![]() |
رواية سدفة ج2 ( عن تراض) الفصل الاول بقلم أيه شاكر
في يومٍ من أيام صيف يوليو، قبيل المغرب وقد أوشكت الشمس أن تودع السماء معلنة عن انتهاء هذا النهار، بينما كان الأطفال يركضون ويلعبون بالشارع وتتعالى ضحكاتهم وتتناغم، طالعتهم «شيرين» من شرفتة منزلها بابتسامة وحنين لماضيها وهي تتذكر طفولة أبنائها الستة (رائد ورامي ووئام وهيام وعمرو وعامر).
وبعد فترةٍ من التأمل
جلست على المقعد بالشرفة تتأمل ابنها «عمرو» الجالس قبالتها، تذكرت كيف كان يحدج تلك الفتاة التي تُدعى «سراب» بابتسامة عابثة وهي الأخرى ترشقه بنظراتٍ حادة، ولا تدري لمَ يُبغضان بعضهما لتلك الدرجة ومن الصغر!
أغلقت «شيرين» جفونها وأخذت تجتر ما سلف من ذكرياتها، وما آلت إليه حياتها فقد مرت الأعوام وأصبحت جدة، وها هو زوجها قد اشتعل رأسه شيبًا، وانشغل أولادها عنها، فمنذ أن تزوجت ابنتيها «وئام وهيام» وانشغلتا بحياتهما، وكذلك «رامي ورائد» سافرا لخالهما للعمل معه تاركين زوجاتهما وأبنائهما ليملؤا البيت حياة وسعادة، وقد كان.
وكفطرة أي أم ستظل «شيرين» تتحمل هم أبنائها وأحفادها ولازالت بالفعل تتحمل عبئ التوأمان «عمرو وعامر» اللذان لم يتزوجا بعدُ، ويسكننان معها تحت سقف بيت واحد.
فتحت ستارة عينيها فأبصرت «عمرو» الذي مازال يجلس قبالتها على المقعد ويعبث بهاتفه مبتهجًا بعدما فعل ما فعله بسراب وسكب المياه فوقها من الشرفة، خاطبته شيرين حانقة:
-عارف لو مكنتش طلعت في الوقت المناسب وعملت إن أنا اللي كبيت المايه! كانت سراب فرجت عليك الشارع كله!
رفعت سبابتها بوجهه تُحذره:
-أخر مره يا عمرو تعمل حركه زي دي... أنا مش عارفه بينك وبين البت دي ايه!
وفي سرعة أمسك سبابة والدته وهو يقول بابتسامة عابثة:
-لعلمك بقا البت سراب دي ولا تقدر تعملي حاجه... دا أنا كنت هقولك كل ما تلاقيها خارجه تدلقي عليها مايه إنتِ كمان...
وأضاف بانفعال وهو يتذكر حدثًا أزعجه:
-من يومين كنت واقف تحت بلكونتهم كسرت على دماغي بيضتين... يعني هي اللي بدأت.
قال جملته الأخيرة وعلامات التحدي تجول بين خلجات وجهه، بينما كانت والدته نازقة مما يقول، هدرت به:
-هو إنت هتكبر امته! دي تصرفات أطفال مش واحد عنده ٢٢ سنه! اللي يشوف شكلك شاب طول بعرض عنده دقن وشنب وعقل أطفال.
ضحك عمرو وهو يتحسس ذقنه، وبتر حديثهما دوي هاتف شيرين فراحت تبحث عنه حتى التقطته، وأجابت على الفور:
-أيوه يا وئام.
أتاها صوت ابنتها المتحشرج:
-الحقيني يا ماما مغص صعب أوي ويحيى مش هنا ومش بيرد على التلفون.
اعتدلت شيرين في جلستها وهي تقول بقلق:
-طيب اهدي يا حبيبتي أنا هجيب عمرو وجيالك... مسافة السكه.
كان «عمرو» على الجانب الأخر يطالعها بحدقتين واسعتين محركًا عنقه بالنفي والإعتراض، وما أن أنهت المكالمة، خاطبها بتبرم:
-عمرو مين يا ماما أنا رايح ألعب كوره!
تجاهلت قوله ونهضت وهي تقول بحزم:
-أختك تعبانه هلبس وتوصلني، يلا...
