رواية أرض زيكولا الفصل الحادي عشر 11 بقلم سندي





رواية أرض زيكولا الفصل الحادي عشر 11 بقلم سندي



لم يتمالك خالد نفسه من الفرحة , و كأنه لا يصدق أذنيه .. 

و شعر بأن ما قالته أسيل يجعله يرقص فرحاً .. 

ثم نظر إلى أسيل :

- ست شهور ؟!

ردت أسيل :- نعم .. إن أنجبت ذكراً ..

قال فى فرحة , و هو ينظر إليها :

- أنا متأكد إنه هيكون ذكر .. عارفة ليه ؟

أسيل :- لماذا ؟!

(( لأنك وش السعد عليا .. 

أحلى حاجة حصلت لى فى زيكولا .. )) 

: قال تلك الكلمات , و قد غطت السعادة وجهه .. 

ثم تحدث إلى نفسه :

- ست شهور .. يارب يكون ولد .. ثم نظر إلى أسيل :

- متتخيليش أنا فرحان أد إيه .. 

أنا نفسى زوجة الحاكم تولد النهاردة قبل بكرة .. 

فعادت أسيل إلى ابتسامتها الرقيقة بعدما شعرت بسعادة خالد بهذا الخبر .. و قالت :

- أنا أيضا سعيدة لأنك تشعر بالسعادة .. 

كنت أعلم أنك ستكون سعيداً هكذا ..

ابتسم خالد ثم نظر عبر نافذة العربة إلى السماء المظلمة .. و التى كان بها نجم مميز فى تلك الليلة .. 

يضئ منفرداً بها و مبتعداً عن مجموعة نجوم أخرى .. 

ثم طلب من أسيل أن تنظر إلى ذلك النجم الذى أشار إليه :

- شايفة النجم اللى هناك ده ..

ردت أسيل :- نعم .. إنه وحيد و مميز ..

فضحك :- أنا هسميه أسيل .. ثم صمت و تحدث بعد لحظات :

- لو رجعت لبلدى يوم .. أكيد هلاقى النجم ده فى السما ..

ضحكت أسيل :

- أرى أن الفرحة جعلتك شاعراً ..

فضحك خالد مكملاً حديثه مداعباً لها:

- أكيد النجم مش فى جمال أسيل .. 

بس هو جميل و مميز زى ما أسيل جميلة و مميزة ..

فاحمرّ وجهها خجلاً .. 

و صمتت, و ظلت تنظر إلى خالد الذى صمت هو الآخر , 

و كأنه هام بفكره .. و سرح بين أحلامه ..


كانت العربة تسير مسرعة , 

و خالد و أسيل بداخلها يتحدثان أحياناً .. 

و يصمتان أحايين أخرى .. 

و ظلا هكذا حتى وصلت العربة إلى البحيرة .. 

و توقفت هناك , و نزل خالد ثم تحدثت إليه أسيل :

- الأسبوع القادم سنذهب إلى المنطقة الجنوبية ..

فابتسم, و أومأ برأسه موافقاً .. ثم أكملت :

- أمامك سبعة أيام .. عليك أن تعود إلى عملك هنا .. 

لا تضيع وقتاً دون عمل ..

فسألها مندهشاً :

- و عملى كمساعد ليكى ؟!

فابتسمت :

- إن احتجت مساعدتك لى هذا الأسبوع فلن أتردد فى هذا .. و لكن هنا يساعدنى الكثيرون .. ثم تابعت :

- أترك لك المساعدة فى المناطق الأخرى .. 

و لذا أمامك أيام لا تضيعها بالجلوس على شاطئ البحيرة .. اذهب إلى عملك مع صديقك يامن , و أجلب الكثير من الأجر ..

فابتسم خالد .. و هز رأسه موافقاً ..


تحركت العربة مجدداً .. 

و خالد ينظر إليها حتى اختفت عن أنظاره .. 

ثم اتجه إلى شاطئ البحيرة .. 

أما العربة فواصلت تحركها فى أحد الشوارع 

المُنارة بالنيران حتى توقفت أمام بيتٍ كبير .. 

تبدو من واجهته الفخامة و الثراء , و له باب ضخم .. 

و نزلت أسيل , و دلفت إلى داخل البيت المضاء بالشموع , 

و الذى امتاز بسقفه العالى , و جدرانه المنقوشة من الداخل , و الأثاث الخشبى و النحاسى المُطعّم بماء الذهب .. 

ثم صعدت السلم الداخلى , و اتجهت إلى حجرتها.. 

