رواية الجزار الفصل الرابع بقلم حسن الجندي
من هؤلاء يتخيل ما يدبر لهم في الخفاء.. تلك القنبلة، التي كانت ستنفجر في الملهى الليلي في تلك الليلة منذ سنتين، في القضية التي تشغل بالك لو انفجرت كم رجلا كان سيموت؟ كم امرأة؟.. عشرات؟ مئات؟ ولكن قل لي ماذا لو أمكنني أن أمنع تلك الحادثة، وسيكون الثمن رجلا أو اثنان أو حتى ثلاثة ؟"
كانت عين (حسن) على شفاه (عمر) وهو يتحدث، مكملاً كلامه بعد أن أخذ نفسًا من السيجارة: 2
الفجر .. من .. - " هذا نحن.. زوار يرتعش منهم رجل الشارع، وفي نفس الوقت يرتعد منا المجرمون، وهذا هو المطلوب. لا يوجد فيلم أو مسلسل أو قصة إلا و صورتنا رجالا يرتدون ملابسا سوداء، وعلى وجوههم نظرة سادية متوحشة، ونحن نقتل الأبرياء، لدرجة أننا أنفسنا صدقنا تلك الدعاية، برغم أننا لا نفعل مثلما يحدث في تلك الأفلام، ولا نحتاج لذلك في كثير من الأحيان. لكن لو وصل الموضوع إلى أمن الملايين، فأنا مستعد أن أفعلها بنفسي، وأقتل العشرات في
سبيل حياة الملايين."
أطفأ السيجارة في منفضة صغيرة في وسط المنضدة، وهو يقترب من (حسن) قائلا بصوت خافت، وهو يضغط على مقاطع الكلمات: " هل تريد الحقيقة؟ أنا نفسي أعرف أنني أفعل الكثير من الأخطاء.. ربما مرت الكثير من الليالي على عقلي وأنا أحاسب نفسي.. ولكن من في مثل ظروفنا لا يمكنه التراجع، وعليه أن يسير في الطريق، مهما قابل أو واجه.. هل قلت لك إنني أتخيل أنني أقتل في نهاية حياتي؟ نعم أقتل.. نوعي من الرجال ليس هذا النوع الذي يسوي معاشه، ثم يجلس في المنزل يداعب أحفاده، ويتحدث مع أبنائه، ثم يموت على فراشه وهو يبتسم،
بل سأقتل" اتسعت عينا (حسن) وهم بأن يقول شيئا، لكن (عمر) قال
بسرعة بغضب: - " ولكن لن أموت على يد قاتل غبي، يدعي أنه قد عاد
من الموت لينتقم لعائلته تلك الأفلام القديمة تثير أعصابي... سأقتل على يد أحد أعداء الوطن، وحينها سأكون شهيدًا.. أما أن أموت ميتة مهيئة كتلك، فهذا لن يحدث.
اسمع هذا هو الطريق الذي تختاره بإرادتنا، وعندما نسير فيه نفقد تلك الإرادة." يا بني.. ما نحن فيه الآن هو طريقنا، الذي اخترناه.
بعد أن انتهى (عمر) من كلماته، ابتسم مرة أخرى، وأرجع
ظهره للوراء، ثم عاد ليأكل وكأن شيئا لم يكن.. أما (حسن)
فقد نظر إلى (عمر) دقيقة وهو يفكر، ثم قال:
" وماذا سنفعل ؟"
ظل (عمر) يأكل كما هو وهو يقول ببساطة:
- " هي قضية مثل أي قضية يا بني، وسنقبض على القاتل
في غضون أيام وأراهنك ساعتها أنه سيكون شابا مشهورا وليس (آدم) الحقيقي، الذي تعلم جيدا أنه مات في المستشفى، واختفت جثته. وحتى لو لم يمت، فهو قد فقد الإبصار، وقدمه اليسرى، وفقد معهم عقله، أي لا يمكنه الهرب من المستشفى. الموضوع أبسط من ذلك بكثير، ولكن لم يكن على
(صابر) الغبى أن يكتب هذا الاسم بدمائه قبل أ أن يموت."
رد (حسن) بتأثر :
- " كان يريد أن يحذرنا كي لا يحدث لنا مثلما حدث
توقف (عمر) عن المضغ، و(حسن) يكمل:
- " أتمنى أن أعرف ما رأى (صابر) قبل موته.
هنا نظر (عمر) لعين (حسن)، والأخير ينظر له بنفس
الطريقة، والاثنان يتخيلان ما حدث لصابر قبل موته.
هنا نظر (عمر) لعين (حسن)، والأخير ينظر له بنفس
الطريقة، والاثنان يتخيلان ما حدث لصابر قبل موته.
