أن أتفرغ أوّلا لصناعة عطور جديدة ،وسأله : هل أعددت القوارير كما أوصيتك ؟ أجاب حسن: نعم يا معلم .
نزل نصر الدين إلى القبو كانت هناك سبعة قوارير صغيرة على الطاولة، بدأ يشمّها الواحدة تلو الأخرى ويدوّن ملاحظاته على ورقة، لم يكن راضيا على النتيجة ،لم يجد لمسة السّحر الذي يبحث عنه ،عندما وصل إلى السّابعة، قال : لم يبق إلا الكرز مع الصّندل ،ولمّا فتحها تضوّع شذاها في القبو، وقف مندهشا وقد راقت له الرائحة الجميلة التي تذكره بأزهار الروابي كان في القارورة الصّندل، لكن مع شيئ آخر، لم يقدر على معرفته .
تساءل ما هي هذه النبتة العجيبة ؟ وكيف وصلت إلى هنا ؟ سأل حسن هل أضفت شيئا إلى الصّندل ،قال له:لا وضعت ما وجدته في الكيس ،أخذ فريد الدين الكيس وأفرغه على الأرض وجعل ينظر فيه وجد زهرة بيضاء صغيرة ملتصقة بأحد قطع الصندل ،شمها فإذا هي نفس الرائحة التي كانت في القارورة ،قال يجب أن أعرف إسم هذه الزهرة الغريبة وأين تنبت خرج وسأل كل النّاس التي تعرف النبات لكن لم يفده أحد بشيء ،وفي النهاية سأل ربان السّفينة التي إشترى منها الصّندل عن المكان الذي أبحرت منه ،فقال : من جزر الواقواق ..
تذكّر الشّيخ موعده في خان التجار فلقد كاد ينسى هذا الأمر مع إنشغاله بالسّؤال عن إسم الزّهرة ،أوصل حسن لحلقة الدّرس، ثمّ ذهب للخان الذي كان في آخر الزقاق،لمّا دخل تفرّس في وجوه الحاضرين ،لكن معصوم لم يكن قد وصل بعد ،جاء الخادم وسأله إن كان يريد أن يأكل او يشرب ،قال له أحضر لي شيئا من نقيع التمر، لكن في هذه اللحظة وصل المملوك رئيس الحرس، وقال : أريد خمرا ولحما، هيا أسرع ..
نظر العطار إليه وعرف أنّه من النوع الجشع الذي لا مروءة لديه ،وقال له أنت اليوم ضيفي ،لا تتردّد في أن تطلب ما تشتهيه نفسك، وصل الطعام السّاخن فقال معصوم : اليهود لا يدفعون درهما إلا إذا قصدوك لأمر، فقل حاجتك وأنا أقضيها لك ،ماذا تريد أن تبيع للقصر ؟
قال العطار: إنّما جئت لأسأل عن جارية إشترتها القهرمانة منذ عشرة أيام ،وكانت مع التاجر سمعان ،أجاب معصوم دون أن يتوقف على الأكل: لقد كنت موجودا ذلك اليوم أتذكر أنها اشترت خمس جواري حسان ورفضت الباقي ،خفق قلب نصر الدين، وقال : هل بينهم جارية إسمها بثينة ؟ أجاب : آه ... بثينة، إنّهم يعلّمونها الآن العود والغناء والشيخ منصور معجب بمهارتها. قال بلهفة : هل رأيتها ؟ أجاب :نعم
توقّف معصوم فجأة عن الأكل ومسح فمه ،وقال له : لماذا أنت مهتمّ بها هكذا؟ ،قال: لقد كانت مع أخيها لكنها ضاعت والولد معي في بيتي ،ونحن نبحث عنها ، وقيل لنا ان سمعان باعها لكم ،ردّ عليه معصوم : أنصحك بنسيان أمرها ،فمن يدخل للقصر لا يخرج منه إلا بإذن السّلطان ،وإن كنت تعتقد أني أخرجها لك مقابل هدية سخية فأنت واهم، قال الشيخ نصر الدين : لا تسئ بي الظن ،كلّ ما أريده هو معرفته أنها بخير ليطمئن قلبي هذا كل شي
رجع معصوم لطعامه ،وقال هذا أمر هيّن ، تعال لي، و سأقول لك أخبارها .و بإمكاني أيضا نقل رسالة لها ،إذا وضعت الثمن،أفرغ آخر جرعة خمر،وقال: لقد كان الطعام ،والشراب جّيدين ،ما كنت أقدر أن أدفعهما فالسّلطان أبخل الناس مع جنده ،لكن يصرف دون حساب إذا تعلق الأمر بالجواى الحسان...
عندما لاقى العطّار حسن ،بعد إنتهائه من الدرس ،قال له :بثينة في قصر السلطان ،وسنكتب لها رسالة ،بكى حسن، وقال : كيف يمكنني ردّ جميلك يا معلّم ؟ …
في الطريق إلى حصن الظلام.....