طالعها عمرو عاقدًا جبينه، فاستطردت بضجر:
-إنت هتتنح قوم البس ولا هتنزل معايا بالشورت...
نهض عمرو واقفًا وهو ينفخ بضجر، واتجه صوب غرفته وهو يغمغم:
-هو مفيش غير عمرو في البيت ده! أنا لازم أسافر مع رائد ورامي المكان دا مش مكاني.
قالها وهو يُصر على أسنانه في غيظ شديد، فقلبت شيرين كفيها وصاحت:
-أختك تعبانه يابني آدم!! طيب والله ما فيه لعب كوره النهارده يا عمرو يا دياب.
قالتها ودخلت ترتدي ثياب الخروج وهي ترفل طرف عبائتها في غيظ من تصرفات ولدها...
وبعد دقائق وجيزة خرجت من غرفتها تناديه، فاتجه إليها بتكاسل وبخطواتٍ باردة، هدرت به وهي تحرك يدها بانفعال:
-مالك بارد كده ليه يَله أختك كانت بتصرخ وتعيط في التلفون...
صك كفيه، ونطق بلامبالاة:
-مش فاهم يعني أعمل ايه ما أنا جاي معاكِ أهوه يا ماما!!
رمقته والدته شزرًا وهي تنطق بغيظ:
-إنت إزاي قلبك قاسي كده! دا أنا مش شايفه أي لهفه في عينك.
قال بابتسامة جليدية:
-لهفه ليه! هتلاقيها أصلًا زي المره اللي فاتت شوية غازات محبوسين في القولون وعلى ما نوصل هيكونوا طلعوا... وهتعملنا عصير مانجا نشربه ونيجي.
لكزته والدته بضيق وهي تدفعه ليسير أمامها مرددة:
-امشي، امشي قدامي... تصدق بالله إنت الوحيد اللي معرفتش أربيك...
ضحك، فقد اعتاد على سماع تلك الكلمات بين حين وأخر، قال من خلف ضحكاته:
-على فكره إنتِ بتقولي لعامر برده الجمله دي.
رشقته بنظرة حادة فتظاهر بالجدية وقال:
-يلا نلحق وئام... يلا...
استغفروا ♥️
بقلم آيه شاكر
**********
في بيت وئام، حيث أصبحت هي سيدته بعد وفاة والدي زوجها يحيى قبل سبعة أعوام، فقد عاشت معهما أعوام قليلة وكانت تعاملهما بمودة ورأفة ولين قلب، كما تتمنى أن يُعامَل والديها، وكانت تساعد زوجها على برهما رغم أنها كانت تتضرر أحيانًا وتتمنى لو كان بيتها مملكةً خاصة لها هي وزوجها فقط، لكنها لم تُظهر ذلك ولو مثقال ذرة، فقد وافقت وارتضت الأمر ولم يُغصبها عليه أحد، ابتلعت كل الضجر والضيق ومرت بها الأعوام حتى ذلك اليوم.
أخذت وئام تتذكر حياتها كاملة وهي تكتم صرخاتها وآهاتها، وكلما انتابتها الآلام أطلقت صرخة مكتومة كي لا تُقلق ابنتها التي تتابعها في اضطراب وقلق...
وقفت «مريم» قبالتها؛ هي ابنتها البكريه التي لم تبلغ الثانية عشرة عامًا، وقالت بقلق:
-أروح أنادي لـ أدم يا ماما؟!
قالت وئام وهي تُصر على أسنانها من شدة الألم:
-لأ جدتك وخالك في الطريق...
-طيب أعملك ينسون تاني؟
قالتها مريم بصوتها الرقيق المغلف ببراءة الطفولة، بينما كانت تُقلب مقلتيها السوداويتين في توتر بالغ، وحينما اشتد ألم وئام نطقت من خلف دموعها:
-مش عايزه حاجه، امشي يا مريم من قدامي.
أطبقت «مريم» يدها على فمها، وترقرقت عيناها بالدموع، جلست جوار والدتها وقالت بلهفة ونبرة مختنقة بالدموع:
-طيب أروح أنادي لـ أدم؟
صمتت وئام لبرهة وحين انتابها الألم صرخت قائلة:
-ناديله بسرعه أنا مش قادره يا مريم...
