رواية الجزار الفصل الثانى بقلم حسن الجندي
" ولكن أعتقد أنه لا فائدة من هذا الشاب الموجود في
الحجز أليس كذلك؟ "
قالها (عمر) مستفسراً، فرد عليه (حسن) وقد تغيرت
تعبيرات وجهه - " نعم لا فائدة ولا خوف منه حتى.. فيبدو أنه فقد عقله
أيضا بعدما حدث."
شبكة الاتصالات العالمية
تبع (حسن) عبارته بأن رفع سماعة
مكتبه، وضغط رقم ثنائي وقال:
- " أرسل لي
(محمد)
بسرعة 10
الهواتف على
لم تمر دقيقة حتى سمعا دقات على باب الغرفة، ثم دلف
المخبر (صابر) الذي كان أحد الذي حضروا التحقيق مع
(آدم)، فقال (حسن) له مستفسرا:
- " ما أخبار (آدم) الآن؟ "
" لم يذق طعام منذ ما حدث، كل ما كان يفعله أن
يشرب بعض الماء من الطعام الذي كنا نضعه له، ويعود ليجلس
في ركن القاعة، وعلى وجهه النظرة الشاردة.. جروحه قد
أصابها شيئًا لأنها تعفنت وتفرحت ويبدو أنه سيدخل في حمى
قريبا يا باشا)"
هرش (عمر) في ذقنه، ثم قال له:
- " اسمع.. الليلة تأخذونه في سيارة بدون أرقام إلى أقرب مكان لمنزله، وترمونه هناك، وأنتم تعرفون عملكم جيدا يا
رجال.
نظر (صابر) لـ (عمر) باحترام وقال:
تحت أمرك، ولكن هل ستتركه بقطعة ملابسة الداخلية
التي كان يرتديها ؟ "
هنا ارتفع صوت (عمر) بغضب مخاطبا إياه:
- " وهل تريدنا أن نختار له ملابس سهرة وعطر وساعة يد ... اذهب، وافعل كما قلت."
بعد أن انتهى (عمر) من العبارة، نظر إلى (حسن)، وقال له
بابتسامة:
- " الآن
انتهت تلك القضية للأبد يا . بني، أليس كذلك ؟ "
نظر له (حسن)، وشبح ابتسامة يرتسم على وجهه، ولكن
كان هناك شيئًا ما يمنعه من الابتسام، ويجبره على تنكيس
رأسه...
الخميس ۲۰۰٧/١٢/١٦ (الساعة ١١:٣٠ مساء)
في أحد الشوارع الجانبية بمنطقة الخصوص)، توقفت سيارة شاهين حمراء اللون. كان الشارع مظلما، وفي آخره مقهى صغير، لا يجلس أحد عليه، أما الإضاءة في الشارع فكانت خافتة تماما. بعد أن توقفت السيارة انفتح الباب الخلفي لها، وخرج رجل ضخم وهو يحمل شيئًا ما ملفوفا، والشيء يتحرك.. يبدو أن هناك شخصا آخرًا في السيارة يساعده على إخراج هذا الشيء الذي اتضح أنه (آدم)، ولكنه مكمم الفم، ومعصوب العينين ويداه مكبلتان خلف ظهره، وقد لف جسده في شيء يشبه الخيش
بعد محاولات بسيطة، استطاع الرجل الضخم أن يخرج هذا الجسد من السيارة، ويلقيه على الأرض، ثم أخرج الرجل الضخم من حبيبه مطواة، وقام بقطع الحبل الذي يربط يد (آدم)، ثم دخل السيارة بسرعة، وانطلقت السيارة بهدوء.
كان (آدم) قد حرر يديه، ثم أزال العصابة من على عينيه،
والكمامة التي ربطت فمه لم ير جيدا في البداية، ولكنه نحض
مترنحا من مكانه، وهو ينظر حوله محاولا أن يعرف أين هو.
في تلك اللحظة، خرج رجل عجوز من المقهى يرتب
المقاعد، التي خرجت عن حدود المقهى، ويمسح المناضد. لقد
توقف العجوز وهو يشاهد (آدم) بتلك القطعة السفلية من الملابس الداخلية، وجذعه العاري المليء بالجروح والتقرحات وشعره المنكوش، وحالته المزرية. حاول العجوز التدقيق أكثر وهو يشاهده يمشي مترنحاً زائغ العينين ناحية المقهى.. كان يتعثر وينهض مرة أخرى، ثم يتعثر وينهض.. يبدو أنه غير واع لأفعاله، ولا يشعر بما حوله بمجرد أن اقترب (آدم) من المقهى بدرجة كافية، اتسعت عين العجوز وهو يصرخ بدهشة:
" !!!!!)أستاذ (آدم " -
جرى العجوز وهو يمسك به كي لا يتعثر مرة أخرى، و (آدم) ينظر إليه بعينين خاويتين، والعجوز يجلسه على أحد المقاعد، ثم هرول الداخل المقهى، وقد أحضر جلبابا قديما، البسه لآدم بسبب البرد - الذي ترك نفسه له، والعجوز يسأله عما حدث له، لكن (آدم) لم يجب يليسه الجلباب، وهو وظل كما هو، ينظر أمامه بشرود... 3 كان العجوز يعرف (آدم) شكلاً واسما فقط .. فهو يعلم . عنه أنه يسكن بعد المقهى بمسافة قريبة، يعمل موظفا بشركة ما، وهو طيب يلقي عليه التحية صباحًا وهو ذاهب إلى عمله،
ومساءً عندما يعود مرة أخرى. ولكن صورته ظلت في رأسه،
لأنه يراه تقريبا كل يوم.
بعد أن ألبسه العجوز الجلباب قال له بلهفة: " انتظر هنا يا بني، سأحضر لك شيئًا دافتا "
دخل العجوز للداخل بسرعة، ولكن (آدم) نهض من مكانه، وسار بعيدا عن المقهى بدون أن يشعر العجوز.
