رواية مملكة سفيد الفصل الرابع عشر 14 بقلم رحمة نبيل
ارتفع صوت المآذن في البلاد وتحركَ كلٌ صوب اقرب مسجدٍ له، تدافع الجميع رغبة في الاحتماء من مصائب الحياة ببيت الله، وكأنهم ينتظرون نداء الصلاة كي يفرغوا همومهم، منهم من فقد عزيزٍ ومنهم من على وشك فقدانه بسبب الظروف التي تتعرض لها البلاد في الآونة الأخيرة بعد نكبتهم الكبرى .
استند شيخ عجوز على يد حفيده الشاب وهو يسير به صوب المسجد وقد كانت نبرة الشاب يائسة متوجعة :
” وماذا بعد يا جدي، هل سنعيش المتبقي من عمرنا في هذا الخراب ؟؟ إن لم نمت مما يفعلونه بنا، متنا جوعًا، ما عاد الطعام يكفينا وما بقى لنا من مغيث ”
ربت الشيخ على يده بحنان رغم عيونه الملتمعة بالدموع :
” لنا الله يا عزيزي، لنا الله، هو نعم الوكيل ”
تمتم الشاب بصوت خافت بـ ” ونعم بالله ”
وصل الاثنان صوب المسجد ودخلوا لهم، والعديد من الرجال يهرعون لللحاق بالصلاة، اطفال يركضون في المسجد خلف ذويهم، والجميع يلتجأ ببيت الله .
لكن حتى هذا كان في نظرهم كثيرًا عليهم، حتى لحظات الطمأنينة المؤقتة تلك كانت كثيرة عليهم.
فمع ارتفاع صوت الإمام بالله أكبر، تبعته اصوات صرخات تردد ” اشهد أن لا إله إلا الله “، تناثرت الجثث وتعالت الصرخات وتوحدت الألسنة بذكر الله والنيران أمسكت في أجساد من نجوا من الانفجار .
الأمر تم بسرعة أكبر من استيعاب أحد من الموجودين .
ركض الشيخ بين أجساد المصلين الذين سلموا أرواحهم لربهم وهو يصرخ باسم حفيده، يبكي بضعف وجسده يرتجف من هول الصدمة يشعر أنه على وشك السقوط رغم اعتماده على عكازه، لكن أي عكاز يسند جسده الضعيف بعدما فقد سنده وعكازه في الحياة :
” معتصم، أين أنت يا بني، معتصم يا ولدي ”
لكن لم يصل له رد من معتصم، كل ما سمعه هو صوت بكاء الصغار الذين كان من حسن حظهم أنهم يصلون في مؤخرة المسجد خلف الكبار ليتحرك لهم الشيخ متكئًا على عكازه يدفعهم للخارج بسرعة وخوف :
” للخارج يا صغار، اخرجوا بسرعة، هيا للخارج ”
لكن من بين هؤلاء الصغار، كان هناك صغير شخصت أبصاره بشكل مخيف وهو يأبى التحرك يرى أمام عيونه جسد والده متناثر الأشلاء في أحد أركان المسجد، لكن الشيخ لم يدعه يجبره على الخروج وهو يصرخ به :
” هيا يا بني أخرج من هنا قبل أن تطالك النيران ”
وصوته خرج مغيبًا وكأنه لم يعي بعد أن والده قد سلم روحه لبارئه منذ ثواني :
” لكن ابي …”
” عند الله يا صغيري والدك قد رحمه الله من هذا كله واختاره شهيدًا، هيا للخارج ”
وبالفعل ساعده بعض الرجال في إخراج الصغار والجرحى وقد تحولت المنطقة لخرابة بعدما ألقى بعض المنبوذين قنابل عدة على أماكن عشوائية، قنابل صُنعت لقتل أعداء الله…
لكن لسوء الحظ سقطت في يد أعداء الله، لتكون جحيمًا عليهم جميعًا .
كان جميع سكان المدينة يرمقون بقايا المسجد المتهدم واعينهم تحكي اهوالًا، بعدما كانت المملكة آمنة مطمئنة أضحت بين ليلة وضحاها على شفا جرفٍ من الانهيار .