أميتال الصوديوم) !!! هناك شيء غريب.. قال (سامح) تلك العبارة في داخله، وهو يتذكر معلومات عن تلك المادة التي يسميها العامة مصل الحقيقة وتأخذ شهرة بأن أجهزة المخابرات تستعملها بكثرة، برغم إنها لا تستعمل كثيرا في عوالم الاستخبارات في العصر الحديث، بسبب ظهور مواد أخرى لها نفس الفاعلية وأفضل وبدون آثار جانبية.. مادة أميتال الصوديوم) أو بنتوتال الصوديوم) استخدمت بكثرة في المعتقلات النازية، وقد روج الألمان أساطيرها لإرعاب الأسرى من تلك المادة التي تعمل على القشرة المخية، وتقوم بفصل جزء من الوعي عن الشخص بعد حقنه بجرعة معينة، حيث يمكن للشخص أن يتقبل أي أوامر تأتي له من الخارج، لأن العقل الواعي في تلك الحالة يكون في حالة غياب مؤقتة وبالتالي في حالات كثيرة تتوقف قدرة المخ على التخيل والإبداع، مما يجعل من يقع تحت تأثيرها يفقد القدرة على اختلاق الأكاذيب عندما يتم سؤاله عن شيء ما.. وفي كثير من الأحيان، استخدم الألمان ذلك العقار ليث أفكار معينة، أو أوامر، أو ذكريات غير حقيقية، حيث يصحو الرحل وهو مقتنع بتلك الأوامر والذكريات، لأن عقله الباطن قد صنفها على إنها موجودة بالفعل.. ولكن كثيرين ممن وقعوا تحت تأثير ذلك المصل رفض عقلهم تنفيذ الأوامر التي أنت لهم، أو حتى رفضوا الإجابة على الأسئلة التي وجهت لهم، بسبب عدم غياب الوعي بالكامل، مما جعلهم يتحكمون بجزء من الإدراك.
وهناك أيضًا من يملكون حساسية شديدة تجاه ذلك المخدر، ولذلك فهو يستعمل على إطار ضيق، وليس كما يعتقد العامة أن المخابرات تستخدمه لاستجواب العملاء أو المتهمين بكثرة، وليس الموضوع أن يتم حقنه لأحد ما، فيقول لك ما تريد. ولكن على الرغم من ذلك، فلهذا العقار تأثير لا يمكن إهماله.
ولكن لماذا هناك زجاجة عقار ملقاة على الأرض بإهمال، والزجاجة كما يبدو في الحالة الخام، أي مازالت مسحوقا يشبه البودرة لم يخلط بالماء ليتم حقنه !!!
أمسك القلم، وعيناه تتسعان قليلا، وهو يكتب في الورقة الجانبية (المادة المجهولة، ثم وضع الصورة جانبا، وهو يقلب في بقية الصور، حتى توقف مرة أخرى عند صورة الحائط، وقد كتب عليه بالدماء لا أرى لا أسمع لا أتكلم، فابتسم وهو يقول في عقله إن الدائرة بدأت تكتمل.
فتح تقارير المعمل الجنائي، وهو يقرأها بحماس.
زوجة (صابر) تم تخديرها، ثم ضرب القاتل (صابر) على رأسه، ليفقده الوعي، ونقله إلى الصالة وكبله. تم حقنه بمخدر المورفين مرة أخرى، ولكن بنسبة قليلة جدا عن كل مرة، ثم انتزع عينيه ولسانه، وأدخل أداة حادة لأذنه، وبعدها استخدم منشارا طبيا، وقطع يده اليمنى من مفصل الرسغ، ليقطع معها
الشرايين، والتي بدأت بالتريف فك الحبل عنه، ثم تركه وكتب على الحائط عبارة لا أرى لا أسمع لا أتكلم، وخرج من الباب، في حين أن (صابر) رمى جسده من على مقعده فقد كان مازال واعيا، وظل يزحف إلى أن توقف وأزاح السجادة، وكتب تحتها بدمائه بيده اليسرى: ( آدم عاد ) ثم
توفى في فترة بين الساعة الثالثة والرابعة.
لا وجود لبصمات غريبة أيضًا، ولكن عثر على زجاجة في الصالة يبدو أنها وقعت من الجاني، وبتحليلها وجد أنها مادة بنتوثال الصوديوم)، وقد تم استخدامها من قبل بمقدار ربع المادة الموجودة داخل الزجاجة الزجاجة خالية هي الأخرى من
البصمات.
رفع (سامح) عينيه عن التقارير، وعلامات الاستفهام تتراص في عقله، ولكنه يفعل كما تعود كل مرة أن يمنع عقله من القفز إلى أي استنتاجات قبل أن ينتهي من مطالعة كل ما يخص عمله، والتأكد من كل صغيرة وكبيرة، حتى لا يكون هناك
مجال للخطأ قبل القرار.
فتح ملفات التحقيقات، وظل يقرأ التحقيقات التي أجرتها
النيابة مع الجميع حتى توقف عند تحقيق ظل يقرأه وعيناه
تضيقان، وهو يركز في كل كلمة فيه. امرأة تقطن في نفس
الشارع الذي يقطن فيه (صابر) تقول إنها كانت تجلس
بجانب النافذة هي وطفلتها، وفجأة رأت في حدود الساعة الثالثة رجلا يخرج من نفس العمارة، التي يقطن بها (صابر)، ويحمل في يده كيسا بلاستيكيا أسود اللون.. لم تر وجهه لبعد المسافة، وقلة إضاءة الشارع، ولكنها رأته يرتدي سروالا أسودا، وجاكيت جلديا أسودا، ويسير بعرج بسيط لم تلحظه هي إلا بعد أن خطا بضعة خطوات.. تقول السيدة إنه خرج من بوابة العمارة، ونظر حوله، ثم سار بعيدا، ليختفي في أحد
الشوارع الجانبية.
