رواية صدفة ام قدر (العشق الخماسي) الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم سميه عبد السلام



رواية صدفة ام قدر (العشق الخماسي) الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم سميه عبد السلام 






البارت 29(بلاغ رسمي)

الهدوء...هذا فقط كل ما تريده، لكن يبدو أن الحياة تقسم انها لن تجعلك تنعم به، فأنت تجاهد حزنك في الخفاء وتعاني من الأرق الدائم وقسوة الأيام حتى تفيض روحك المنهكة و لا احد يهتم لأمرك.

ابتسم اكثر لتذكره ذلك اليوم ،الذي يجلس على مكتبه يفكر كيف يفوز في المناقصة بأية شكل من الأشكال حتى اقتحمت هي المكتب والقت الاوراق امامه على سطح مكتبه قائلة :

" الاوراق اللي طلبتها اهي ،كل اللي لقيته جبته"

قهقه طارق وغمز لها قائلاً :

"كان عندي حق اثق فيكِ يا رحمة ولا نقول..."

صمت قليلاً يراقب تعبيرات وجهها ونطق إسمها مع ضحكة عالية :

"ولا نقول قدر "

قابلت نظراته وضحكه بأشمئزاز و تقزز مردفة بحنق :

"ما تقولش حاجة خالص ،و اوعى تفتكر اني عملت كده عشان سواد عيونك انا عملت كده عشان اخويا رحيم "

نظر الى الأوراق امامه يتفحصها بهدوء مع ابتسامته الخبيثة على وجهه محدثاً :

"كان لازم تعرفي ان رقبة اخوك تحت ضرسي يعني زي ما خليت المستشفى ترفده اقدر بردو اني اشطب اسمه من النقابة و ادمر مستقبله و ده كله وانا قاعد هنا على مكتبي "

كانت تلقي نظراتها الحارقة مع قولها الحاد :

"انت عايز مننا ايه ما تسيبنا في حالنا بقا مش كفاية اللي عملته ،خونت الأمانة وخدت الشركة والفلوس كلها ليك و بابا ما اتكلمش وقرر يبدأ من جديد بس انت ما سبتوش في حاله و دبرت لنا حادثة راح فيها بابا و ماما "

اجتمعت الدموع في عينيها لكن اظهرت وجهها الجاد مجدداً ترمقه بحقد وكره كبر داخلها بسبب جميع افعاله المزرية معهم ،استقام طارق وتحرك حتى وقف أمامها مردفاً بهدوء :

"الشركة اللي بتتكلمي عنها دي انا فنيت نص عمري فيها وجه ابوك اتكتب له كل حاجة وانا افضل مكاني محلك سر يعني انا ماخدتش حاجة مش بتاعتي انا خدت حقي اللي ابوك سرقه مني دون وجه حق"

اردفت تدافع عن والدها بغضب :

"ابويا ما سرقش منك حاجة ،صاحب الشركة زي ما انت بتقول يعرفك من قبل بابا ومع ذلك ما رضيش يكتب لك حاجة تعرف ليه...لانه كان عارف انك غدار وخاين وتبيع ابوك عشان خاطر القرش بس للأسف بابا ماشفش ده وعمل لك التوكيل واللي بيه عرفت تاخد منه كل حاجة"

بدأ الغضب يذداد داخله وهذا ما ظهر على وجهه :

" فرصة وجت لي على طبق من دهب كان لازم استغلها ولو رجع بيا الزمن تاني هعمل اللي عملته و بردو كنت همو,ت ابوك وبدم بارد كمان"

بصقت في وجهه بكره وخرج صوتها متحشرجاً :

" انت واحد حقـ...ـير و زبا...لة"

اغمض طارق عيونه اثر بصاقها وفتحها سريعاً يمسك ذراعها بعنف متحدثاً بهدوء زائف يلقي كلماته السامة على مسامعها :

"اسمعي يابت ،اوعى تفتكري ان لما كنت عايز اتجوزك كان عشان جمالك اللي ملوش زي لسمح الله لا ،انا كنت عايز اكسر اخوكِ بيكِ بس خلاص انا انتقمت من اخوك بما فيه الكفاية جه الدور على عيال عمك و انتِ دورك خلص لحد هنا "

حاولت الإفلات منه لكن لم تنجح ظهرت ضعيفة وهي تكره ذلك ،و لم تجد إلا ان تقول بتهديد :

"انا هقول لـ أدهم على كل حاجة و.."

بتر جملتها صوت ضحكه الذي لم يستطع طارق ان يتمالك نفسه ،ترك يدها وجلس على المقعد امام مكتبه وقال بأستهزاء:

"و ياترى هتروحي تقولي لـ ادهم إيه"

حدجته بغيظ من بروده هذا مردفة بغيظ :

" هقول له الحقيقة ، هقول له انك هددتني انك تأذي رحيم وتخلي ناس تتبلى عليه بأنه بيعمل عمليات غير مشروعة عشان تسجنه و علشان تسيبنا في حالنا قلت لي ان في ورق مهم ليك عند ادهم انت عايزه و لو جبته هتبعد عن حياتنا "

قهقه طارق مجدداً وهذا اشعل النار داخل قدر التي صرخت به :

"انت بتضحك على ايه"

توقف طارق عن الضحك مجيباً:

"عشان عبيطة و بتصدقي اي حاجة بتتقال لكِ، وكمان غبية لانك ما تعرفيش أدهم ،ادهم لو عرف ان بنت عمه هي اللي غفلته وسرقت مشروعه اللي بينام ويسهر عليه لأن المشروع ده اللي هينقله في شغله وفي حياته كلها ،هينسى اصلاً انكِ بنت عمه وهتبقي بالنسبة له واحدة خاينة وحرامية وساعتها هتشوفي وش تاني لـ ادهم غير اللي تعرفيه"

كانت تهز رأسها بعدم تصديق فهي لا تعلم هذا كله :

"انا معرفش ان الورق ده هو المشروع اللي ادهم بيتكلم عنه انت قولت لي انه ورق مهم انت عايزه "

"مش بقول لكِ غبية ،وعلى فكرة أدهم كده كده عارف ان انا اللي خدت الورق ده من خزنته يعني تهدديك ده مش هيخوفني ولا ليه لازمة من أساسه، يعني لو في حد المفروض يخاف يبقا انتِ...مش انا"

كانت في حالة من الذهول هي لم ترد ان تضر ابناء عمومتها من اجل ان تحمي اخيها بل كل ما ارادته هو ان يبتعد طارق عن حياتهم هي وثقت به و بوعده لها ان يتركهم و يوقف هذه الحرب القائمة بينهم لكن يبدو انها وثقت بالشخص الخطأ ،استغل طارق شرودها واقترب منها لدرجة كبيرة وفي علقه شيء سيء يريد فعله ،انتبهت له قدر التي اصبحت كتلة من النار فعند الغضب تتضاعف قوتنا ونصبح اقوى وقبل ان يكمل ويقوم بتقبيل لها فردت كفها و رفعته تضرب طارق في أنفه ارجعته للخلف.