سمع الشيخ صوت امرأة تركض صوبهم وهي تصرخ بجنون وصوت خلع القلوب من الأفئدة:
” ابنائي، صغاري جميعهم، جميعهم ذهبوا للصلاة ”
امسكتها إحدى النساء تجذبها بعيدًا وقد اجتمع الجميع حولها لمواساتها، وكلٌ له مصابه، لم ينجو قلبٌ مما حدث في المسجد والمنطقة، نفذ بافل تهديده وجعل في كل منزل شهيد وفي كل قلب جرحٌ….
كان الصغار الذين أخرجهم الشيخ يراقبون ما يحدث من بعيد وعيونهم تحكي الكثير، رأوا من المصير ما لا يستوعب عقلهم الصغير في هذا الوقت، نضجوا قبل آوانهم، اصوات الصرخات والتكبير حولهم تسببت في انتفاضة أجسادهم .
اقترب أحد الرجال من الشيخ والذي كان بمثابة كبير للمنطقة :
” ما العمل الآن يا عم، ماذا سنفعل لهم ؟؟ ”
طالت نظرات الشيخ للمسجد وهو يرى البعض ينادي قريبه، والبعض يبكي على اطلاله، والبعض الآخر يجلس جانبًا يضع رأسه بين يديه مقهورًا .
” هم لا خوف عليهم يا بني، الخوف ليس على الموتى الآن وقد ارتقوا جوار ربهم شهداء ”
نظر حوله للجميع يتحدث بصوت مثقل ونبرة بكاء :
” الخوف كل الخوف على من نجى وكُتب له العيش أيام إضافية في هذه الحياة ”
صمت ثم نظر حوله يحاول التفكير في شيء ما والتعب بلغ منه مبلغه :
” اليوم سأتحرك مع بعض الرجال صوب سفيد، سأتحدث للملك إيفان وليقدم الله الخير ”
ختم حديثه يتحرك محني الظهر صوب الأنقاض يبحث عنه بعيونه يكاد يسقط ارضًا، وقد سلبوا منه عكازه الوحيد، حفيده العزيز وآخر من تبقى له في هذه الحياة يستند عليه، سقطت دموعه وهو يفكر أن الكفن الذي اشتراه لنفسه، هو ما سيضع به حفيده.
كان يخطط لأن ينثر هو الرمال على جسده، لتنقلب الأقدار ويكون هو من يفعل ذلك، فقط في حالة إن وجد أشلاء حفيده .
تمتم بصوت موجوع من بين دموعه :
” لله الامر من قبل ومن بعد، الله خير حافظ، الله خير حافظ ”
________________________
تمسك كتابًا احضرته بصعوبة من المكتبة _بعدما طردها العريف _ وذلك بمساعدة من مرجان الذي تقبل بصدر رحب أن يتلقى التقريع ويخاطر باقتحام كهف العريف وإحضار كتاب بالعربية يتحدث عن حياة الاميرات .
وها هي الآن تحاول دراسة كافة تصرفات الملكة في هذا المكان .
” لبقة… هادئة …عاقلة …حكيمة …رقيقة..راقية ”
كلها صفات تتوفر وبكثرة في تبارك التي نفخت باستهزاء وكأن كل ذلك أمر سهل لها، قلبت الصفحات وهي تضع طرف اصبعها على لسانها كي تسطيع ذلك في حركة قد تؤدي لانتحار العريف إن رآها .
” كل ده أمره سهل، ايه تاني ؟! ”
أخذت عيونها تمر على الاحرف عاقدة العزم على أن تندمج في تلك الحياة البائسة التي أُلقيت هي بها، فإن لم تستطع العودة فلتحيا كما قُدر لها .
” على الأمير أن ترفع أطراف فستانها بكل لباقة وتنحني نصف انحناءة حين تقابل الملك أو أي شخص كنوع من أنواع الرقي، كما عليها التحدث بصوت لطيف ورقيق وأن تسبل اهدابها بلطف ولا تكيل النظر في أعين محدثيها، فهذه تعتبر وقاحة”
التوى ثغر تبارك بحنق من كل تلك الكلمات :
” اتسهوك يعني ولا ايه ؟؟ على العموم المصريات ملكات بالفطرة، مش محتاجين كتب عشان تعلمنا الامور دي ”
ولأجل تلك الكلمات ألقت تبارك الكتاب على الفراش تتحرك لتبديل ثيابها ومغادرة المكان بعدما أتقنت دورها مملكة في عشر دقائق .