و ألقت بنفسها على السرير المتواجد بها .. 

ثم نهضت مجدداً , و جلست أمام مرآة كبيرة .. 

و ابتسمت برقة و هى تنظر إلى صورتها المنعكسة , 

و إلى شعرها الأسود الناعم الطويل الذى بدأت تتحسسه بيدها من الأمام إلى الخلف .. 

بعدها هامت للحظات , و بدأت تتحدث إلى نفسها :

- ما سر هذا الشعور بداخلك ؟ .. و أى شعور هذا ؟!

:- هل هو سعادة أم حزن ؟

ثم نظرت إلى صورتها مجدداً بالمرآة .. و تحدثت إليها :

- لماذا حزنتى حين علمتى بقرب خروج خالد من زيكولا ..

:- لا .. أنا لم أحزن ..

:- لا , حزنتى .. نعم حزنتى ,ثم سألت صورتها :

- هل تحبينه ؟!

صمتت قليلاً ثم أجابت نفسها :

- لا أعلم .. إننى لم أعرفه سوى أيام قليلة ..

:- و لكنك أحببته ..

:- ربما أحببت حديثه و جرأته ..

:- أو ربما أعجبنى اختلافه عن باقى رجال زيكولا البُلهاء .. البخلاء , الذين لا يفكّرون إلا فى جمع ثروة تفديهم من الذبح .. حتى أنهم يخافون أن يفكّروا و يستخدموا ذكاءهم , 

فيقلل ذلك من ثروتهم .. نعم يعجبنى أنه يختلف عن غيره ..

ثم قامت , و تحركت إلى نافذة الحجرة .. 

و أزاحت ستارها , و نظرت إلى السماء , 

و ابتسمت حين رأت النجم الذى سمّاه خالد .. أسيل .. 

و ظلت تنظر إليه كثيراً ثم قالت :

- و لكنه سيرحل ..


فى اليوم التالى اتجه خالد إلى عمله القديم .. 

و هناك وجد يامن فصافحه , و بدءا يعملان معاً بتقطيع الحجارة .. و اندهش يامن من تلك السعادة التى بدت على وجهه , 

و ما تبعها من حماسةٍ فى عمله فسأله :

- خالد أراك سعيدا اليوم .. هل هناك خطب ما ؟.. 

هل وجدت كتابك ؟ ..

ضحك خالد :

- لا .. و لكن فيه خبر فرحنى .. ثم أكمل :

- احتمال أخرج من زيكولا بعد ست شهور بس ..

يامن فى دهشة :- ستة أشهر فقط ؟! .. كيف ؟!!

ابتسم خالد :

- يوم زيكولا احتمال يكون بعد ستة أشهر بس ..

يامن و هو لايصدقه :- ماذا تقول ؟ .. 

يتبقى أحد عشر شهراً على ذلك اليوم ..

خالد :- لا يا صديقى .. أنا هقولك سر عرفته ..

ثم أخبره بأن زوجة الحاكم ستضع مولوداً بعد ستة أشهر .. 

و أن أسيل أخبرته بذلك فابتسم يامن :

- أنا سعيد لك يا خالد .. و لكننى كنت اتمنى أن تبقى هنا ..

ضحك خالد :

- أنا بحبك جداً يا يامن .. بس نفسى أرجع لبلدى .. 

ثم نظر إليه حائراً :

- بس لو خرجت من زيكولا هعمل أيه ؟ ..

عشان كدة لازم ألاقى كتاب سرداب فوريك 

قبل الست شهور الباقيين ..

فابتسم يامن :

- اتمنى أن تجده .. و أن تحقق ما تريد .. ثم تابع :

- إن أطفال زيكولا سيكونون محظوظين هذا العام 

إن أُقيم يوم زيكولا ..

فنظر إليه خالد , و كأنه يسأله عن السبب .. فأكمل يامن :

- إنهم سيشاهدون لعبة الزيكولا بعدما لم يشاهدوها المرة السابقة حين هرب الفقيران ..

خالد فى دهشة :

- لعبة الزيكولا ؟!

رد يامن :- نعم .. ثم تذكر أنه لم يحدّث خالد عنها من قبل .. فأكمل حديثه :

- لم أخبرك بها سابقاً .. 

إنها اللعبة التى يُقال إن أرض زيكولا قد سُميت بهذا الاسم نسبة لها .. هى فى الحقيقة ليست لعبة .. 

إنها منافسة .. و ينتظرها الجميع هنا .. 

فهى ما تحدد الأفقر بالمدينة ..