لم يكن هذا بسبب غضبها منه فقط بل لأنها كانت تتردد على نادي لتدريب يعلمها كيفية الدفاع عن نفسها ،هي لم ترحب بالأمر ولم تكن تريد ومع إصرار رحيم نجح في إقناعها بالذهاب و لـ اول مرة تستخدم هذه الأساليب خارج النادي.

رجع طارق للخلف كاد يسقط ،وتحسس انفه فقد ألمه من ضربتها تلك ،اشتعل فتيل غضبه واقترب منها يمسكها من رسغ يدها كما فعل منذ قليل وظن انها لن تقدر على فعل شيء سوى محاولة التملص منه لكن فجأته بأقترابها منه هي ،لانها تعلم اذا ارادت فك يدها من قبضته لا تقاوم وتبتعد عنه بل تقترب منه ومن بعدها تلف يدها مع جسدها بحركة دائرية وباليد الاخرى تضربه بالهاتف من جانبه في أنفه.

وبالفعل نجحت في ذلك وهذا جعل انف طارق ينزف دماً ولم يقدر على فعل شيء بسبب صدمته من حركاتها التي بدت مهارة فيها للغاية،فهذا الجانب الاخر من قدر التي تخفيه خلف المزاح ،هي لا تخفي حزنها فقط بل تخفي قوتها أيضاً،شخصية غامضة تحمل في طياتها الكثير، قائلة وهي ترمقه بمقت :

"ادهم لما يعرف انا عملت كده ليه هيسامحني عارف ليه لأني بنت عمه هو ممكن يزعل ويتعصب بس في الاخر هيسامحني انما انت حسابك تقل عنده اوي وعشان تعرف اني عارفة ادهم كويس ،ادهم عمره ما يقبل بالخسارة لأن زي ما عمل المشروع ده يقدر يعمل غيره..."

صمتت قليلاً تطالعه بأستخفاف مكررة جملته التي قالها منذ قليل :

" يعني لو في حد المفروض يخاف يبقا انت...مش انا"

القت بكلماتها الغاضبة وخرجت تصفع الباب خلفها بقوة ،تفكر في حل لهذه الورطة التي اوقعت نفسها فيها،كان طارق يبتسم بهدوء حتى رأى مساعده يدلف للمكتب الذي قال سريعاً عندما رأى انفه التي تنزف :

"مالك يا طارق باشا"

"مافيش"

كلمة واحدة نطق بها حتي يُوقف مساعده عن الاسترسال في هذه النقطة ،وقف وعاد يجلس على كرسيه امام مكتبه ،تنحنح مساعده قائلاً بهدوء :

" هو ليه حضرتك بعد اللي الواد ده عمله وجاب لنا ورق مضروب و اي كلام و اديته فلوس سبته و ما كشفتوش عند أدهم وترجع فلوسك منه طالما البت دي جابت لنا اللي احنا عاوزينه"

هز رأسه بمعنى لا وتابع هذا بقوله :

"الواد ده لما جالي هنا وعرض عليَ انه يجيب ليَ ورق المشروع شفت جواه كمية شر وغل من عيلة المنشاوي كفيل ان يدمرهم ولما اروح واكشفه قدامهم معنى كده اني بقول لهم خدوا حذركم منه انما كده هو هيحاول يأذيهم وهما مش هيبقوا عارفين مين اللي بيعمل معاهم كده ومش هيعرفوا يركزوا في الشغل وده اللي انا عايزه ،وبعدين المثل بيقول لك عدو عدوي حبيبي "

قاطعه المساعد بقوله المتسائل :

"ايوة بس هو نصب علينا في المليون جنيه بتاعت الورق "

رد طارق بتوضيح :

"هو ما كنش ناوي ينصب علينا ولا حاجة هو فعلاً كان هيجيب الورق بس انا لما طلبت من بنت حسن تجيب لي الورق ماكنتش متأكد انها هتجيبه عشان كده لما هو كلمني تاني مرة في التليفون وطلب مليون جنيه قصاد الورق انا وافقت بس رحمة سبقته وخدت هي الورق وهو جاب ليَ اي ورقة عشان ياخد هو الفلوس "

"طب وحضرتك هتسيبه"

سأله مجدداً ليجيبه طارق بضحك :

" اسيبه؟! انا بس مش فاضي له اخد المناقصة وهخليه يرجع المليون اتنين "

فاق من شروده على صوت الخادمة وهي تضع امامه كوب العصير وتسأله ان احتاج لشيء اخر واكتفى هو بأشارة من يده بمعنى لا.

_________________________________

غارقة في ظلام وحدتها ،تشكو همها لجدران غرفتها الصماء ،قابعة بين أحضانها لا احد يسمع انينها المتألم ،تتخذ من فراشها خليلاً لها يؤنسها كأنه ضمادة لجروح مازالت تنزف،تتذكر عند صعودها الدرج ودلفت الى شقتهم تنظر الى القلم الذي اهداها لها سليم ببتسامة متسعة كأنها بلهاء تبتسم دون سبب حتى انتبهت لوالدتها التي تقف في منتصف الردهة تشبك ذراعيها امام صدرها تنظر لها بغضب مكتوم ،ابتلعت سلمى الغصة وابتسمت لوالدتها بتوتر :

"مالك يا ماما واقفة كده ليه "

اقتربت منها وعيناها تنثر شرارها على ابنتها وامسكتها من ذراعها تجرها خلفها بقوة وادخلت سلمى الغرفة تدفعها امامها واغلقت الباب عليهن لتقول سلمى بضيق من تصرف والدتها الغير مفهوم بالنسبة لها :

" في ايه يا ماما ، انا عملت حاجة تضايقكِ"

سألتها والدتها وهي ترمقها بشك :

"مين الواد اللي كنتِ واقفة معاه تحت ده "

توترت سلمى قليلاً وايقنت ان والدتها رأتها وهي تقف مع سليم اسفل البناية حاولت ان تجعل نبرة صوتها طبيعية حتى لا تثير الشكوك حولها :

"ده البشمهندس سليم ،مديري في الشغل "

مطت شفتيها بأستهزاء وهي تقول :

"و مديرك في الشغل جاي لحد بيتك عايز ايه "

هي لا تحب الكذب لكن لن تقدر على قول الحقيقة لوالدتها التي من الاساس ترمقها بشك معنى هذا انها لن تترك فرصة لـ سلمى تفهمها الامر بشكله الصحيح بل سوف تنجرف بالموضوع الى شيء اخر وهذا اخر شيء تريده سلمى الآن :

"يا ماما...ما انتِ عارفة انا..انا واخدة اجازة عشان امتحاناتي و كان جاي يسأل على شوية حاجات في الشغل بس"

ظنت بقولها هذا سوف تنهي شجار اوشك على البدء لكن لا تعلم ان والدتها مصرة على ذلك التي تابعت بسؤال حاد :

"و اللي عايزكِ في شغل ده ياجي لحد البيت؟! مافيش تليفون يكلمك منه ولا خلاص الدنيا ضاقت بيه اوي عشان رجله تجيبه لحد هنا إلا اذا بقا كان جاي عشان حاجة تانية"

كانت ترمي بكلماتها إلى شيء خفي طالعتها سلمى غير مصدقة وهتفت :