سار بدون وعي في الشارع، والناس تتجاهله بسبب مظهره المزري، والذي يميز المتسولين حتى وصل أمام العمارة التي يسكن داخلها، فصعد السلم وهو يرتكز بيده على الحائط، كي لا يسقط. وقف أمام باب الشقة لاهثا من مجهود الصعود.. هنا وجد أن الباب ليس مغلقا، بل هو مفتوح، ولكن الباب يظهر أنه مغلق، لكن لسان المزلاج لم يدخل في متدل من جراء كسره الحائط لأن اللسان
دفعه بيده، فانفتح الباب، ودخل (آدم) وهو ينظر الداخل الشقة، ويقف وهو يغمض عينيه، والدموع تنساب منها.
فتح الباب ببطء كي لا يحدث صريرا، ثم دلف إلى الشقة على أطراف أصابعه، وهو يغلق الباب بلا صوت، ثم يسير ليبحث عن زوجته في الغرف.
فجأة شعر بمن يطوقه من الخلف بحنان، فانتفض لحظة من الفزع، ليسمع صوت (بتول) زوجته وهي تضحك بمرح من فعل زوجها. حاول أن يتحرر من يدها لينظر لها، لكنها احتضنته بشدة، وأراحت رأسها على كتفيه من خلفه، فهدأت
حركته وهو يقول بحب:
" اشتقت إلى هذه اللحظات طوال اليوم "
أغمضت (بتول) عينيها، وهي مازالت تريح رأسها، وقالت
برومانسية:
- " وأنا اشتقت لك طوال اليوم يا حبيبي.. لم تأخرت نصف ساعة كاملة عن موعدك؟ كدت أموت من اللهفة
عليك."
فتح عينيه وهو ينظر من بين الدموع الغرف مرة أخرى، ثم ذهب بخطوات مترنحة ناحية إحدى الغرف، وفتح الشقة
بابها وأضاءها.
طفلته الوحيدة داخل فراشها، ذلك الملاك الصغير (نور) يرقد على وجهها نظرة ألم، وقد اكتسى بزرقة مخيفة. اقترب من (نور)، وحملها بين ذراعيه وهو يحدثها بحنان وبصوت
خفيض
- " طفلتي الحبيبة.. بابا آسف لما حدث لك يا حلوتي...
بابا يعلم أنك تعذبت كثيرا وأنت تموتين.. لكن بابا يعدك يا
صغيرتي أنه سيجعلك تضحكين مرة أخرى.. سأرسم على وجهك الابتسامة كما تعودنا قديما أثناء لعبنا.. أليس كذلك؟" الدموع تنهمر من عين (آدم)، لتسقط على وجه (نور) المتصلب، لكنه مازال يتكلم هامسا، وهو يحاول أن يرسم ابتسامة على شفتيه، ويكمل حديثه
- " ولكن قبل أن أرسم على شفتيك تلك الابتسامة يا حبيبتي، يجب أن تذهبي للقبر أولا، أعرف أنه مكان موحش، ولكن أعدك أني سأفعل ما تريدين مع من كان السبب في
موتك. ماذا تريدين أن أفعل معهم ؟ "
قرب (آدم) أذنه قليلا من (نور) وهو يقول:
- " ماذا يا حبيبتي ؟ تريدين أن أكلهم؟ كما تشائين يا
صغيرتي.. كما تشائين.
قبلها من خدها، ثم وضعها مرة أخرى بحنان في فراشها،
وهو يقول لها بنفس الصوت الخفيض:
- " والآن بابا سيذهب ليحضر ماما، لتكون معك في نفس
المكان الذي ستذهبين إليه، كي لا تخافي."
أنهى عبارته، ثم خرج وهو يطفئ ضوء الغرفة، قبل أن يغادر
الشقة.. كان يتذكر جيدا عبارة أحد ضباط أمن الدولة وهو
يأمر رجاله بأن يرموا الجثة في أي ( مزبلة )، أمامه مشوار طويل ليبحث عن جثة حبيبته في الخرائب.. وسيعثر عليها.
الجمعة ١٧ / ۱۲ / ۲۰۰۷ (الساعة ٢ صباحًا)
صورة من بلاغ المدعو (كرم عطية عبد الرحمن)
رقم البلاغ: ٢٤٥٨٧٥٦٦٦١
تاريخ البلاغ: ١٦ / ۱۲ / ۲۰۰۷
مكان وقوع الحادث: الخصوص
الإجراء المطلوب: يتم القبض عليه
نوع البلاغ: مطلوب - غياب
ملخص البلاغ تقدم المدعو (كرم عطية عبد الرحمن) صاحب مقهى بمنطقة الخصوص ببلاغ بمشاهدته للسيد / آدم محمد وهو يسير في الشارع في حالة غير متزنة وعلى جسده آثار جروح ثم اختفى من أمامه فتبعه لمنزله هو وصاحب بقالة مجاورة وصعدا لشقته فوجدا باب الشقة مفتوح وفي الداخل جنة ابنته الصغيرة والسيد آدم غير موجود بمحل سكنه ولا
زوجته
هل تم الأخذ بصحة بلاغ المتعهد: نعم
خير صغير من جريدة (المساء) بتاريخ ۱۷ / ۱۲ / ۲۰۰۷
صفحة الحوادث
) في حادثة غريبة على أهالي منطقة (باسوس) عشر المدعو شحاتة عبد الحي والذي يعمل بجمع القمامة على جوال ضخم في إحدى الخرائب وعند فتحه للجوال الذي انبعثت منه رائحة كريهة عثر على جثة فتاة في العشرينات ترتدي قميص نوم ممزق، وقد أبلغ القسم التابع لمنطقته ليتم نقل الجنة حيث لم يتعرف عليها أحد من أهالي المنطقة، ويتم البحث الآن عن حالات الاختفاء صاحبة هوية الجثة خلال بلاغات موري
تحقيق: سارة مصطفى
١٢ / ٢٠٠٧ السبت ١٨/ ١٢ / ٧ الساعة ٦
مساءً
انتهى الطبيب الشاب من التهام الشطيرة الصغيرة التي يحملها، ثم تبعها برشفة من المشروب الغازي الموضوع أمامه على مكتبه، وهو يشاهد التلفزيون داخل المكتب الصغير المتواضع، الذي يجلس فيه هو وزملاؤه أثناء راحتهم.
