![]() |
رواية صدفة ام قدر (العشق الخماسي) الفصل الثاني والاربعون 42 بقلم عبد السلام
#صدفة_ام_قدر
#العشق_الخماسي
#البارت42
بسم الله الرحمن الرحيم
البارت 42 (لن يتركها)
و انا من عاهدت نفسي إلا اقترب من أي حواء، و وضعت الفواصل و الحدود بيني و بينهن، لتأتي انتِ يا صاحبة العيون البُنية تتعدي حدود قلبي، و نسيت انكِ غيرهن بل انتِ «قدر» يجب ان ألقاه و ان اختلفت الطرق، حتمًا سيأتي يوم و تتلاقى فيه السُبل.
انزوت على حالها في غرفتها هربًا من اي ضجيج خارجي فيكفي ما بداخلها من عواصف الأفكار التي لم و لن تهدأ حتى يتحقق ما تريده لكن ماذا ان كانت تريد المستحيل؟ جلست «مريم» تحتضن هاتفها بكلتا يديها تتأمل صوره التي تحفظها عن ظهر قلب و ترى ان كان انزل منشورًا جديد عبر فيسبوك او تويتر لكن لا شيء جديد، زفرت الهواء بقوة بعد ان اجتمعت العبرات بعينيها تأبىٰ النزول تتذكر ماحدث في الكلية صباح هذا اليوم.
وكزتها «مريم» في ذراعها اثناء قولها:
"بت يا ملك مش اللي واقفين هناك دول رحمة و ياسمين؟!"
رفعت «ملك» رأسها عن شاشة هاتفها تنظر إلى المكان الذي تشير إليه الأخرى و اردفت بأقتضاب:
"اه هما"
ثم اضافت بخبث:
"بقولك يا مريم ما تيجي نسلم عليهم ده حتى وحشوني أوي"
ظهرت سخريتها واضحة في الحديث ليصيب «مريم» الارتباك لكنها حاولت ان تظهر عادية:
"لأ خلينا هنا احسن بلاش نروح عندهم"
التقطت «ملك» خوف الأخرى مردفة بضيق:
"انتِ خايفة منهم ولا أي"
نفت الأخرى بسرعة تخشى ان يفتضح امرها امامهن وقالت بتبرير لموقفها:
"لأ بس انتِ عارفة كل مرة بيحصل مشاكل و خصوصًا ست زفتة رحمة لسانها مبرد صح مش بتغلط بس بتعرف تسكت اللي قدامها، انا بقول نخلينا في نفسنا و نركز عشان الامتحان"
كانت تظن بقولها هذا أنها هكذا ستردعها عما تريد لكن هذا لم يزيدها إلا عِندًا وقالت بأصرار:
"بس انا بقا هروح عشان هي متبقاش حارقة دمي وهي تضحك و تنسى اللي عملته، انا رايحة عايزة تيجي تعالي مش عايزة انتِ حرة"
تحركت «ملك» لتهرول «مريم» خلفها تحثها على الانتظار:
"استني هاجي معاك، ده انا ابقا عبيطة لو فوت لحظة زي دي"
و عند وصولهم لهن التقطت آذانهم صوت «قدر» تقول بضجر:
"اهم جوز العقارب حضروا"
لم تعلق «ملك» على حديثها المزعج بل هتفت بعتاب مزيف:
"اي يا رحمة عاملة نفسك مش شيفانا ليه؟ ولا خلاص هانت عليكِ العشرة"
هتفت «مريم» تضيف على حديث صديقتها:
"معلش ماهو قليل الأصل كده يفضل طول عمره جعان و اول ما يشبع تظهر وساخته"
امسكت «ياسمين» مرفق «قدر» تنظر لها بملامح حزينة مردفة بهدوء:
"تعالي يا قدر خلينا نمشي و نسيبهم، احنا مش شبههم ولا هما شبهنا خلينا نمشي"
تعجب الاثنين من نطقها لاسم «قدر» بدلًا من «رحمة» لتهتف «ملك» بأستهزاء تحاول به ان تستفز الأخرى غير مراعية انها كانت صديقة لها كالتي تقف بجوارها الآن:
"قدر؟! اي هو الدكتور النفسي اللي بيعالجك من العقد اللي عندك سماكِ قدر بس بصراحة سواء رحمة او قدر ده مش هيغير من كونكِ انسانة مقرفة"
خشيت «ياسمين» ان تنفعل صديقتها من كم الاهانات التى تتلقاها من كلتيهما، حتى وجدت يد «قدر» تبعد يدها عن مرفقها ناطقة بهدوء:
"استني انتِ شوية كده"
ثم عادت تنظر لهن وعلى وجهها بسمة غريبة مردفة بهدوء:
"طب من الأول كده بقا عشان في ناس هنا محتاجة تعرف قيمتها ده لو كان ليها قيمة اصلًا، انتِ تقريبًا كنتِ بتقولي حاجة عن قليل الأصل و الجعان و الشبعان خليني ارد عليكِ و اقول ان مافيش حد هنا قليل الأصل غيركِ انتِ و صحبتك اللي واقفة جمبك دي، كان نفسي اقول بعد ما شبعتوا ظهرت وساختكم بس للأسف انتم لسه جعانين "
توقفت وهي تلتفت بعينيها على «ملك» ثم استطردت تكمل حديثها الذي يزيد من بغضهم لها:
"و انتِ كنتِ بتقولي دكتور نفسي و عقد، خليني اوضح لك نقطة صغيرة مش عيب نروح لدكتور نفسي ونقول اننا تعبانين احسن من ناس تانية تنكر ده وتطلع عقدها على الناس لمجرد انها حاسة بالنقص وانتِ بسم الله ما شاء يا ملك العقد عندك تتباع بالكيلو، شوفي رغم انكِ جميلة من برى إزاي بس جواك فاضي و ياريت خلتيه فاضي ده انتِ ملتيه كره وحقد وغل من ناس مابقتش شيافك اصلًا"
لمعت العبرات بعينيها من قسوة حديثها لكنها ابت ان تعلن هزيمتها أمامها بل هتفت بأنفعال لم تقدر على كبته:
"انا بكرهك يا رحمة وكل يوم بندم اني عرفتك و مش هرتاح غير و انا شايفة حياتك بتبوظ وكل الناس بتبعد عنك عشان انتِ ما بتدخليش حياة حد غير و تأذيه"
رغم حزنها من كلماتها إلا انها شعرت بالشفقة اتجاهها مردفة بأبتسامة حزينة:
"تعرفي انا سمحتكِ ليه يا ملك مش عشان سواد عيونك لأ، انا بس مش عايزة نتقابل عند القنطرة و اشوفكِ، انتِ بتقولي انك بتكرهيني بس انا بقا بقيت لا بكرهك ولا بحبك انا خرجتك من حياتي وعمرك ماختي حيز من تفكيري، ياريت تخرجيني انتِ كمان من دماغك و كفاية اوي اللي وصلناله لحد كده"
اردفت «ملك» بنبرة جامدة تنظر لها بتقزز:
"اللي وصلنا له ده بسببكِ انتِ، انتِ واحدة هانت عليها العِشرة و خانت صحبتها بس انا اللي غلطانة عشان عرفت واحدة رخيصة زيك كده"
تخلت «قدر» عن هدوئها وهتفت بأنفعال جلي وصوت خرج عاليًا من فرط عصبيتها من أتهام الأخرى لها:
"اللي هان عليه العِشرة يبقا انتِ مش انا بدليل انك جاية لحد عندي هنا عشان تجري شكلي، وانا لو خاينة زي ما بتقولي كنت رحت فضحتك عند اخوك و ابوك وعرفتهم البلاوي اللي بتعمليها من وراهم بس انا عمري ما اعمل كده و لا افضح سر حد أتمني عليه عشان انا بنت اصول و متربية و لو في حد رخيص هنا يبقا انتِ يا ملك مش انا"
القت بكلماتها الذي زادت من حقد وكره الأخرى لها وهي ترمقها بشر وسهام عينيها تخرج بشررًا كالنار، قابلت «قدر» نظراتهم بنفور و أشمئزاز ثم التفت تنظر إلى «ياسمين»:
"عندك حق لما قلتِ ولا احنا شبههم ولا هما شبهنا، يلا خلينا نمشي من هنا"
قبل ان تتحرك ايًا منهن كان قد اقترب منهم «فؤاد» شقيق «ملك» بوجه مبتسم رغم تعجبهم من تجمعهم هذا الذي يعلم تمام العلم انه ابدًا لن يكون خير.