"ايه يا ماما اللي بتقوليه ده "

راقبت والدتها رد فعل سلمى الذي يؤكد شكوكها :

"مالك اتعصبتي كده ،بت يا سلمى انتِ في حاجة بينك وبين الواد ده "

ثم لانت نبرتها قليلاً وهي تقول :

"قولي ليَ يا حبيبتي انا امك عشان لو في حاجة نلحقها بسرعة"

جحظت عينيها بصدمة فكيف تفكر والدتها بهذه الطريقة ،تهز رأسها يميناً ويساراً مع ضحكها تقول بغير تصديق بعد جلوسها على الفراش :

"ماما بعد اذنك ممكن تخرجي و تسبيني اكمل مذكرتي عشان عندي امتحان وبصراحة كده حضرتك معطلاني "

رمقتها والدتها بغضب وعلت نبرة صوتها قائلة :

"طب ايه رأيك بقا ان مافيش رجوع لشغل ده تاني وانا بنفسي اللي هجيب لك شغل غيره و لو عرفت انك بتكلمي الواد ده تاني انا مش هخلي رجلك تعتب برى البيت ومافيش كلية كمان"

هتفت سلمى بعد تكون الدموع بعينيها مردفة بصوت متحشرج :

"انتِ بتعامليني كده ليه ،على فكرة انا بنتكِ "

مطت شفتيها بسخرية قائلة بما يذيد وجع سلمى من والدتها :

" خلفة الندامة ياختي مش بياجي من وراك غير المصايب "

ابتسمت بقهر :

"لأ اطمني يا ماما مافيش حاجة بيني وبينه"

واكملت حديثها بنبرة حزينة تحمل بين ثنايها الكثير :

" ولا هيبقا بيني وبين اي احد ،وقريب اوي هترتاحي مني "

لم تفهم مغزى الحديث و بماذا تقصد سلمى بحديثها هذا حتى دلف محمد بعد طرقه على الباب وتفاجأ بوجود الإثنين في الغرفة يقول وهو يحرك عينيه بينهما :

"ايه مالكم واقفين كده ليه"

القت والدتها نظرات تحذيرية حتى لا تخبر والدها بشيء فـ هو لا يعلم ان سلمى تعمل من الأساس مردفة ببتسامة متوترة :

" ابداً ،انا بس جيت اطمن على سلمى و اشوفها عاملة ايه في المذاكرة "

حول محمد بصره على ابنته و رأى الحزن يخيم على وجه ابنته شعر ان هناك شيء خاطيء ليعيد سؤاله ولكن لـ سلمى بالتحديد :

" يعني مافيش حاجة يا سلمى "

ابتلعت ريقها بهدوء ورسمت على وجهها ابتسامة مزيفة تؤكد حديث والدتها :

" ماما جات عشان تطمن عليَ وانا طمنتها خلاص "

و كـ المدفع دلف ديشا الى غرفة شقيقته ولم يرى محمد قائلاً :

"بت يا سلمى ،معاكِ 50 جنيه وهردهم لكِ وما تقوليش مش معايا عشان انا عارف انكِ قبضتي اول مرتب ليكِ من الشغل و..."

ابتلع باقي كلماته وهو يرى نظرات والدته المشتعلة وسلمى التي ترمقه بضيق وفسر سريعاً ضيقهن هذا بسبب وجود محمد ليقول بتراجع :

" هو انا عكيت و لا إيه "

تجاهله محمد وعاد ينظر لزوجته و سلمى يسألهم :

"مرتب ايه وشغل ايه هي سلمى بتشتغل؟"

فتحت والدتها فمها من اجل التحدث لكن اوقفها محمد وهو يقول بصرامة :

" لأ انا عايز اسمع سلمى "

كانت تفرك يديها بتوتر قائلة :

"انا اسفة يا بابا اني ما قلتلكش بس انا والله كنت عايزة اخفف عنك المصاريف خصوصاً وانا شايفة ان احتياجاتنا بتزيد وحضرتك بتعمل اللي عليك و زيادة "

هتف محمد بأنفعال:

" هو انا كنت اشتكتلكِ ،انا ابوكِ و انتِ ملزومة مني اصرف عليكِ واي حاجة تعوزيها تكون موجودة طالما في مقدوري و طول ما انا عايش مافيش حد يصرف على البيت ده غيري بس لما امو,ت ابقوا اعملوا اللي انتم عايزينه "

اسرعت سلمى بالقول :

" بعد الشر عليك يا بابا"

وضعت زوجته يدها على كتفه قائلة بود :

"بعد الشر عليك ،ده احنا من غيرك ولا نسوا "

ابعد محمد يد زوجته عنه ثم اردف بجدية :

" اخرجوا برى و سيبوني مع سلمى "

اردفت والدتها تدافع عن نفسها مبررة :

" والله يا محمد انا ما كنت عايزاها تشتغل بس هي اصرت وانا اقتنعت بوجهة نظرها و.."

لم يدعها تكمل حديثها بل كرر جملته ولكن بحدة قليلاً :

"قلت اطلعوا برى "

لبت الإجابة وخرجت من الغرفة بهدوء ومعها ديشا و ما ان خرجت حتى امسكت ديشا من ثيابه تهزه للإمام والخلف مردفة بضيق :

" وانت داخل زي القطر ، و حدفت الكلمتين ولا كأنك عملت حاجة"

نفخ ديشا وجنتيه واردف بهدوء استفز والدته :

" الـ تي شيرت بعد اذنك يا مدام "

تركته و صكت أسنانها بغيظ :

" مدام ؟!! بس هقول ايه انا معرفتش اربي"

هندم ديشا ثيابه مردفاً بثبات وثقة :

"على فكرة انا متربي انتم اللي بتخرجوني عن شعوري "

لم تقدر على الوقوف اكثر حتى لا تصاب بشلل نصفي من هذا المعتوه الصغير ،اما ديشا اقترب من الباب يضع اذنه عليه حتى يستمع إلى ما يجري بالداخل.

رأت سلمى نظرات والدها يعاتبها بقوله :

"كنت بسأل عليكِ و امكِ تقول انكِ في الكلية كنتِ بتتأخري بس قلت عادي يمكن جدول المحاضرات اتغير وانا معرفش ،و انتِ في الحقيقة بتشتغلي ومخبية ومخبية على مين ؟ عليَ انا ده حتى ديشا العيل يعرف ،ليه يا سلمى انا قصرت معاكِ في ايه يابنتي ده انا ما موت نفسي في الشغل عشان خاطركم "

اقتربت من والدها قليلاً واردفت بعيون دامعة :

"والله يا بابا ما كان قصدي اخبي عليك انا بس كنت عايزة..."