ركضت مريم لباب الشقة لتنادي آدم، وبمجرد أن فتحته وجدت جدتها «شيرين» أمامها، فقالت بدموع ولهفة ودون سلام:
-تيته!!! دا ماما تعبانه أوي...
حاوط «عمرو» كتفي مريم بذراعه وهو يقول مطمئنًا:
-متقلقيش يا مريوم! متخافيش يا حبيبتي.
أومأت مريم وأمسكت بيد عمرو، وحين رأى عمرو حالة أخته قال:
-إنتِ تعبانه بجد! يعني مفيش عصير مانجا ولا ايه!
تأوهت وئام وقالت:
-مش قادره، القولون مبهدلني أوي.
قال عمرو بجدية:
-أكيد غازات محبوسه... ما تحاولي كده تطلعيها...
صرخت وئام بألم، فلمست شيرين بطن ابنتها وقالت:
-بطنك محجره كدا ليه يابنتي!
قالت وئام بدموع:
-القولون مبهدلني دا بقاله فتره بيتحرك يا ماما!!
-بيتحرك! هو فيه قولون بيتحرك! لأ إحنا لازم نروح مستشفى أنزل يا عمرو شغل العربيه على ما نيجي...
قالتها شيرين فعلق عمرو:
-تلاقي يا ماما الغازات اللي جواه بتتحرك فهي حاسه إنه بيتحرك.
أصرت شيرين على الإنطلاق للمستشفى فنزل عمرو من البيت بخطواتٍ سريعة بينما وقفت مريم تبدل نظراتها بين جدتها ووالدتها وهما يستعدان للخروج، وقالت:
-أنا هاجي معاكم.
صاحت وئام:
-لأ خليكِ مع أخوكي...
-عبد الرحمن فوق مع آدم.
-اطلعي عندهم يا مريم متزهقنيش.
وبعد دقائق
خرجت وئام مع والدتها وهي تكتم آهاتها، بينما كان عمرو في المقلى يشترى اللب وكأنه لا يكترث لحالة أخته، قالت وئام وهي تُصر على أسنانها بغيظ:
-هو ده وقت لب! ناديله يا ماما.
أشارت له والدته وهي ترشقه بنظراتٍ حادة كادت تخترقه، فأومأ عمرو وخرج راكضًا من المقلى وهو يضع حبات اللب في فمه، فأطلقت وئام صرخة وصاحت:
-إنتِ جبتِ الواد ده معاكِ ليه يا ماما؟ فين عامر!
ربتت والدتها على ظهرها وقالت:
-معلش يا بنتي ملقتش غيره والله.
فتح عمرو السيارة وركبوا وهو يأكل اللب وقبل أن ينطلق قام بتشغيل الراديو فصدع صوت أغنية:
-سوق على مهلك سوق بكره الدنيا تروق...
قالت وئام بنفاذ صبر:
-سكتوا البتاع ده.
قالت الأم بانفعال:
-اقفل يا عمرو الزفت ده وسوق بسرعه.
قال عمرو ببرود:
-براحه على مهلنا يمكن الغازات تطلع ونرتاح كلنا ولا نروح ولا نيجي.
التفت عمرو يُطالع وئام وخاطبها:
-متتكسفيش مننا يا وئام لو فيه أي غازات طلبت الخروج في أي لحظه أوعي تترددي إنك تطلقي سراحها...
قال جملته الأخيرة وابتسم، فصرخت وئام من شدة ألمها، فأجفل عمرو ودعس بنزين حتى كاد يطير بالسيارة ليصل للمستشفى فمن الواضح أن الأمر جلل!
سألتها والدتها:
-الالم ده فجأه كده!
-لأ نداء قالتلي إني ألعب رياضة بطن لأن كرشي كبير زي ما إنتِ شايفه... فأنا بقالي يومين بلعب وتجاهلت الألم لحد ما زاد مره واحده!
ضحك عمرو حين سمع كلماتها، فصرخت وئام وقالت:
-مش قادره يا ماما دا أنا كأني بولد!
-ربنا يستر.
قالتها الأم بتوجس.
