رواية حسن العطار وبثينه الفصل الثامن 8 بقلم كاتب مجهول

 

رواية حسن العطار وبثينه الفصل الثامن بقلم كاتب مجهول

#حسن_العطار_وبثينة ......الجزء الثامن
سرّ الجرة القديمة في القبو ...

قال الشّيخ نصر الدن لحسن سأسافر لجزر الوقواق للبحث عن الزّهرة البيضاء إ،ذا أردنا صناعة عطر جيّد يجب الحصول عليها بأي ثمن .ستستغرق الرّحلة على الأقل ثلاثة أشهر، وحتّى عودتي ستهتم بالدّكان . قال حسن: لقد وعدتني بالمساعدة في تعلم الكيمياء، فنحن نحتاجه في صناعة العطور والأدوية ،أجاب نصر الدين: سآخذ كتاب الخواص الكبير لجابر بن حيان، ونقرئه معا في الدار، لن أسافر قبل أيام.
لقد أخبرني الشيخ موسى أنّك تفوّقت في القراءة والكتابة والنحو على كل الصبيان، ولم يعد له ما يعلّمك إياه في سنّك ،وقال لي بإمكانه أن يحضر حلقات الأدب أو الفقه ،قال حسن :أنا أحب العلوم ،وهذا لا يعنيني قال: جيّد، سأوصي عليك إذا إبن إسحاق ،وهو طبيب نصراني بارع في صناعة الكيمياء ،ويحذق اللسان اليوناني ،سنذهب إليه في بيمارستان بغداد ،لهم قسم لصناعة العقاقير والأدوية ،غدا صباحا أحملك إليه .
عندما رجعا للدّار حكى له عن صنعة الكيمياء وإستعمالاتها في الحرب والطب، وعن حلم الكيميائيين بالتّوصل إلى حجر الأكسير الذي يحوّل النّحاس إلى ذهب .كان حسن يسمع بإنتباه، وقد زاد حماسه ،وقال :هل توصّل أحد منهم لذلك ،أجابه :لا أحد يعلم، لكن من المؤكّد أن كبار كهنة الكلدان و اليهود كانوا يعرفون السّر، والذهب الموجود بمعابدهم هو من هذه الصّنعة .
سأل مرّة أخرى لأيّ شيئ تصلح الكيمياء في الحرب ؟ أجاب :لكثير من الأمور: مثل صنع النّار اليونانية ، و سوائل حماية الأبراج الخشبية من النّفط المشتعل ،وهذا العلم يتقنه الروم ويحتفظون بأسراره .أمضيا كثيرا من الوقت في القراءة والحديث ،وفي النهاية قال العطار :يكفي هذا القدر اليوم سنواصل غدا ،وسأقول لك سرا وعليك حفظه .هل تعدني بذلك ،أجاب حسن :نعم ،قال العطار: لقد جاءني مرّة رجل يحمل جرّة ،وقال لي : لقد عثرت عليها عندما كنت أحرث حقلى، وعندما فتحتها وجدت فيها كتبا قديمة قد إصفرت أوراقها،فهل تشتريها مني؟ أعجبتني الزخارف على الجرة ،وإشتريتها بخمسة دراهم دون أن أعرف محتواها، وبقيت زمنا في القبو دون أن أهتم بها.
وذات يوم نزلت إمرأتي هناك لإزالة الغبار،فجأة نادتني، وجدتها قد مسحت الجرة وأخرجت ما فيها من كتب وأوراق ،وقالت : كأني بك تنوي تعلّم السحر ؟ وعندما نظرت فيها كان منها ما كتب بالسريانية و اليونانية ،كان فيها علم الطلاسم ،وعلم حجر الأكسير ،والعرب يسمّونها الصّنعة الإلاهية ،أمّا اليونانية ،فواضح من الرّسوم أنّها تتعلق بالفروسية و النّفط والمواد المشتعلة .
بالطبع كل هذه العلوم كانت رائجة عند القدامى لكن الفقهاء يعتبرونها من قبيل السحر،ولو قبضوا على أحدهم ووجدوا هذه الكتب لضربوا رقبته ، وحرقوا كتبه أمام العامّة . ما في هذه الجرّة يجب أن يظل سرا دفينا ،هذا بالضبط ما أراده صاحبها .قال حسن :أبي إبراهيم من سريان دمشق، وقد أسلم أهله ،لكنهم حافظوا على لغتهم. ولقد علّمني إياها منذ صغري أنا و بثينية، وعندما نريد أن نقول شيئا لا يفهمه الناس نتكلم بلغتنا .أمّا اليونانية سأطلب من الطبيب إبن إسحاق تعليمها لي .