بتر جملتها وهو يكمل بدلاً عنها :

" كنتِ عايزة تساعدي ، مش كده؟"

وقبل ان تتحدث وتطلب منه حق الدفاع عن نفسها وانها لم تخطيء في شيء رن هاتف والدها وما ان انهى المكالمة استدار يخرج من الغرفة قائلاً :

" نبقا نكمل كلامنا بعدين"

وما ان فتح الباب حتى وجد ديشا يسقط على الارض بسبب القاء وزنه كله على الباب نظر له والده بضيق من تصرفه ولكن لم يتوقف بل اكمل طريقه في الخروج ،وقف ديشا يزيح عنه الغبار الذي التصق بثيابه قائلاً بخوف من ردة فعل شقيقته :

" على فكرة يا سلمى انا كنت قاصد اقول اللي قلته قدام بابا ،عشان حرام تبقي بتشتغلي وماما تاخد الفلوس ولو طلبنا منها حاجة تقول خدوا من ابوكم ،انا بس مش فاهم ليه ماما بتعاملكِ كده حاسس انها بتقصد تعاملك وحش وقدام بابا المعاملة بتتغير"

لم ترد ان تجعل شقيقها يكره والدتها بسبب تصرفاتها الغريبة معها وقالت وهي تتصنع الجهل :

"بتعاملني وحش إزاي، ماما بتتعامل عادي يا ديشا هي ملهاش حد غيرنا هي بس مشكلتها انها بتحبنا ومش بتعرف تقول ده انت اللي احساسك غلط"

رفع كتفيه واردف بالامبالاة :

"يمكن"

ثم استدار من اجل الخروج هو الاخر وختم حديثه بقوله :

" بس لو فكرتي فيها هتلاقي اني عندي حق"

عادت من شرودها وشعرت بشيء ساخن على وجنتيها ولم تكن سوى دموعها ،فمنذ هذا الموقف و والدها لا يتحدث معها ويتحاشها متعمداً ،وهي لا تريد ان يطول الخصام بينهم اكثر من ذلك.

__________________________________

خرج من منزله بعد شجاره مع والده يتسكع في الطرقات، لم يستطع العودة لمنزله مجدداً وكذلك شقته الصغيرة التي اصبحت اكثر كأبة و برودة عن زي قبل،وبالاخير وجد قدميه تسوقه لمنزل خالته وقف امام الباب يطرق بهدوء و تردد وتمنى ان يقابل أسامة لا احد اخر وبالفعل تحققت امنيته ومن فتح الباب هو ابن خالته اسامة الذي ابتهج وجه لرؤيته ورحب به بشدة ودلف الاثنين لغرفة اسامة بعد طلب انس منه المبيت هنا هذه الليلة.

جلس انس على الفراش ووقف أسامة امام خزانته يخرج ملابس للنوم من اجل أنس ،تنحنح انس بأحراج :

"اتخنقت مع بابا وسبت له البيت ،ماعرفش ليه مارحتش شقتي ،و لقيت نفسي واقف قدام الباب وبخبط و لو كنت اتأخرت دقيقة كنت مشيت ،انا بس محتاج انام النهاردة عندك وهمشي بكره على طول انا بس خايف اكون بسبب لك ازعاج"

استدار له اسامة بعد اغلاقه باب الخزانة مردفاً ببتسامة حتى يخفف من حدة توتر وحرج انس :

"ازعاج لمين ؟! انس ده بيت خالتك يعني بيتك ،على فكرة انا فرحان انك هتبات معايا في نفس الاوضة عشان بتفكرني لما كنا في الفيوم زمان وانت تيجي تبات معانا بالايام بس لما كبرت بعدت عننا زي ما يكون عملنا لك حاجة زعلتك مننا ومابقناش نشوفك زي الأول"

جملته الاخيرة وضح بها حزنه والذي استطاع انس ملاحظته مردفاً وهو يشعر بالحزن على ما وصل له :

" انتم مالكمش ذنب في حاجة ،انا اللي بعدت بسبب الناس اللي في حياتي وكنت فاكر انهم بيحبوني اتاري جوا منهم حقد وكره من نحيتي لمجرد ان ابويا معاه فلوس وبسببهم بردو عرفت طريق المخدر,ات وبقيت مدمن ولحد دلوقتي مش عارف ابطلها "

يقصد بكل كلمة نطق بها صديقه إسلام الذي اكتشف مؤخراً انه لا يبغض شيء اكثر منه وسبب قرب إسلام منه هو دافع الانتقام ،من اجل ان ينتقم منه بسبب لا دخل له فيه ،بسبب اختيار رغدة لأنس ورفضها لحب إسلام لها ،و لم يكن هذا سوى اختبار من الحياة ونتيجته ام ان تعمل على نفسك اكثر وتخرج من التجربة بدرس تتعلمه وتصبح اقوى حتى تقدر على مواجهة المزيد ام ان تبقى في دائرة الحزن والندم التي تضع نفسك فيها وتلقي باللوم على شخص اخر حتى ترتاح نفسك وهذه النتيجة الأسهل والتي اختارها إسلام.

تابع حديثه وهو يطالع أسامة :

" انا ماشفتش الحب غير وسطكم و ياريتني فضلت معاكم وما بعدتش "

اقترب منه اسامة يجلس جانبه على الفراش فقد لمست كلماته قلب اسامة الذي قال وهو يضع يده على ظهر انس :

"بس لسه في فرصة عشان كل حاجة ترجع تاني زي الاول ،عشان ترجع انس بتاع زمان"

ابتسم بقهر ووجع مع قوله :

"ياريت اللي بيروح بيرجع ،ياريت كان ينفع ،كانت رجعت إسراء من المو,ت"

اكد اسامة على حديث انس و يشجعه ان يكون افضل بقوله :

" وعشان إسراء مش هترجع تاني ،لازم على الاقل تكون انت كويس صدقني إسراء مش هتكون مبسوطة وهي شيفاك كده ،انس انت كده بتروح للمو,ت برجلك"

لم يأبه فقد غلبه اليأس وهو يقول:

" مش يمكن لما امو,ت ارتاح"

انزعج اسامة من حديثه هذا الذي لا يروقه بتاتاً :

"ومين قال لما تنتحـ,ـر هترتاح ،لان لما تسيب نفسك كده للمخدر,ات يبقا اسمه انتحـ,ـار"

وعلى حين غرة القى انس نفسه بين احضان اسامة الذي تفاجأ من تصرفه لكن لم يدم طويلاً ولف اسامة ذراعيه يحاوط انس الذي ترك لدموعه العنان ،تهبط من عينيه بغزارة ،فهناك معلومة تقول اننا عندما نشعر بالألم يجب ان نبكي فالبكاء ليس للنحيب فقط بل أيضاً يعمل كمسكن لهذا الألم لكن ليس كل الألام لها مسكن.