"واقفين كده ليه يابنات مش في امتحان ولا اي"
كادت ترحل «قدر» و معها «ياسمين» لكن اوقفهما «فؤاد» وهو يقول:
"رحمة"
احتدت نظرات «مريم» ببغض من الواقفة لكنها انتظرت لسماع باقي الحديث الذي قاله «فؤاد»:
"لو في حاجة واقفة قصادك...احم قصدي قصادك انتِ و الانسة انا موجود و خصوصًا انكم هتمتحنوا مادتي بعد العيد"
ردت «قدر» بأيجاز قبل رحيلها مع رفيقتها:
"تمام شكرًا لحضرتك يا دكتور، بعد اذن حضرتك عشان الامتحان"
تذكرت «مريم» رده حينما طلبت منه شيء كهذا وقال هو بضيق:
"ما لو حضرتك مركزة في المحاضرة كنتِ فهمتِ"
عادت من شرودها بدموع زادت اكثر، تتسأل لما لا يبادلها نفس الشعور؟ لماذا هي تحبه وهو لا يراها من الأساس؟ ما المميز بـ «رحمة» عنها حتى تلقي هي منه كل هذا الإهتمام بينما هي لا يتحدث معها إلا عندما تبدأ هي بالحديث معه ويظهر نفوره و انزعاجه واضحًا لها لكنها تتجاهل كل هذا فقط لأنها تحبه، ما الجُرم او الخطأ الذي اقترفته حتى تنال منه هذا المعاملة القاسية ولا يشفق على حال قلبها الذي ينبض بأسمه هو بأسم «فؤاد».
__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:
في اليوم التالي، كان العمل في منزل «زكريا المنشاوي» على قدم وساق الجميع مشغول وكلًا منهم لديه عمله المطلوب منه انتهائه، فاليوم هو 'وقفة العيد' و كأي بيت مصري له عادات و تقليد مهما مر عليها الزمن لازالت موجودة، لتبدأ مراسم التنظيف و التحضير ليوم الغد، كانت «قدر» تقف على ارضية المطبخ تتوسط خصرها بأيديها الإثنين تزفر الهواء مردفة بندم:
"كان لازم اتسحب من لساني و اقول انا اللي هطبخ، ده انا مابعرفش اعمل شاي"
دلفت «ريهام» إلى المطبخ مردفة بتسأل وهي تراها تقف كالتائه هكذا:
"مالكِ يا قدر يا حبيبتي لو مش هتقدري انا عارفة ان العدد كبير استني لما اجاي انا و مرات عمك و نجلاء من السوق ونعمل كلنا سوا"
نفت الأخرى بثقة لا تعلم من اين مصدرها مردفة بأبتسامة:
"لأ ما تقلقيش عليا، روحوا انتم السوق و هتاجوا تلاقوا الدنيا تمام"
خرجت «ريهام» و من خلفها «قدر» التي قررت ان تستعين بهاتفها في تحضير الطعام و ما ان احضرته و عادت وجدت «ريهام» تقف وبجوار منها «مصطفى» الذي قال بنبرة خشنة:
"و البهوات فين لما سايبينكِ انتِ اللي تروحي السوق"
في بادئ الأمر ظنت «قدر» انه يقصد الفتيات بحديثه حتى سمعت زوجة عمها تقول بدفاع:
"دول يا حبايب قلبي طالع عينهم في الشغل هيبقا في الشغل و البيت وبعدين كتر خيرهم من فترة لتانية بيساعدونا في شغل البيت ودول رجالة، وبعدين يا مصطفى ما كان اسهل ابعت اي حد من رجالة الحج بس انا عايزة اروح السوق عشان اشتري الحاجة بنفسي "
اردف بضجر بعد ان عبثت ملامحه:
"يا ريهام انا خايف عليكِ، خايف تتعبي و انتِ في السوق"
ربتت بيدها على صدره مع بسمة هادئة كملامح وجهها:
"ياحبيبي اطمن انا هيبقا معايا عايدة و نجلاء يعني ماتخفش عليا"
اقترب منها و لثم جبهتها بقبلة مردفًا بهدوء بعد ان ارتخت عضلات وجهه:
"و انا ان ماخفتش عليكِ هخاف على مين بس"
كانت تطالعهم بحب غافلة عن ذلك الذي اقترب منها هامسًا بخبث بعد ان رأى إلى ما تنظر إليه:
"مش عيب تقفي تتصنتي عليهم كده، يقولوا اي لو شافوكِ كده"
شهقت بفزع وسرعان ما استدارت له تشعر بالاحراج لتقول بتلعثم:
"ها..لأ ده انا بس كنت رايحة اجيب الفون بتاعي ولما شفتهم واقفين افتكرت بابا الله يرحمه كان زي عمي كده عمره ما اتكسف يقول لماما انه بيحبها قدامنا"
تحدث «ادهم» بثبات رغم الحب اللي غلف عينيه وهو يطالع والديه:
"لان الاتنين اتربوا من نفس الشخص وهو جدك اللي علمهم ان لما يحبوا مايخبوش اللي في قلوبهم"
بعد مرور عدة دقائق كان يجلس فيهم «ادهم» على الأريكة المستوطنة في ردهة المنزل ويضع فوق ساقيه الحاسوب الخاص به يعمل عليه، رغم أن اليوم عطلة رسمية لكنه لا ينفك عن العمل بأستمرار بسبب حبه و شغفه بكل شيء يتعلق بالهندسة، توقفت يديه عن الحركة فوق لوحة المفاتيح عند سماعه لصوت تكسير يأتي من المطبخ، هرول إلى هناك ليرى ما الذي يحدث.