صلوا على خير الأنام ♥️
★★★★★★
«سراب»
عدلت حقيبة أدواتها التي تحملها على ظهرها ثم ربتت عليها بحمـ ـاس فهذا أول عمل تستلمه، ورغم أن كل الإشارات تخبرها ألا تذهب إلا أنها تجاهلتها وأكملت.
وصلت «سراب» لبيتٍ كبير وفخم محاط بالمصابيح التي تدل على أن هناك عروس ستُزف لعريسها الليلة، تنهدت بارتياح فهذا أول عمل لها كخبيرة تجميل «ميكب أرتست» رغم تحذير تقى لها ورفض جدها القاطع، لكنها لم تبالِ معللة لنفسها بأنه لا يوجد أحد يعرف مصلحتها إلا هي، قلقها الوحيد كان في تنائي هذا البيت وانفراده عن غيره من المساكن في مكان غريب وصلته بصعوبة بالغة لابتعاده عن المدينة نوعًا ما.
دلفت للبيت، وأجفلت حين ظهر لها رجل ضخم مفتول العضلات حاد النظرات، ابتلعت لعابها وأخبرته عن هويتها فأوصلها لغرفة العروس، كانت ملامحه الجامدة ونظراته الحادة تشي بمدى شدة بأسه، نبه عليها بصوت خشن:
-قدامك ساعه واحده تجهزي العروسه قبل ما المأذون يوصل، فاهمه؟
أومأت سراب رأسها عدة مرات في ارتباك ورددت:
-مش هحتاج أكتر من كده إن شاء الله... بس ياريت تجهزولي الحساب.
قالتها بابتسامة وهي تفرك أناملها إشارة إلى النقود، فأخرج الرجل حزمة من النقود وقال:
-اتفضلي اللي اتفقنا عليه، بس عايز العروسه تبقى قمر ١٤.
-من عنيا.
قالتها سراب ببهجة وهي تشير لعينيها، وبعدما خرج الرجل تنفست بارتياح واسنتشقت رائحة النقود بحمـ ـاس، ثم ضمتها لصدرها واستدارت تُطالع العروس التي تجلس على طرف فراشها متجهمة الوجه، أقبلت إليها وقالت بابتسامة:
-مالك يا عروسه؟ فيه حد يكون قمر كده وزعلان يوم فرحه.
أجهشت العروس بالبكاء فتجهم وجه سراب، جلست سراب جوارها في احباط، سألتها بنبرة مضطربة وهي تعلم إجابة سؤالها:
-إوعي يكونوا غصبينك على الجوازه؟!
أومأت الفتاة ودموعها تفر خارج أسوار عينيها، فوثبت سراب من جوارها وعادت للخلف خطوتين، وأخذت تقرض أظافرها وهي تتذكر جملة الرجل:
«متروحيش يا حماره»
-قالي متروحيش يا حماره وأنا اللي تجاهلت الإشاره.
قالتها سراب بفم متشنج، وسرعان ما استعادت رباطة جأشها ورفعت سبابتها في وجه الفتاة هادرةً:
-بصي يا بطه أنا مليش دعوه أنا همكيجك وأمشي وإنتِ بقا ربنا معاكِ.
أومأت الفتاة وجففت دموعها وشرعت سراب في وضع مساحيق التجميل على بشرتها، وهناك غصة تتلوى بحلقها وبخاصةٍ كلما رأت قلة حيلة تلك الفتاة، ونظراتها المنكسـ ـرة ومحاولاتها الفاشلة في سد قنوات مدامعها...
ألقى الليل وشاحه ليغطي الأفق...
مازالت العروس تبكي، قالت العروس لسراب برجاء:
-بالله عليكِ ساعديني أهرب عايزه أروح لخالي في المنصوره.
-اهربك إزاي!! آآ... أ... أنا مش هعرف.
-هقولك ازاي بس ساعديني ابوس إيدك أنا مش هينفع اتجوز، دول عاوزين يجوزوني راجل كبير عشان الفلوس، أنا لازم أهرب.
اضطرت سراب للموافقة فقد أشفقت عليها فلم تتوقف الفتاة عن البكاء لساعتين متواصلتين، أومأت رأسها واستطاعت أن تساعدها للخروج من البيت وهي تتسلق حبل يتدلى من شرفتة غرفتها ثم نزلت سراب بنفس الطريقة وركضتا معًا بعيد عن البيت...