نطق بصوته الباكي متألماً :

" مش عارف اعمل ايه ،انا حاسس اني تايه"

اخرجه اسامة من حضنه بهدوء واردف يرشده للطريق الصحيح :

" تعمل اللي كان لازم يتعمل من الاول يا انس ،انت لازم تتعالج من الادمان وتتعالج في مصحة كمان وانا معاك ومش هسيبك"

"اتعالج؟! اتعالج ليه وعشان مين ؟ ما اللي كنت ناوي اتعالج عشانها خلاص مابقتش موجودة...ما,تت"

لم تكن الكلمة الاخيرة ثقيلة على لسانه فقط بل أيضًا ثقيلة على قلبه لكن داهمه اسامة برده الجاد :

" تتعالج عشان نفسك يا انس ، ولو كل واحد فينا ما,ت له عزيز وعمل اللي بتعمله ده يبقا مافيش حد هعيش حياته لانها مش هتبقا حياة اصلاً "

وقبل ان يعلق انس على حديثه اردف اسامة قبله :

" ما تقولش حاجة ،فكر في كلامي وانت حر خد القرار اللي يريحك "

ثم وقف يتابع حديثه :

" انا هسيبك تغير هدومك وترتاح شوية،انا برى مع ماما وخالتك خديجة لو عوزت حاجة انده عليَ هجيلك على طول"

قطب انس جابينه مردفاً بأستفسار :

" هي خالتي خديجة هنا"

اومأ له مؤكداً :

" اه ،قاعدة معانا هنا "

تابع انس بسؤال آخر :

" ليه وجمعة ابنها معاها"

ضحك اسامة وهو يقول :

" لأ دي حكاية طويلة هحكيها لك بعدين ،ده لما يعرفوا انك هنا هيتسلوا عليك شوية يمكن يسيبوني في حالي عشان كل شوية جايبين ليَ عروسة"

وقف انس امامه وهو يقول :

" لسه بتحبها يا اسامة"

ابتسم بسخرية وهو يجيبه :

" لو كان بأيدينا نختار نحب مين ونكره مين ماكنش حد تعب"

"ليه بتحبها وانت عارف انها مش ليك"

سأله انس وهو لا يعلم كم صعب سؤاله ،انتظر يسمع الاجابة من اسامة الذي قال بنبرة هادئة تخفي خلفها حزنه و ألمه مجيباً بسؤال اخر اكثر صعوبة :

" وانت ليه بتتنفس وانت عارف انك هتمو,ت"

استدار اسامة للخروج من الغرفة لكن اوقفه صوت انس الذي قال :

"مش عارف اقول لك آسف ولا شكراً"

عاد اسامة يقف امامه مجدداً يقول :

"تتأسف على ايه وشكراً ليه"

حك انس خلف رأسه وهو يقول بحزن :

" اسف عشان زعلتك بكلامي"

ثم ابتسم وهو يتابع :

" وشكراً عشان اللي بتعمله معايا"

وضع اسامة يده على ذراع انس قائلاً بود حقيقي :

"احنا مش عيال خالة وبس يا انس لأ احنا اخوات ودي ابسط حاجة ممكن الاخ يعملها لأخوه"

بداله الاخر ببتسامة راضية ،خرج اسامة وترك انس يبدل ثيابه وما ان خلع سترته وظهر جزعه العلوي وجد الباب يفتح مرة واحدة ظن انه اسامة لكن الصدمة انها لين التي ما ان رأته تحول وجهها إلى كتلة مشتعلة من الاحمرار ،كانت تنظر له بذعر فهي لا تعلم بوجوده وليس من عادتها ان تطرق الباب على شقيقها ،و سريعاً ما اغلقت الباب خلفها ،ارتدى انس ثيابه سريعاً وخرج يفتح الباب وجدها مازالت واقفة ،تعلثمت في الحديث قائلة:

" انا...انا اسفة انا بس..اسامة اصله.."

ابتسم انس كي يزيل عنها الحرج :

" حصل خير يا لين "

خفق قلبها بسرعة عند نطقه لأسمها ولم تقدر على الوقوف بل فرت هاربة ،ضحك انس بأستغراب يحدث نفسه :

"هي خالتي مخلفة هبلة ولا إيه"

بغرفة المعيشة تجلس خديجة مع شقيقتها التي تتحدث بهمس :

"في ناس جم سكنوا الشقة اللي قصادنا بنت و ابوها والبنت الله اكبر عليها فلقة قمر ،امبارح رحت وديت لهم طبقة كنافة عشان يبقا في تعامل بينا وكده،و بأذن الله يحصل اللي في بالي"

لم تكن خديجة على دراية بمخطط شقيقتها وظنت انه شيء عاديِ لتقول ببتسامة :

"كويس انكِ عملتي كده ،عشان مايحسوش انهم غرب وكده كده الجيران لبعضيها "

مطت شقيقتها والدة اسامة شفتيها مردفة بحنق :

" لأ يا خديجة ركزي معايا كده ، البت دي انا ناوية اخطبها لأسامة"

طرحت عليها السؤال المتوقع :

" و اسامة يعرف "

نفت ذلك وهي تقول :

" اسامة لو عرف مش هيوافق ،انا ناوية احطه في الامر الواقع "

لم تؤيدها خديجة وهي تقول بأعتراض :

"لأ ،اللي بتعمليه ده غلط ماينفعش ،ده جواز يعني ماينفعش فيه هزار"

تنهدت بضيق:

" يعني اعمل ايه ما هو مش راضي يريح قلبي ويتجوز وينسى اللي اسمها زفت الطين نرجس دي "

ربتت خديجة عليها فهي تعلم ان شقيقتها تتمنى السعادة لابنها وهي ترى بأنها بهذه الطريقة تقوم بأسعاده ،اردفت والدة اسامة وهي تعود بالحديث لنقطة البداية :

" بس مش عارفة ليه البنت دي في المرتين اللي شفتها فيهم كانت لابسة اسود"

اردفت خديجة بغير اهتمام :

" عادي يعني ممكن يكون كان عندها حالة وفاة"

"لأ ده كده احنا لازم نعزيهم دي الاصول بردو"

ضحكت خديجة على شقيقتها التي لن تنعم بالراحة حتى تفعل ما تريده.
__________________________________

دلفت الى المطبخ ورأت زوجة عمها منهمكة في اعمال المنزل لتعرض عليها المساعدة بقولها الباسم :

"عايزة حاجة او اساعدكِ في حاجة ياطنط ريهام "

لم تعلق ريهام على عدم قولها لأسم «ماما» كما طلبت منها في السابق لأنها تعلم انها كلمة صعب قولها لأحد غير الأم الحقيقة ،بل ابتسمت وهي تقول لها :

" لو مش هتعبك يا قدر ممكن تطلعي شقتنا فوق تجيبي لبس احمد و ادهم من سبت الغسيل اللي في اوضتهم عشان هغسل وما عرفتش اجيب غير هدومي انا ومصطفى وعمر ومش قادرة اطلع السلم تاني و عايدة طلعت تجيب لبسهم من شقتهم هي كمان"

اومأت لها بهدوء مرحبة :

"لأ عادي ولا تعب ولا حاجة انا..."

لم تكمل حديثها فهي لم تستوعب حديث ريهام إلا الآن لتقول بصدمة :

"انتِ قولتي اجيب الغسيل من اوضة مين"

لم تفهم ريهام سبب دهشتها تلك لتقول مجيبة على سؤالها ظناً منها انها لم تسمعها :

" اوضة ادهم و.."