سأله خالد :- ازاى ؟!

أجابه :

- قبل يوم زيكولا بعدة أيام يقوم الجنود بجمع الأكثر مرضاً 

و شحوباً بالمدينة .. يجمعون الكثيرين من الناس .. 

و هناك يحدد الأطباء من هم الفقراء و من هم المرضى حقاً .. حتى يتبقى منهم عدد قليل .. 

و هنا يأتى دور أسيل الطبيبة .. 

و هى من تحدد الثلاثة الأكثر فقراً .. 

ثم يأتى دور لعبة الزيكولا فى اليوم السابق للذبح .. 

أى يوم فتح باب زيكولا ..

و صمت قليلاً , و ضرب صخرة بفأسه .. ثم أكمل حديثه :

- لعبة الزيكولا تكون أمام الجميع .. 

و هى ببساطة قرص خشبى يدور بسرعة معينة , 

و به ثلاثة أسهم تنطلق من ذلك القرص .. 

و يقوم نحّاتو زيكولا بنحت تمثال لكل فقير من الفقراء الثلاثة .. و يوضع هذا التمثال على بعد أمتار أمام قرص السهام .. 

و على كل فقير أن يختار ثلاثة أماكن بتمثاله 

كى يحميهم من السهام ..

:- من يصيبه أكبر عدد من السهام يكون هو الفقير المختار .. و هكذا لا يُظلم أحد فى زيكولا ..

فسأله خالد :

- و مين اللى اخترع اللعبة دى ؟

رد يامن :- لا أعلم فقد وجدناها منذ وُلدنا .. 

إنها تجعل كل فقير مسئولاً عن حياته و عن قدره .. 

ربما يكون هناك فقير قد أُختير أيام كثيرة من أيام زيكولا .. 

و لكنه ينجح فى اجتياز لعبة الزيكولا .. و هذا قدره ..

فقاطعه خالد :

- هى سهلة اللعبة دى ؟

يامن :- فى الحقيقة أراها أسهل ما يمكن .. 

و الكثير منا يتنبّأ بالأماكن التى تصيبها السهام .. 

و لكن حين يصيبك الغباء فإنك لا تستطيع تحديد تلك الاماكن .. و تحمى مناطق أخرى من تمثالك .. ثم تابع :

- عليك أن تحافظ على ذكائك حتى تجد كتابك , 

و ترحل عن هنا .. و لذا هيا .. واصل عملك .. 

ثم ابتسم و أكمل :

- ما رأيك فى منافسة كبيرة فى تكسير الصخور أيها السعيد ..


مرت الأيام يوماً بعد يوم .. 

و خالد يذهب إلى عمله لتقطيع الأحجار .. 

و يعود إلى البحيرة ليلاً , و يجلس أمامها 

لبعض الوقت ثم يغلبه النعاس متأثراً بإرهاقه .. 

أما أسيل فكانت تواصل عملها فى مداواة المرضى .. 

ثم تعود إلى غرفتها , و تظلّ تنظر إلى السماء عبر شرفتها .. تبحث عن ذلك النجم .. أسيل .. 

و عمدت ألا تذهب إلى البحيرة فى تلك الأيام 

حتى تتأكد من حقيقة مشاعرها تجاه خالد .. 

و رغم الصراع الذى كان يشتعل بداخلها 

ما بين الرغبة فى الذهاب إلى هناك أو المكوث بحجرتها .. إلا أنها فضّلت البقاء بحجرتها .. 

حتى مرّ الأسبوع , و جاء يوم ذهابها إلى المنطقة الجنوبية .. فاتجهت بعربتها إلى البحيرة حيث كان خالد فى انتظارها .. فسألته فى ابتسامة :

- مساعدى .. هل أنت مستعد للعمل ..

فابتسم خالد :

- أجل ..


ركب خالد العربة مع أسيل .. و بدأت العربة فى التحرك فسألته بعدما وجدت بعض الأورق تظهر بين أغراضه :

- ما هذا ؟!

فابتسم خالد :

- فكرت إنى أسجّل بعض الأحداث هنا فى زيكولا ..

فابتسمت و سألته :

- و ماذا كتبت ؟

فضحك :

- فى الحقيقة مكتبتش إلا حاجات قليلة ..

فجذبت أسيل الأوراق .. و قالت :

- سأرى ماذا كتبت حتى الآن ..

حتى وجدت تلك الكلمات التى كتبها عنها خالد .. 

و أنها حورية زيكولا فأحمرّ وجهها .. 

و نظرت إليه بطرف عينها دون أن تنطق .. 