كان الطبيب الشاب يعمل في قسم الطب الشرعي منذ عام وهو المسئول عن تشريح جثة الفتاة التي تسلمها أمس. سمع طرقات على باب المكتب، فأذن للطارق بالدخول، ليجده عم (سید)، فرحب به وأمسك بمجموعة أوراق على مكتبه وأعطاها لعم (سيد) الذي أخذ الأوراق؛ ولكن الطبيب الشاب أوقفه، وكأنه تذكر شيئا ما، فأخذ منه الأوراق مرة أخرى، وفتحها وفي يده اليمنى قلمه، وأخذت عيناه تسير
بسرعة على التقرير:
2
الجثة لسيدة متزوجة بين سن الثالثة والعشرين والخامسة والعشرين، بيضاء البشرة، لون الشعر أصفر، لون العينين أخضر، تمت الوفاة ليلة الثلاثاء ١٤ / ۱۲ / ۲۰۰۷ بين الساعة الثانية بعد منتصف الليل والساعة الخامسة، الوفاة نتيجة توقف عضلة القلب عن العمل، إثر أزمة قلبية. ترتدي الجثة قميص نوم ممزق من الأعلى، ووجد داخل أظافرها أثار لقشرة جلدية من جسد شخص ما، تنتشر أثار العنف في جسدها، مع تمزق في أنسجة العضو التناسلي، نتيجة تعرضها للاغتصاب بطريقة
عنيفة.
يتلخص سبب الوفاة في تعرضها لحالة عنيفة من
الاغتصاب لم يتحملها قلبها، فأصيبت بأزمة قلبية، ولم يتم
إسعافها، فماتت تم نقل الجثة من مكان مغلق فور حدوث
الوفاة إلى المكان الذي وجدت فيه (مقلب القمامة)
انتهى الطبيب من مراجعة سريعة بعينيه على التقرير، والصور المرفقة، وتحليلات الأنسجة، وأضاف بعض الملاحظات بقلمه، ثم أعطى التقرير مرة أخرى لعم (سيد)، الذي أخذه، وخرج من الباب سريعا
...
الأربعاء ۲۲ / ۱۲ / ۲۰۰۷
يمكنك أن ترى من بعيد هذا الشحاذ ذو الثياب الرئة، ينام بجانب كومة من القمامة، وقد نبتت ذقته وهاش شعره، بجلبابه المتسخ الذي ضاع لونه من فرط ما تجمع عليه من أوساخ. كان ينام وبجواره وضع أحدهم كسرات خيز على الأرض وقطعة جبن. لو اقتربت من هذا الشحاذ، ستجده هو (آدم)!!!
هو (آدم)، ولكنك ستتعرف عليه بصعوبة بسبب ما حدث الحاله وجسده، الذي يظهر أنه لم ينل تغذية حقيقية لأيام .
الآن هو يستيقظ من النوم، وهو يفرك عينيه، ثم ينظر حوله،
ليجد كسرات الخبز وقطعة الجبن، فمد يده ليأكل قطعة من
الخبز وقطعة من الجبن.
لم يتخيل من يشاهد هذا المشهد ما يدور بعقل هذا
الرجل.. من يتخيل عقله المنظم، الذي يعمل الآن كأنه آله حسابية دقيقة؟.. لقد وضع أولويات سريعة كي يواجهه حياته الآن.
هو يعلم أن زوجته التي عشقها منذ الطفولة ماتت، وطفلته الوحيدة التي كانت يمكن أن تعوضه عن غياب زوجته ماتت هي الأخرى. إذا يجب في البداية أن يجد جثة زوجته، كي يدفنها بطريقة لائقة الأوغاد قاموا برميها في أحد مقالب القمامة، وهو الآن يسير منذ أيام كي يجدها. ينظر له الجميع على أنه مجنون أو شحاذ، لكنه ببساطة يبحث عن جثة زوجته، لكي يكرمها بعد موتها، ويستر جسدها الذي دنسه الغير.
الحض من رقوده وهو مترتج قليلا من أثار الأنيميا التي أصابت جسده وارتفاع حرارته منذ يومين. لا يهم شيء الآن.. سينعم بالراحة، لكن بعد أن يجد زوجته سار قليلا في الشوارع، ولكنه توقف فجأة أمام كشك بيع صحف يعرض بعض الصحف معلقة على حبل خارج الكشك، هذه هي صورة زوجته !!! وبجوارها صورة لها وهي مغمضة العينين.. لقد وجدوا زوجته.. لقد وجدوها أخيرا. اقترب من الصحيفة وهو يقرأ "مانشيت" الخير الذي ملأ الصفحة الأولى ومازالت التحقيقات جارية في سر مقتل الزوجة والطفلة الشرطة تنفي علاقة زوجها المختفي بالحادث البحث مازال جاريا عن الزوج المختفي، عائلة المجني عليها تسلمت الجنتين اليوم
وقفت عينيه عند تلك العبارة وهو يقول في نفسه إن عائلته تسلمت جثة (بتول) و (نور) ؟ هل تعرضت (نور) للتشريح ؟ ذرفت الدموع من عينيه، وهو يتخيل ما حدث لزوجته وطفلته، فجرى بسرعة من أمام الكشك.
...
2
هذا هو الشارع الذي يقطن به، لقد وصله بعد أن جاء الليل، وبعد أن سار كل تلك . الساعات.. العرق يتصبب منه بغزارة، وحرارة جسده في ارتفاع دائم، والدوار يحيط بعقله، ولكنه يقول في عقله إنه اقترب فعلا من النهاية.. ما هذا ؟؟ هناك مقاعد تراصت تحت منزله وصوت قرآن يأتي من مكان ما.. هذا هو عزاء زوجته، إذن لقد دفنوها بالتأكيد.
