رواية اصقلها شيطان الفصل العاشر 10 والأخير من الجزء الاول بقلم سماح سماحه
خرجت سدرة هائمة على وجهها لا تدري اي ذنب أقترفت حتى تعاقب عليه بتلك القسوة المهينة أمام الجميع، كانت تمشي باكية في الطرقات تستند بكفها على الحوائط الصلبة القاسية كقسوة من أحبت، تقف كل عدة دقائق تلتقط أنفاسها المتلاحقة ثم تتابع المشي حتى نفذت قواها وجلست على أحد الأرصفة تغلف عيناها الدموع فلا ترا أمامها بوضوح، رفعت وجهها للسماء تناجي خالقها بوهن.
- يارب أنت عارف وعالم أني معملتش حاجة، وانا عارفة أن دا أبتلاء منك عشان تتطهرني من ذنوبي وانا صابرة لبلائك وعمري ما هيأس من رحمتك، يارب أرحمني وهون عليا البلاء.
ثم أجهشت في بكاء مرير طويل وظلت بعض الوقت تجلس محتضنة قدميها بيديها وتضع رأسها عليها فهى لا تقوى على الوقوف من شدة وهنها حتى شعرت بمن يجلس بجوارها فإذا به أحد عمال النظافة البسطاء يمسك بيده مكنسة يدوية الصنع يبتسم لها بعذوبة بوجهه الذي يشع نورا وإيمانًا يمد لها يده بزجاجة ماء.
- وحدي الله يا بنتي وخدي اشربي وبلي ريقك متخافيش دي نضيفة انا لسه شاريها ليكِ من الكشك اللي هناك دا مخصوص لما لقيتك بتعيطي وقاعدة في الشمس والجو حر وزمان ريقك ناشف.
أنهمرت دموع سدرة وشعرت بأن الله ارسل لها هذا الملاك ليربت على جروحها فيجعل من طبطبته دواء يطيب به الجروح، أخذت الزجاجة منه وفتحت غطائها وتجرعت منها ما أزال مرارة ريقها وكأنها شربت عسلًا مصفى يلذ طعمه للشاربين، ثم نظرت له بأمتنان.
- لا أله الإ الله، شكرا لحضرتك يا عمو ربنا يجبر بخاطرك زي ما جربت خاطري وحسستني أن الدنيا لسه بخير.
أبتسم الرجل في وجهها وأشار بسبابته لأعلى.
- الخير فيا وفي أمتي ليوم الدين دا كلام أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومهما كان همك كبير فربك أكبر من كل شيء، ويوم ما الدنيا تصعب وتضيق عليكِ قوي أفتكري أنها عند ربنا متسواش جناح بعوضة، ارمي حمولك على اللي خلقك وديمًا قولي يارب.
صمت سدرة شفتيها قليلًا حتى لا تبكي ونطقت بقهر.
- يااااااااارب، يارب أنت عالم بحالي وغني عن سؤالي، يارب عني وقويني وقدرني استحمل اللي اللي انا فيه.
رفع الرجل يديه للسماء يؤمن على دعائها.
- اللهم آمين، أن شاء الله ربك هيستجب وهتفرحي قوي بعوضه الجميل ليكِ.
أمتنت له سدرة على مواساته لها وقالت بحرج.
- يارب يا عمو، شكرًا لحضرتك على كلامك الجميل معايا اللي ريح نفسيتي ورجعلي الأمل تاني، وشكرا على قزازة المية بس انا اسفة مش معايا ادفعلك تمنها.
هز الرجل رأسه بابتسامة عذبة.
- ربك هو الرازق ودي حاجة بسيطة على قدي مش مستاهلة تتكلمي فيها، شدي حيلك وأجمدي وخليكِ قوية، اسيبك انا عشان اروح اشوف شغلي بعد أذنك.
يُقال ذاتِ يوماً يقع كائن من يكُن في هيام الحُب ها أنا الكائن في حُب معشوقي وقعتُ تخطيت تلك المشقات معكَ وتلك المتاعب معكَ وتلك الآلآم معكَ ها أنا اليوم معكَ اسأل...
ثم تركها وغادر عندما لمس تمالكها لنفسها وتوقفها عن البكاء، نهضت سدرة وظلت تنظر في أثره حتى دخل في أحد الشوارع الجانبية ثم رفعت وجهها لأعلى.
- الحمدلله يارب الحمدلله على كل حال.