فشعر خالد بالحرج بعدما قرأت كلماته و ضحك مداعباً لها :

- لا .. دى أسيل نجمة السما .. فضحكت ثم قالت :

- أننى لم أقل شيئاً .. ثم صمتت .. 

و بدأت تقرؤها من جديد .. 

و ظلّت تقرأها , و تكررها أكثر من مرة فى سرها .. 

حتى قاطعها خالد :

- أنا عرفت عن لعبة الزيكولا ..

فسألته :- ألم تكن تعرف عنها حتى الآن ؟

رد خالد :- لا .. 

اللى كنت أعرفه أنك مسئولة عن اختيار أفقر ثلاثة بالمدينة ..

أسيل :- نعم .. فأنا طبيبة الحاكم ..

فسألها خالد :- أنتى بتعرفى الأفقر ازاى ؟

ضحكت أسيل :

- إجابتى كلمة واحدة .. الخبرة .. ثم أكملت :

- حين ينتهى أطباء زيكولا من عملهم .. 

يتبقى عدد قليل اختار من بينهم الأفقر .. 

قد يكون هناك المريض حقاً , و بالطبع إن شككت بذلك ؛ 

أعدته إلى دياره , و لى الحق فى ذلك دون أن يراجعنى أحد .. أما الفقراء فشحوبهم مميز .. 

و استطيع بخبرتى أن أميّز الأفقر منهم ..

فسألها خالد :

- و هنا الفقير بيكون يمتلك كام وحدة ذكاء تقريباً ؟

أسيل :- إنها مسألة نسبية .. قد يمتلك شخص عشر وحدات , و يكون هناك من يمتلك أقل منه .. 

و قد يمتلك ألف وحدة و لكنه يكون الأقل فيكون الأفقر ..

فضحك خالد .. و سألها مجدداً :

- أنتى تقدرى تعرفى أنا امتلك كام وحدة ؟

فابتسمت أسيل ثم وضعت يدها على جبينه .. ثم ردت :

- تمتلك ما بين ثمانمائة و تسعمائة وحدة ..

فنطق خالد خائفاً :

- بس ؟!!!

ابتسمت أسيل كى تطمئنه :- إنه ليس بالقليل ..

خالد :- و لكن الكل هنا بيقول عليا غنى ..

أسيل :- نعم .. و لكن هنا من يخبرك بأنك غنى 

يعنى فقط أنك لست فقير ..

:- عادةً الفقراء هنا يمتلكون مائة وحدة أو أقل .. 

و عليك أن تتخيل كيف يصلون إلى تسعمائة وحدة 

إن كانوا يوفرون باليوم بعد احتياجاتهم الضرورية 

وحدة أو وحدتين .. 

قد يحتاجون عاماً أو اثنين أو ثلاثة كى يصلون إلى ذكائك , فى الوقت الذى تكون أنت به قد ضاعفت ذكاءك , 

و أصبحت تمتلك ضعف تلك الوحدات إن عملت بجد 

فى تلك الفترة من الزمن .. و هكذا تظل غنياً فى نظرهم ..

فتذكر خالد شيئاً و سألها :

- و لكن الفقير اللى ذُبح المرة اللى فاتت 

كان بيمتلك بيت ضخم .. ازاى يكون فقير ؟ . 

و كان ممكن يبيعه مقابل ثمن كبير ؟!

ردت أسيل :- ربما حاول أن يبيعه بالفعل .. 

و لكن ماذا لو لم يتقدم أحد لشرائه .. 

بالطبع سيفقد قيمته وقتها .. ثم أكملت :

- حين يقترب يوم زيكولا يخشى الجميع 

أن يُفرّطوا فى وحدة واحدة من ذكائهم .. 

ربما إن علموا بخبر مولود الحاكم فلن يشترى أحد أى شئ حتى ذلك اليوم ..

بعدها سألها خالد مداعباً لها :

- و أسيل الجميلة تمتلك كام وحدة ؟.

ضحكت أسيل :

- أسيل تمتلك الكثير .. أكثر مما تتخيل ..


مر الوقت , و سائق العربة يأمر الحصان أن يسرع .. 

و خالد و أسيل يكملان حديثهما بداخل العربة .. 

حتى وصلت العربة إلى المنطقة الجنوبية .. 

و نزل خالد من العربة حاملاً أغراضه و حقيبة أسيل .. 

فوجد تلك المنطقة تختلف عن المنطقة التى يقطن بها 

و عن منطقة الحاكم .. فكانت مبانيها صغيرة .. 