قال العطار :أراك مستعجلا ،ما زلت صبيّا، وسيكون أمامك متّسع من الوقت للتعلم، فلصناعة العقاقير والأدوية سوق رائجة ،و سيزيد ربحنا. ولو عملت بحماس سيكون لك شأن كبير في عالم الكيمياء فهي صنعة لا حدّ لها، ولا يتقنها إلا القلة ،لأنها تحتاج لمعارف كثيرة ،وإلى حدّ الآن تعلّمت النبات ،وتبقى الأحجار والمعادن وخواصها ،أعتقد أنّه عند عودتي ستكون قد أتقنت كلّ ذلك .
في الصّباح قصدا البيمارستان الكبير وسط بغداد ،وطلبا رؤية إبن إسحاق ،أقبل الطبيب ،ولمّا رأى الشّيخ نصر الدين رحّب به ،وقال: أي ريح طيبة حملتك إلى هنا ،لم أراك منذ مدّة ،أجابه : إنّه الشّغل يا أبا إسحاق ،فلم تعد العطارة مربحة كما كانت من قبل ،وأكثر عملي في الأعشاب الطبية . الكثير من الناس فقراء ولا يقدرون على زيارة الأطباء .
قال أبو إسحاق: التّجارة تغيّرت هذه الأيام ،المشكل ليس في البضاعة بل كيف نبيعها .أجاب العطار : معك حقّ ،وأنا أفكّر في طرق أبواب القصور . ضحك أبو إسحاق، وقال :هذا خبر جيد ،أتمنى أن تكون ساقاك لا تزالان قادرتين على حملك مع عطورك !!! لكن لم تخبرني عن الغلام الذي معك،هل هو إبنك ؟
أجاب الشّيخ : إنه في مقام إبني ولقد أتيت به إليك لتجعله من تلاميذك، أريدك أن تعلّمه الكيمياء وصناعة العقاقير.قال الطبيب: هذا يلزمه دراية واسعة ،وتلاميذي أمضوا سنوات في التعلم ،قال العطار: لقد حضر حسن حلقة الشيخ موسى وأتقن القراءة والكتابة، وهو يعرف النبات وخصائصه وكيفية صناعة العطور وتقطير الاعشاب .
كان أبو إسحاق يسمع ويتعجب ،وقال في نفسه :كيف أمكن له تعلم هذا رغم سنه؟ تكلم حسن ،و قال : إني أفهم أيضا لغة السريان ،وأحبّ أن أتعلم اللسان اليوناني ،زادت دهشة الطبيب من فصاحة الغلام ،قال له سأسألك لكي أرى مقدار علمك بالنّبات ،لأيّ شيئ يصلح الزّنجبيل في الطب؟ أجاب هذه النبتة تنمو في الصين ويسمّونها طعام الملوك ،وهي مليّنة للمعدة تنفع في الهضم ،وتطرد الغازات، وفي الصّداع والحمّى، وترطيب الجلد وتقوية البصر،وتعقيم الجروح ...ربّت الطبيب على ظهر حسن ،وإلتفت إلى الشّيخ نصر الدين، وقال له : لقد أحسنت تأديب الغلام ،لن يجد صعوبة في فهم ما أريده منه، بإمكانه أن يبدأ اليوم .
رجع العطار إلى دكّانه وقد أحسّ بالنشاط :فالحصول على الزّهرة البيضاء سيمكّنه من إنتاج عطر رقيق، وسيساعده معصوم رئيس الحرّاس على بيعه داخل قصر السلطان ،وحسن سيتعلم الكيمياء، وسيصنع العقاقير والأدوية و سيأتي الموسرون من المرضى لشرائها .
بعد أيام جهز التجار مركبا للإبحار لجزر الوقواق ،إشترى الشيخ نصر الدين بضائع مختلفة لمقايضتها بالزهرة البيضاء ،ليلة سفره قال اوصيك يا إمرأة بفتح الدّكان والبيع والشراء وسأتي حسن من عند أبي إسحاق من وقت لآخر لصنع العطور، وتعليمك منافع الأعشاب وأثمانها وسيأتي إليك كل مساء لإغلاق الدكان والعودة معا إلى الدار ،قالت إمرأته لا تقلق سيكون كل شيئ على ما يرام ...

في قبضة كاهن جبل الضباب ...