وبعد مسافة
أخرجت سراب النقود وقالت:
-خدي فلوسكوا أهيه يمكن ينفعوكي...
-أنا مش عارفه أشكرك ازاي!
قالتها العروس بعدما أخذت النقود من يدها، فألقت سراب نظرة متحسرة على النقود بيد الفتاة واغتـ ـصبت ابتسامة وهي تردد بقلة حيلة:
-خلي بالك من نفسك... إنتِ اسمك ايه؟
-هند، وإنتِ؟
-اسمك حلو يا هند، أنا سراب.
-اسمك غريب أول مره أسمعه.
-وأنا كمان.
قالتها سراب فضمتها الفتاة وسلكت طريقها أما سراب فلوحت لها لكنها كانت تلوح للنقود وتشيعها وليس للعروس...
نظرت يمنة ويسرة ولأعلى ولأسفل، ثم طالعت ظهر الفتاة التي تهرول مبتعدة وقالت بحسرة:
-يا فرحه ما تمت خدتها العروسه وطارت...
تظاهرت بالبكاء، فقد تناثرت آمالها وأموالها، ركلت حجرًا صغيرًا أمامها ثم أخذت تعدو في اضطراب، وهي تتمنى أن تصل للبيت بأقصى سرعة، فالمكان حولها يخلو من البشر...
سارت تنظر خلفها بين فنية وأخرى في توتر بالغ وكأن قلبها يشعر بالخـ ـطر الذي يداهمها، فباغتها سيارة قطعت طريقها، ارتجل منها رجل عظيم البنية عرفته من النظرة الأولى، فقد استقبلها قبل عدة ساعات، وقف قبالتها وحدجها بنظراتٍ حادة قبل أن يقول:
-هربتيها، صح؟!
بلعت ريقها في اضطرابٍ ولاذت بالصمت، فصاح:
-انطقي يا بت العروسه راحت فين؟
-عروسة ايه يا باشا!!... أوعى يكون قصدك على ميمي.
قالت الجملة الأخيرة وهي تُحرك ميدالية مفاتيح شقتها التي تضم عروسة صغيرة تُسميها «ميمي»
هدر بها بنبرة مرتفعة أرعبتها:
-ميمي مين!! أنا بتكلم عن العروسه اللي كنتِ بتمكيجيها... العروسه راحت فين يا بــــت؟!
ازدردت ريقها بهلع وهي تُطالعه بطرف عينيها، فصاح بها:
-انطــقــــي.
هزت رأسها بالنفي قائلة بتلعثم:
-مـ... مـ... معرفش.
صفعها بقـ.وة فتأوهت ووضعت يدها مكان الصفعة ثم قالت:
-راحت لخالها في المنصورة يا باشا.
فهذا هو الإعتراف من الصفعة الأولى! نفث الرجل دخان التبغ بوجهها، وقال:
-يعني إنتِ ساعدتيها تهرب!!
سعلت من دخان التبغ الذي التف حول أنفها وأخذت تهش الدخان بيدها بينما كانت أعصابها ترتجف خوفًا، فصك الرجل أسنانه وقال:
-يبقا تتجوزي إنتِ مكانها يا حلوه.
جحظت عيناها بصدمة مما تفوه به لتوه، وكادت تتحدث إلا أنه أشار لثلاث رجال يقفون بالجوار وقال بأمر:
-هاتوها.
استدار الرجل وركب سيارته وأخذ يُدخن التبغ بشراهة.
حاصرها الثلاث رجال أحدهم عن يمينها والثاني عن يسارها أما الثالث فوقف أمامها يحثها على التوجه نحو السيارة.
سارت معهم عدة خطوات نحو السيارة بدون مقاومة وفجأة وقفت وهي تتمتم:
-أتجوز إيه! إيه شغل الروايات ده!! ويا ترى بقا هيطلع مشلول ولا أعمى ولا غني ووسيم ويحبني ونعيش في ثبات ونبات ونخلف صبيان وبنات...
قالتها بابتسامة حالمة فهدر بها أحدهم بصوت غليظ:
-مش عاوز كلام... امشي وإنتِ ساكته.