تتكون من طابق واحد .. و كانت المبانى قليلة و متلاصقة .. 

و الشوارع بها الكثير من الأحصنة و الحمير , 

و ما نتج عن ذلك من روث الحيوانات .. 

ثم نظر فوجد آلات زراعية قديمة .. حتى تحدثت أسيل قائلة :

- لا تندهش .. 

إنها المنطقة الجنوبية , منطقة الزراعة بزيكولا .. 

الجميع هنا مزارعون و يعملون بأراضيهم .. 

و يمدون زيكولا بالقمح و الأرز و باقى المحاصيل .. 

و كل أنواع الفاكهة ثم أكملت :

- اليوم ستساعدنى .. 

لن تستمع بالراحة كيوم منطقة الحاكم ..

فابتسم خالد :

- حاضر


سارت أسيل و معها خالد يحمل حقيبتها فى أحد شوارع تلك المنطقة .. ثم دخلا أحد البيوت .. 

و كان كباقى البيوت ؛ مكوناً من طابق واحد لا أكثر .. 

و هناك استقبلتهما سيدة تقترب من الخمسين من عمرها 

ثم صحبتهما إلى حجرة بالبيت حيث كان يرقد زوجها , 

و ساقه اليسرى مضمدة .. فنظرت أسيل إلى خالد :

- خالد .. أريدك أن تساعدنى بأن أبدّل له تلك الضمادة 

دون أن أحرّك الجبيرة أو أسبب له ألماً ..

فأومأ برأسه ثم قام برفع قدم هذا الرجل و ثبتّها على ذراعيه , و بدأت أسيل تفك الضمادة القديمة .. 

و خالد ينظر إلى ما تفعله حتى أخرجت ضمادة جديدة 

من حقيبتها .. ثم أخرجت مادة عشبية خضراء اللون و لزجة .. و وضعت القليل منها على ساق هذا الرجل ثم بدأت تلف الضمادة حول جبيرة ساقه .. و سألها الرجل :

- متى أعود إلى عملى ..

فأجابته :

- إن عظام ساقك لم تلتئم بعد .. 

إنها مازالت تؤلمك , أليس كذلك ؟

رد الرجل :- بلى .. و لكن يجب أن أعمل .. 

لم أعمل منذ شهر .. و أشعر أن ثروتى تقل .. 

علىّ أن أعوّض ذلك ..

أسيل و قد ابتسمت :- عليك أن تصمد حتى تلتئم عظامك  










ثم تعوّض ما فاتك من عملٍ فى أيامك القادمة 

و نظرت إلى خالد :

- هل رأيت يا خالد كيف ألُفّ تلك الضمادة ؟

خالد :- أيوة .. دى سهلة ..

أسيل :- حسناً .. عليك أن تكملها حتى أعود إليك .. 

هناك فتاة مريضة سأطمئن على حالتها و أعود ..

خالد و قد تحدث مثلها :- حسناً ..

بعدها طلب خالد من الرجل أن يثبّت قدميه فى وضعهما .. 

ثم بدأ يكمل لف الضمادة حول ساقه كما كانت تفعل أسيل فرأته أسيل يفعلها ببراعة فتركته , و غادرت كما أخبرته .. 

و ظل خالد مع الرجل المصاب يلف الضمادة حتى انتهى .. 

ثم سأل الرجل :

- أنت عايش مع زوجتك فقط ؟

رد الرجل :- نعم ..

خالد :- و أولادك فين ؟!

رد الرجل فى حزن :

- إنهم كبار الآن .. لقد تركونى بعدما قسّمت عليهم أرضى ..

خالد فى دهشة :- قسّمت عليهم أرضك ؟

الرجل :- نعم .. فقد أجبرونى على ذلك .. 

و تعدّوا علىّ أكثر من مرة .. 

و أقسموا أن يقتلونى إن لم أعطيهم تلك الأرض .. ثم تابع :

- إنهم مثلنا يخشون الفقر .. 

و بعدما أخذوا ما أرادوا تركونى ..

فهمس خالد إلى نفسه :

- لا رحمة فى زيكولا ..

حتى فوجئ بامرأة تدخل فجأة .. و تصرخ سائلة :

- أين الطبيبة أسيل .. أين الطبيبة أسيل ..

رد خالد :

- إنها ستأتى بعد قليل .. لماذا تريدينها ؟!

أجابت المرأة و هى تبكى :- إن ابنى قد مرض فجأة .. 

و يبدو أن مرضه شديد , 

و أخشى أن يموت قبل أن تأتى الطبيبة ..