كان يقف مداريًا جسده خلف أحد المنازل، التي لم يكتمل بناؤها وهو يشاهد العزاء، وأهله يجلسون بصمت، ومن حين الآخر يأتي أحدهم ليصافحهم ويواسيهم، ثم يجلس على أحد المقاعد. هو يعرف بالتأكيد أين دفنت زوجته وطفلته.. في مقابر عائلته بالعباسية. هنا تراجع بهدوء، كي لا يكتشف وجوده أحد، وهو يسير مترنحا في الشوارع الجانبية، كي يصل للمقابر.
الخميس ۱۲/۲۳/ ۲۰۰۷ (الساعة ١١ صباحا .
تحرك الأب الحزين هو والخال وبعض الرجال متجهين إلى حوش مقابر العائلة، لكي يقرأ الجميع الفاتحة البتول و(نور) وليوصوا الرجل الذي يعتني بالمقابر، ويعطوه مبلغا من المال،
ليهتم بالتنظيف أمام القبر ...
"- 2 هل نذهب للقير أولا، أم تذهب للحاج (شريف) كي
نعطيه المال؟ "
قال الأب تلك العبارة، فقال الخال بسرعة: - " لا .. نذهب للقير أولا "
اتجه الجميع للشوارع المؤدية للقبر.. كانت المقابر عبارة عن حارات وشوارع وأبواب من الحديد أو الخشب تغلقها، وقبر العائلة يخلقه باب خشبي، وبعد البوابة ممر صغير، وعلى الجانب الأيسر منطقة قبر الرجال، وعلى الجانب الأيمن منطقة قبر
النساء. ذهب الجميع حتى وصلوا أمام الباب، ولكنهم وقفوا
ذاهلين مما رأوا !
الباب الخشبي الذي يغلق بقفل، تم خلعه من مكانه...
جرى الجميع داخل الممر، فقط ليجدوا مظهرا غريبا.. شاب
يرتدي جلبابا ممزقا متسخا، ووجهه منفوخ من مرض ما،
و شعره منكوش وحافي القدمين هذا الشاب نائم بوضعية غريبة.. فهو نائم على ظهره، وجاه مسترخ، ويداه بجانبه! اقترب الجميع ذاهلين من هذا المشهد؛ لكن الأب صاح
يجزع
- " آدم !!!!!!!!! "
نظر الرجال للأب، الذي كان عم (آدم) في الأساس، وهو يجلس على ركبتيه بلهفة، محاولاً إيقاظ (آدم)، الذي يبدو أنه لا
يشعر بشيء .
هذه هي مستشفى (......) لو نظرنا لقاعة الانتظار لوجدنا ما يقرب من عشرين شخصا من عائلة (آدم) ينتظرون بلهفة أي خبر عن حالته وقد عرف الجميع أن والد (بتول) - وعمه وحده هو ورجال من العائلة أمام قبر (بتول)، ونقلوه فاقد الوعي للمستشفى التي أدخلته العناية المركزة منذ خمس
ساعات، في حالة تقترب من الموت، كما أخبرهم الأطباء. لو صعدنا للطابق الثالث خارج منطقة العناية المركزة، سنجد والد (آدم) يدفن رأسه داخل يده، ويجانيه والد ووالدة (بتول)، يجلسون مترقبين كل ساعة الممرضة التي تتابع حالة (آدم) داخل العناية المركزة، وهي تخرج لهم، وتخبرهم عن آخر أحواله.
نعود مرة أخرى لبوابة المستشفى، ووكيل النيابة يدخل منها، بصحبته اثنين من أمناء الشرطة، وكاتب النيابة. 2
صعد الجميع المدير المستشفى الذي رحب بهم، فقال له وكيل النيابة مستفسرا:
- " متى يمكننا استجواب المريض آدم محمد عبد الرحمن)
الذي دخل المستشفى اليوم الساعة الثانية عشر ظهراً ؟ "
علمت عندما أبلغنا الشرطة أنه مطلوب للتحقيق في قضية هامة، ولكن المشكلة أن حالته حرجة جدا، برغم أنه قد استعاد وعيه، وقليل من تركيزه، إلا أن الجروح الخطيرة التي أتى بها إلى هنا قد أدخلته في حمى شديدة، قد تحيل بينه وبين أن يجيبكم إجابات دقيقة. ولكن يمكنكم الانتظار هنا لمدة ساعة فربما تحسنت حالته في الدقائق القادمة، ويمكنكم استجوابه. لكن أرجو ألا يكون استجوابا عنيفًا، كي لا يؤثر على حالته." " نشكرك يا دكتور (عادل).. سننتظر في الخارج
وعندما يمكننا الحديث معه، أرجو أن تبلغنا."
كان (آدم) يفتح عينيه بين الحين والآخر، فيجد نفسه في غرفة بيضاء مليئة بالأجهزة، ويشعر أن هناك ثقل على جسده. يرتدي على فمه شيء يتنفس. يتنفس منه، ويبدو أنه يشعر براحة عندما
نظر إلى ذراعه اليسرى، ليجد بجانبه محلولا معلقا متصلا بها، أما جسده فلا يحتاج أن ينظر له، فهو يشعر أن قدمه محاطة بلفافات طبية، وظهره وصدره ويديه.