نهضت بثينة مبكّرا ،وكانت متحمّسة لمساعدة أمير القلعة في تحسين آلات حربه ،فلقد سمعت أنّ القوم يستعدّون لمحاصرة حصن خرمشهر على شط العرب ،وهو المكان الذي تتجمع فيه جباية الأهواز قبل نقلها إلى بيت المال في بغداد .فكلّما كثرت مصاريف السّلطان فرض عليهم ضريبة جديدة ،فغلت الأسعار في الأهواز، وترك الفلّاحون أراضيهم وجاع الناس، فثاروا وعيّنوا عليهم شيخا من أهل الرّأي والتدبير إسمه محمد الأهوازي ،و عزموا على تحطيم الحصن ، وعقاب جباة السّلطان على جرائمهم ،فمن لا يقدر على الدّفع كانوا يبيعون أهله و أرزاقه لم يكونوا يرحمون أحدا .
سألت بثينة الحارس محمود هل تعرف حصن خرمشهر ؟ أجاب لا لكن يقال أنّه منيع تحيط به الأبراج ، ولسوء سمعته يسمونه حصن الظّلام .قالت: دون منجانيقات قويّة سيطول الحصار، وسيكون للسلطان الوقت لجمع جيشه ومهاجمتنا ،تعجب الحارس محمود من ذكائها ، ضحك وقال لو سمعك الأمير نور الدين لتنازل لك عن القيادة بطيبة خاطر.
طلبت بثينة قلما وقرطاسا، ثم بدأت في رسم الصّور التي رأتها عند أباها ،ثم ذهبت إلى الأمير وفسرّت له كيف يعمل الدولاب، وقالت: سنقوي أيضا ذراع المنجنيق بثلاثة إسطوانات من الحديد ،وسيضرب بأكثر سرعة، و أكثر قوّة ، لكن إذا اراد الأمير تحطيم حصن العدوّ بسرعة ،يلزمه صناعة واحد أكثر ضخامة ،فالتحسينات على القديمة لن تكون كافية وحدها ،قال المشكلة كيف سنحركه ؟ قالت نصنع أجزاءه ثمّ نجمّعه هناك ،ردّ عليها :فكرة مدهشة لا تخطر على بال أحد .
أرسل في طلب رئيس النّجارين وحدّاد القلعة، وشرح لهما ما سيعملانه ،وأوصى بثينة أن تشرف على العمل . إنزعج الرّجلان لمّا لاحظا أنّ الأمير يجعل أمر حربه في يد جارية صغيرة، لكنّهما سكتا لمّا علما أنها إبنة إبراهيم الحدّاد أشهر صانعي الأسلحة في بغداد .
في المساء تم تجهيز أحد المنجانيقات كما جاء في رسم بثينة، وجاء الأمير لتجربته صنعوا حائطا قويا من الحجارة والطين ،وإنتظروا حتّى حفّ ،ثم أتوا بمنجنيق قديم من القلعة ،وضعوا فيه حجرا ،وأطلقوه على الحائط فلم يحدث شيئ مهمّ .قربوا الجديد الذي إنتهوا من صتاعته، ولاحظوا أنّ إعداده للضّرب كان أسرع ،وعندما أصاب الحجر الحائط أحدث فيه حفرة صغيرة و شقوقا .هلّل الأمير والجنود ،وقال نور الدين لبثينة : معك حقّ ،سنصنع واحدا ضخما ،وخلال أيام سنزحف على الحصن ونطهره من هؤلاء الجباة الذين يسرقوننا ،والويل لمن يقع في أيدينا ،قالت بثينة :سأعلمكم أيضا كيفية صناعة السيوف الدمشقية والأقواس التركمانية .
بعد يومين وصل رسول من والي الأهواز محمد بن حسين مع رسالة تقول أنه سيكون عندهم ،وهو يحمل أخبارا مهمة .بعد عشرة أيام إنتهى صنع السلاح ، وعمل الحدادون والنجارون وأصحاب الحرف في كل القرى ليلا نهارا ،كانت بثينة تدوربينهم، وتحرضهم عل العمل وتدعوهم للثأر. لما أخرجوا المنجنيق العملاق إلى ساحة القلعة إحتاج لمائة من الخيول لجرّه .صعدت فوقه بثينة وأنشدت :
...
إلى السّيوف والرّماح
هبّوا للأخذ بالثأر
إنتهى زمن القهر
تفنى الأيام
ويتذكّر بأسكم الدّهر
...
إجتمع حولها الجنود والصّناع وبدأوا يهتفون لبيك يا جارية لبيك يا إبنة الحداد ،وإنتشر شعرها في القرى والبوادي ،فجاء الفلاحون بمذاريرهم وفؤوسهم ،وهم يصيحون :الثأر من الذين باعوا أولادنا !!! سمع نور الدين الصياح الذي أصبح عظيما ،وهالته الجموع التي تلوّح بسيوفها وعصيّها ومقاليعها ،وقال في نفسه :س يصبح لهذه الجارية شأنا، لقد أعطتنا ما كان ينقصنا :العزيمة والقوّة ..