أخذت السّفينة عرض البحر وبقي الشيخ نصر الدين ينظر إلى الأمواج ،ثم أحسّ بدوار ،كان أحد التّجار بقربه وقال له : إشغل نفسك بالقراءة أو بالتسبيح ،وتجنّب النظر إلى البحر !!! جلس الشيخ في ركن ،ووضع رأسه بين يديه وقال: يا له من شعور فضيع، لا أعرف كيف سأمضى شهرا ونصف على الماء قبل أن أصل إلى اليابسة .أخذ كتابا وحاول القراء فيه لكن لم تكن له رغبة ،أراد التاجر أن يخفف عنه ،فسأله هل تعرف لماذا سمّيت تلك الجزر بالواقواق ؟ أجاب الشيخ: نسبة إلى أحد الطيور الكبيرة فيما أعلم . ضحك التاجر ،وقال بل إلى شجرة لها ثمرة تشبه الجواري لها شعر و عيون ،تعجب العطار وسأل هل هذا حقيقة أم وهم ؟ أجاب التاجر: هكذا يقال، والله أعلم ،لكن أنا لم أراها ،وقد تكون قد وجدت من زمن بعيد .
فكّر العطار، وقال في نفسه : هذا التّاجر يبدو على علم بتلك الجزيرة ،سأسأله عن الزّهرة البيضاء ،أخرجها من جرابه ،وسأله هل تعرف إسم هذه الزّهرة ؟ دهش الرّجل ،وقال :من أين حصلت عليها ،دونها أغوال وأهوال ؟ نسي الشيخ ما أصابه من دوار ،وقال : بربّك أخبرني كل ما تعرف عنها ،أجاب التاّجر: لا يعرف هذه الزهرة سوى القلة من الناس عندنا ،لأنها تنمو في جبل الضّباب أعلى قمم الواقواق ،وهنا يوجد أكبر معابدهم ،وفيه صنم كبير من الذّهب،كل ربيع يصنع له الكهنة من هذه الزهرة مرهما يدهنونه به فيظل عطرا كامل السنة ،وهذه الزهرة مقدسة عندهم ،و يقال أن ثعابين سامة تحرسها و تقتل كل من يقترب منها .





قال العطار هل يمكن الحصول على بعض منها : ردّ التاجر: نعم ،فالكهنة يقايضون الزهرة البيضاء بالسلّع التي يحتاجون إليها ،يضع التّجار بضائعهم ويجيئ الكهنة ويختارون ما يعجبهم ،ويضعون أمامها حفنة من تلك الزهور ،وأغنياء الوقواق يشترونها ،و يضيفونها إلى طعامهم ،ويزعمون أنّها نافعة للبدن، ومن يأكلها لا يمرض أبدا . قال الشّيخ هذا يعني أنّ الحصول عليها ليس مؤكّدا ،وماذا يقع لو أردنا أخذ شيئ منها خفية ،أنا أحتاجها في عطوري ،قطب التاجر جبينه، وقال: لا أنصحك بذلك، يجب أوّلا أن تنجوا من الثعابين ،و ثانيا من الفخاخ التي ينصبونها للسّراق ،أما إذا قبضوا عليك قدموك قربانا لصنمهم ،وهم لا يرحمون أحدا .
توطّدت علاقة الشّيخ نصر الدّين بالتاجر، وعندما وصلوا، قال له :سأرسل معك إبني بلال ليدلّك على الطريق . أمّه من هذه البلاد، ولمّا آتي لتجارتي، أذهب إليها .تعال معي لنأكل ونستريح. وصلا إلى كوخ كبير من القصب و أوراق جوز الهند ،ولما رأت المرأة زوجها وإسمه عمر، فرحت كثيرا ،ورحبت بالضيف ، فتح الشيخ جرابه وأعطاها قارورة عطر، شكره عمر على الهدية، وقال :زوجتي إسمها، أم بلال ،سألها أين الغلام ؟ أجابته: إنه يصطاد السمك ،وبعد قليل سأتي ونأكل.
أحسّ العطار بالرّاحة بعد سفرته المتعبة ،وتسلّلت إلى أنفه رائحة الغابة العطرة ،وسمع صياح العصافير والقرود ،فأحس برغبة في النّعاس.في هذه الأثناء دخل بلال، كان أسمر البشرة قوي الجسم رغم سنه ،. قشّر السّمك الذي اصطاده ،ثم لفّه في أوراق موز كبيرة ،ووضعه على الجمر. وصنعت المرأة فطيرا ،وأحضرت قلة فيها شراب جوز الهند . جلسوا ،وأكلوا ،ثم غسلوا أيديهم ،وحمدوا الله .
قال عمر للعطار: غدا يرافقك بلال لجبل الضّباب ،وهو على مسيرة عشرة أيام من هنا .خذ بضائع مختلفة ،فالكهنة لا يأخذون إلا ما ينقصهم ،وإذا لم يعجبهم ما قدّمته لهم لا يعطونك شيئا . في الصّباح جهّز الشّيخ حمارين ،ركب أحدهما، وحمل على الآخر زاده وبضاعته . وبعد رحلة في الغابات، وصل إلى الجبل . إختار مكانا بجانب صخرة ثم وضع بساطا عليه أرزّ، وجوز هند ،وقلائد وأساور من أصداف البحر، وقوارير عطر وخناجر ،قال في نفسه : لا بدّ أن شيئا ما سيعجبهم ،هذا ما نصحني به النّاس . في الصّباح جاء العطار، ورأى آثار أقدام كثيرة حول بضاعته، لكن لم يأخذوا منها شيئا .