ارتدت فستان ذو طبقات عديدة خانقة طويل تحدق لنفسها في المرآة وهي تتحدث بصوت منخفض :
” الفستان ده عايز يروح لخياطة شاطرة تاخده تلات أو أربع قراريط من تحت ”
انتهت من حديثها تعدل من وضعية الحجاب تخفي أسفله خصلاتها المزعجة التي يبدو أنها تعترض على حياة الملوك وتستنكر الزيوت الغالية التي أضحت تغتسل بها .
ابتسمت لهيئتها في المرآة وقد كان فستانها من لون السماء بورود بيضاء منتشرة في أماكن عشوائية وحجاب من اللون ذاته، أعطت تبارك نفسها تقييم عشرة من عشرة على إطلالتها، ثم تحركت لموعد الملك الذي ابلغها به أحد الحراس .
خرجت من الجناح تمسك أطراف الفستان وقد بدأت رحلة المتاهة كالعادة، تسير وهي تنظر في الأرض تتحدث مع نفسها حتى استوقفت إحدى العاملات تقول :
” بقولك الله يكرمك اروح قاعة العرش منين ؟!”
توقفت الفتاة ترمق تبارك من خلف غطاء وجهها بنظرات لم ترها تبارك، وتبارك فقط تنتظر ردها حتى انتفضت فجأة تستوعب أنها للتو تحدثت معها بعشوائية وبالعامية :
” اممم اقصد كيف أصل لقاعة العرش رجاءً ”
ابتسمت الفتاة بهدوء واحترام، ثم أخبرتها بالمكان مشيرة صوبه، لتشكرها تبارك وتتحرك وهي تحمل طرف الفستان على ذراعها بشكل مضحك حتى وصلت أخيرًا لقاعة العرش لتترك طرف الفستان وتعتدل في وقفتها .
تحركت داخل البلاط الملكي تبصر اعتلاء الملك لعرشه معه سالار وبعض الجنود يتحدثون بجدية كبيرة وكأن هناك حرب وشيكة .
شعرت أنها مجددًا جاءت في وقت غير ملائم، رغم أن الملك هو من ارسل لها، لكن نظرات سالار لها تخبرها أنها فعلت شيئًا خاطئًا، وهي حتى لم تفتح فمها بكلمة، أيعقل أنها تنفست كفتاة عادية وليست كملكة ؟؟
وضعت تبارك يدها أمام فمها وأخذت تحاول معرفة كيف تتنفس، ثم نظرت له بعيونها وكأنها تخبره بريبة ماذا فعلت أنا ؟!
قبل أن تنتفض على صوت إيفان يقول ببسمة :
” مرحبًا مولاتي ”
رفعت عيونها له تبتسم بسمة صغيرة متوترة لا تدري ما التالي، هل تفعل كما تفعل اميرات ” ديزني ” في العادة ؟؟ مهلًا هل هي الآن تتعلم التصرفات الملكية من افلام الكرتون ؟!
ابتسم إيفان يرى ملامح الحيرة تعلو وجهها ليقول بهدوء يرفع عنها أي حرج أو توتر :
” تقدمي جلالتك ”
نظرت تبارك للجميع قبل أن تتثبت عيونها على سالار الذي كان يركز في بعض الأوراق أمامه، لتحمد الله أنه لا ينظر إليها فهي لا ينقصها توتر كي يفعل هو بنظراته .
ابتلعت ريقها تتحرك بحرية كبيرة ومشية عادية، لكنها بالطبع كانت ابعد ما يكون عن سير الملكات، تتحرك بقوة وسرعة أدت لتحرك فستانها الواسع والطويل في أنحاء القاعة بشكل عشوائي .
وحين وصلت للعرش الخاص بإيفان وقبل أن تجلس تذكرت تعليمات الكتاب بخصوص رفع أطراف الفستان بلطف، ثم انحناءة بسيطة وبعدها كلمات خافتة وتسبيل اهداب، تعليمات ذكرت بها تبارك نفسها .
وهي تتمسك باطراف فستانها الواسع ترفعه بقوة مبالغ بها، إذ اصطدمت أطرافه بالاوراق التي يحملها سالار لتصيب عيونه بقوة سالبة من فمه تأوهًا مصدومًا أكثر منه متوجعًا .