انتبهت لنفسها ونظرت لأعلى برجاء ثم التفتت حولها تبحث عن أي منفذٍ تهرب إليه، فدفعها أحد الرجال لتسير لكنها تعثرت وهوت أرضًا، وسرعان ما اعتدلت واقفة، رفعت سبابتها بوجه من دفعها وقالت بثقة وبنبرة مرتفعة:
-لعلمك بقا أنا مش خايفه منكوا لأن في كل الروايات البطل بيجي ينقذ البطله ودلوقتي يجيلك مفتول العضلات خارق القوى أبو عيون تشبه القهوة ويردلك الصاع صاعين.
لكمها بوجهها فتأوهت وتحسست خدها وفمها الذي تساقط منه نقطة من الد***ماء، كادت أن تبكي وهي تغمغم:
-يارب يكون ده كابوس من بتوع العصر وأصحى.
هدر بها أحدهم:
-يلا يا بت قدامــي.
تشنجت ملامحها بحسرة، وقالت بقلة حيلة:
-حـ... حاضر.
حدقت أمامها لبرهة شاخصةً في رعب، وهي تتمنى أن ينجدها أحدهم...
بقلم آيه شاكر
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★★★
وفي مكانٍ أخر في مصنع للملابس وبالتحديد داخل غرفة واسعة تضم عدة طاولات أعلاها آلات للخياطة، كان المكان فارغ إلا من «عامر» الذي يقف عاقدًا ذراعيه جوار أخته «هيام» بينما زوجها «محمد» ويحيى «زوج وئام» يباشران عملهما في صيانه بعض آلات الخياطة...
وكان هناك فتاة أخرى تجلس في نهاية الغرفة أمام آلة الحياكة تعمل بجدٍ واجتهاد وبتركيز شديد، وعزم أن تُنهي ذلك التصميم قبل الغد، قاطعها دوي هاتفها برقم والدها، أجابت عليه، فقال:
-سراب وصلت عندك؟
-لأ يا بابا لسه.
-أومال راحت فين؟ دي قالتلي جيالك المصنع!
صمتت لبرهة وهي تتسائل أين ذهبت تلك السراب التي لا تجلب سوى المصائب! حاولت أن تغطي عليها فقالت بتلعثم:
-آآ.... آه... صح هي اتصلت عليا وقالت إنها هتتأخر شويه لأنها قابلت واحده صاحبتها في الطريق، متقلقش زمانها جايه.
أغلقت مع والدها وطلبت رقم سراب لكن هاتفها خارج نطاق الخدمة، أخذت تفكر وتتوقع اين ذهبت؟ وأخرجها من صخب أفكارها قول هيام:
-إيه يا تقى!! لسه قدامك كتير؟!
رفعت الفتاة رأسها تُطالع هيام ببندقيتيها الرائقتين وقالت:
-نص ساعه يا أبله هيام إن شاء الله وأخلص الفستان ده.
قالتها وهي تشير لفستان زفاف، صممته بنفسها فربتت هيام على كتفها وقالت:
-إنتِ بتتعبي أوي يا تقى!
افتر ثغر تقى بابتسامة عذبة أماطت اللثام عن أسنانها البيضاء المتراصه بعناية كالآلئ الامعة، ونطقت:
-طول ما أنا بعمل الحاجه اللي بحبها مش بتعب.
قالتها وأخذت تُكمل عملها، فقالت هيام:
-ربنا يوفقك يا حبيبتي.
رفعت تقى رأسها قليلًا لتقتنص نظرة نحو «عامر» الذي كان يرمقها هو الأخر بنظراتٍ حذرة كي لا يجذب الأنظار إليه، فلولاها لما أتى إلى هنا! تلك الفتاة التي فتنته من الصغر، وترعرعت أمام عينه لكنها أضحت تضع حولها خيوطًا شائكه لتمنع أي رجل من الاقتراب منها.
أفاق عامر من شروده على صوت زوج هيام «محمد»:
-شوف كده يا عامر السلك ده مش واصله كهربا ليه!
عدّل عامر من عويناته وقال متضجرًا:
-يا جماعه انتوا هتقتنعوا إمته إني عالم مش مهندس كهربا، وقريبًا هكتشف اختراع هيبهركم وهبقا عالم كبير تفتخروا بيا...