وصل إلى هناك مردفًا بلهفة لكن نجح في اخفائها بقوله:
"انا سمعت صوت تكسير، خير انتِ كويسة؟!"
قالت بهدوء يتنافى مع الضوضاء التي تسببت فيها منذ قليل:
"لأ هو الحقيقة انا كويسة مطبخكم هو اللي مش كويس"
لم يسأل عن معنى حديثها الذي فهمه وهو يرى حالة المطبخ التي يرثى لها و الى كل تلك الفوضى التي تعم المكان بالإضافة إلى بعض الاكواب الزجاجية المتهشمة على أرضية المطبخ ليعلو صوته الساخر:
"تقريبًا لسه في كوباية فوق الرخامة لسه ماتكسرتش، على ما اعتقد ماخدتيش بالك منها"
تجاهلت سخريته وظلت تتأمل المكان بحزن طغى على ملامحها بسبب شعورها بالفشل في مهمة بسيطة كهذه بالنسبة إلى اي فتاة _من وجهة نظرها_ لا تعلم ان كل شيء يأتي بالتعليم و الممارسة و ارتكاب الأخطاء و التعلم منها، لاحظ هو نظراتها التي تطوف في المكان بيأس و احباط فتحدث قائلًا بجدية:
"فين ندى تساعدكِ او حد من البنات؟؟"
نطقت بقلة حيلة رغم نبرة السخرية التي طوقت حديثها:
"ندى بتغسل السجاد ولو قلت لها تيجي تساعدني مش بعيد تغسلني مع السجاد نفسه، و هبة و وردة ماسكين شقة شقة بينضفوها"
حك جبهته و تخلى عن كبريائه وهو يقترح عليها:
"انا بصراحة مليش في الطبخ اوي اخري اعمل كوباية شاي بالنعناع، بس انا ممكن اساعدك واجهز لك الحاجات اللي هتحتاجيها انا عارف ان المطبخ كبير و انتِ لسه ماتعودتيش عليه عشان كده مش عارفة أماكن الحاجات"
كانت تستمع له ولا تصدق أ حقًا قال انه سيساعدها ام انها فقط تتوهم او ربما هي لم تستيقظ حتى الآن و تحلم قررت ان تغلق عينيها و تفتحهما من جديد لتتأكد من وقوفه أمامها.
"انا مقدر انكِ مش مستوعبة اللي قلته ولا انا في الحقيقية، بس بلاش تقفلي عينيك و تفتحتيها الحركة دي بتبقا لطيفة في الكرتون إنما في الواقع مش عارف ليه بتقلب بفيلم رعب"
عادت إلى أرض الواقع بحديثه الجدي رغم مزاحه المبطن للكلمات لتضحك على ما قاله بينما «ادهم» دلف إلى المطبخ و اقترب من احد ادراج المطبخ يفتحها ثم تبعها بقوله:
"على ما اعتقد اول حاجة هتحتاجيها هي الملح و الفلفل و التوابل"
اخرج العلب الزجاجية و المكتوب على كل واحدة منها أسم ما تحتويه لتنجب الخلط بينهم بسبب تشابه الزجاجات، بينما «قدر» ظلت واقفة لا تتحرك ولا تنطق بشيء فقط تتابعه بعينيها لكنه توقف عن إخراج الأشياء لعدم علمه بماذا ستحتاج ايضًا انتظر ان تقول شيء لكن لا حتى اردف هو بثقة جعلها تشعر بالاحراج:
"انا عارف ان جاذبيتي لا تقاوم و الحقيقية انا عاذرك بس مش وقته تأمل، في ناس صايمة مستنية تفطر و اتمنى من كل قلبي ما ينتهيش بينا المطاف على موائد الرحمٰن"
حمحمت بأحراج وما خفف عنها التوتر هو نبرته المرحة في الحديث لتقول وهي تتصفح الهاتف تخرج الوصفات حتى تعرف ما الذي سوف تحتاجه لتحضير الطعام:
"على فكرة بقا انا هعمل لكم شوية أكل من حلاوته هتكتفوا بالبلح و التمر"
كانت تسخر من نفسها على هيئة مزاح لكن الآخر عقد حاجبيه دليلًا على ان الحديث لم يروقه وقال بهدوء:
"على فكرة ما ينفعش تخلي حد يقلل منكِ حتى لو كنتِ انتِ الحد ده، ثقتك بنفسك ليها جزء كبير ان الحاجة اللي بنعملها تنجح عشان كده لازم تبقي واثقة ان الاكل اللي هتعمليه هيكون تحفة مش بس كويس."
ابتسمت بخفوت لكنها انتبهت لنظراته التي اصابتها بالارتباك لتنظر إلى شاشة الهاتف المضيئة وتقول بنبرة خرجت متقطعة وهي تملي عليه باقي الاشياء التي ستحتاجها في وصفاتها التي احضرتها من على الانترنت عبر احدى التطبيقات لم يستغرق الأمر اكثر من خمس دقائق حتى انتهى «ادهم» من إحضار كل شيء ذكرته «قدر» التي قالت:
"ناقص بقا الفراخ و الكبدة و اللحمة"
رمقها بنظرة متشككة وهو يقول بخبث و توعد لها:
"دول طبعًا اكيد انتِ عارفة مكانهم فين، عشان لو الإجابة لأ انا بنفسي اللي هغسلك مع السجاد مش ندى"
ابتلعت ريقها مع بسمة متوترة تجيبه بسرعة:
"لأ إزاي طبعًا عارفة مكانهم انا بس بختبرك"
استدار حتى يرحل ويترك لشفتيه حرية الابتسام على حديثها لكن اوقفته هي بقولها الهادئ الذي اعبر عن مدى امتنانها:
"أدهم! شكرًا على مساعدتك و كلامك"
التفت لها وقال بما جعل الحماس يشتعل في عينيها:
"العفو، بس مش عايزكِ بقا تكسفيني انا مراهن نفسي عليكِ"
القى بكلماته التي جعلت السعادة تتدفق لها كتدفق الدم في الشريان و تأهب جسدها لتخرج كل مواهبها في الطبخ و تخرج احسن ما لديها وبدأت تتحرك في المطبخ بحماس وترقب حتى لا تفسد شيء فهي لن تخذله بعد أن وثق بها لكن مهلًا ألم تخون ثقته من قبل؟!! و اتت الطعنة منها هي، بُهتت ملامحها بحزن و اختفت ابتسامتها و التي كان سببها «ادهم» وهذا لم يزدها إلا ندمًا، و اثناء شرودها لمست حافة الطنجرة الموضوعة فوق النار بأناملها الصغيرة لتبعدها على الفور كرد فعل تلقائي من الجسد، هنا خرجت من دوامة أفكارها وقررت انها لن تنجر خلفها بل ستذهب إلى شخص ما ربما سيجد هو الحل الأمثل لهذه المعضلة بأقل خسائر.