قاطعتها قدر وهي تقول بتوتر :

" لأ بلاش انا اروح عشان انا كل ما ادخل الاوضة دي تحصل مصيبة "

تذكرت عند دخولها اول مرة و حبست نفسها داخل الخزانة بعد افسادها لوحة ادهم والمرة الثانية عندما ذهبت من اجل ان توقظ ادهم و ثار بها كأنه بركان ،لم تأخذ ريهام كلامها على محمل جد قائلة بضحك :

"لأ هي المصايب مش بتستنى تحصل في مكان معين لأنها كده كده هتحصل "

رأت ريهام السؤال في عين قدر مردفة تطمئنها :

" ما تقلقيش مافيش حد في الشقة خالص لأن الشباب صلوا الجمعة وماحدش رجع لسه"

لم تعلم كيف استمعت لحديث زوجة عمها وصعدت وها هي الآن تقف في غرفته ،ولمعت في مخيلتها فكرة وهي تقول :

" دي فرصتي عشان ادور براحتي اكيد هلاقي اي حاجة عن اللي اسمها سارة دي"

وقبل ان تبدأ عملية البحث لفت نظرها تلك اللوحة المغطاه بقطعة من القماش وهي نفسها التي رأتها من قبل ،اقتربت تزيل الغطاء الموضوع عليها بهدوء حتى لا تسبب في افساد لوحة اخرى ،تطلعت في اللوحة قليلاً تتأمل الرسمة ولم تكن سوى رسمة لورقة القيقب برتقالية حمراء اللون ،والتي تعني الخريف و الأوراق المتساقطة ،وما ميز هذه اللوحة انها باللونين الابيض و الاسود كانت مختلفة عن باقي رسومات ادهم الذي يستخدم فيها جميع ألوانه ،ابتسمت قدر بسخرية لتقول محدثة نفسها بأستهزاء :

" ايه يا قدر كنتِ فكراه هيرسمكِ ، وهو بنفسه قال انه مش بيحب يرسم بني ادمين ،ده حتى أهله مافكرش يرسم حد منهم هيرسمكِ انتِ؟!"

وضعت الغطاء على اللوحة من جديد وعادت تبحث عن شيء هي لا تعلم ما هو لكنها تعلم انها ستجده ،وبعد بحث و تفتيش في الغرفة لم تجد شيء وقفت في منتصفها تضع يديها على خصرها متأففة بأنزعاج حتى سقطت عينيها على ورقة اعلى الفراش اسرعت تلتقطها سريعاً وكانت صورة لفتاة جميلة الملامح ذات عيون خضراء وكانت تترك خصلات شعرها كأن الهواء يداعبها ،وتضحك ببتسامة متسعة وهي تنظر للكاميرا ولم تكن وحدها بل معها طفل تعد العشر اعوام من عمره يقف امامها وكان يشبه هذه السيدة الى حد كبير بسبب امتلاكه نفس لون العيون الخضراء بدت ضحكتهم صادقة ونابعة من الفؤاد.

ابتلعت قدر الغصة في حلقها و ابت الكلمات الخروج وهي تقول بعدم تصديق وتتمنى بداخلها ان لا يصدق حدسها :

"معقول هي دي... سارة؟! و الولد ده أبنها و ابن... أدهم"

نطقت الكلمة الاخيرة وهي تشعر بأن قلبها هوى أرضاً بسبب هذا التخمين الذي قد يحمل الصواب او الخطأ لكن كيف تكون خاطئة وهذا الطفل يشبه ادهم كثيراً ،خذلتها ساقيها ولم تقدر على الوقوف بل جلست على الفراش هي لا تعلم لما شعرت بالضيق لرؤيتها لهذه الصورة ،و كالعادة رفعت رأسها جهة الباب وجدته يُفتح.

__________________________________

خرج من المسجد عقب صلاة الجمعة متجهاً الى وجهة يعلمها جيداً ،بعد ان طلب السيارة من رحيم وسار بها قرابة النصف ساعة حتى وقف امام ورشة لتصليح السيارات ،هبط من السيارة وتحرك خطوتين حتى وقف امام سيارة يتم تصليحها في هذه الورشة وقام بالنداء :

" بلبلة "

سمع صوتها يأتي من اسفل السيارة مردفة بحنق وصوت عالي :

" يا جدعان قولنا بليه.. بليه"

واثناء قولها سحبت نفسها من اسفل السيارة وهي راقدة فوق لوح خشبي به اربع عجلات حتى يسهل عملها ،وما ان خرجت وقفت تهندم خصلات شعرها المتمردة على وجهها تتابع حديثها بضيق :

"قلنا 100 مرة في الشغل اسمي بليه و.."

بترت باقي جملتها وهي ترى مراد يقف أمامها فتحت فمها بغير تصديق قائلة بحماس :

" مراد ؟!!،عامل ايه وحشني ياجدع"

انتظرت منه نفس الاجابة لكن صعقت عندما سمعته يقول:

"انتِ بقا ماوحشتنيش انا لسه شايفكِ من شهر "

حركت رأسها بيأس، هي تعلم ان طريقته هكذا مع الجميع يتحدث بتلقائية البعض لا يقبلها ويفسرها على انها وقاحة لكن قررت ان تتحدث مثله وباغتته بسؤالها :

"و انت جيت ليه ؟ اوعى تكون جاي عشان الشهرية لسه الشهر ماخلصش "

سمعت قوله الساخر على حديثها الأخير :

" اه الشهرية اللي بتطلعي روح فارس او اي حد يجيبها عشان تاخديها مش كده"

حمحمت ثم اردفت بمرواغة :

"بعدين تعالى هنا مش بتيجي تسأل على اختك ليه ولا خلاص نسيتني يا عم مراد"

حك فروة رأسه بحرج ،هو لم يأتي الى هنا منذ فترة طويلة وات اليوم من اجل غرض معين فكيف يخبرها الآن انه ات اليوم أيضاً ليس من أجلها بل ات لشيء اخر :

" انت عارفة رمضان و بنبقا مشغولين ازاي وليك عليَ اجيب لكِ بيت المنشاوي كله لحد عندكِ مرضي يا ست"

ابتسمت تقول بمشاكسة :

"مرضي ياسطا"

ابتسم قليلاً وهو يقول :

"عاملة ايه والست زينب عاملة ايه"

مسحت يديها المتسخة بـ شحم السيارة في ملابس العمل التي ترتديها مجيبة وهي تحمد الله :

"الحمدلله بخير ،و الست زينب مش وراها غير انها تدعي لجدك وعيلة المنشاوي واحد واحد"

"طب انا عايز اطلع اسلم عليها وعشان عايزكِ في موضوع مش هينفع فيه الكلام هنا"

شعرت ان هناك شيء كبير خلف مجيئه لهنا اومأت له بهدوء ثم استدارت برأسها ناظرة خلفها و علَ نبرة صوتها وهي تقول :

" خلي بالك من الورشة يا سمعة "

خرج مراهق صغير تعد سنه الخمسة عشر سنة يعمل معها بناءً على طلب من والده الذي رأى انه لن يفلح في الدراسة والافضل له ان يتعلم صناعة او حرفة معينة بجانب دراسته وهكذا يكون اد دوره على اكمل وجه ويترك لأبنه حرية الاختيار فيما يريد ،اومأ لها سمعة وهو اختصار لأسمه الحقيقي إسماعيل :

"ماشي ياسطا بليه "