2
عاد (سامح) لتدوين الكلمات في الورقة، والتي امتلأت تلك المرة عن الورقة السابقة، ثم بعد أن انتهى من باقي التحقيقات عاد لمشاهدة الصور مرة أخرى، والتقارير والتحقيقات . حتى شعر أنه يعرف كل حرف في الأوراق التي قرأها. مرتين
9
هنا خلع نظارته وهو ينظر إلى السقف، ويفكر. نهض وذهب ليفتح باب الغرفة فوجد العسكري الذي أحضر له الأوراق يجلس أمام الباب، فطلب منه كوبا من الشاي ومياها، وعاد مرة أخرى للداخل.
أوقف (حسن) سيارته أمام تلك العمارة العالية بحي مدينة نصر، ثم نظر في ساعته التي اقتربت من الثامنة والنصف، وهي محرج من ذلك التأخير، فقد وعدها أنه لن يفعل ذلك مجددا، ولكنه تأخر هذه المرة أيضًا. تناول علبة الشيكولاتة من على مقعد السيارة، ثم خرج منها وهو يعدل هندامه. في الواقع كان شاردا، ولا تشغله أي أفكار عنها الآن سوى أنها ستغضب كعادتها.. كان يفكر في غضبها، وهو يستقل المصعد للطابق
الرابع، ويقف أمام الباب، ويضغط على الجرس
انفتح الباب، ليظهر خلفه طفل في الثامنة، ابتسم عندما رأى (حسن)، فابتسم له (حسن) وهو يحمله بذراعه اليمنى ويقبله
على خده، عندما ظل يقول بصوت مرح: - " عمو (حسن) جاء.. عمو (حسن) جاء "
دخل (حسن) وهو يحمل الطفل، ويسأله عن حاله، والطفل
يجيبه بفرحة.
اهلا يا (حسن) يا بني .."
سمع (حسن) العبارة السابقة، فنظر لصاحبها، الذي كان جالسا، وينهض الآن ليصافحه، فرد (حسن) بسرعة
- " أعتذر يا عمي على تأخري كل هذا الوقت، ولكن
الأمر ليس بيدي."
مد الرجل يده بود يصافح (حسن)، الذي أنزل الطفل ليجري ناحية إحدى الغرف ليبلغها، وهو يقول بابتسامة
كبيرة
- " لا عليك يا بني، فطبيعة عملك هي التي تفرض ذلك...
ولكن عليك أن تقنع (مريم) بذلك "
نظر (حسن) للأرض بحرج وهو يقول:
- " بالتأكيد هي غاضبة مني."
www wmla يقول بغضب:
سمع فجأة صوتًا أنثويا من خلفه
"..نعم" -
فنظر بسرعة، ليجدها (مريم) تقف وهي تنظر له بغضب. كانت (مريم) في السادسة والعشرين من عمرها، ذات وجه أبيض دائري وعيون عسلية.. من ينظر لوجهها يشعر أن عليه ألا يحرك عينيه من عليه، فوجهها هو خليط من وجه فتاة جميلة الملامح، وطفلة شقية، وأم طيبة ترتدي حجاباً أبيض اللون، وفستانا أبيضا، أعطاها مظهراً رقيقاً، وأضفى على وجهها بياضا أكثر، فأصبحت أجمل من أي مرة قابلها فيها. وبالرغم من كونها غاضبة، فإن طبع الحسن قد ظهر في خديها، وهي
تنظر له متوعدة.
قال الأب شيئًا ما، ثم ذهب لإحدى الغرف كي يترك (حسن) و (مريم)، ليتناقشا بحرية، في حين قال (حسن)
بارتباك:
- " هذه المرة يمكنك أن تحكمي علي بما تريدين."
بعد أن جلس (حسن) على الأريكة، وجلست هي أمامه
على مقعد، قالت له بتوعد:
2
- " للمرة الثالثة تحدد في موعده للذهاب للسينما أو
الخروج سويا، ثم تتأخر عليه، وتتأخر عليه بالساعات وليس १
بالدقائق.. أليس . كذلك؟
نظر لها، وقد ظهر الخرج على صوته، وهو يرد قائلا:
- " أعرف أنه كان علي المحضور الساعة الخامسة لأخذك؛ ولكن كلفت بمأمورية هامة، فاتصلت بالوالد لأعتذر له لأنني
سأتأخر، وهو قال إنه سيبلغك."
- " نعم سيبلغني.. وقد أبلغني. ولكن ألا تشعر بي وأنا أظل
طول النهار انتظرك، وأتخيل اللحظات التي سنقضيها معا، وأنت تأتي بكل بساطة لتعتذر ؟ هل تعرف كم مرة فعلت ذلك
بي؟ وهل تتذكر كم مرة خرجنا سويا، وكم مرة جلست معي
لنتحدث، مثلما يفعل كل المخطوبين؟ بالرغم من خطبتنا منذ
خمسة أشهر، إلا إنني أشعر أنني مازلت وحيدة.. هل تشعر بي
شعر (حسن) بالذنب بسبب تجاهله غير المقصود المريم... عاش حياته السابقة يؤمن بعدم وجود الفتاة التي يمكن أن يأتمنها على نفسه.. عاش حياته يرى كل فتاة غانية، أو لعوب أو زانية.. وفجأة تغيرت آراؤه بمجرد أن تعرف إلى (مريم).
منذ ستة شهور، كان يجلس داخل إحدى الكافتيريات بالحرم وهو يراقب أحد المطلوبين في كمين، هو ومجموعة من الضباط المندسين وسط الجالسين.. وفجأة وقعت عيناه على الفتاة الرقيقة الجالسة، وعلى قدمها جلس ذلك الطفل، وهي تتحدث إلى فتاة أخرى تشبهها، ويجلس بجانبهما رجل وقور. وجد نفسه يتابعها هي بعينيه بدلا من الاهتمام بالكمين ما الذي جذبه إليها؟ بالتأكيد ليس جمالها، لأنه رأى من هم أكثر جمالا منها .. هناك شيء ما، وكأنه يحيطها بحالة من النور، إنها
روحها.