أشارت سدرة لأحد سيارات الأجرة التي مرت من أمامها وصعدت بها بعدما أعطت سائقها عنوان منزل خالتها، وجلست شاردة تنساب عبراتها كلما تذكرت ما فعله بها هارون وكلماته الجارحة لها، وصلت السيارة في مدخل حارتها القديمة فأشارت للسائق حيث يقبع منزل خالتها ونزلت أمام متجر البقالة واستدانت بعض النقود من صاحبه وأعطتها للسائق ثم صعدت تجر أقدامها حتى وصلت لشقة خالتها وطرقتها بوهن وقبل أن تفتح خالتها الباب فقدت سدرة قدرتها على التحمل وسقطت مغشيًا عليها.
وفي قصر البنا جن جنون هارون وراح يحطم كل ما طالته يداه من أثاث وتحف وزجاج ولم يستطع أحد السيطرة عليه الإ عندما استعان حمدي بعدد من الحرس الشخصيين تجمعوا عليه حتى كبلوه بأجسادهم فقد جرح يديه وسالت منهما الدماء ورغم ذلك لم يكف عن إيذاء نفسه الإ عندما قيدوا حركته، وظل يصيح بهم بغضب كي يتركوه وشأنه لكن حمدي منعهم حتى يأتي الطبيب الذي ما أن رأى حالته أسرع بأعطائه حقنة مهدئة جعلته يسترخي ويغط في نوم عميق تمكن الطبيب بعدها من معالجة جروحه، جلست زهرة بجواره تبكي على حاله وما وصل إليه بعد أن أوضح لها حمدي ما حدث وأوصله لتلك الحالة ودعت الله أن يزيل همه ويكشف الغمة حتى تتضح له حقيقة ما حدث لأنها تعلم علم اليقين أن سدرة بريئة من ذلك الأثم ولا يمكنها فعل ذلك معه فهى أخلصت في توبتها ولا يمكن أن تعود للمعصية مرة أخرى ثم هى تعلم مدى حبها الكبير لهارون.
وفي منزل حسان صرخت ميسرة حين فتحت الباب ووجدت أبنتها متكومة أرضًا ونادت حسان كي يساعدها في رفعها من الأرض وتعاون معه بعض جيرانهم الذين خرجوا على صراخ ميسرة، ووقف حسان وزوجته بجوار الطبيب الذي جلبه أحد جيرانهم ينتظرون أن ينتهي من فحصها ونطقت ميسرة بحسرة وخوف.
- خير يا دكتور بنتي مالها عندها أيه وليه ما بتفوقش؟.
أعتدل الطبيب في مواجهتها وضبط من وضع نظارتة الطبية على عينيه قبل أن ينطق.
- للأسف بنتك عندها أنهيار عصبي ولازم ليها الراحة النفسية والهدوء ولما تقدر تقف على رجليها انا بنصحكم تخدوها لدكتور نفسي.
ضرب ميسرة صدرها بيديها بصدمة.
- يا مصبتي أنت بتقول ايه يا دكتور ؟.
زفر الطبيب بنزق.
- بقول اللي لازم يحصل والإ حالة بنتك هتنتكس وهتزيد سوء لو متعالجتش صح.
هزت ميسرة رأسها لا تستوعب ما يقوله ونظرت لحسان وعبراتها تلمع في عينيها.
- الحقني يا حسان شوف الدكتور دا بيقول ايه.
حاوط حسان كتفها يربت عليه برفق.
- أهدي بس يا ميسرة خلينا نفهم من الدكتور أيه اللي وصلها لكدا ونروح بيها لمين.
نظر له الطبيب وهز رأسه بحيرة.
- أكيد اللي وصلها لدا تراكمات فضلت تداريها وتكتمها جواها لغاية ما حصل حاجة خلتها انفجرت وأنهارت وأعصابها ومستحملتهاش، وعلى العموم الدكاترة النفسيين كتير والعلاج النفسي مهم وبقى متداول كتير جدًا عن الأول والأهم أنها لازم تداوم عليه عشان متوصلش للمرحلة دي تاني.
وبعد يومان قضاهما هارون في عزلة عن الجميع حتى خالته قرر الخروج لمواصلة حياته ومتابعة عمله وأول شيء فعله هو قلب الطاولة على زاهر المهدي وكشف حقيقته الدنيئة وتقديم صور لمستندات وأوراق تدينه وتدخله السجن لأكثر من عشرين عام، وكذلك كشف كل المتلاعبين داخل شركته وتقديمهم للعدالة حتى يأخذ الحق مجراه، وفي غضون عدة أيام قليلة كان النائب العام يصدر قرارًا بضبط وإحضار زاهر المهدي وأعوانه وإيداعهم السجن وبدأ التحقيق معهم، لكن زاهر استطاع الهروب ولم تفلح محاولات الشرطة في القبض عليه، وتم سحب المناقصة من شركته وأعطائها لمجموعة البنا للبناء والتعمير بأعتبارها صاحبت أقل سعر بعد شركة زاهر المهدي، وبدأت الحياة عند هارون تأخذ مجراها الطبيعي مرة أخرى وصم أذنيه عن أي حديث عن طليقته الخائنة من وجهة نظره ورفض مناقشة أي شيء يخصها حتى مع خالته.