راقت لها هذا الفكرة و استحسنتها لتعود لها بسمتها المشرقة من جديد و عادت تكمل ما بدأته.
__'__'__'__'__'__'__'__'__'__'__'__'__'__
خرج «رحيم» من شقتهم و ما ان هبط الدرج حتى وصل إلى الطابق الثاني و الذي به شقة عمه «ابراهيم» و رأى شيء صغير يخرج من الباب أمعن النظر جيدًا حتى يعرف ما هذا وبالطبع لم يكن سوى «ندى» التي تحمل السجادة فوق ظهرها و بسبب جسدها الضئيل كانت السجادة تخفيها أسفلها ولم يتعرف عليها إلا عند سماعه لصوتها وهي تتمتم بغيظ:
"ده شيل الهم طلع اسهل من شيل السجاد"
اسرع هو في نزول ما تبقى من درجات السُلم واخذ يرفع عنها السجاد أثناء قوله:
"هاتي انا هشيلها عنكِ، بس هتوديها فين؟!"
لم تعترض او بمعنى ادق لم يكن لديها الصحة حتى تعترض بل اردفت بوهن وصوت خرج متعبًا:
"هيكون فين، جمب أخواتها فوق السطح"
استدار بجسده وهو يحملها كأنه يحمل ريشة لتقول «ندى» بحسرة على ذاتها:
"كنت فين من بدري ده انا اتقطم وسطي من المشايات و انت شايل السجادة كأنك شايل ورك فرخة"
ضحك على حديثها ثم قال وهو يصعد السلم إلى السطح وهي من خلفه:
"ده طبيعي عشان الراجل قدرته على التحمل اكبر من الست ده غير اننا بنروح الـ gym و بنقعد نربي شهور في اللي انتِ شيفاهم دول"
كان يقصد عضلات جسده التي لم يحصل عليها من فراغ لتجد الأخرى تهتف بأعتراض وهي ترى انه يفرق بين الرجل و المرأة ناطقة:
"على فكرة بقا مافيش الكلام اللي انت بتقوله ده الدنيا اتطورت و دلوقت المرأة زيها زي الراجل في كل حاجة بلاش تبقا ذكوري متعصب"
رمقها بغيظ فبدلاً من ان تشكره بل تجادل معه في الحديث ليستدير لها على حين بغتة مردفًا بمكر:
"بعيدًا عن إنك دخلتينا في حقوق المرأة اللي شكلك انتِ اصلًا مش فاهمة عنها حاجة و مش ده اللي كنت اقصده بكلامي، بس مادام انتِ شايفة كده خلاص خدي السجادة طلعيها انتِ"
تراجعت هي في الحديث وهي تتصنع الخوف مردفة بسرعة:
"لأ بس ده ما يمنعش ان المرأة ممكن تحط الجزمة في بوقها وتسكت لحد ما الراجل يطلع لها السجادة"
اراد ان يضحك وبشدة على هيئتها الآن لكنه اكتفى ببتسامة مردفًا بنبرة لطيفة:
"لأ اطمني كده كده ماكنتش هخليك تطلعي السجادة وبعدين مش كفاية اني ذكوري متعصب كمان هبقا ندل"
ختم حديثه بمزاح لتقهقه لأول مرة على شيء يقوله دون ان تعترض او تشعر بأن النيران تأكلها غيظًا منه _رغم انه لا يفعل لها شيء_ لكن هي من بدأت لعبة القط و الفأر لتترك له هو المجال لينهي هذه اللعبة ولكن بطريقته هو بطريقة «رحيم المنشاوي».
بعدها وضع السجادة مكان ما اشارت إليه «ندى» لتقول هي بهدوء عكس طبيعتها الشرسة تستغل انه منشغل في وضع السجادة فوق السور ويعطيها ظهره:
"رحيم كنت تقصد اي لما قلت لي.."
"بس لو الحلم ده يبقا انتِ يا ندى يبقا لازم الواحد يسعى له ويحارب النصيب عشان يوصله"
توقفت أنامله عن العبث بالبساط ثم استدار لها بكامل جسده وهو يطالعها بعينيه الزرقاء مردفًا بنبرة لطيفة:
"اقصد اللي فهمتيه يا ندىٰ"
شعرت هي بالتخبط و التيه، و بدأت تفرك في يديها بأرتباك هي تريد ان تطفأ اي شعور بداخلها قد ينمو تجاهه لكن الآخر لا يعطيها الفرصة في ذلك، ولحسن حظها ولسوء حظ الآخر سمع الاثنين صوت «احمد» وهو يقول:
"شوف يا أخي سبحان الله البيت واسع ازاي بس التليفون ميلقطش شبكة غير هنا"
استغلت «ندى» قدوم «احمد» إليهم وفرت هاربة من المكان، اقترب من «رحيم» الذي يرمقه بنظرات حارقة كادت تتفتك به:
"اي اللي..."
قاطعه «احمد» وهو يكمل حديث «رحيم» الناقص:
"اي اللي جابك يا زفت، ماتستغربش عرفت إزاي اصل سليم لسه قايلها لي من يومين في المستشفى"
اردف «رحيم» بضيق:
"شكلك فاضي وانا ورايا شغل"
هتف «احمد» بصوت عالي:
"يعني انت وراك شغل و انا اللي ورايا عمود نور.."
توقف ثم عاد يستكمل حديثه وهو يترجاه:
"رحيم ابن عمي حبيبي اللي مليش غيره، جدك الظالم اللي كل ما واحد من عيال عمك يعمل مصيبة يعاقبني أنا ده لو كافر و بيكفرله ذنوبه كان زمانها خلصت"
كتم «رحيم» ضحكه ثم اضاف وهو يسأله بيجأز:
"ايوة يعني عاوزني اروح اتكلم مع جدك؟!"