بالطبع، قبل أن ينتهي الكمين طلب من أحد الضباط الأقل رتبة أن يجمع معلومات عن تلك الفتاة، التي تجلس وهي تحمل الطفل. انتهى الكمين وعاد (حسن) وهو يحلم ملامح تلك الفتاة، حتى جاءه التقرير، والذي وضح أنها خريجة كلية التربية منذ أعوام، ولا تعمل.. سبق وأن تمت خطبتها إلى زميلها في الدراسة، ولكن تم الانفصال بعد عام من الخطبة، لأسباب عائلية.. والدلها توقت أثناء الولادة لأخيها الأصغر منذ ثمان سنوات، وتركت للزوج (مريم) وشقيقتها الكبرى (شاهندة)، وطفل صغير يدعى (محمود).. (شاهندة تزوجت منذ أعوام، وظلت (مريم) في كنف والدها.. أما الوالد فيمتلك شركة توريدات كهربية صغيرة، تدر عليه أرباحا محترمة.
2 لم يكذب (حسن) خيرا، واستطاع الحصول على رقم هاتفها، وحاول التعرف بها ولكنها رفضت حتى الحديث معه، حتى جاء لمنزلها ليطلب يدها من والدها، وهي لا تعرف أنه هو من كان يحاول أن يتودد إليها على الهاتف، وها هي خطيبته الآن، وبقى على موعد الزواج شهور معدودة، ولكن المشاكل كما هي.
- " إذا أنت حتى لا تنتبه . تنتبه لحديثي ."
جعلته العبارة الغاضبية يفيق من أفكاره، فنظر إلى (مريم) وهي : هي تنظر له غاضبة، وهو يرد بسرعة
من حقك أن توقعي علي أي عقاب، وأنا سأنفذه؛ ولكن لا تغضي هكذا.. أرجوك... ظلت ملامحها جامدة، فابتسم (حسن) قائلا بصوت خفيض
أرجوك ابتسمي، فقد اشتقت لوجهك وهو يبتسم
".لي
ظهرت على ملامحها أنها تحاول أن تخفي ابتسامة ترتسم
على شفتيها ...
- " لو ابتسمت، سأقوم بتقليد نوم العازب."
لم تخف ابتسامتها، التي غزت وجهها، وهي تنظر للأرض محاولة إخفائها، فضحك (حسن) وهو يقدم لها اعتذارا مرة أخرى على تأخره. وكأنها كانت تنتظر ذلك، فظلت تسأله بلهفة، عنه وعن أحواله، وما فعل في يومه، وهي تلقي العبارات المضحكة بين الحين والآخر. نظر لها مبتسما، وعقله سعيد بوجودها بجانبه.. أخيرا وجد الشخص الذي يهتم بأخباره وأحواله، ويشعره بالدفء الذي ظل يبحث عنه.
لا يعرف لما فجأة جاء على باله مشهد لمدة ثانية ثم ذهب !! . مشهد (بتول) وهي ميتة وعيناها مفتوحتان، وتحاول بيدها اليمنى لمس كتفها الأيسر !!!
شعر أنه تشبع بالقضية.. نظر مرة أخيرة للثلاث ورقات
وهو يراجع البيانات للمرة الأخيرة، ثم مزق الورق بعناية
وألقاه في سلة القمامة، حيث لم يجد نفعا من الورق، بعد أن
حفظ البيانات التي يحتويها في عقله. أخذ يحدد مسارات تفكيره، وهو ينظر المساحة خالية من الغرفة.
علي أن أتخيل نفسي مكان القاتل.. القاتل يستخدم الثلاثاء من كل أسبوع ولكن لحظة.. القاتل يختار يوم الثلاثاء بعد الساعة الثانية عشر فهو يتراوح بين يوم الثلاثاء والأربعاء، ولكنها ليست صدفة، فهو يختار هذا التوقيت في كل مرة، أي يوم الثلاثاء ليلا والأربعاء صباحا ... الشيء الذي يجب السؤال عنه أيضًا: كيف يعرف عنوانيهم الخاصة، والتي ليست شيئا سهلا بسبب عملهم في جهاز مباحث أمن الدولة.. هو يعرف العنوان جيدا، يذهب لهناك في وقت محدد.. كيف يستطيع الدخول للشقق، ولماذا يستخدم العقارات المخدرة؟
2
توقف تفكير (سامح) للحظات . وهو يتخذ قرارا ما.. أخرج هاتفه المحمول، وقام بالاتصال بأحد الأرقام المسجلة، وانتظر
حتى رد الجانب الآخر : - " أهلا يا دكتور (ميلاد)، أنا السيد (سعد)، الذي عملت
معه في مشروع المزرعة الاسترالية منذ عام.. "
ضحك (سامح) بمحاملة وهو يقول:
" أطال الله عمرك. هل تمتلك ارتباطات اليوم يا دكتور ؟ جيد.. إذن سأثقل عليك في طلب صغير، وهو خدمة في مشروع جديد، لكن لن تكون شريكا رسميا فيه.. أحتاج إلى
خبرتك في إدارته.. بعد ساعة من الآن في منزلك.. نعم أتذكره.. سأكون عندك في الميعاد يا دكتور "
أغلق (سامح) الخط، وهو يتذكر الدكتور ميلاد ميخائيل) وعمله معه في تحليل نفسية مجموعة من المندوبين، قبل إرسالهم للعمل في روسيا، ومتابعة زرعهم خطوة بخطوة. بالطبع الاسم الكودي للعملية كان هو المزرعة الاسترالية)، والاسم الكودي السامح نفسه هو (سعد)، أما الدكتور (ميلاد) فهو طبيب نفسي ناجح جدا، يستعين به الجهاز من وقت لآخر في عمليات محددة، حيث يعتبر من الاستشاريين داخل الجهاز والذين لا يعملون بصفة دائمة فيه.. وكان أول ما خطر في بال (سامح) هو أن يستعين بطبيب نفسي محنك، كي يكشف له بعض الألغاز في القضية. لقد سمح له الجهاز بتكوين فريق عمل
وهو الآن يحتاج لأول فرد في الفريق.