رفع عيونه بصدمة صوب تبارك التي لم تنتبه لما فعلت منذ ثواني والتي انحنت كما يقول الكتاب، ثم نظرت ارضًا بهدوء تقول بصوت خافت :
” اشكرك مولاي ”
تشنج وجه سالار وهو يضع يده على عينه اليمنى التي كادت تذهب ضحية الملكة منذ ثواني، يميل برأسه ينظر لها بعدم فهم، بينما إيفان لم يستوعب ما حدث، نظر بريبة صوب سالار ليراه متشنجًا بشكل جعله ينفجر ضحكًا على ملامحه لا على أفعال تبارك التي لم تخطأ في الحقيقة بل حظها هو من أخطأ.
استقامت تبارك بتعجب تتساءل عن سبب ضحكات الملك الذي صرف الجميع بإشارة من يده يحاول التماسك :
” اعذريني مولاتي لوقاحتي، فقط تذكرت أمرًا ما، رجاءً استريحي”
ابتسمت له تبارك تتحرك بتوتر صوب العرش ترفع أطراف الفستان ليس لأجل كلمات الكتاب، بل لأنها تخشى السقوط بسببه .
وبمجرد أن جلست خرجت زفرة عالية من فمها بالتزامن مع خروج زفرة أخرى من سالار والذي لم يصدق أنها جلست قبل التسبب في المزيد من الكوارث .
نظرت له تبارك بعدم فهم، لكنه لم يهتم بأي شيء، بل استقام يقول بهدوء شديد وهو ينظر للملك باحترام :
” مولاي اسمح لي بالذهاب لتفقد الجيش وسأخبرك بكل شيء حينما انتهي من فحصه ”
هز إيفان رأسه يسمح له بالرحيل، ثم استدار لتبارك التي كانت تراقب رحيل سالار، لتسمع صوت إيفان يردد بهدوء :
” أتمنى أن تكون إقامتك معنا مريحة ”
” أوه نعم مولاي، جيدة جدًا اشكرك ”
ابتسم لها بلطف يتساءل :
” إذن ما نتائج دروسك الاولى مع دانيار والعريف ”
” اعتقد أنني ابلي بلاءً حسنًا في السهام، لكن ذلك العريف لا استطيع إعطاء حكم على درسه الذي لم اتلقاه إذ طردني من المكتبة قبل البدء ”
ختمت حديثها بحنق شديد لما تعرضت له، فانفجر إيفان بالضحك على كلماتها :
” حسنًا هذا متوقع لا تقلقي ”
” هل من الطبيعي أن يطردني العريف من المكتبة وانا لم افعل له شيئًا ؟؟”
صمت إيفان يهز رأسه بجدية متنحنحًا :
” حسنًا أنا الملك ولطالما طردني من مكتبته كذلك، لا أحد أعلى من أن يُطرد من مكتبة العريف، جميعنا سبق وطُردنا منها مرة أو اثنتين ”
صُدمت تبارك من حديثه :
” هل مكانته أكبر منك هنا ؟؟”
” لا بل عمره أكبر مني، وأنا تعلمت ألا أقلل ممن هو أكبر مني في العمر، والعريف كذلك، لذلك احترمه أنا وجميع سكان القصر ”
باستثناء تهديدي له بالقتل مئات المرات، وتحطيم سالار لمكتبته، وشجاره مع تميم ودانيار، فنعم الجميع هنا يحترم العريف ولا يقللون منه البتة .
كبت إيفان تلك الكلمات داخل صدره، قبل أن يقول بهدوء :
” إذن جاهزة لدروسي ؟؟”
نظرت له بفضول لينهض عن عرشه يشير لها أن تهبط هي كذلك، متحركين صوب الخارج يقول بجدية كبيرة :
” سوف آخذك في جولة داخل القصر لتفقد شؤنه واعرفك على كل ما به ”
ابتسمت له تبارك بسمة واسعة ردها هو ببسمة أخرى يدعوها للتحرك معه، وبالفعل سارت معه تبارك تستمع لحديثه بانتباه شديد وقد استمتعت كثيرًا لنبرة الحب التي تنبثق من بين كلماته حين الحديث عن بلاده، وأدركت أنه ملك ذكي، بل في غاية الذكاء .