كان هذا ما شعر به عندما فتح عينيه أول مرة، ولكنه غاب
عن الوعي مرة أخرى، لا يدري مم.. ثم بدأ يستيقظ، كل مرة
يجد نفس المشهد، ولكن في مرتين وجد ممرضة، ابتسمت له وهي تحدثه بهدوء، محاولة معرفة درجة تركيزه. هو في حالة تركيز طبيعية.. فهو يشعر بحروق في جسده، وألم في رأسه وبعض الدوار؛ لكن بالنسبة لتركيزه، فيشعر أنه واع جيدا، لكنه لا يعرف لماذا فضل ألا يعطيها أي إشارة تدل على استجابته لأسئلتها !!! في المرة الأخيرة التي استيقظ فيها رأى طبيبا شابا وبجانبه طبيب كبير السن يرتدي نظارة طبية وممرضتين، واحدة منهما تثبت محلولا آخرا إلى ذراعه. انتبه الطبيب الشاب لاستيقاظ (آدم)، فنبه الجميع، فاقترب
الطبيب ذو النظارة منه مبتسما وهو يقول: - " أهلا بك يا بني.. هل يمكنك أن تقول لي ما هو
اسمك ؟"
حرك (آدم) شفتيه بصعوبة، وهو يقول بصوت خفيض: آدم"
نظر الطبيب للممرضة، التي تقف خلفه وهو يقول لها شيئًا، ثم عاود سؤال (آدم)
- " هل تتذكر ما حدث قبل أن تأتي للمستشفى يا "آدم)؟(
نظر (آدم) للطبيب، والذكريات المحفورة في رأسه تتراص في
ثوان...
أخيرا وصل (آدم) لمنطقة المقابر، على الرغم من أن الليل قد أتى منذ مدة، ولا توجد . أي إضاءة في شوارع المقابر إلا ! إضاءة القمر؛ لكنه يعرف طريقه جيداً من خلال زياراته المتعددة المقابر عائلته سار وهو ينظر حوله كي ! لا يراه أحد. أحد 2
يشعر بالراحة كلما اقترب من مقابر عائلته أكثر .. يشعر أنه سيقابل زوجته الحبيبة وطفلته الشقية مرة أخرى.. يكفيه أن يرى المكان الذي دفنا . يه، مرة فيه، كي يشعر بالأمان مرة أخرى.
نعم تلك هي البوابة الخشبية، ولكن عليها قفل ... لقد نسبه.. ماذا سيفعل الآن؟ هو يريد أن يدخل، ليرى حبيبته وطفلته..
شعر بأن الدماء : تغلي في في عروقه من الغضب، وأن هذا الباب يمنعه من لقاء أحبابه، فجرى ناحيته بسرعة، ليصدم كتفه به. ربما شعر بالألم قليلا؛ لكن هذا لا يهم. عاد وجرى بسرعة، ليصدم كتفه مرة أخرى بالباب الذي بدأت مفصلاته الجانبية في الانثناء.. بالفعل الباب قديم والمفصلات في حالة مزرية بسبب تعرضها للشمس مدة طويلة هذه المرة ضرب الباب
بكتفه بعنف، فاتخلعت مفصلاته تماما، فدفعه هذه المرة بيديه ببساطة، فوقع الباب أرضًا، ليظهر ممر، يبدأ بسلم حجري ذي ثلاث درجات صعده ببطء، ثم سار في الممر، لينظر يمينه وهو يبتسم.. زوجته وطفلته هنا.. هو يشعر بهذا ...
- " السلام عليكم يا حبيبتي، وأنت يا صغيرتي...
الابتسامة تغزو وجهه، والدموع تذرف من عينيه وهو ينظر www
الفتحة القبر المغلقة
- " (بنول).. سامحيني لم يكن بيدي شيء، وأنت تعذيين. أنت تعلمين أنني كنت كالوحش المقيد، أرى نظرات عينيك المتوسلة وأنت تدافعين عن شرفك ولكن لا أملك شيئا.. أرى الوجوه التي تشاهد جسدك، وتأكل لحمك، وهم يشتهونك ولا أملك شيئا.. عيناك اللتان اتسعنا من الألم، وأنت تفقدين حياتك مازالتا أمام عيني، وأنا لا أملك شيئا.. جسدك الذي القوه في مقلب القمامة عاريا، وقد كشفوا عورتك للناس وكأنك حيوان لم يمكنني إنقاذه، فأنا لا أملك شيئا.. طفلتنا الوحيدة ماتت من الجوع والألم، ولم أملك شيئا. "
كان صوته يخرج متحشرجا، ودموعه تسبقه، وهو يجلس على الأرض في مواجهه باب القبر، وهو يكمل قائلا:
- " لكن أنا لم أكن أملك شيئًا لأدافع به عنك أنت
وطفلتنا، والآن لم أعد أملككم أنتم أيضا. أنا لم أعد أملك
شيئًا لأخسره.. وحيد أنا الآن بدونكما.. أعتقد أنني يجب أن أفعل شيئًا ما الآن.
لا أعرف.. لكني أشعر الآن يجوع شديد يا (بتول). لا أعرف لماذا أشتاق أن أكل لحما يا حبيبتي."
انتهت دموعه فجأة، وظلت الابتسامة هي الظاهرة وهو
ينظر للقبر لدقائق، ثم قال:
- " (نور) يا صغيرتي.. أنت الآن بجانب والدتك، أحن
شخص من الدنيا عليك وأنت الآن يا (بتول) في ذمة الله الرحيم، الذي رحمكما من عذاب الدنيا، وأخذكما لرحمته. (نور) لا تضايقي ماما بشقاوتك.. (بتول) خدي حذرك على طفلتنا الوحيدة.. (نور) لا تتضايقي الآن، فبابا سينضم إليكم قريبا يا حبيبتي، لكن ليس قبل أن يفعل شيئا ما، فهو جوعان ويجب عليه أن يأكل قبل أن ينضم إليكما يا حبيبتي."
لا يتذكر (آدم) شيئًا بعد هذا، ولكنه يتذكر مشاهد ضبابية..
ردد الطبيب سؤاله مرة أخرى بصوت أعلى لآدم قائلا: " يا (آدم).. هل تتذكر ما حدث قبل أن تأتي للمستشفى ؟ "
عاد (آدم) من ذكرياته وهو ينظر للطبيب مليا، ثم قال بصوت هادئ
- " لا أتذكر شيئًا."