استدارت مجدداً لـ مراد تحثه على الصعود للأعلى وذلك لان منزلها فوق الورشة الخاصة بها ،دلف الاثنين للمنزل مع ترحيب بليه له ثم تركته يقف في الردهة طالبة منه بأدب ان ينتظرها هنا حتى ترى والدتها وبعدها دلفت هي إلى غرفة والدتها المسطحة على فراشها لا تتحرك من عليه إلا نادراً وذلك لانها طريحة الفراش ،اقتربت منها بليه تقبل يدها بحنان قائلة :

" عاملة ايه ياما ،خدتي العلاج"

ابتسمت بأهتزاز وهي تجيبها بتوتر :

" هاخده اهو"

نظرت في ساعة يدها مردفة بأنزعاج :

" معقولة كده ،ميعاد الدوا كان من ساعة وبعدين انا طلعت لكِ الزفت اللي إسمه سمعة عشان يشوفكِ خدتي العلاج ولا لأ"

لم ترد والدتها ان تخبرها انه انتهى منذ يومين حتى لا تحملها عبء شرائه وذلك بسبب سعره المرتفع ،مدت بليه يدها تأخذ علبة الدواء الموضوعة اعلى الكومود وجدتها فارغة نظرت الى والدتها قائلة بعتاب نبع من خوفها على والدتها :

" مش عايزة تقولي ان الدوا خلص "

تنفست والدتها الهواء قبل ان تقول لها بصوت متعب لعدم اخذها الدواء فقد ظهر عليها علامات الإعياء:

" يا حبيبتي انا مش عايزة اتعبك واشيلك فوق طاقتك انا عارفة ان العلاج غالي اوي وبعدين خدته زي ما خدوتش الدوا مش هيطول عمري وبفلوس العلاج تشتري انتِ حاجة لجهازك احسن "

لم ترضى بليه بحديث والدتها مردفة بأستنكار :

" امال انا بشتغل ليه ،مش بشتغل عشانك وعشان اجيب لك العلاج ،العلاج اللي انا عايشة على امل انه يرجعك احسن من الأول بأذن الله،انا مليش حد غيرك اتعب عشانه و اي حاجة تانية مش مهم "

هتفت والدتها بأنزعاج جلي :

" بس انا بقا مش مرتاحة وانا شيفاكِ كده"

تصنعت بليه الجهل بقولها :

"مالي ما انا زي الفل اهو "

اردفت زينب بضيق وتهكم من ابنتها :

"زي الفل ازاي وانتِ كل يوم تنزلي الورشة وتشتغلي زي الرجالة ونسيتي نفسك لحد ما بقيتي شبهم ومسمية نفسك الاسطا بليه ومباقش في عرسان بتجيلك واللي بياجي بطفشيه ، يانبيلة يابنتي انا ايامي خلاص ونفسي اطمن عليكِ قبل ما امو,ت"

نطقت جملتها الاخيرة بحنو و حزن على حال ابنتها لتقول بليه بسرعة وخوف من فكرة فقدانها لوالدتها :

" بعد الشر عليكِ ماتقوليش كده"

وقبل أن تتابع زينب حديثها اردفت بليه بمرواغة :

" شفتي فضلنا نتكلم ونسيت اقول لك ان مراد المنشاوي واقف برى "

اعتدلت والدتها في مجلسها تحثها على منادته قائلة بلهفة :

" دخليه يا بلبلة ،وسيبته كل ده برى لوحده"

وما ان انهت جملتها سمعت الطرق على باب غرفتها والذي دلف منه مراد بعد سماعه صوت زينب تقول :

"ادخل يا مراد يابني "

فتح الباب تزامناً مع قوله المازح :

"طب ما انتِ زي الفل اهو ،امال بيقولوا عيانة وبتموت ازاي ،خسارة البنزين والله"

رمقته بليه بمقت وزمجرت :

"مراد احترم نفسك عشان ما اكرهكش "

لم تتغير ملامحه الباردة وهو يقول :

"ولا تحبيني ولا تكرهيني ركزي في حياتكِ الله يستركِ ،مش ناقصة هي"

فتحت عينيها بذهول ناظرة الى والدتها التي تضحك :

"شوفتي؟!"

اقترب مراد من الفراش وازاح بليه بعيداً مع قوله :

"اتلحلحي شوية كده لو سمحتي "

كادت تسقط من على الفراش لكنها وقفت وذهبت تقف امام الكومود بجانب والدتها وتنظر الى مراد بأمتعاض اما هو كان يقابل نظراتها بأخرى باردة تستفزها وقطع حرب النظرات هذه صوت زينب الضاحك وهي تقول :

"عمرك ما هتتغير يامراد ،دايماً لسانك بينقط عسل"

كانت تسخر منه وهو يعلم ذلك جيداً لكن رد على حديثها بمرح :

"عاملة ايه يا زوزو وحشاني والله "

عقبت بليه ساخرة وهي تشبك ذراعيها امام صدرها :

"اه بأمارة انك لسه شايفنا من شهر "

رمقها بمقت وعاد ينظر الى زينب :

"حقنة بنتكِ دي حقنة "

وقبل ان ينشب بينهم عراك اردفت زينب :

"عامل ايه يا مراد والحج زكريا اخباره ايه "

اردف بنبرة حانية عكس التي كان يتحدث بها منذ قليل مع بليه :

"الحمدلله كلنا كويسين وجدي بيسلم عليكِ وزعلان منكم عشان مش بتاخدوا الشهرية غير بطلوع الروح "

اردفت بقلة حيلة :

"والله يابني مستورة وربك بيعدلها "

ظهر التعب في صوتها ولاحظه مراد قائلا بقلق فجميع الشباب يعاملوها كأنها والدتهم وبليه شقيقة لهم :

"مالك انتِ تعبانة ،اوديك لدكتور "

سعلت قليلاً وهي تجيبه :

"لأ ياحبيبي اطمن ،الموضوع مش مستاهل "

بالطبع لم يصدقها لكن اومأ لها بهدوء ونظر إلى بليه بنظرة ذات مغزى فهمتها هي وقال وهو يستقيم واقفاً :

"اسيبكِ انا ،عشان ترتاحي شوية "

خرج مراد وبعده بليه التي اردفت قبل خروجها :

"هبعت حد يجيب لكِ العلاج ،العلاج اللي انتِ شيفاه حمل عليَ ولا كأني كنت انا اللي حمل عليكِ طول السنين اللي فاتت"

القت بنظراتها المعاتبة ولحقت بمراد وطلبت منه ان ينتظرها في غرفة المعيشة ودخلت هي غرفتها حتى تبدل ثياب العمل الى اخرى نظيفة ،دلفت إلى الغرفة بعد انتهائها وجدته شارد لم ينتبه لدخولها بعد ،حمحمت بصوت عالي منادية على إسمه :

"مراد ،مراد انت رحت فين"

أخيراً انتبه لها مراد واعتدل في جلسته وتحدث بجدية يترقب رد فعلها :

"بلبلة انا محتاج مساعدتكِ "

اردفت بسرعة وهي تضع يدها على عنقها :