توقفت تبارك تتساءل بتعجب حين وصل بهم الحديث لنقطة ما مجهولة لها :
” المنبوذون ؟؟ من هم المنبوذون، سمعت عنهم الكثير منذ جئت ”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يشرد أمامه يقول بهدوء محاولًا قدر الإمكان تبسيط كل شيء لها :
” حسنًا هم جماعة من الأشخاص الذين نبذتهم الممالك سابقًا، أو هربوا من أحكام حاسمة كالاعدام أو ما شابه، شكلوا معًا جماعة سُميت بالمنبوذين لا هوية لهم ولا دين ولا وطن كذلك، تجمعوا من أماكن متفرقة لتأسيس مملكة مزعومة لهم وقد عملوا قطاع طرق في بداية ظهورهم، قدنا حملات تطهير عليهم لكنهم يزدادون بمعدلات خطيرة”
صمت ينظر لها وهو يتحرك لتسير خلفه باهتمام شديد منصته لكل كلمة تخرج منه :
” سبق وأن خطفوا العديد من النساء وإجبارهن على الزواج منهم لأجل استمرار سلالتهم، واستمروا سنوات طويلة يحاولون بناء وطن مزعوم، حتى حدث لهم ما تمنوا واحتلوا مملكة مشكى، مملكة من أقوى الممالك أخذوها وقتلوا العائلة الحاكمة بها وقاموا بمذابح في حق جيشها الخاص وشعبها، واغتصبوا النساء ودمروا المملكة بأكملها والآن يسعون لاحتلال باقي الممالك لتوسيع رقعتهم وصناعة وطن لهم بعدما نبذهم الجميع ”
انتهى من حديثها لينتبه أن جسد تبارك تصنم وقد شعرت أن هذه القصة مألوفة، مألوفة وبشدة لها، كافة التفاصيل وكأن ما يحدث هنا هو مجرد عالم موازي لما يحدث في عالمها .
سقطت دموعها تقول بصوت خافت دون شعور :
” أوه، أشعر أنني سمعت مثل هذه القصة سابقًا ”
نظرت للملك تقول ببسمة موجوعة :
” دعني أخمن، هناك من ساعدهم لاحتلال مشكى، ومدهم بالأسلحة والذخيرة لأجل فعل كل هذا ؟؟”
نظر لها إيفان بفضول يقترب منها بعض الخطوات :
” وكيف استنتجتي هذا ؟!”
رفعت يدها تشرح له ما سيحدث وكأنه ترى المستقبل والمرارة تصاحب حروفها :
” هذا سهل استنتاجه، فما تخبرني به ليس غريبًا على مسامعي، الآن ستتحول مشكى لمقبرة جماعية، ومجرد منازل مهدمة، سيتشرد الاطفال وتُغتصب النساء، ويستشهد الرجال، وتتحطم المنازل، وتدفن الاحلام أسفل ركامها ”
شعر إيفان بوجع كبير يسكن صوتها، لا يعقل أنها تعاطفت بهذا الشكل مع مشكى لدرجة أن تتحدث بهذه النبرة المقهورة .
بينما تبارك تنفست بصوت مرتفع ساخرة :
” اكيد فيه امريكا تانية هنا، هي اللي بتساعد الصهاينة بالسلاح، ما هو جماعة زي دول عمرهم ما يقدروا يعملوا وطن من لا شيء ؟؟”
ورغم تحدثها بالعامية أمامه إلا أنه فهم كل شيء قالته عدا تلك الكلمات الغريبة :
” ما معنى ( امريكا )؟!”
ابتسمت تقول وهي تحرك كتفها ببساطة :
” هذا لقب نطلقه نحن على حاويات القمامة في عالمنا ”
” والصهاينة ؟!”
” هذه القمامة نفسها ”
هز رأسه ليقول بهدوء شديد رغم عدم اقتناعه من تلك الإجابة بشكل تام :
” حسنًا ردًا على سؤالك السابق مولاتي، فنعم أصبتي هناك مملكة تدعمهم بالأسلحة وكل شيء ”
” ولا بد أن هذه المملكة هي أولى الممالك التي تصرخ وتنادي بالحقوق والحرية لهم ؟! دولة قوية لها جيش قوي، قادرة على إمدادهم بأسلحة بشكل مستمر ؟؟”
ابتسم إيفان بسمة غامضة وشعر كما لو أنه يتحدث مع سالار، نفس التفكير ونفس الكلمات .