ها هو الطبيب النفسي ميلاد ميخائيل يجلس على مقعد الأنتريه، وهو يطالع بعض التقارير الأخيرة، في آخر ملفات القضايا.. يجلس بوقار، وهو يرتدي قميصا فضفاضا أبيضا، وسروالا من قماش، وحذاء جلديا.. يتميز بوسامته الشديدة والتي كللتها الخصلات البيضاء في شعره، النعطي مزيدا من الوقار والوسامة لمظهره.
أمامه جلس - على المقعد المقابل في صالة داره (سامح) وهو ينظر له، بدون أن يتكلم.
من الصعب أن يتخيل أحدهم أن يكون اللقاء بينهما بهذه الغرابة. فبعد الترحيب من قبل دكتور (ميلاد)، وإحضار أكواب الشاي، فاتحه (سامح) في تلك القضية، وأنها بعيدة عن عالم المخابرات أخبره الطبيب في البداية إن هناك أطباء متخصصين في المعامل الجنائية التابعة للجهات الأمنية، ولكن (سامح أخبره إنه يريده هو بسبب خبرته في التحليلات الغريبة، التي تقوم على المخاطرة، فهذا النوع من القضايا جديد على المجتمع المصري، وليس من السهل التعامل معه، وتوقع خطواته القادمة. ولذلك، فالتحليلات الجنائية النفسية القاتل ليست كافية، وكأنها لعبة بازل، وهناك قطع مختفية.. و(سامح)
يرى أن دكتور (ميلاد) هو الذي يمكنه أن يحدد القطع المختفية
من البازل، ويعيد ترتيبها.
استلم الطبيب الملفات، وظل يقرأ فيها. لمدة ساعة إلا ربع لم ينطق أحد، و(سامح) يجلس بهدوء، ينظر للطبيب، الذي أخذ يقرأ الملفات بدقة كان هناك نوع من التعود بينهما، وخصوصا (سامح)، الذي لم يظهر عليه الملل أو الضيق، وكأنه مر بذلك كثيرا، ويعتبره شيئا طبيعيا.
أغلق دكتور (ميلاد) آخر الملفات، بعد أن أعاد ترتيب التقارير مرة أخرى داخله، ثم نظر إلى (سامح) وقال:
3
- " هذا القاتل مصاب بمرض نفسي بحق، ولكن يكذب عليك أي طبيب لو قال لك ما طبيعته. في البداية، لا يوجد داخل القضايا المصرية كثير من القتلة المتسلسلين، حتى الكثير من القتلة الذين اعتمدوا على التسلسل والتطابق في أنواع الضحايا، أو أماكن القتل، أو الساعات الزمنية لا يمكننا أن نعتبرهم قتلة متسلسلين بسبب أنهم اعتادوا على السرقة، مثل ريا وسكينة في أوائل القرن؛ لذلك ظهور حالة قتل تسلسلي هي طفرة، وتدل على عقلية ليست هيئة مغلفة بنوع من المرض النفسي، لأن القاتل التسلسلي ليس رجلا تظهر على وجهه علامات الغضب، ويسير في الشوارع يحمل سكينا، ويقتل كل من يقابله. هذا النوع من القتلة يمتلك حسا مرهفا،
وذكاء فطريا، وخيالا واسعا يمكنه من إخفاء آثار جريمته بعد ارتكابها. وفي أغلب الأحيان، عندما تحاول الشرطة صنع الكمائن له، فإنه يفلت منها بسهولة بسبب كونه ليس بحرما ساذجا شهوانيا، يمكن أن ترمي له بطعم، فيجري ناحيته وهو يلهث؛ بل هو يفكر بطريقتك، ويسبقك في التفكير بخطوة ويستعمل دائما عنصر المفاجأة، وعدم النمطية والقاتل المتسلسل - في الغالب يحمل شيئًا ما في نفسيته غير سوي، كتجربة عنيفة، أو أفكار تربى عليها، أو معتقد عقائدي أو فلسفي.. وكما ترى، فإن الكثير من تلك الأسباب لا تصلح. الميلاد قاتل متسلسل مصري ولكن هذا القاتل بلا شك هو قاتل متسلسل من الطراز الأول، والأدهى أنه لا يعلم بهذا، أي إنه لا يمارس القتل بغرض الشهرة، بل لغرض آخر واضح تماما، ولا أعرف لماذا لم ينتبه له الأطباء الآخرون. كما كنت أقول، إن القاتل - ولنطلق عليه اسم (آدم) مؤقتا، بسبب الاسم الذي كتب بالدماء ينفذ العمليات في يوم الثلاثاء بعد منتصف الليل، وهو لم يخطئ هذا التوقيت ولا مرة، وذلك يعني أن هذا التوقيت يحمل قدسية خاصة في عقله، ويجب عليه أن يحافظ على قدسية هذا الموعد في تنفيذ جرائمه، وبالطبع واضح أنه لن يتخلى عن أي موعد في كل أسبوع ...