نفى الأخرى وهو يبتسم بمكر:
"لأ تيجي تساعدني ادخل البضاعة مخزن السوبر ماركت"
رسم «رحيم» ملامح الحزن المصطنع وهو يقول بأسف:
"ياريت كان ينفع ياحمد و الله بس انا لازم اروح اغير هدومي عشان اروح المستشفى"
تشنج وجه «احمد» بعصبية وهتف بحنق:
"مستشفى اي يالا انت هتصيع، النهاردة الوقفة ومعظم الناس واخدة اجازة"
اردف بتباهي و تفاخر ليزيد من حنق الآخر:
"لأ دي الناس العادية إنما انا دكتور Take care يا baby"
تتبع «احمد» رحيله من أمامه حتى اختفى، لكن سرعان ما هبط إلى الأسفل و ولج إلى شقة عمه «ابراهيم» ودخل غرفة ابن عمه النائم الذي استيقظ على لكمة من «احمد» ليقول «سليم» بضجر وصوت ناعس:
"خير على الصبح"
حاول ان يبقى في حالة هادئة واخذ يتنفس بهدوء لكنه فشل عندما خرج صوته منفعلًا:
"ولا انا زهقت منك انت و أخوك، مش كل ما تعملوا مصيبة جدك يتعصب عليا أنا"
ظهر ضيق المتسطح على الفراش بقوله:
"اخلص يا زفت عايز اي"
"تقوم تستر نفسك وتيجي معايا ندخل البضاعة المخزن عشان جدك حالف ماحد يدخلها غيري ومافيش حد من الرجالة يساعدني ده غير انه عطيهم النهاردة نص يوم عشان العيد، انما أنا يذل في اللي جابوني لحد المغرب عادي"
مسح «سليم» على وجهه مردفًا بهدوء:
"انت مش قلت انه حالف ماحدش من الرجالة يساعدك خليه شافني وانا بشيل معاك يبقا اي الحل ساعتها"
اردف «احمد» بتلقائية:
"ويعني هو انت من الرجالة يا سليم."
كان يتثأب أثناء استماعه لقوله لكنه توقف وهو ينظر له بعينين تخرج شرارًا من الغضب ليهتف «سليم» بصوت عالي وهو ينهض من فوق الفراش:
"وحياة امي ماحلك النهاردة"
ركض «احمد» من أمامه والآخر خلفه وهتف بخوف منه:
"ياض اسمعني ماكنتش اقصد اللي فهمته، الله يخربيتك ايدك طرشة"
بينما في شقة «مصطفى» كانت الفتيات تنظف وترتب اماكن الأشياء حتى انتهوا لكن لم يبقى سوى هذه الردهة التي تحتوي على طاولة الطعام و أريكة اسفل النافذة وتقف بجوارها «وردة» ومعها «هبة» تحمل كلتاهما وسادة تضربها بأحد وسائل التنظيف 'منفضة' لاخراج ما تحمله من غبار أثناء غنائهم معًا بمرح وبسمتهم الصافية التي تشبه نقاء قلوبهن.
و كان المقطع الأول من الاغنية من نصيب «وردة» وهي تقول:
"سِندريلي، سِندريلي، صُبح وليل، سِندريلي الدفاية ، الفِطار"
توقفت لتكمل «هبة» المقطع القادم:
"نضفي شيلي الغُبار يلا اڪنسۍ يلا امسحي مَمنوع تِستريحي"
" بِتلف طول اليوم ، حتى بَعد معاد النوم يندهولها ، يشغلوها"
ثم اشتركوا في غناء المقطع الأخير معًا:
" سِندريلي، سندريلي، صبح و ليل سندريلي"
القوا بعدها اجسادهن على الأريكة بعد ان تعالت اصوات ضحكاتهم لتقول «وردة» بتعب من بين ضحكاتها:
"الحمدلله تمت المهمة الأولى بنجاح، عقبال الباقي"
عاونتها «هبة» بالقول لتخفف عنها:
"خلاص هانت فاضل شقتين و السطح ونرتاح"
رفعت «وردة» سبابتها تحركها يمينًا و يسارًا لتضم «هبة» حاجبيها بعدم فهم حتى استمعت إلى قولها:
"لأ السطح ده تخصص الشباب، ده كل يومين يغيروا فيه حاجة يعني لو طلعنا فوق دلوقت هنلقيه بيبرق، بس قولي لي مين اللي كلمك و قالك تيجي؟ ده علا اختي مارضيتش تيجي"
اعتدلت «وردة» في جلستها تنتظر إجابة «هبة» التي قالت:
"اصل كلمت ندى من الفون الجديد امبارح وعرفت منها انكم بتتجمعوا من النجمة عشان تشتغلوا ترويق و مسيح مع بعض، و قلت بما اننا معزومين كلنا هيبقا قلة ذوق مني لو جيت معاهم على الفطار قلت اجاي اساعد انا كمان، يعني... بحاول اقرب من الناس اللي هيبقوا اهلى"
اتسعت ابتسامة «وردة» وهي تقول بصدق:
"طيبة انتِ اوي يا هبة، شكل مراد ربنا بيحبه عشان تكوني انتِ زوجته"
وعند ذكرها لاسمه شردت به وبكل شيء يفعله من أجلها، و وجوده دائمًا بجانبها ان احتاجت إليه وبث الطمأنينة لها وهو يخبرها بعينيه انه امانها وانه ابدًا لن يتركها لكنها شخص اكثر شيء تخشى منه هو الفقد، ترى أنها كلما تعلقت بالاشخاص حتمًا سيأتي يوم ولن تراهم فيه كوالديها و «اسراء» ابنة خالتها وغيرهم من الأشخاص الذين ناولوا جزء من حبها و انتهى الأمر بالمو،ت او الفراق.
لاحظت «وردة» شرود عقلها وتعلق عينيها بالفراغ لتتطرقع اصابعها نصب عينيها حتى تلفت انتباهها ثم اتبعت ذلك بقولها:
"مالك ياهبة رحتي مني فين؟!"
حركت «هبة» رأسها ناحيتها وظهر خوفها في عينيها لمجرد انها تخيلت ان «مراد» سيتركها هو الآخر كما غيره او يخشى من امر الفضيحة بسبب صورها التي لا تعلم ما نية الفاعل من ورائها وحتى الآن لم يطالب بشيء او حتى يرسل رسالة يهددها بها، ربما اراد ان يتلذذ بخوفها قبل ان ينشر صورها بكل مكان و التي بالتأكيد ان وصلت إلى اهل «مراد» سيطالبوه بالطلاق منها.
سرت قشعريرة في جسدها وبدأت تنتفض في مضجعها لذكرها كلمة الطلاق، كانت «وردة» تتابع حالتها التي تغيرت من حال إلى حال في ثواني معدودة تغفل عن السبب اقتربت منها على الفور تضع راحة يدها فوق يد الأخرى قائلة بعد ان قلقت من حالتها:
"مالك يا هبة هو اي اللي حصل؟؟ في حاجة تعباك طيب؟ وايدك مالها باردة كده ليه؟!!"