نظر الطبيب له، ثم أخذ يدون في ورقة أمامه بعض الأشياء وكل مرة يقوم بسؤال أو تمرين لاختبار وظائف أعضاء (آدم) وأخذ يسأله بضعه أسئلة عن إحساسه بالألم، لكن (آدم) سأل
الطبيب سؤالا واحدا:
- " من أحضرني إلى. هنا ؟ "
- " عمك وبعض ، الرجال "
- " هل يمكن " أن أرى والدي . جنة وعمي ؟
تنهد الطبيب ثم قال:
- " يمكنك أن تراهم.. لكن سأسمح لك فقط ببضعة
دقائق. وإذا أردت أيضا، هناك وكيل نيابة يريد أن يأخذ
أقوالك في القضية المفتوحة الآن."
- " أية قضية؟ "
- " اهدأ، وسأدخل لك والدك وعمك، ويمكنك بعدها أن
تخبرني عن رغبتك في استقبال النيابة أم لا، لكني أحذرك أني
سأضطر بعد دقائق أن أجعلك ترتاح مرة أخرى، لتكمل
عملنا."
مرت دقائق، ودخل والد (آدم) وعمه، اللذان وقفا بجانب فراشه ووجهيهما يكادان ينفجران من الحزن.. والده قال بعد فترة صمت
- " كيف حالك الآن يا بني ؟ "
تکلم (آدم) بصوت خافض قائلا:
- " هل معنا أحد ما في الغرفة ؟ "
- " لا يا
قال (آدم) عبارة واحدة، وجهها لوالده وعمه بصوت خرج
كأنه أجش للحظة:
- " سأسكت الآن لتخبراني بكل ما حدث، وكيف عرفتم
بموت (بتول) و (نور)، وكل ما حدث الأيام السابقة حتى
الآن."
نظر الرجلين لبعضهما بدهشة ولكن كلمات (آدم)
الدقيقة، وعينيه اللتين اتسعتا أجبروهما على الكلام، فقال الوالد
بحزن
منذ أيام جاء استدعاء من قسم شرطة الخصوص
وكان استدعاء ودي.. حاولت الاتصال بك أو بيتول، ولكن لم يرد على أحد.. ذهبت لأجد أن رجال المنطقة التي تسكن بها قدموا بلاغا بعثورهم على جثة (نور) ابنتك داخل الشقة، وذلك بعد ما شاهدك أحدهم وأنت بملابس رثة تدخل منزلك. عندما حضرت، كان المحضر قد تم تحويله للنيابة، وبدأت الإجراءات في التحقيق في غياب (بتول) وغيابك، حتى تم العثور بعدها بيومين على (بتول)، ومقارنه صورتها مع جثة
وجدوها في .. في .. "
- " مقلب قمامة.. أعرف كيف وجدوها."
قالها (آدم)، فأخذ والده نفسا عميقا كي يمنع نفسه من البكاء، في حين أن عين عمه قد رغرغت بالدموع:
- " لقد وجدت الجثة يوم الجمعة، وتم تشريحها يا بني، فوجدوا أن.. أن أحدهم تعدى عليها، فماتت المسكينة." هنا لم يتحمل العم أن يسمع باقي الكلمات، فاستأذن
خارجا وهو يكافح كي لا تسقط دموعه، في حين قال (آدم):
- " أكمل يا والدي "
- " بعد ما علمت النيابة بوجود آثار الاغتصاب، ثم إلقاء
الجثة في مقلب القمامة واختفاءك وموت الطفلة، بعدت
أصابع الاتهام من حولك، فلا يمكن لك أن تغتصب زوجتك
وتترك طفلتك لتموت من الجوع، ثم تختفي أنت، لتظهر بجروح على جسدك كما قال الشاهد وتختفي مرة أخرى. تسلمنا جثة (بتول) و (نور) من المشرحة أمس صباحا، وقمنا بدفنها، والتحقيقات مازالت مستمرة.. والآن يا بني فسر لي كل " !..شيء
بنفس البرود، الذي أخبر به الطبيب أنه لا يتذكر، لوالده ذلك ولكنه أغمض عينيه، وطلب قليلا. قال والده الخروج
خرج وكيل النيابة
من غرفة (آدم)، وعينيه تنظر أمامه
شاردة، وهو يتجه لغرفة المدير، يتبعه الكاتب وأمناء الشرطة
والضابط، حتى حتى دق على غرفة المدير ودخلها، فرحب به سائلا إياه عما حدث، فقال وكيل النيابة مستفسرا: المدير - " إجابات (آدم) كلها غريبة !! يقول إنه لا يتذكر شيئًا، وأنه يعتقد أن أمس هو الثلاثاء بتاريخ ١٤ / ١٢، وآخر ما فعله أنه عاد من العمل، وأكل الطعام، وجلس مع زوجته
وطفلته قليلا، ثم نام ليصحو ليجد نفسه هنا.. هل أعتبر هذا
فقدان ذاكرة ؟
قطب مدير المستشفى جبينه وهو يفكر، ثم قال لوكيل النيابة، الذي جلس على المقعد المواجه للمكتب:
هناك بعض الحالات التي ترفض تذكر فترة معينة من الماضي، ربما بسبب موقف مر به لا يريد أن يتذكره، فيفضل المخ حذف تلك الذكرى لفترة معينة من المخ. ولكن في الغالب، فإن المخ يعيد له تلك الذكرى أو الموقف تدريجيا في خلال أيام، أو شهور على الأكثر. فالمخ يعيد للشخص الفترة التي نسيها، ولكن عندما يكون الشخص ذو قدرة على تقبل تذكر ذلك الموقف مرة أخرى. من الممكن أن تكون حالة
(آدم) بنفس الطريقة "
قليلا وهو يفكر لحظات، ثم قال: نظر وكيل النيابة للأرض . - " أعتقد أن الجروح التي ملأت جسد (آدم) هي نتيجة تعذيب مر به، وما أعتقده أيضًا أن زوجته كانت بجانبه في نفس وقت تعذيبه، لأنها ماتت في نفس يوم الاختفاء، أي أن الاثنين في الغالب كانا في نفس المكان
...