حزن الرّجل وجلس على الأرض ،وصاح :يا ربي كل هذا التعب لأجل لا شيئ !!! ،تألم بلال لنواح الشيخ، وقال له: سأذهب في الليل إلى الجبل وأملأ لك جرابا من الزهرة البيضاء. ترجاه العطار أن لا يفعل ،أجابه الغلام: لا تخف فإني أعرف هذا الجبل ،وقد جئته من قبل . لمّا جنّ الليل تسلل بلال بخفّة الفهود ،وبسرعة جمع ما وجده من زهور .لكنه عندما إستدار، وجد وراءه أربعة من الكهنة ،وقد صوبوا نحوه سيوفهم وحرابهم، ومن بعيد رآهم الشيخ يقودونه إلى المعبد . جزع على الغلام جزعا عظيما ،ولام نفسه على تركه يذهب إلى الجبل ،في الصّباح ،قال في نفسه : سأنقذه أو أموت معه .
عندما إقترب من المعبد ،خرج له الكهنة وقالوا: أنت لست من ملتنا ولا يحق لك الذهاب إلى هناك ،أجاب إني أريد رؤية كبيركم ،عندي شيئ له ، إقتادوه داخل المعبد وهناك رأى بلال مربوطا في عمود أمام صنمهم ،وقد عطّروه ،و زيّنوه ليقدّمونه قربانا . جلس العطار مع كبير الكهنة، وقال له ما ذنب هذا الغلام ؟ أجاب الكاهن لقد سرق الزهرة المقدسة التي أرسلتها لنا السماء ،قال له نصرالدين: نحن أيضا لنا شجرة مقدّسة ،منها أكل أهل الجنة ،وأكل أهل الأرض، ماء عروقها شراب ،وثمارها طعام ،وقلبها دواء . 
تعجّب كبير الكهنة من كلامه ، وقال : أرني شيئا من ثمرها .أعطاه نصر الدين جراب التمر الذي كان في رقبته ، أخذ تمرة ذهبية اللون، ولصفائها رأى النّواة داخلها ،ثم أكلها وألقى النواة ،وقال : ما أطيب هذا الطعم ،دون شك هذه الشجرة هي من السماء ،سأطلق الغلام ولك ما جمعه من الزهور، مقابل جراب التّمر ،أجاب العطار: سأرسل لك أيضا ماء النخيل وقلبها واسمه الجمار . قال كبير الكهنة : وانا سأعطيك ما تحب ّمن الزهور . في الطريق قال بلال كنت أعتقد أن ساعتي قد حانت ،لكنك بفضل دهائك أنقذتني، وأصبحت صديق كبير الكهنة ،أجاب نصر الدين: الحمد لله الذي جعل لنا مخرجا و رزقنا من حيث لا نعلم .
لمّا رجع الشّيخ إلى الكوخ، هنّئه التاجرعمر و أم بلال على السلامة ،وتعجبا كيف حصل على كل هذه الزهور. في الغد ذهب نصر الدين إلى السوق وإشترى كثيرا من الأعشاب العطرية والطبية التي لا تنمو إلا في تلك البلاد ،ودع صديقه التاجر، وطلب منه زيارته في داره لمّا يرجع إلى بغداد .ثم ركب البحر. وبعد شهر ونصف لاحت سواحل البصرة
...


تعليقات