لمّا وصل الوالي محمّد الأهوازي رأى القلعة تموج بالناس، وسمع غنائهم وصيحاتهم ،سأل الأمير نور الدين عمّا يحصل ،قال له أنّ جارية أنشدت شعرا أثارت به حماس القوم، والنّاس تتجمّع من كلّ مكان طلبا للثأر ،قال :أريد أن أراها وأحيّها على شجاعتها . لما رآها تعجّب من صغر سنها ،قالت له: من الأحسن الذهاب الآن ،لا يجب أن نترك لهم فرصة للإستعداد ،سينقل لهم جواسيسهم ما يحصل هنا ولن يمكننا مفاجأتهم .
قال الأهوازي معك حقّ، لكن لا يمكن الإنتصار دون أسلحة .لقد أرسلت إمرأة إلى بغداد ،وإحتالت على أحد الحدّادين وأخذت منه سرّ صناعة السّيوف الدّمشقية وايضا المنجنيق وآلات الحرب، وأخرج صحائف ،وقال: أغلب الأسرار موجودة هنا ،وينقصنا البعض .
كانت بثينة مندهشة جدّا من هذه الحكاية الغريبة وسألته: ما هو إسم الحدّاد ؟ أجاب :لا أقدر أن أفصح عن أي شيئ . قالت :هل هو إبراهيم الدّمشقي والمرأة رقيّة الخراسانيّة ؟ وقعت الصّحائف من يد الأهوازي ،سألها :هل تعرفهما ؟ قالت: إبراهيم أبي ،وتلك اللعينة هي المرأة التي تزوّجها ،إستغرب الوالي، وقال : وأنت ماذا تفعلين هنا بعيد عن أهلك ؟ أجابت تلك قصّة طويلة ،ما هو مأكّد أنّي أتّفق معكم في أنّ سلطان بغداد شخص لئيم، لا تهمّه من الدّنيا إلا ملذاته ،وهو يحصل على المال مهما كلفه الأمر ،سألها كيف تعرفين السّلطان وأنت لا تزالين جارية صغيرة ؟ قالت : لقد باعني أحد النّخاسين ،وهناك علّموني الغناء والعود لأكون من ندمائه .
هزّ محمّد الأهوازي رأسه، و قال : ما أعجبها من حكاية ضحك الأمير نور الدين ، وردّ :لم ينته بعد العجب، تعال معي. ذهبوا إلى السّاحة وراء القلعة : وهنا وقف الوالى وقد زادت دهشته لرؤية المنجنيق العملاق الذي لم يصنع مثله أحد ، وكانت هناك أيضا صفوف من المنجنيقات الغريبة الشكل التي كساها الحديد، والمئات من الأقواس التركمانية ،والسيوف الدمشقية وأكوام من الدروع والمقاليع والسهام، صاح الوالي :هل أنا في حلم من أين أتيتم بكلّ ذلك ؟ أجاب الأمير نور الدين : بثينة هي التي ساعدتنا، ونقلت لنا كلّ ما علّمه لها أباها ،وهي أيضا صاحبة فكرة المنجنيق العملاق ،هذه الجارية فائقة الذكاء.
قال الوالي :لقد أنفقنا مالا ووقتا كثيرا للحصول على هذه الأسلحة وفي النّهاية وجدتها أمام عيني ،شيئ لا يصدّق ،قالت بثينة هل لي أن أطلب منك شيئا ؟ ردّ: كل ما تريدين ،قالت أريد أن تترك تلك المرأة رقييّة أبي في حاله ،فلك الآن كل ما تريده لحربك ،وأيضا أن أن أكتب رسالة تعطيها له .أجاب الأهوازي : لك كل ذلك ،وهذا وعد منّي .
خرج الوالي للناس وقال: لله المنة والحمد ،منكم من عمل دون أن ينام، و منكم من ترك أهله وجاء للثأر، ومنكم من لا يقدر على شيئ فكان معنا بقلبه ،ومنكم إمرأة حملت لنا زادا ،ومنكم صبي جاء ليحلم بالحياة ،وأنا أرفع سيفي وأصيح معا إلى النّصر !!! غدا صباحا نزحف على حصن الظلام ،وندمره ،وننقذ من يزال عندهم من صبياننا وجوارينا ونأخذ طعامنا وحيواناتها التي إفتكوها منا غصبا .
صاح القوم نريد أن تكون بنت الحداد على رأس الجيش ،وهتفت آلاف الحناجر :بثينة ...بثينة !! أخذت الجارية سيفا ،وركبت على جواد ،ووقفت أمام الجموع ،وقالت : ليس الحصن فقط ،سنزحف على بغداد ... !! زاد الصّياح ،حتّى أصبح يسمع من مكان بعيد ،حاول الوالي أن يتكلم لكن لم يسمعه أحد ،لقد أعجبتهم بثينة وأحبّوها ،وشغفوا بها ..
...
#حسن_العطار_وبثينة
الجزء السابع