تنحنح دكتور (ميلاد)، وكأنه يريد أن يقول شيئا، ثم اقترب من (سامح) قائلا يحرج" وأعتقد أنه سينفذ في كل أسبوع جريمة ما، ولن يمنعه أحد لأنه يدرس جميع الاحتمالات قبل الجريمة، ويمكنه دائما أن يسبقنا بخطوات، لأنه يمتلك عنصر المبادرة."
ظل (سامح) محافظا على تعبير وجهه وهو يستمع لبقية حديث دكتور (ميلاد)، الذي أكمل
2
- " (آدم) - كما اتفقنا أن نسميه - اختار هذا الوقت، لأنه مر بتجربة عنيفة جدا في مثل هذا الوقت، ولذلك هو يعيد تجربة مشابهه لها عندما يحيين كل ثلاثاء من كل أسبوع وكأنه يحيي ذكراها. المرايا التي يكسرها قبل ارتكابه الجريمة هذا تعبير عن خوف (آدم) من رؤية وجهه في المرآة، وهذا لغز يشغلني، فلماذا يخاف أن ينظر لوجهه في المرأة؟ يمكننا أن نضع احتمال أن وجهه يحتوي على تشوه يخشى رؤيته في المرايا ولكن ارتكاب الجرائم في توقيت واحد، وزمن واحد، يجعلني أميل إلى وجود شخص لا يريد أن يراه (آدم).. شخص يخشاه وكأنه عدوه اللدود، ولذلك يكسر المرايا كي لا يراه.. هل هناك شخصيتان للقاتل أم إن القاتل يشمئز من مظهره؟.. لو كان يشمئز من مظهره، فسيكون هذا بسبب تجربته التي يعيدها كل مرة، أي أنه يشعر أنه مشوه، وبالطبع لا أقصد التشوه الجسدي؛ بل النفسي."
قاطعه (سامح) قائلا:
- " هل يعني هذا أنه يخاف المرايا في كل وقت؟"
- " لا بالطبع.. في تلك الحالة أرى أنه يعيد كل يوم ثلاثاء
ليلا حادثة تعتبر نقطة تحول في حياته.. وكما أن العريس يعد غرفة النوم لعروسه ليلة العرس فآدم يعد المكان الذي يدخله قبل أن يعيد التجربة المقدسة كل ليلة. والإعداد يبدأ بكسر المرايا، كي لا يرى شيئا معينا فيها، وهو لن يحتاج في حياته لكسر المرايا، لأنه ببساطة أكثر يتحول في تلك الليلة، والناتج عن هذا التحول هو تحطيم المرايا، ولكن بمجرد الانتهاء من الليلة، فإنه يعود لطبيعته مرة أخرى.
وعن موضوع الضحايا، فسأقول لك شيئا بسيطا.. (آدم) هذا لا يسرق شيئا، ولا يقتل للتلذذ مثلما سيعتقد البعض، ولكنه يفعل ذلك للانتقام، وشيء آخر.. ففي عقله، هو لا يقتل أحدا، وبذلك هو لا يشعر بالذنب، لأنه في الجريمة الأولى للقتيل (لطفي) نجد أنه أخرج العينين، وقطع اللسان، وفقاً الأذن، وأكلهم أمامه ولكنه لم يقتله، فهو مات بعد ذلك، متأثراً بالصدمة. وكذلك في قضية (علي) و(صابر)، فهو يقوم بتحقيق انتقام محدد، ليس بهدف القتل؛ فلا يمكنك أن تعامله على أساس أنه قاتل.. لو كنت تبحث عن قاتل، فلن تجده، أما
لو كنت تبحث عن شخص طبيعي، فستعثر عليه."