وعند سدرة ظلت ترقد بفراشها صامتة تمتنع عن الكلام وترفض تناول الطعام الإ بعد محاولات عدة من خالتها وزوج خالتها تتناول بضع لقيمات ثم تنهار في بكاء يجعلها تفرغ ما في جوفها، حاولت ميسرة إخراجها من البيت للترويح عنها لكنها فشلت فما كان منها الإ أن تلجأ بالدعاء لخالقها حتى يصفح ويعفو عنها ويخرجها مما هى فيه، وفي ضحى يوم كانت ميسرة تعد الطعام أخذت سدرة هاتفها من على طاولة الطعام ودخلت غرفتها وهاتفت أحدًا ما.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أزيك يا سدرة عاملة ايه ؟.
لمعت عين سدرة بحزن وهى تسأله.
- ممكن أجيلك النهاردة.
- أكيد طبعًا تعالي في أي وقت يناسبك.
أومأت سدرة برفق.
- تمام انا جيالك دلوقتي.
وأنهت سدرة المكالمة وأخرجت ملابس لها من ملابسها القديمة تصلح للخروج وأرتدتها بعجالة وخرجت من المنزل قبل أن تلاحظ خالتها وتمنعها خوفًا عليها أو تطلب مرافقتها، وبعد أقل من ساعة كانت تقف إمام شقة في أحد الأبراج السكنية ودخلت من بابها المفتوح ووقفت أمام سيدة تجلس خلف مكتب صغير.
- ممكن أقابل الدكتور عارف لو سمحتي؟.
أومأت لها السيدة بابتسامة عذبة.
- تمام يا مدام سدرة الدكتور سايب ليا خبر أنك تدخلي له أول ما تيجي، اتفضلي حضرتك عارفة المكتب.
أومأت لها سدرة بجمود وتوجهت للرواق على يمين السيدة وطرقت باب في أخره ثم فتحته ودخلت حيث يوجد الطبيب النفسي الشهير عارف حسنين والتي زارته سدرة منذ فترة حتى يساعدها في تخطي أزمتها بسبب ما حدث معها فيما مضى، نهض الطبيب الذي تجاوز الستين من عمره ومد يده يصافحها برفق.
- اهلا يا سدرة كنت منتظر زيارتك من ساعة أخر مكالمة عشان أعرف عملتِ أيه مع جوزك.
جلست سدرة على المقعد أمام مكتبه وأنهارت في البكاء، رغم تفاجئ الطبيب ببكائها الإ أنه تركها تبكِ لتخرج طاقتها وشحناتها السلبية كلها وظل صامتًا حتى أنتهت وبدأت تسرد عليه ما حدث معها، وحين أنتهت وقف ولف حول مكتبه وجلس على المقعد المقابل لها.
- اللي فهمته منك أن في حد خد حاجة مهمة من عند جوزك خسرته شغل مهم وأتهمك أنك الحد ده.
أومأت له بصمت، فوقف الطبيب وأعطاها ظهره.
- المشكلة دلوقتي أن جوزك معندوش ثقة فيكِ بسبب اللي حصل بينكم فطبيعي أن أول حد هيشك فيه هو أنتِ، أنتِ حاولتِ كتير ترجعي الثقة دي بس كل مرة الظروف بتعاندك وبتكون أقوى منك.
رفعت سدرة رأسها ونظرت عليه.
- انا خلاص مبقتش عايزاه ولا عايزة أشوفه حتى.
استدار الطبيب ينظر لها.
- متأكدة؟.
أومأت له ببطئ.
- أيوة متأكدة.
رفع الطبيب يديه ثم أنزلهما وجلس أمامها مرة أخرى.
- كدا أنتِ معندكيش اي مشكلة لأنك لما جيتي ليا هنا كان هدفك اساعدك ترجعي ثقة جوزك فيكِ وحبه ليكِ وبما أن الموقف دا حصل ودمر كل محاولاتك لدرجة أنك فقدتِ الرغبة في الرجوع ليه فانا أحب أنصحك وأقولك أعملي استوب لكل حاجة وعيدي تقييم حياتك من تاني شوفي أنتِ عايزة تعملي أيه لسدرة يقويها وأعمليه وعيشي حياتك عشان تبني نفسك وترجعي ثقتك لروحك ساعتها كل اللي حواليكِ هيبدأو يثقوا فيكِ من تاني لما يشفوكِ ماشية على الطريق الصحيح عشان ترضي ربك ونفسك مش ترضي بشر فاهمة.
ابتسامة بسيطة غلفت محياها وهى تومئ له.