تغاضت «هبة» عن جميع اسئلتها ولم تفكر بشيء اخر غير سؤالها الذي أعبر عن مدى خوفها و فزعها من ابتعاد «مراد» عنها:
"وردة!! هو مــراد ممكن يسيبني؟؟"
لم تكن «وردة» على دراية بأي شيء لكنها علمت ان هناك خطب ما هي لا تعلمه لم تترك المساحة لفضولها بأن يسألها وهي في حالتها هذه بل اقتربت منها و طوقت زراعها بكتف «هبة» ثم ابتسمت وهي تقول بهدوء ربما يخفف من قلقها الذي جعل ملامح وجهه تبهت كمن سُرق منه دماء وجهه:
"انا ماعرفش انتِ ليه سألتي سؤال زي ده ومش عايزة اعرف، بس اللي اعرفه و متأكدة منه ان مراد او باقي أحفاد المنشاوي عمر ما كان البعد و الهجران من طبعهم وطالما مراد كتب كتابه عليكِ يبقا بيحبك حتى لو مقلهاش صريحة ليكِ، يعني اطمني مراد عمره ما هيسيبكِ"
أثلجت الكلمات صدرها وتسللت الراحة إلى قلبها لكن نظرة الخوف لازالت تتخذ حيزًا من عينيها ليأتي هو بنفسه كي يكمل مهمة «وردة» الناقصة بأن يطرد اي خوف او اي شعور يؤرقها ويجعلها تشعر بالاختناق ليسمع الإثنين صوته وهو يقول بنبرة هادئة اعبرت عن مدى حبه لها وأنه دائمًا معها ولن يتركها:
"اللي بيحب حد و باقي عليه بجد ياوردة عمره ما هيسيبه ويمشي مهما حصل، سـاعات بيجي علينا وقت مش عارفين احنا عايزين أي ومش بنکون عارفين نعبر عن اللي جوانا إزاي؟ بس اللي بيحبنا بجد عمره ما هيزهق مننا ولا هيمل ويرمي كل الحمول من فوق ضهره و يمشي، و اللي قلبه عرف طريق حبنا مش هيصدق عنا اي حاجة و مش هيسيبنا ويمشي ولا هيدي فرصة للبعد اصلًا"
كان يتحدث مع ابنة خالته لكن نظراته كانت معلقة عليها هي يرسل لها رسالة مبطنة فهمتها هي على الفور وعلم هو ان المقصد وصل إليها عندما لمعت العبرات بعينيها ولكن ليس خوفًا بل حبًا مع شفتيها التي ألمتها من الابتسام وهي تستمع إلى حديثه، كل مرة تخاف هي وكل مرة ينجح هو في ان يطمئنها ويخبرها انه لن يبتعد ابدًا حتى إن أرادت هي، فقد قطع لها وعدًا عندما قال لها في ذات مرة:
"«و انا اوعدكِ اني هفضل مكلبش في إيدكِ لحد باب الجنة»"
قطع سيل النظرات بينهم، و «وردة» التي شعرت بالحرج من تواجدها كعزول بينهم لتبدأ بالعبث في هاتفها بتوتر قبل ان يدلف «احمد» ومن خلفه «سليم» الذي تعجب من تواجد شقيقه بالمنزل ليهتف بسخرية:
"و البيه واقف عنده بيعمل اي؟ ده انت كلت دماغي امي امبارح بليل وانت عمال تترافع في الاوضة عندي، خير ما رحتش المحكمة ليه؟ و لا روح حسن سبانخ اللي جواك لسه مطلعتش"
اشار «احمد» لـ «سليم» بعينيه على تواجد الفتيات ليحمحم بحرج منهن وقال ببتسامة:
"انا اسف ماخدتش بالي منكم، عاملين اي؟"
ثم عاد ببصره إلى شقيقه بعد ان استمع رد الفتيات عليه، وبعدها اردف «مراد» بهدوء:
"ده كان المفروض بس المكتب كلمني وقال انه غلط من عندهم في التواريخ و الجلسة لسه كمان اسبوع من دلوقت"
تبادل «احمد» و «سليم» النظرات بينهم مع ابتسامة خبيثة جعلت «مراد» يشعر بالقلق ليقول بعدم ارتياح لهم:
"هي والله عارفها الإبتسامة دي، اكيد وراها يا مصيبة يا شغل هيهد حيلي"
__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:
فتح الباب بهدوء بعد ان رحب به أصحاب المنزل، و دلف إلى الغرفة التي تقطن بها زوجته من بعد خروجها من المشفى، كانت تتسطح على الفراش وبدى التعب ظاهرًا على ملامحها المرهقة و دموعها التي جفت من كثرة البكاء، علم من السيدة «فاطمة» انها لا تأكل وترفض الخروج من غرفتها حتى بعد قدوم «وردة» لها، اقترب يجلس بجوارها يتأملها بوجه حزين و كان الوجوم رفيقه، حرك يده على خدها بلطف، وبعدها مال بنصف جسده ولثم جبهتها، شعر أنه على وشك الدخول في نوبة بكاء وهو يرى دموعه التي سقطت على خديها، ابتعد عنها، شعرت هي به و بوجوده معها، تسللت لها رائحته التي تعشقها.
حركت اهدابها ببطء وتبعد جفونها عن بعضهما تطالعه بخليط من الحزن و الأسى و الاشتياق والتعاسة، مشاعر متضاربة هاجمتها وهي تراه أمامها، هي تحبه ولا تريد الابتعاد عنه لكنها تريد له السعادة والتي ان ظلت هي معه لن ينعم بها، كم تزعم هي.