قال (سامح وهو يفكر بصوت عال: إذا فهؤلاء الثلاثة تجمع بينهم صفة واحدة، ألا وهي
أنهم اشتركوا في تكوين ذكرى لآدم، وتلك الذكرى هي ما تحركه.. هل يمكن أن تكون تلك الذكرى هي تعذيبه مثلا؟" - " مرة أخرى لا يمكننا التيقن ولكن الغالب أن كل
خطوة يقوم بها هي انتقام متقن لتلك الذكرى، والدليل على ذلك أن هناك اثنين (صابر) و (لطفي) يشتركان في نوعية الانتقام، أي إنه أخرج لسانيهما وعيونهما، ودمر أذانهما، وكتب عبارة لا أرى لا أسمع لا أتكلم في أماكن واضحة... أي أن هذين الاثنين شاهدان على فعل ما، ولكنهما لم يمنعا هذا الفعل، ولذلك فأكله للعيون واللسان والأذن هو حرمان
لهما من الأجهزة التي شهدا بها الواقعة غير المعروفة. أما (علي)، فهو قد فعل شيئا ما يتعلق بقدمه، ربما سار في طريق ما، أو حرم أحدًا من السيرة المهم أنه قرر أن يأكل قدمه، كي يحرمه منها، وفي نفس الوقت هو يأكل اللحم أمامهم لغرض ليس اعتباطا.. هل تلك الذكرى أو الحادثة العنيفة كان هو في موضعهم؟ أي مكبلا وهو يشاهد شيئًا ما يحدث له أو أمامه؟ هل لذلك هو يعيد التجربة مرة أخرى، فيقطع أجزاء من أجسادهم، ليأكلها أمامهم، وهم غير قادرين على الحركة، أو الدفاع عن أنفسهم؟"
سكت دكتور (ميلاد) للحظات وهو يأخذ أنفاسه، ويفكر
بعمق قبل أن يقول: صابر) هو الوحيد الذي لم تؤكل أجزاء جسده، واختفت.. لماذا (صابر)، بالرغم من أن العبارة موجودة في شقته، أي إنه يصنف من ضمن من كانوا شاهدين على الذكرى، ولم يفعل شيئا؟ ولكن أعتقد أن (آدم) قد كافأه بأنه لم يأكل الأجزاء التي قطعها، لأن أكل أجزاء من لحمهم، هي متعة له وانتقام، أما (صابر) فقد قرر أن يحرمه فقط من تلك الأعضاء، بدون أكلها، أي لم يحقق انتقامه كاملا، بالرغم من قطعه ليده اليمنى، والتي يظهر أنه اشترك بها في فعل شيء في ذكريات (آدم). بعد أن شعر (صابر) أنه يفارق الحياة، كتب تحذيرا بسيطا، لم يقل فلان قتلني أو اقبضوا على فلان .. بل كتب تحذير (آدم عاد ولم يوضح حتى من هو، هذا التحذير موجه لأشخاص بعينهم، وليس تحذيرا عاما لقاتل طليق مثلا؛ بل هناك من فهموا الرسالة، وهناك من يوجه لهم (صابر) تلك الرسالة كي يحذروا منه، لأنهم بالتأكيد على القائمة القادمة."
- " هذا شيء ليس له علاقة بالطب النفسي، ولكن العودة هنا تعني أن الذين يعرفون شخصيته كانوا يعتقدون أنه لن يعود، فكلمة عاد تعني أنها مفاجأة، كشخص ميت وعاد للحياة مرة أخرى مثلا."
" آدم عاد.. هل هي جملة تؤكد على اسم القاتل؟"
هذا شيء ليس له علاقة بالطب النفسي، ولكن العودة هنا تعني أن الذين يعرفون شخصيته كانوا يعتقدون أنه لن يعود، فكلمة عاد تعني أنها مفاجأة، كشخص ميت وعاد
للحياة مرة أخرى مثلا."
الأحد ۲۲ / ۱۱ / ۲۰۰۹
خير بجريدة (......) في الصفحة الأولى:
الجزار يثير الرعب بين دوائر الأمن المصرية
فشل ذريع يلاحق رجال الأمن عند مطاردته)
خفض (عمر) الجريدة التي كان يطالعها منذ قليل، وعلى وجهه علامات الغضب، في حين أن (حسن)، وبجانبه ضابط آخر، أمسكوا بنسختين من : بشغف. نفس الطريدة، وهم . يطالعون الخبر
- " تسرب الخير يا سادة، هذه المرة تسرب بتفاصيل
كثيرة. يجب أن نفعل شيئا ما."
قال (عمر) تلك العبارة بغضب، فرد عليه الضابط قائلا:
" لماذا لا نظهر لهم أي مسحون خطر، ونقول إننا قبضنا
على الجاني، ونغلق ملف القضية إعلاميا ؟"
رد (حسن) بسرعة عليه قائلا:
" هذه القضية مازالت مستمرة، وربما واجهنا حالات
قتل أخرى، فماذا سنقول وقتها؟"
سمع الجميع طرقا على الباب، فنظر الجميع للباب، الذي يفتح ويدخل منه (سامح) محييا إياهم، ثم أخذ يصافحهم حتى وصل لعمر، الذي ناوله الجريدة، وقال بحسرة:
أيام."
" انظر .. لقد تسرب الخبر كاملا، وسيتضخم في خلال
لم يبد على (سامح) أنه يهتم هذا الكلام لكنه رد ww
باقتضاب
- " قرأت الخير هذا الصباح.. المهم ما آخر أخبار القضية؟"
ابتسم (عمر) له وهو يقول:
- " دعني أنا أسألك ما آخر الأخبار، هل قرأت التقارير
أمس ؟"
" نعم.. ولكن هل توصلتم إلى جديد؟"
- " هل تريد أن تناقش الآن القضايا؟"
- " لا بل أريد شيئًا .."
- " أريد ملف الرائد (علي)، المجني عليه في ثاني جرائم
القتل. "
في نفس الوقت نطق الثلاثة الذين تواجدوا في الغرفة، نفس
الكلمة
" ماذا ؟!"
فرد (سامح) ببساطة:
" أريد دراسة ملف السيد (علي)، وتاريخ عمله،
والقضايا التي اشترك بها. "
نظر (حسن) لعمر، ثم قال (حسن) بأدب
- " وهل لذلك علاقة بالقضية ؟"
رطب
رد عليه (سامح) بهدوء.