فنطق الرجل , و أشار إلى خالد :

- إنه مساعدها .. و يبدو أنه ماهر مثلها ..

فنظر اليه خالد و قد رفع حاجبيه :

- لا .. أنا مش ماهر .. أنا مش طبيب ..

فجذبته السيدة :

- أرجوك .. سأعطيك كل ما تريد .. أريد أن يعيش ولدى ..

و ظلت تجذبه و تتوسّل إليه .. 

و خالد يحاول أن يقنعها بأنه لا يعرف عن الطب شيئاً .. 

و لكنها لم تصدقه فلم يجد إلا أن يذهب معها كى تهدأ .. 

ثم طلب من الرجل أن يخبر أسيل - حين تعود - عن مكانه ..


ذهب خالد مع تلك المرأة , و التى كانت تجرى حافية القدمين .. و تجرّ خالد و تصرخ :

- لقد كان صحيحاً .. إنه لم يمرض من قبل ..

حتى وصلا إلى بيتها , و الذى كان بسيطاً , 

و يوجد بمنتصفه حوضٌ كبيرٌ ملئٌ بالماء .. 

ثم دخلا إلى حجرة صغيرة كان يرقد بها الطفل فاقداً وعيه على سرير صغير .. و خالد لا يعلم ماذا يفعل .. 

و يحاول أن يقول أنه مازال مساعداً جديداً لأسيل , 

و لكنها لا تدع له فرصة أن يقول شيئاً .. و تصرخ :

- إن ابنى سيموت .. إنه لم يكمل العشرة أعوام ..

و خالد يقف حائراً .. و ينظر إلى الطفل دون أن يتحرك .. 

و المرأة تصرخ :

- إنه يعمل بجد .. لا يمر يوم إلا و يعمل رغم سنه الصغيرة .. لا تهمه حرارة الشمس .. كل ما يهمه هو عمله ..

حتى نظر خالد فجأة إلى الطفل حين سمع صرخات أمه .. 

و تذكر أن شمس هذا اليوم كانت شديدة .. 

و اقترب من الطفل فوجد جلده جاف للغاية .. 

و حين لامس جبينه وجده ساخناً بشدة , 

و وجد الطفل يهذى بكلمات غير مفهومة .. 

فقام بحمله, و اتجه به إلى ذلك الحوض الذى يوجد بمنتصف البيت .. و وضعه به بملابسه , 

و اندهشت أم الطفل مما فعله خالد .. 

و لكنها تركته يمضى فيما يعمله حتى سألها :

- فيه مياه أبرد من مياه الحوض ؟!

فردت :- لا .. و لكننى قد اشترى ماءً بارداً من جيرانى .. 

ثم خرجت مسرعة فأكمل خالد عمله , 

و أخرج الطفل من الماء ثم وضعه مرة أخرى به .. 

حتى عادت أمه , و معها من تحمل أوعية بها ماء بارد , 

و سكبته بالحوض .. ثم أمرها أن تقوم بفتح نوافذ البيت :

- أريد أن يدخل الهواء البارد إلى هنا ..

فأسرعت الأم إلى النوافذ تفتحها بعدها أخرج الطفل من الماء و جرّده من ملابسه .. و وضعه على أرضيّة باردة , 

و تركه لفترة و لا يعلم ماذا يفعل غير ذلك .. 

و هل ما فعله صحيح أم لا ..

*

مرّ بعض الوقت , و خالد ينتظر أن تأتى أسيل .. 

و لكنها تأخرت , و ظل هو بجوار الطفل 

و الذى مازال فاقداً لوعيه , و أمه مازالت تصرخ .. 

و يحاول أن يهدأ من روعها , و لكنه فشل فى ذلك .. 

حتى أتت أسيل , و وجدت خالد يجلس على ركبيته بجوار الطفل الذى يرقد عارياً على أرضية الحجرة .. 

فسألته فى لهفة :

- ماذا فعلت ؟.. لماذا تضعه على الأرض هكذا ؟! .. 

و ماذا بلّل هذا الفتى ؟!!

فأجابها :

- كان سخن جداً .. و شكّيت إنه تعرض لضربة شمس ..

فبدأت أسيل تفحص الطفل .. و الأم مازالت تبكى بجوارها .. حتى فوجئت بالطفل يفتح عينيه , و يبحث عن أمه 

قبل أن تقوم أسيل بعمل أى شئ , 

فوضعت أسيل يدها على جبينه .. 