و اول من طرد الصمت من بينهم كان «اسماعيل» وهو يعاتبها بنظراته قبل لسانه وهو يقول:
"هونت عليك يا نعمات تسيبني، خلاص حضني بقا عنك غريب و الغريب هو اللي حضنه بيحتويكِ، ليه دايمًا بتروحي للقرار اللي هيوجعنا احنا الاتنين و تعمليه؟؟ ليه بتصعبيها عليا وهي والله صعبة و مكلكعة بس انا راضي طالما انتِ جنبي مش عايز حاجة تاني، نعمات لو عِشرة عشر سنين مخلتكيش تعرفيني صح فيهم، انا هعرفك باسماعيل اللي من يوم ماشافك مع ابوكِ وهو جاي لي الورشة عشان اصلح عربيته وانا مش قادر انزل عيوني من عليكِ، هعرفك باسماعيل اللي قطع عهد مع ربنا قدام الناس كلها انه هيعاملك بما يرضي الله وبمودة و رحمة زي ما تعلمنا من رسولنا إسماعيل اللي ما بيصدق يروح البيت عشان يشوفك وياكل من إيدك أحلى لقمة "
صمت يبتلع الغصة المريرة التي تشكلت في حلقه ووقفت كعائق لخروج الكلمات، لكنه جاهد ليكمل حديثه بصوته الهادئ عكس الضجيج الذي يعج بكلاهما:
"نعمات انتِ مش بس مراتي، ده الأم و الاخت و الصاحبة و الحبيبة و الابنة كل دول انتِ يا نعمات، اوعى تفتكري اني مش زعلان على اللي راح بس انتِ عندي أهم "
حاولت النهوض وهرع هو بمساعدتها ثم وضع خلف ظهرها وسادة حائل بين ظهرها و بين خشب السَرير، ومسح بكفيه دموعها التي تنزل في صمت واخيرًا تحركت شفتيه تتحدث هي منذ بداية دخوله ناطقة بصوت متحشرج:
"و عشان كل اللي قلت عليه ده يا إسماعيل انت تستاهل انك تفرح من حقك يبقا عندك إبن يشيل أسمك ومش من حقي احرمك من ده لمجرد اني بحبك، سعادتك عندي أهم"
ضم حاجبيه بأنفعال من حديثها الممل الذي تكرره مرارًا و تكرارًا على اذنيه ليهتف بنبرة وضح بها ضيقه من كلماتها وليس منها هي:
"مش عايزها، السعادة اللي بتتكلمي عنها دي لو مش معاكِ انتِ يبقا مش عايزها، كام مرة هقولك اني راضي باللي ربنا كتبهولي وراضي بنصيبي و حامده وشاكره انتِ بقا ليه مش عايزة ترضي وعمالة تدوري على اي حاجة توجعنا احنا الاتنين و تعمليه، ليه يانعمات؟؟!"
نطق الاخيرة بصوت منخفض اعبر عن الحزن الذي يحمله بداخله، هو حتى لا يريد ان يقسو عليها بالكلمات، اجهشت في البكاء بصوت عالي تفيض بكل ما تحمله من ألم و معاناة:
"عشان بحبك، عشان لو انت مش عايز أطفال الناس بردو مش هتبطل تتكلم، عشان تعبت من كل حاجة حوليا بتضغط عليا، عشان عشر سنين وانا بسمع في إهانات و كلام زي السم من القريب قبل الغريب عشان لو انت رضيت غصب عني نفسي ابقا أم انا مش عارفة ابقا زيك يا إسماعيل انا والله جبت اخري وتعبت انا عارفة ان الابتلاء شديد بس انا ضعيفة وخلاص طاقتي خلصت مش حمل كلمة تكسر قلبي تفتفته، انا كل يوم الصبح اول حاجة اعملها ابص عليك اتأكد انك جمبي وماسبتنيش، كل يوم بموت من الرعب لفكرة ان هياجي يوم تزهق فيه مني وتطلقني .. انا..انا بس عايزة امشي عايزة ابعد مش مهم اروح فين بس ارتاح من الدوشة اللي انا فيها، عشان انا...مــعــيــوبـة يا إسماعيل و عمري ما هخلف"
نقطت الأخيرة بقهر امتزج مع بكاءها الذي يزيد من حريق قلبها، ليخطفها «اسماعيل» بين ذراعيه، يضمها إليه بقوة ورغمًا عنه نزلت دموعه تحرق وجنتيه من شدة سخونتها وهو يراها بهذه الحالة لا يعرف كيف ينتشلها منها، بدأ يحرك ذراعه يمسد على ظهرها كأنها طفل صغير يهدهده ثم مسح دموعه حتى لا تراها وابتعد عنها مردفًا بهدوء على حديثها يمازحها:
"طظ في الناس و طظ في الدنيا كلها اقول لك على حاجة طظ فيا انا كمان لو جيت في يوم فكرت بس اسمع لكلام الناس، الناس طول عمرها بتتكلم عمرها ماسابت حد في حاله الفرق ان فيه حد عبيط بينخ ويطاطي لكلامهم و يخليهم يأثروا عليه وعلى حياته و ابسط قرار ممكن ياخده عشان يسعده مش هيعرف يعمله عشان خايف من كلام الناس مع ان الحاجة دي ربنا محرمهاش بس حاطط الناس فوق دماغه و هيفضل يوطىٰ يوطىٰ لحد ما يدخل تحت الأرض، انما في حد تاني حاطط الدين قدامه و القرآن على يمينه و كلام الرسول و احاديثه على شماله ولما يفكر يعمل حاجة او يسمع لحد بيرجع لتلاتة دول وده اللي المفروض اي مسلم يعمله، مش يسيب نفسه لكلام الناس اللي لو مافدوش اكيد هيضره"
صمت لبرهة وهو يرى تأثير حديثه عليه، ابتسم بخفية وهو يرى انه يمشي على المسار الصحيح ليكمل:
"و النتيجة اهي انا هناك بتعذب و انتِ هنا حابسة نفسك و مابتكليش وعايزة تمشي و انتِ عارفة ان راحتك في قربي مش في البعد، وبعدين مين العبيط اللي قال اني ممكن اتهف في عقلي و اسيبك طب بذمتك انتِ اجيب منين حد احرق دمه كل يوم الصبح عشان نسيت نور الحمام والع"
ضحكت على نهاية حديثه بعد ان تصبغ وجهها باللون الاحمر من فرط البكاء ليطبع قبلة على مقدمة رأسها وهو يرجوها بصوته الحاني:
"طب مش ناوية تيجي معايا بقا البيت و قلبي وحشين من غيركِ، العيد عند كل الناس بكرة بس انا نفسي يكون النهاردة لما رجلك تدخل بيتنا من تاني"
كادت تبكي من فرط حبه وحنانه اللامتناهي لكن حذرها إلا تفعل ذلك لتبتسم بضحك قائلة:
"ابقا عبيطة لو ضيعت من ايدي راجل لو لفيت الدنيا كلها مش هلاقي زيه ولا حد يملى عيني غيره، انا عرفت انا ليه ربنا مارزقنيش بالخلفة"
ضم جابيه بأستغراب وسألت عينيه بدلًا من لسانه لتكمل وهي تطالع وجهه الذي تعشق كل انش به:
"عشان نصيبي الحلو خدته كله يوم ما اتجوزتك يا إسماعيل"
لم يتمكن من الرد عليها بسبب صوت الطرق فوق الباب الذي وصل إليهم، أذن «اسماعيل» للطارق بالدخول، ليُفتح الباب وتدخل منه السيدة «فاطمة» بعد ان ابتهج وجهها وهي ترى ابتسامة «نعمات» والتغير الملحوظ الذي طرأ عليها فقط لمجرد تواجد زوجها معها، اقتربت منهم وهي تطالعهم بحب وتدعي «الله» بداخلها ان يحفظهم و يرزقهم الذرية الصالحة التي حُرموا منها:
"شفتي وشك نور إزاي من طلته عليكِ، و هو كمان شايفة عينيه بتلمع إزاي انتم الاتنين مالكوش غير بعض، بلاش تخلوا مشكلة ماحدش له يد فيها تبعدكم عن بعض عشان مش كل مرة هنعرف نلاقي ونيس يأنس وحشتنا"
دلفت «هناء» وهي تتصنع الصرامة رغم نبرتها المرحة:
"بعد إذن الاسطى إسماعيل ممكن تتفضل تقعد مع لطفي جوزي في اوضة الجلوس عشان ورانا هنا عروسة هنجهزها لعريسها"
ابتسم «اسماعيل» ثم ابصر زوجته التي ارتبكت من حديث «هناء» وقال:
"و العريس يستنى ماجتش من الساعة دي، ماهو ياما استنى عشان العروسة تحن عليه"
كان يقصد الفترة ما قبل زواجهم، وعند تقدمه لخطبتها رفضته كثيرًا هو وغيره بحجة تكميل دراستها لكنه لم ييأس او يستسلم و انتظر عامين كاملين حتى تمت واخيرًا الخطبة، ضحكت بخوفت وهي تتذكر حجم المعاناة التي تلقاه هو على يدها في هذه الفترة.