مصحة الدكتور فريد الطوبجي
يمكنك أن تقرأ تلك اللافتة من أي مسافة على ذلك المبنى
بمدينة نصر، في أحد الشوارع الهادئة مبنى من سبع طوابق هو في الواقع مستشفى خاص للعلاج النفسي، تم إلحاق (آدم) به
في بداية عام ۲۰۰٨ ، كي يبدأ علاجه النفسي، بسبب إصابته بالاكتئاب. ولكن الغريب هو ما يمكنك أن تسمعه عن حالته،
عندما تدخل لتلك المصحة من الداخل.
المصحة بالفعل مليئة بحالات الاكتئاب، وبطرق أسوأ من حالة (آدم)؛ لكن دعونا نستمع لعفاف وزميلتها (هدى)، وهما تجلسان ليلا في الاستقبال، وأمام كل منهما كوب ضخم من الشاي، تشرب كل واحدة رشفة كل بضع دقائق، فهما مشغولتان بالحديث كي يسير الوقت، ويقترب الفجر .
قالت (عفاف) وهي تكافح النوم - " أكملي لي ماذا فعل (عبد الرحمن) عندما صممت على
أن يأتي ليطلب يدك من أهلك؟ "
رشفت (هدى) رشفة من الشاي وهي تضحك قائلة: - " يحق لم أكن لأتوقع أن يكون (عبد الرحمن) جادا لهذا الحد، فهو قد وافق على الفور، ورحب وطلب مني أن أخبر والدي أنه سيأتي بعد أسبوع."
تهلل وجه (عفاف) وهي تقول لهدى
- " ألف مبروك أيتها المحظوظة، سأقرصك في ركبتك
قريبا، لأتزوج في نفس الجمعة التي ستتزوجين بها "
واتبعت تلك العبارة بأن قرصتها في ركبتها اليسرى، فتأوهت (هدى) وهي تضحك و عفاف) تحاول قرصها مرة أخرى وهما تضحكان
- " وأنت يا منحوسة ألم تحن الفرصة بعد التتزوجي؟"
قالتها (هدى) بجدية، فأراحت عفاف) رأسها على يدها
وهي تقول حالمة:
- " أريد زوجاً كما أتخيله يا (هدی) w
- " تقصدين يشبه (آدم) أليس كذلك؟ "
نظرت (عفاف) لها بعتاب، فأكملت (هدى) بجدية: " أنت معجبة بمريض يا عفاف) وهذا ما يقودني
للجنون، فأنت تقابلين مثله كل يوم !!!! "
نظرت (عقاف) للسقف حالمة تقول:
لا أعرف .. ربما عيناه البنيتان.. ربما طوله الفارع، أو
هو شعره الأسود.. ربما كانت نظرته الثاقبة وهو ينظر خارج
نافذة حجرته.. أو ربما نظرة الخجل التي ينظر لي بها، عندما
أقدم له الطعام وأعطيه الدواء. ربما كان الغموض الذي يحيط
بحالته.. لا أعرف؛ لكني أشعر بالشفقة عليه، أو ربما تسميها
أنت إعجاب."
ردت (هدى) قائلة:
- " ربما كان الغموض المحيط به بالفعل، فهو أغرب حالة رأيتها .. منذ أن دخل المستشفى في شهر يناير السابق وهو لا يتكلم مع أحد إلا نادرا، ويكتفي بالإشارة بيده لو أراد شيئا وكأنه يبذل مجهودًا كبيرًا في الكلام أعرف أن حالته هي اكتئاب حاد، لكن لا أعرف ما كل تلك المشاكل التي قابلت تلك الحالة أثناء فترة سر العلاج 2
ترددت (عفاف) وهي تريد شيئا ان تقول ما، لكنها في
النهاية قالت بعد تردد:
- " في الحقيقة لقد قتلني الفضول منذ شهر، وقمت بالبحث في ملفات المرضى عن ملف (آدم) حتى وجدته، وذهلت مما قرأت. لقد اغتصب أحدهم زوجته، وألقى بجثتها في مقلب قمامة، وماتت طفلته في منزلها من الجوع، وهو نفسه قد اختفى فترة من الزمن، ولا يعلم أحد سبب الاختفاء. ويبدو أن فترة غيابه عن المنزل لا يتذكرها، وخصوصاً وتلك هي الفترة التي ماتت فيها زوجته وابنته. وبعد أن عاد كان جسده مليء بالجروح، وظل تحت العلاج حتى انتقل لهنا لاستكمال فترة علاجه النفسي. ولكن حسب ما قرأت في تقارير الأطباء الذين تابعوا حالته أنه أصيب بحالة اكتئاب حادة، جعلته يفقد
الرؤية بعينه اليسرى في شهر فبراير السابق، وفي شهر ابريل أصبح لا يشعر بقدمه اليسرى، مما جعل حالته في تدهور واضح، وفشل الأطباء في علاجه، وظل هو لا يتكلم كثيرا، ويعيش في عالمه الخاص، الذي حاول الأطباء اختراقه؛ لكنهم فشلوا. لقد كان يطلب أوراقا وأقلاما كثيرة بانتظام، وفي كل ليلة نجد سلة القمامة مليئة بالورق الممزق بعناية، لدرجة استحالت على الأطباء تجميعها، فهو يمزق الورق لقطع تشبه الحبات، أما صوته فقد تغير قليلا، وأصبح أقل انخفاضا.. لكن الذي يجعلني أندهش هو شيء أراه كل مرة ولا أفهمه.. عندما أدخل عليه في أي وقت، فهو يعاملني باحترام، وينظر للأرض. وإذا حاولت أن افتح معه حوارًا، فإنه يهز رأسه باحترام، وقليلا ما أجابني بطريقة مهذبة. لكن عند ميعاد جلساته مع الأطباء، فإنه يظل شاردا، ويتغير تماما .. وأنا لا أعرف لهذا سيبا، فأنا في رأبي أن (آدم) واع لما حوله بطريقة كاملة.. أليس كذلك ؟