ثم سألت خالد .. هل كانت حرارته مرتفعة عن ذلك ؟.. 

فوضع خالد يده فوجد حرارته قد انخفضت 

و لم يعد ساخناً كما كان .. فابتسم فرحاً :

- أيوة .. كان سخن عن كدة كتير ..

فابتسمت أسيل ثم نظرت إلى أمه :

- إنه بخير الآن ..

ثم أخرجت زجاجة من حقيبتها .. و أعطتها لأمه 

و أمرتها بأن تعطيه منها كل يوم حتى يصبح صحيحاً .. فشكرتها على ذلك ثم اتجهت إلى خالد و شكرته .. 

و أخبرته بأنه طبيب بارع فضحك خالد :

- أنا مش طبيب .. صدقينى ..

فسألته :

- كم تريد ؟

رد خالد :- لأ .. أنا مش عايز حاجة .. ثم نظر إلى أسيل :

- أعطى أجر الطبيبة فقط ..

فقالت أسيل :

- لا, أنا لن آخذ شيئاً سوى ثمن الدواء .. 

أما غير ذلك فهو لك .. لست أنا من أنقذه ..

فابتسم خالد :

- و أنا مش عايز أى مقابل .. 

كفاية إنّك اشتريتى الميه الباردة ..

فشكرته السيدة مجدداً.. 

ثم تأملته لبعض الوقت , و ظلت صامتة حتى اندهش خالد .. 

و غادر بعدها مع أسيل , و التى سألته :

- خالد .. هل أنت طبيب ؟!

ضحك خالد :- لا .. و الله ..

فسألته :- كيف ؟! .. فى المرة الأولى أنقذت الفتى 

من الغرق و قلت أنها دورة اسعافات .. 

و اليوم ربطت الضمادة ببراعة .. 

ثم أنقذت طفلاً آخر , لم أكن استطيع فعل ما فعلته ..

رد خالد :

- هى الصدفة فقط لا غير .. 

أنا كنت صغيّر و كنت بلعب مع أصحابى .. 

و فجأة ولد أغمى عليه مننا , و كان سخن زى الطفل ده .. 

و وقتها شفت الطبيب و هو بيعمل شبه اللى أنا عملته كدة , و قال إنها ضربة شمس .. فلما لقيت النهاردة الطفل , 

و أمه قالت بالصدفة إنه بيعمل فى الشمس .. 

افتكرت نفس المشهد القديم فى بالى .. 

و لما اتأخّرتى قررت إنى اغامر لحد ما تيجى .. 

و قلت لنفسى أكيد مش هخسر حاجة بالعكس يمكن الدقائق دى تفرق فى حياته .. و الحقيقة مكنتش عارف النتيجة ..

لكن التوفيق كان معايا و الولد فاق فعلاً ..

صمتت أسيل ثم قالت مبتسمة :

- يعجبنى ذكاؤك يا خالد .. اليوم أثبت أنك خير مساعد لى .. و لكن لماذا لم تأخذ أجرك هنا أيضاً من السيدة , 

و أنت تستحق ذلك ..

ابتسم خالد :- ده عمل خير .. 

و كان لازم أعمله , مش كل حاجة لازم آخد مقابل لها .. 

هى زيكولا مفيش فيها حد يعمل خير أبداً ..

ضحكت أسيل و أكملت :

- كان يجب أن تأخذه .. فإنك قد استخدمت ذكاءك , 

و الذكاء ثروتك , 

و حين تفكّر بذكاء بالطبع يأخذ من تلك الثروة ..

فابتسم خالد :

- أنا عرفت ليه مفيش حد بيفكّر فى زيكولا .. 

و لكن أنا مش محتاج مقابل لانقاذ انسان ..

فقالت أسيل مبتسمة :- حسناً , يمكنك أن تذهب الآن 

لتبحث فى تلك المنطقة عن كتابك .. 

و أنا سأزور بعض المرضى من السيدات 

ثم انتظرك فى العربة حتى تعود ..


بدأ خالد بحثه فى تلك المنطقة .. 

و اندهش حين تذكّر حديث يامن عن كِبَر زيكولا .. 

فمناطقها ليست كبيرة كما صوّرها له .. 

و لكنها تحتاج فقط إلى وسيلة تنقله من منطقة إلى أخرى ..

كانت المنطقة الجنوبية تمتاز بكثرة الأراضى الزراعية .. 

و التى مرّ عليها خالد , و رأى المساحات الشاسعة المزروعة بالقمح , و محاصيل أخرى .. 