” نعم احسنتِ، هي كذلك ”
” إذن نهاية المنبوذين لن تبدأ إلا حين تضع بنفسك نهاية لتلك المملكة ”
مازحها إيفان وبين طيات حديثه ظهر تقديره واعجابه بطريقتها :
” بالضبط، أنتِ صاحبة عقلية حربية ممتازة ملكة تبارك، أرى أنكِ تمتلكين خبرة كبيرة في الحروب، ربما تشاركين في وضع مخططات حروب مع سالار في المستقبل”
ابتسمت تبارك بسمة مقهورة :
” نعم أصبت، أنا امتلك خبرة كبيرة في الحروب، فمتابعتك لحروب امتدت لعقود كفيلة بجعلك خبير حروب ”
ختمت حديثها تمسح وجهها وهي تشعر بقلبها يرتجف، تريد الخروج من تلك النقطة، وهي تنظر بإيفان مبتسمة :
” إذن مولاي لم تخبرني عن قوانين القصر هنا، هل هناك ما يجب تلاشيه ؟؟”
” باستثناء سالار والرجال عامة والأمور المحرمة، فلا، تصرفي براحتك مولاتي ”
نعم سالار بالطبع، ذلك الرجل الغريب المريب الذي منذ رأته وهي تشعر أنه يتحول كل ثانية لشخصية غير التي سبقتها، ربما عليها بالفعل أن تتلاشاه.
استفاقت على صوت إيفان يدعوها لتتبعه :
” هيا سأريكِ الحدائق الخلفية أثق أنكِ ستحبينها ”
ابتسمت تبارك تتحرك خلفه بسعادة وهي تنظر له بإعجاب شديد، شخص هادئ لبق وسيم به صفات غير متوافرة في عالمها إلا نادرًا، وهي من كانت معجبة بعلي فقط لأنه وسيم، بالله أين علي من إيفان ورجال مملكته ؟؟
_____________________
يسيرن بين الممرات بعدما هربت زمرد من عملها بلا اهتمام، ونفرت كهرمان من كل شيء، وفرت برلنت من المعمل وتميم .
كانت الثلاث فتيات بملامح مقتضبة، كلٌ يبكي على ليلاه، كهرمان تفكر في حديثها مع الملك، لا تدري أقست عليه أم بالغت في حديثها لا تزال تتذكر ملامحه المصدومة من كلماتها وكأنها أخبرته بحدوث معجزة صعبة التصديق .
وزمرد تفكر في المبارزة التي ستخوضها مقابل دانيار وإن كانت تسرعت أم لا، هي فقط تود استعادة سيف والدتها الغالي، وإن كان القتال هو الحل الوحيد، فليكن إذن.
أما برلنت فهي تسير وصوت صراخ تميم بها يتردد في أذنها، اخطأت ورأت به تميم القديم، وهو صرخ في وجهها بأن تخرج، ترى ما القادم في هذه الحكاية المعقدة ؟!
فجأة توقف الجميع بسبب توقف كهرمان المفاجئ حين تعلقت أنظارها بنقطة معينة، تحركت أعين الجميع صوب تلك النقطة ليبصرن الملك يسير مع فتاة بملامح رقيقة هادئة .
قالت برلنت متسائلة:
” هل هذه هي الملكة ؟؟ لا تبدو لي فاسدة ”
نظرت لها زمرد بتشنج تضرب رأسها حانقة :
” تالله أن عقلك هو الفاسد، كونها من عالم المفسدين لا يعني أنها فاسدة ”
نظرت لها برلنت بغيظ شديد وهي تقول معترضة :
” معاشرتك لقوم فترة طويلة قد تؤثر على قلبك وتجعلك مثلهم ”
رفعت زمرد حاجبها تتحرك يدها صوب خنجرها بسرعة كبيرة لتتراجع برلنت مبتسمة وهي تقول تحاول تلاشيها :
” هييه لِمَ الغضب عزيزتي ؟؟ هل هي شقيقتك وأنا لا أعلم ؟!”
ودت زمرد أن تخبرها لا، بل لأنها ضغطت دون شعور على جرح داخلها ورعب يتملك صدرها، تخشى أن تكون منهم، مثلهم دون شعور منها، أن تكون واحدة من المنبوذين .
أبعدت برلنت عيونها عن زمرد وهي تحدق بتبارك وكأنها تفحصها لترى إن كانت تليق بمكانة الملكة هنا :
” حسنًا هي تبدو جميلة وطيبة، ما رأيك كهرمان هل تليق لتكون ملكة باعتبارك أميرة ؟؟”
لكن كهرمان كانت في عالم اخر وهي تحدق في ملامح إيفان، تطيل النظر به تتذكر افتتانها الأول بقتاله في أول لقاء لها به حين مبارزته دانيار ذلك اليوم، ولم تعي أن برلنت طرحت سؤالًا تنتظر إجابة له .