لكزه «محمد» بكتفه وقال:
-انجر يا هندسه خلينا نخلص في الليله البيضا دي! وبعدين ما يحيى قدامك أهو مهندس ديكور الصبح وبعد الظهر مهندس كهربا.
-قصدك بعد العشا! العشا أذنت يا معلم محمد واحنا لسه محشورين في المصنع!
قالها يحيى بسخط، بينما ارتفع رنين هاتفه للمرة التي لا حصر لها فقال ممتعضًا:
-أكيد مراتي وئام! خلصوا عشان أنا مرجعتش البيت من الصبح... وصل يا عم الكهربا...
قال يحيى جملته الأخيرة مخاطبًا عامر بنفاذ صبر، وكان عامر يقتنص النظرات نحو تقى بينما حثه محمد أن يضع سلك الآله في مصدر الكهرباء...
وبشرود وضع عامر طرف سلك آلة الخياطة المكشوف في الكهرباء وهو يمسك طرفه الأخر وفجأة صُعق وصار يهتز كأنه يُصرع حين أمسكت به الكهرباء...
أجفلت« تقى» ووثبت من جلستها وألقت هيام الهاتف من يدها في فزع، وحاولت سحب أخيها فأمسكتها الكهرباء هي الأخرى وأصبحا يختلجان وأصواتهما ترتعش وتتداخل وأعينهما جاحظة، وقف محمد مكانه مشدوه وقد اتسعت حدقتاه بصدمة، بينما ركض يحيى ليفصل الكهرباء عن المصنع بالكامل لحظات مرت وسقط الإثنان أرضًا، وكل واحد في جهة...
أضائت تقى مصباح هاتفها لتطمئن عليهما، وعاد يحيى يلهث وهو يقول:
-إنتوا كويسين؟!
انحنى محمد يفحص زوجته «هيام» التي طفقت تبكي وهو يعاتبها:
-مسوفتش في ذكائك هو بيتكهرب رايحه تمسكيه ليه؟
قال يحيى:
-هو ده وقت عتاب يا محمد!!
كان عامر يرقد أرضًا ودقات قلبه تتواثب، أخذ يلمس شعره ثم جسده ليطمئن أنه على قيد الحياة، وقال بلسان ثقيل:
-قولتلكم أنا عالم مش مهندس كهربائي افهموا بقا...
وبعدما اطمئنوا عليهما عاد يحيى يضيء المكان وضحك الجميع...
بقلم آيه شاكر
استغفروا❤️
★★★★★
-حضرتك أنا مينفعش أتجوز! آآ... أنا لسه مبلغتش سن الرشد.
قالتها «سراب» مخاطبة الرجل الذي يجلس بالسيارة ناظراً أمامه وهو يدخن التبغ، لكزها رجل ضعف وزنها لكزةً أفزعتها وقال بنبرة مرتفعة هزت قلبها:
-اخرسي يا بت.
لازالت تظن أنها داخل حلم وستفتح جفونها في أي لحظة وتستيقظ، ضغطت شفتيها معًا علها تكتم أنفاسها كي لا تُزعج ذلك الضخم الذي يقف خلفها، ثم قلبت نظراتها بين الرجال وأجسامهم العريضة، حدثت حالها؛ لا جرم أنهم حُراس شخصيون لهذا البغيض الذي يدخن سيجاره الفخم بلا توقف، هدر بها أحدهم:
-اركبي...
أطلقت عقدة لسانها علها تكسب بعض الوقت، قالت بتوجس:
-حاضر يا باشا... طيب انتوا هتجوزوني واحد وسيم وكده ولا مشـ ـلول ولا أعمـ ـى ولا غني... يعني إيه نظامه!
-قلت اخرسي يا بت... ويلا اركبي.
قالها الرجل وهو يوقع كلماته وباغتها أخر بتصويب سلاحه لظهرها، فقلبت «سراب» عينيها في المكان بتوجس، وحين أدركت خطورة الموقف، طفقت تصك وجهها بكلتا يديها وهي تصيح وتكرر جملة:
-ما هو قالي متروحيش يا حماره أنا اللي مفهمتش الإشاره...