و اندهش كيف تكون تلك الزراعات بالأراضى الصحراوية ؟ .. و لكنه تذكّر شيئاً هاماً لم يغفله و هو عمل أهل زيكولا الذى يجعلهم يزيلون جبلاً إن أرادوا حتى لا يذبحوا .. 

و بدأ يسأل الناس عن ذلك الكتاب , و عن الشخص 

الذى يشبهه و لكنه يكبره سناً .. و لكنه كما توقّع .. 

كلما سأل أحداً لم يجبه , و لم يعرف عن أى كتاب يتحدث ..  










و سخر منه البعض حين سمعوه يسألهم عن ذلك الكتاب .. 

و لكنه لم يستسلم لليأس , و واصل سؤاله لكل من يقابله .. و سأل من يعملون بالأراضى عن الكتاب و عن صاحبه , 

و لكنهم لم يعرفوا أيضاً .. حتى جلس أسفل شجرة , 

و أخرج أوراقه و قلمه من أغراضه .. 

و كتب فى أعلى الصفحة :

- المنطقة الجنوبية ..

ثم كتب أسفلها :

يبدو أن المنطقة الجنوبية هى الأخرى 

لا يوجد بها ذلك الكتاب أو صاحبه .. 

و لا يعلم أحد من أهلها عن سرداب فوريك .. 

أما ما أدهشنى فى تلك المنطقة 

هو اهتمامها المميز بالزراعة .. و عدم اهتمامها بغيرها ..

هنا كباقى مناطق زيكولا التى رأيتها .. 

الكل يعمل بجد , و لا يضيعون وقتهم .. 

فصنعوا من الصحراء تربة خصبة .. 

و هذا ما جعلنى أعرف لماذا لا تحتاج زيكولا 

أن يُفتح سورها .. 

إنها تعتمد على أبناء زيكولا فى كل شئ .. 

و لا تعتمد على البلاد الأخرى فى شئ .. 

هنا المنطقة الجنوبية تنتج المحاصيل الزراعية 

التى تكفى زيكولا .. 

و المنطقة الشرقية التى أقطن بها تمتاز بالصناعة , 

و خاصة الصناعات التى تحتاجها زيكولا 

مثل صناعة الطوب للمبانى , 

و صناعة الملابس , و صناعات أخرى .. 

و المنطقة الغربية كما أخبرنى يامن توجد بها سوق كبيرة يمكنك أن تشترى أى شئ من صناعة و إنتاج أبناء زيكولا ..

إنهم يحققون اكتفاءً ذاتياً فى كل شئ بسبب عملهم , 

و خوفهم من الفقر .. و هذا ما جعلهم يشعرون بأن زيكولا أقوى البلدان الموجوة فى هذا العالم .. 

و اعتقد أننى أوافقهم على ذلك .. 

فقوّتهم تعنى عدم اعتمادهم على أحد .. 

حتى توّقف عن الكتابة حين وجد السيدة 

التى أنقذ طفلها تقترب منه .. 

فاندهش من ذلك , حتى اقتربت و سألته :

- هل تبحث عن رجل طويل و عريض مثلك , 

و لهجته غريبة مثلك أيضاً , و لكنه أكبر سناً ؟!

فأجابها خالد فى لهفة :

- نعم .. أنتى تعرفيه ؟

أكملت السيدة :

- لقد ذكرتنى اليوم بيومٍ مرّ منذ أعوام طويلة .. 

كنت وقتها فى السابعة عشرة من عمرى , 

و كنت أعمل بالمنطقة الشمالية .. 

حتى قابلت رجلاً يشبهك , و لهجته مثل لهجتك , 

و زوجته كانت تختلف عن نساء زيكولا .. 

و قدّم إلى معروفاً مثلما فعلت اليوم .. 

و اقنعنى بأن أعود للعمل هنا ..

فسألها خالد فى لهفة :

- يعنى هو فى المنطقة الشمالية ؟

ردت :- لا أدرى أين هو الآن .. 

لكنه كان هناك منذ عشرين عاماً .. اتمنى أن تجده هناك ..

ثم ابتسمت و أكملت :

- حين انتهيت من إنقاذ ولدى تذكّرته حين رأيتك .. 

و بعدما غادرت أخبرنى رجل بأنك تبحث عن رجل غريب 

به تلك الصفات .. و لكنك سألت ا

               الفصل الثاني عشر من هنا

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا 


بدل ماتدور وتبحث علي الروايات خليها علي تليفونك وحمل تطبيقنا

تحميل تطبيق سكيرهوم
تعليقات



close
حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-