وكانت الإجابة من زمرد التي نغزت كتف برلنت بحنق :
” أيتها الحمقاء لِمَ لا تذهبين وتخبري الجميع أنها أميرة مشكى الهاربة ؟؟”
تأوهت برلنت بحنق شديد وهي تترفع عن التحدث لزمرد، ثم نظرت لكهرمان التي كانت شاردة في نقطة بعيدة عن الجميع :
” هييه كهرمان، ما بكِ يا فتاة ؟؟ ”
صمتت ثواني تنظر حيث الملك قبل أن تشهق بصوت مرتفع وهي تقول بهمس شديد جعل جسد كهرمان ينتفض :
” لا تخبريني أنك معجبة بالملك ؟!”
استدارت لها كهرمان بصدمة رافضة ذلك الحديث من جذوره :
” ماذا ؟! هل تمزحين معي ؟؟ مستحيل أنا فقط …فقط أشفق على تلك المسكينة التي ستتزوجه لهذا الملك ”
التوى ثغر برلنت بحنق ويبدو أن تلك الكلمات لم تعجبها :
” ماذا تقولين أنتِ، بل محظوظة هي لتنال الملك إيفان، يا فتاة الرجل لا عيب به تبارك الرحمن، ما كامل إلا وجهه سبحانه وتعالى، لكن الرجل لا يشكو شيئًا ”
نظرت لها كهرمان بشر يلتمع في حدقتيها لتتراجع برلنت للخلف :
” ما بكِ، أنا أقول الحقيقة، حسنًا حسنًا هو سييء فقط اهدأي ”
تنفست كهرمان بحنق وهي ترفع عيونها لزمرد التي كانت تنظر لها ببسمة خبيثة جانبية جعلتها تشهق :
” إياكِ زمرد ”
” وماذا قلت أنا بالله عليكِ أنتِ …”
وقبل أن تكمل زمرد كلماتها سمعت جميع الفتيات صوت امرأة تصيح بصوت مرتفع وهي تشير عليهن :
” ها هي ذا سيدتي ”
ضمت برلنت شفتيها تنظر بصدمة لكهرمان، تحاول استيعاب سرعة ما حدث :
” يا ويلي هل سمعوكِ ؟؟ اهربي كهرمان ”
تحفز جسد زمرد وهي تقف أمام كهرمان بريبة خائفة أن يكون أحد اكتشف شيء ما عنها أو عن كهرمان أو افعالهما، كان وجيب قلبها يهدر بقوة ويدها تتحسس الخنجر في انتظار اقتراب النساء منهما، وبرلنت تنظر لهما بشفقة كبيرة .
لكن ما حدث كان أن النساء أمسكت وللصدمة ببرلنت التي اتسعت عيونها بصدمة تقول :
” ماذا ؟؟ ما هذا ؟!”