"انا رقبتي ليك يا مراد ،ده انت اخويا ياجدع"

كم هو صعب عليه ان يطلب منها شيء كهذا هو بالاساس لم يتوقع حدوث شيء كهذا معه بل أيضا مع اقرب الناس إليه ،اخرج هاتف هبة من جيبه ووضعه على الطاولة التي تتوسطهم قائلاً :

"انا عارف انكِ كنتِ اشهر hacker عشان كده جيت لكِ وعايز اعرف الفون ده حصله hack ولا لأ ولو حصل عايز اعرف مين اللي عمله"

زفرت الهواء بقوة وهي تنظر إلى الهاتف وبعدها حولت بصرها إلى مراد ترفض طلبه مبررة بهدوء :

"انت عارف يامراد ان انا وعدت بابا قبل ما يمو,ت اني هبعد عن البرمجة واي حاجة تخصها واللي بسببها اذيت ناس كتير من غير قصد وانت عارف اني خريجة حسابات ومعلومات والمجال ده فرص الشغل فيه كتيرة وانا اتخليت عن كل ده عشان خاطر بابا "

حاول مراد اقناعها بقوله :

" ايوة بس انتِ مش هتأذي حد ،انتِ هتحمي حد من انه يتأذي والحد ده غالي على قلبي "

بدت في حيرة من امرها اتقطع وعد ابيها من اجل مراد الذي تعتبره اكثر من شقيق ام ترفض وتثبت على قرارها :

"مراد الموضوع ده زي الادمان انا لما اتعلمته كان عندي فضول اتعلم اكتر لدرجة اني ممكن افتح حساب وهمي في البنك واسحب منه فلوس زي ما انا عايزة والموضوع ده صعب انك تسيطر على نفسك فيه ،انا ما صدقت بعدت عنه ،و بطلبك ده عايز ترجعني ليه من تاني واخلف بوعدي لبابا"

قرر ان يستخدم اخر شيء حتى يقنعها بالموافقة فهو لا يستطيع الوثوق بأحد في مثل هذا الموضوع :

"بلبلة ،ده تليفون هبة وحد خد صورها ولعب فيها وانا ماقدرش اروح لغيركِ و اثق فيه ان بعد ما يشوف الصور ما يعملش حاجة ده غير اني مش هقدر اخلي اي شب يشوف الصور دي ،والبنت دي تهمني يا بلبلة لأنها... مراتي"

كانت تفكر في الامر هل توافق ام لا لكن ما شل تفكيرها هو نطق مراد للكلمة الاخيرة ،جحظت عينيها بشدة ترمقه بذهول :

" انت اتجوزت يا مراد وما عزمتنيش ،تصدق انك عيل قليل الأصل "

ابتسم بتوتر من ردة فعلها قائلاً بتوضيح :

"لأ ده كتب كتاب بس "

عقبت على حديثه بسخرية و استهزاء :

" كتب كتاب بس ،ليه كنت ناوي تعزمني على سبوع ابنك "

لم يكن في حالة تسمح له بالتبرير الآن فكلما يتذكر هذه الصور البشعة يغلي دمه و يود ان يقتلع رأس من فعلها ويدهسها بقدمه كأنها لفافة تبغ ،صحيح هو كتلة من البرود ولا ينفعل بسهولة لكن أيضاً هو كأي رجل شرقي او بالأحرى كأي رجل صعيدي دمه حامي ونقطة العِرض عندهم لا هوان بها بل قد يصل الأمر إلى بحرٍ من الدم.

لاحظت بلبلة تغير مراد الملحوظ فهو على وشك الانفجار الآن لم ترد ان تعكر صفوه اكثر من ذلك مُمدة يدها و انتشلت الهاتف الموضوع على الطاولة قائلة بهدوء :

"هحاول يا مراد اعمل لك اللي انت عايزه ،بس يارب افتكر انا سايبة الموضوع ده من سنتين تقريباً"

هتف مراد بفرحة لم يقدر على اخفائها :

"بجد يا بلبلة هتعملي كده"

رفعت سبابتها قائلة بتحذير :

"انا قلت هحاول يعني مش أكيد "

لم يهتم كثيراً بأن هناك احتمالية لرفضها وتابع هو حديثه بمشاكسة :

"اقسم بالله انتِ رجولة كان عندي حق لما جيت لكِ"

ابتسمت بخفة لكن سرعان ما وأدتها وهي ترمقه بسخط :

"مع ان خسارة فيك مش بتفتكرني غير في المصايب "

ابتسم ثغره ثم حمحم قائلاً :

"بلبلة هي زينب كويسة انا حاسس انها تعبانة ومش راضية تقول "

اجابت ملامحها قبل لسانها التي تحولت للحزن في جزء من الثانية :

"ماما مش بتاخد العلاج ولو خدت وخلص مش بتقول وانا تعبت معاها وخايفة تسيبني انا مليش غيرها يامراد "

شعر بالحزن هو الاخر ليهتف بأقتراح :

"سيبي الموضوع ده عليَ انا هعرف اقنعها تاخد العلاج ،بس الاول هجيب لها رحيم يكشف عليها عشان نطمن "

اومأت له بهدوء دون ان تسأله من هو رحيم هي لا تعلم انه ابن عمه لكن فهمت من صياغ حديثه انه طبيب ربما يكون صديقه أيضاً.

__________________________________ 
مشاهد عديدة تتوالى حتى نصل إلى هذه النقطة والتي اجتمع بها جميع من بالمنزل من الرجال وليس هم وحدهم بل أيضاً عناصر الشرطة التي انتشرت في الإرجاء و التي لم تطأ قدمها الى هنا سوى مرة واحدة وهي عند مقت,ل والد فارس ولم يكن هو المقصود بل زكريا المنشاوي ولم يتم التعرف على الفاعل وقتها وسجلت ضد مجهول.

وقف زكريا امام ضابط الشرطة وخلفه أحفاده الذين اسرعوا بالحضور عند سماعهم اصوات عربة الشرطة المزعجة وطرح سؤاله بهدوء :

"خير يا حضرة الظابط"

اردف الضابط بطريقة رسمية يجيب السؤال بأخر :

"فين أدهم مصطفى المنشاوي و مراد إبراهيم المنشاوي "

نظر الجميع لبعضهم بتعجب واشار ادهم على نفسه يخبره بهويته وكذلك فعل مراد ،صوب الضابط نظريه على كلاهما وهو يقول :

"انتم الاتنين متقدم فيكم بلاغ رسمي ومطلوب القبض عليكم "

كان الصمت هنا هو سيد الموقف ،الجميع في حالة من الصدمة و الذهول ،ليقترب مراد من الضابط يسأله حتى يفهم ملابسات الموضوع :

"مين اللي مقدم البلاغ ده حضرتك"

لم تختفي حدته الواضحة في نبرة صوته وهو يجيبه بصرامة :

"المدعو سعد المرشدي بيتهمكم انكم حرقتوا المطعم بتاعه "

                 ...لسه الحكاية مخلصتش...

#صدفة_ام_قدر

#العشق_الخماسي

#سميه_عبدالسلام

_________________


الفصل الثلاثون من هنا


تعليقات



×