خرج «اسماعيل» و اقتربت منها «هناء» وهي تحمل في يدها ثوب من ملابس «هبة» بعد ان استأذنتها به و الاخرى رحبت بذلك ولم تعترض واردفت تمازحها:
"شكل العروسة مستعجلة، وانا بصراحة بحب الناس المدلوقة انما التقيل ده خليه تقيل لنفسه"
اتسعت بسمتها لتضيف «فاطمة» بهدوء كأنها تتحدث مع ابنة لها:
"حافظي على جوزك يابنتي، اللي زي إسماعيل ده لو الدنيا كلها باعت هو الوحيد اللي هيشتري"
لمعت العبرات التي زينت عينيها و القت بنفسها بين أحضان «فاطمة» ناطقة بأمتنان:
"انا مش عارفة من غيرك كنت عملت اي؟ انتِ اكتر من امي ليا والله، انا جيت من الشرقية للبلد دي غريبة بس بيتك الوحيد اللي محسسنيش بغربة"
فصلت بعدها بينهم العناق و بدأت تستعد لذهاب مع زوجها، مع أجواء من مزاح و مشاغبة «هناء» و كذلك التؤام الصغير و التي رحبت بوجودهم «نعمات» و اخيرًا سكن الرضى قلبها وظلت تستمع إلى وصايا «فاطمة» لها كي تحافظ على بيتها و زواجها بصدرٍ رحب، و تناست كل الألام الجسدية و النفسية التي كانت تشعر بها، و كأن لقاءه اعاد لها الحياة بعد ان سلبت منها بفقدها لجنينها الذي لم يكتمل نموه، لتدرك بعد مرور عشرة أعوام ان «اسماعيل» زوجها هو السكينة و السكن و المسكن، و أنه الأمان لقلبها الذي يخشى الرحيل.
__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:__:
عاد «سليم» إلى المنزل بعد ان انتهى من حمل البضاعة و إدخالها إلى المنزل بمساعدة اخويه، وبعدها ذهب ليتحمم ويبدل ثيابه بأخرى نظيفة، وبعدها قرر الذهاب إلى المسجد حتى يؤدي فريضة العصر في جماعة لكن ما ان وصل لطابق الأرضي توقف يبحث بعينيه عن ابنة عمه «قدر» لكن قطع عليه ذلك هو هبوط «احمد» من فوق الدرج واقترب منه وقال بهدوء:
"واقف كده ليه؟ مش يلا عشان نصلي"
تنهد و اومأ له وقرر ان يعود لها بعد الصلاة حتى تذكر شيء وقال:
"استنى!! هو فارس فين انا مشفتوش طول اليوم"
تشدق «احمد» بفمه ساخرًا:
"البيه مكتئب وقاعد في اوضته وشايل طاجن سته فوق دماغه، و جدك قال ماحدش يزعله هو هيروق مع نفسه ويرجع زي الفل"
اعترض «سليم» على حديثه وهو يحثه لسير خلفه:
"لأ تعالى ننكشه ونعرف ماله، ده حتى بكره العيد ماينفعش نسيبه زعلان كده"
تحرك الإثنين وطرق «سليم» فوق الباب بهدوء ولم يدلف حتى سمح له «فارس» بذلك، كان الآخر يجلس منزوي على حاله في الغرفة ليهتف «سليم» بمرح:
"قولي بس مين مزعلك وانا ازعلك امه، وبعدين ده انت عملت اللي ماحدش فينا قِدر يعمله و هتتجوز قبل ما تكسر التلاتين"
اكتفى برسم بسمة ساخرة ليعلق «احمد» وهو يقترب يجلس بجوار ابن عمه:
"نرجس دي بنت حلال ما تسبش حد غير وتنكد على أهله"
نكزه «سليم» بمرفقه في جانبه وهمس له بضيق:
"احنا جايين نهدي و لا نشعللها يا حريقة"
خرج صوت «فارس» وهو يقول بنبرة ساخرة تحمل في طياتها الحزن:
"لأ هي مولعة خلقة، وبعدين خلاص شكله ولا هيبقا في جواز ولا عريس من أصله"
نظروا إلى بعضهم بحزن على حالته و قبل ان يندفع أحدهم لمواساته كان قد صدح صوت هاتف «سليم» أخرجه من جيبه و تعجب من المتصل والتي كانت «علا» ابنة خالته، رأى «احمد» اسمها على شاشته لكنه ادعى الانشغال مع «فارس»، تنهد «سليم» بعمق ثم أجاب:
"الو ايوة يا..."
بترت هي كلماته وهي تقول بلهفة:
"ماتقولش اسمي لو احمد جمبك، من فضلك يا سليم لو كان جمبك أبعد عنه"
تعجب «سليم» من مطلبها لكنه خمن انها ربما تريد ان تفعل مفاجأة لزوجها دون علمه و تحتاج لمساعدته لكن نبرة صوتها المضطربة اوحت بعكس ذلك، لبى طلبها و ابتعد قليلًا عنهم ثم اضاف بأستغراب لم يخلو من حديثه:
"قمت اهو ممكن بقا تقوليلي مش عايزة احمد يعرف انكِ بتكلميني ليه؟؟ هو انتم متخانقين؟!!"
اجابت بما ذاد من حيرة وقلق الاخر بقولها:
"عشان مش عايزة احمد يسمع الكلام اللي هقولهولك دلوقتي"