علت البلاهة نظرات زمرد وكهرمان، وبرلنت لا تفهم ما يحدث :
” ماذا تفعلون، ابعدوا ايديكم عني..ياا، ما هذا ؟؟”
وقبل أن تعترض وجدت فتاة تظهر من خلف النساء تجاور مشرفة العاملات وهي تشير صوب برلنت وهناك نظرات تشفي تعلو وجهها :
” ها هي سيدتي، هذه هي الخادمة التي رأيتها تخرج من معمل صانع الأسلحة ركضًا، لا بد أنها هي من سرقت خاتمه”
اتسعت أعين زمرد وهي تنظر لبرلنت وكهرمان شعرت بالصدمة كبيرة، بينما برلنت فغرت قاهها ببلاهة :
” ماذا ؟! أي سرقة تلك وأي خاتم هذا الذي سآخذه من ذلك صانع الأسلحة ؟! بالله ما وطئت يومًا معمله وخرجت بخير، هل تعتقدون أنني امتلك الرفاهية داخلة لاسرق”
تحدثت المشرفة بهدوء شديد وهي تنظر لها تقول بصوت عميق :
” سنقوم بتفتيش أغراضك وإذا ثبتت التهمة سينفذ بكِ الحكم بعد قرار الملك، والآن ألحقن بي صوب حجرتها ”
اتسعت أعين برلنت تنظر للفتاة التي وشت بها والتي كانت نفسها من تشاجرت معها، وقد كانت ترمقها بتشفي وسعادة كبيرة، سحبتها النساء صوب حجرتها، لكنها وحين مرت بالفتاة توقفت وضربتها بقدمها مسقطة إياها ارضًا :
” سأعود يا حقيرة ”
صرخت الفتاة تسقط ارضًا وهي ترى الجميع يسحب برلنت خلفهم لتتأوه، ولم تكد تصرخ وتعترض على ما فعلته حتى شعرت بجسدها يرفع بقوة، نظرت برعب صوب زمرد التي همست لها :
” ما الذي فعلتيه يا ابنتي ؟؟ ألم تتعلمي أن الكذب حباله قصيرة ؟؟”
نظرت لها الفتاة تحاول ابعاد قبضة زمرد عن ثيابها لتقول زمرد بتحذير :
” إن علمت أن لكِ يد في هذه المكيدة، سأقوم بلف حبال الكذب حول رقبتك واخنقك، وأنا أعني ذلك …حرفيًا ”
تركتها لتسقط ارضًا، بينما كهرمان حدقت فيها بنظرات غامضة، ثم منحتها بسمة مخيفة :
” سأجدك إن حدث شيء لرفيقتي، والآن اعذريني ”
ختمت حديثها تسير خلف النساء بكل هدوء وهي تفكر في المصائب التي تُلقى على رؤوس الجميع .
_______________________
” تميم إن لم تتوقف عن الدوران بهذا الشكل سأنهض وأحشر سهامي في فمك ”
كانت تلك الكلمات الغاضبة صادرة من فم دانيار الذي ملّ حركات تميم في المعمل بهذا الشكل مزعج، وسالار يراقب ما يحدث بهدوء شديد وهو مضجع على مقعده براحة شديدة .
توقف تميم عن الدوران يصرخ ضاربًا الطاولة أمام الاثنين بحنق، ليغمض سالار عيونه بحنق :
” هل تمزح معي ؟! هذا الخاتم يعني لي الكثير و…”
نفخ دانيار مقاطعًا إياه:
” نعم نعم وهو آخر ذكرى لك من بيرلي …”
أشار له تميم بإصبعه محذرًا :
” برلنت بالنسبة لك، أو آنسة برلنت ”
رمقه دانيار بحنق شديد ليبتسم سالار مما يرى ويسمع :
” جيد أن هناك حبًا في قلبك ينافس الأسلحة ”
نظر له تميم وكبت بصعوبة كلماته التي كان سيخرجها بكامل عفويته ويخبر قائده أنها هي أيضًا سلاح، بل السلاح الأخطر والذي استطاع هزيمته، لكنه كبت كل ذلك وهو يقول مشيرًا بإصبعه في وجوه الاثنين :
” سأنتظر حتى تسقطا أنتما الإثنان في العشق وتأتيان لي تبكيان من مرارته ”
رفع سالار عيونه لتميم وقد التوى ثغره بسخرية ضاربًا إصبعه:
” أحلم كما شئت ”
” ستفعل يا قائد، فإن كان كامل جسدك من الصخر فقلبك ليس كذلك، وهذا الذي يجلس جانبك ويتبجح أنني أبالغك، يضم كل ليلة سيف تلك الفتاة بين أحضانه مخافة أن يتبخر ”
انتفض دانيار في جلسته بعدما كان متكئًا براحة على المقعد، ينظر لتميم بحنق شديد واعتراض على كل ما قال يرى نظرات سالار قد انتبهت له باهتمام شديد يتساءل بفضول عما يعنيه تميم .
لكن دانيار سارع للدفاع عن نفسه :
” أيها الكاذب، ما أدراك أنت والسيف ها ؟! هذا جزائي لأنني أخبرت واشيًا مثلك ”
استدار صوب سالار يقول بتبرير وسالار يستمع ببسمة خبيثة :
” لا تسمع له يا قائد هو احمق كاذب، كل ما في الأمر أنني أخشى سرقته للسيف ”
لكن تميم لم يتركه قبل أن ينال منه بالكامل، بل سارع بسحب المقعد المجاور لسالار من الجهة الأخرى يجلس عليه بلهفة يقص عليه بتشفي :
” بلى يا