- " إن كان يشغلك (آدم) فأنا عندي سؤال ليس له جواب.. فمنذ دخوله المستشفى إلى الآن وهو يرفض زيارات أهله أو أصدقائه، والزيارات التي قبلها، سمعنا أنه لم يتكلم فيها
إلا مع شخص واحد.. هل تتذكرينه ؟ "
ابتسمت (عفاف) بركن شفتيها بسخرية وهي تقول:
" نعم الصديق الوحيد والزائر الغريب، منذ شهر يناير عندما طلب زيارته أول مرة و (آدم) لم يقبل، وبعد إلحاح غریب استطاع أن يدخل غرفته الخاصة، يصحبه الطبيب وممرضة أخرى، وكل ما فعله (آدم) أن نظر لدقائق للرجل والرجل ينظر إليه، وكأنهما يتقابلان أول مرة - هذا ما قالته الممرضة التي حضرت اللقاء - ثم انتهت الزيارة، وخرج الرجل، لكنه عاد مرة أخرى بعد أيام، ولكن هذه المرة كانت الممرضة فقط في صحبتهما، وظلا ينظران كل منهما إلى الآخر حوالي ربع ساعة وانتهت الزيارة أيضا. وفجأة - بدون سبب أصبح هذا الرجل يزور (آدم) بصفة منتظمة كل يوم ثلاثاء أو أربعاء من كل أسبوع، مما يجعلني أعتقد أن هذا الرجل أجازته من عمله يوم ثلاثاء أو أربعاء، وأصبحت الزيارة تتم في غرفة (آدم) بدون حضور أحد، وتظل الزيارة من عشر دقائق إلى ربع ساعة، ويخرج الزائر.
حاول الأطباء معرفة ماذا يحدث بالداخل، ولكنهم توصلوا لشيء واحد.. هذا الزائر يدخل ويظل الاثنان ينظران كل منهما للآخر طوال فترة الزيارة، ثم يخرج الرجل. لم يفت أسبوع واحد بدون زيارة هذا الرجل لآدم حتى يومنا هذا، الشيء الذي يجعلك تشكين أن هذا الرجل دائما ما يرتدي قبعة ونظارة شمس في كل زيارة كأنه يتعمد ألا يتعرف عليه أحد. فقط هو يخلعهم وهو بالداخل، ويرتديهما قبل خروجه.
أراحت (هدى) ظهرها للخلف، وظلت للحظات تفكر
ثم قالت:
- " لا أعرف يا عفاف).. ولكن أشعر بأن (آدم) هذا
يخفي سرا أخطر مما نتصور."
نظرت (هدی للساعة المعلقة على الحائط، والتي تشير عقاربها للثانية بعد منتصف الليل، وحانت منها نظرة سريعة على النتيجة المعلقة بجانب الساعة، لتقرأ تاريخ اليوم بملل:
الثلاثاء ١٢ / ٦ / ٢٠٠٨
وتذكرت أنه ربما سيكون هناك ميعاد للزيارة اليوم للزائر
الغريب.
كان الجو حاراً قليلا في هذا الوقت . من الصباح بالرغم من أن الساعة لم تتعد العاشرة، ولكن الرطوبة كادت تخنق الكل لولا انتشار أجهزة التكييف داخل الغرف و الممرات الأصبحت المستشفى كالجحيم .
حرت الممرضتان العربة الضخمة التي تمتلئ بصحف طعام
الإفطار، الذي يوزعونه على المرضى.. تتوقف العربة أمام كل
غرفة، وتدق إحدى الممرضتين الغرفة، ثم تفتح بابها، لتدخل
الأخرى تحمل صينية الطعام، لتضعها داخل غرفة المريض
توقفت العربة أمام غرفة (آدم)، فدقت الممرضة الأولى الباب ثلاث دقات وانتظرت.. ثم فتحت الباب لتدخل الأخرى وهي تحمل صينية الطعام، لتجد أن (آدم) ما زال نائما، فوضعت الصينية، وخرجت سريعا.
الساعة الخامسة مساءً.. هذا هو موعد الغداء، والعربة الضخمة تسير أيضًا وتتوقف أمام غرفة (آدم)، ونفس الدقات لتدخل الممرضة حاملة الصينية، ولكن هذه المرة سمع الجميع الممرضة تصرخ وصوت سقوط صينية الطعام من يدها يدب في أروقة المستشفى !!!!
ساد المخرج بين النزلاء، ومنهم من فتح باب غرفته ليستفسر،
ومنهم من صعد سريعا من الطابق السادس إلى الطابق السابع
على صوت الصراخ. هناك عبارة واحدة تنتشر بين المرضى
والعاملين في المستشفى بسرعة .. (هناك مريض وجد ميتا)
تكوم الجميع حول الغرفة، وكل شخص يحاول أن يطل
برأسه، وفي الداخل وقفت ممرضتان تحاولان تحريك (آدم)
الذي سقط على وجهه بلا حراك وعيناه شاخصتان للأعلى،
حتى دخل عامل فجأة الغرفة، وهو يقول بحزم: " ابتعدا عن المريض بسرعة، وسيأتي الطبيب المختص
الآن"
ابتعدت الممرضات بسرعة، وخرجن من الغرفة، والعامل يأمرهم بأن يصرفوا المرضى لغرفهم، ثم أغلق هو باب الحجرة، وجرى ناحية المصعد. بعد دقائق، حضر اثنان من الأطباء بلهفة، وهما يتجهان لحجرة (آدم)، وفتحاها بسرعة...
فقط ليجدا الحجرة فارغة !! لقد اختفى (آدم) ؟؟؟؟؟