- فاهمة يا دكتور وانا حابة اشكر حضرتك على كلامك البسيط اللي بيخرجني من حالتي مهما كانت صعبة وعلى دعمك ومساعدتك ليا.
بادلها الطبيب الأبستامة بأخري عريضة.
- دا وجبي أتجاه مرضايا وانا سعيد جدًا أني تعلمت مع شخصية ناضجة وواعية زيك مسبتش نفسها تقع فريسة للمرض النفسي وبتمنالك كل التوفيق في حياتك الجاية أن شاء الله.
أنهت سدرة مقابلتها مع الطبيب ثم خرجت ولديها طاقة كبيرة للمشي والتنزة والأستمتاع بأكبر قدر من الهواء الطلق، لكنها بعد فترة قصيرة من مشيها تفاجأت من توقف سيارة ڤان سوداء بجانبها وخروج ملثمين يقتربون منها ويقيدون حركاتها ويكمم أحدهم فمها بمنديل ثم حملوها لداخل السيارة ومشوا بها لمكان مجهول.
في مجموعة البنا جاءت مكالمة هاتفية لهارون من رقم غير مسجل لديه حيث استمع لصوت يهدده بتسليم أصول المستندات التي تدين زاهر وأن لم يفعل ستكون زوجته هى الضحية، تعرف هارون على صوت زاهر صاحب المكالمة ولم يبدي له أهتمامًا بتهديده بل طالبه بالتخلص من سدرة أن كانت لديه فعلًا فهى خائنة لا تعني له شيء، ثم أنهى المكالمة ولم ينتظر أن يضيف زاهر حرفًا آخر وجلس على مقعده يقنع نفسه أن ما فعله هو الصحيح فما سدرة الإ شريكة لذلك الحقير ويبدو أنهما اتفاقا على أحاكة خطة جديدة للإيقاع به، حاول هارون التركيز في عمله لكنه فشل فأمسك هاتفه يدق على حمدي فوجده مغلق فأتجه لمكتب سكرتيرته بعد أن رن جرس استدعائها ولم تجب عليه لكي يطلب منها ملف لأحد الصفقات واستدعاء حمدي له من مكتبه لمراجعة الصفقة سويًا، لكنه وجد مكتبها فارغ منها فنظر حوله ورجح وجودها بالمرحاض فتقدم من مكتبها يبحث عن الملف بنفسه فوجد هاتفها في درجه العلوي فأبعده قليلًا كي يبحث فراعى نظره رسالة واتساب جاءت لتوها على هاتفها تحمل اسم زاهر بحروف إنجليزية، فأمسك به يقرأ الرسالة من الخارج فإذا به يخبرها أنه أتم خطف سدرة وسيجعلها رهينة لديه حتى يعطيه هارون أصول المستندات التي تدينه، دارت الدنيا به وشعر كأن الألاف الأطنان وقعت فوق رأسه فالخائنة لم تكن سدرة بل منار سكرتيرته الأفعى الناعمة الملتوية والمتلونة مثل الحرباء، شعر هارون بوجع يضرب قلبه على ما فعله بسدرة وحاول تمالك نفسه وأرجع هاتفها لمكانه وأرجع كل شيء كما كان حتى لا ترتاب وتأخذ حذرها، ثم رجع لغرفة مكتبه وظل بها بعض الوقت يفكر بتأني حتى وجد ميسرة وزوجها يدخلان عليه وهى تصارخ وتستنجد به وفي يدها حجاب سدرة مدرج بدمائها
- الحقني يا هارون يا أبني في كام واحد جم البيت وجابوا طرحة سدرة وبيقولوا دا جزء من اللي هيعملوه فيها لو مسلمتوش الورق اللي يخص واحد أسمه زاهر المهدي.
ثم أتجهت ناحيته وكادت تقبل يده لولا أنه سحبها سريعًا.
- أرجوك يا هارون بيه دي بنتي الوحيدة لو جرالها حاجة هموت وراها.
أقترب حسان من زوجته يساندها حتى لا تقع بسبب أرتجافها خوفًا ونظر لهارون يرجو عطفه.
- أرجوك يا هارون بيه لو في إيدك حاجة متتأخرش عنها انا عارف أن سدرة غلطت في حقك بس انا عارف أن ضميرك مش هيسمحلك تسبها تموت أو تتأذي بسببك صح.
نظر هارون أمامه وعيناه مظلمة غائمة وأمسك بحجاب زوجته بيده وداخله قد استيقظ ذلك الوحش الكامن في أحد زوايا عقله وبدأ الأستعداد لحرب ضارية سيخوضها من أجل استعادة زوجته حتى ولو كلفه الأمر حياته فداءً لها
الجزء الثانى الفصل الاول من هنا