"نعم" -
اعتبر (عمر) أن تلك . الطريقة التي يتحدث بها (سامح) هي غرور زائد وجهل.. ولكنه شعر بأن (سامح) يبحث بحق عن
شيء ما، وهذا جعله يقول بابتسامة:
- " لك ما تريد، ولكن اعطنا فرصة كي نحضر لك الملف
قاطعه (سامح) بسرعة، وهو يعتذر عن المقاطعة قائلا:
معذرة.. ولكن أريد هذا الملف بأي طريقة، بأسرع
وقت إذا سمحت الفرصة."
شعر (عمر) بالإهانة من تلك المقاطعة، وبدأ يتضايق، وتتغير نظرته لسامح، ولكنه حجم غضبه بصعوبة وهو يقول: - " غدًا على الأكثر سيكون الملف معك، ولكن أنت
تعرف أن ملف كهذا يحتاج تصاريح ووقت لخروجه.. هل
تريد شيئا آخر ؟ "
- " شكرا "
قالها وهو يبتسم لأول مرة منذ بداية اللقاء، ثم يصافحهم وهو يغادر الغرفة، في حين أن (عمر) طلب من الضابط الآخر أن يغادر الغرفة هو الآخر، ثم نظر إلى (حسن)، الذي قال
بسرعة:
" طلب غريب !"
هز (عمر رأسه نافيا وهو يقول:
- " بالعكس.. هو يسير في الاتجاه الصحيح، وهذا يعني أنه
بدأ يمسك بطرف الخيط."
جلس (عمر) على مقعد مكتبه فجلس (حسن) أمامه
وقال:لا أعتقد أنه في يوم واحد سيتوصل لشخصية (آدم)
الحقيقية، ويعرف القصة بالكامل. سيحتاج لوقت ومعلومات كثيرة.. والذين يعرفون المعلومات، لن يتكلموا .
بطيئة شردت عينا (عمر) على سطح مكتبه وهو يقول ينبرات
- " بالعكس.. لقد أثبت أنه بقليل من الوقت والمعلومات يمكنه الوصول إلى الحقائق التي يصل إليها غيره بعد أيام وأسابيع. سأحاول من اللحظة أن تلك تدفق المعلومات
من حوله قليلا."
قليل
- " وماذا ستفعل في خطواتنا
دق (عمر) على رأسه، وكأنه تذكر شيئًا ما، وقال:
- " تذكرت.. جاءتني التقارير اليوم من الرجلين الذين
كلفتهم بالبحث عن (آدم)، وعرفوا أن (آدم) بعد دخوله المستشفى قد أصيب بحالة نفسية، لا أتذكر اسمها الآن ستجدها في التقرير، وفقد القدرة على السير بقدمه اليسرى وفقد الرؤية بإحدى عينيه، وتدهورت حالته الصحية، حتى أبلغت ممرضات المستشفى عن موته المفاجئ، وعندما أغلقوا
عليه الغرفة، ليحضروا الأطباء للتأكد من موته، اختفت الجنة
فجأة؛ ولكن الجميع يؤكد على موته " أخذ (عمر) يقوم بفتح الأدراج الجانبية للمكتب، وهو يبحث عن شيء، حتى أخرج بضعة ورقات مطوية، وفردها
يراجعها بعينيه بسرعة وهو يقول:
" لا يوجد جديد في التقارير، سواء عن أ أصدقائه أو معارفه أو أهله، فكلهم لا يعلمون شيئًا عنه منذ اختفائه، ولم يره أحد منذ دخوله المستشفى.. وباقي التقارير تثبت ذلك."
قال (حسن) بدهشة: بدهشة
" إذا ليس هناك إثبات لكونه ميت؟"
- " وليس هناك إثبات أيضًا لكونه حي. ولو كان حيا، قل
لي كيف سيعيش بقدمه الوحيدة، وعينه الوحيدة، وحالته النفسية سوى أن يكون من مجاذيب الشوارع؟.. لو كان مازال موجودا، أو عاقلا، لظهر في أي مكان ليمكنه العيش مرة أخرى. ورأيي أن شخص بهذه الحالة لا يمكنه أن يقتل دجاجة لأن حالته الصحية لا تصلح."
رن هاتف (حسن)، فأخرجه وأغلقه، كي ينتبه الحديثه مع (عمر) وقال: " إذا نستبعد احتمال وجود (آدم) الحقيقي.. من إذا
يفعل هذا؟ ولماذا كتب (صابر) أن آدم قد عاد ؟" - " ربما كان شخصا آخر غيره، يحاول إيهامنا بأنه (آدم)
الحقيقي، ولكن من هذا الرجل، وكيف علم بأسمائنا وعلاقتنا بآدم؟ على فكرة.. نسيت أن أذكر لك عبارة لم أفهمها في التقارير .. هناك شخص كان يواظب على زيارة (آدم) كل
أسبوع، ولكنه غير معروف!"
اتسعت عينا (حسن) باستغراب وهو ينظر له.
رئيس التحرير يجلس وهو يبتسم للصحفيين الجالسين أمامه على منضدة الاجتماعات، وكلهم يضحكون، ويتحدثون عن ذلك النصر الذي قام به زميلهم (سالم)...
- " زادت مبيعات الجريدة ٣٠٠٠٠٠ عن معدلها الطبيعي بسبب انتشار خير ( الجزار ( كالنار في الهشيم بين المواطنين،
والكثيرون ينتظرون الحلقة الثانية من التحقيقات، التي ستنشر في عدد الغد أراهن بأن الجريدة ستزيد توزيعها في الأيام القادمة عن اليوم، لأن الجميع ينتظر باقي التحقيقات بشغف... ألف مبروك يا (سالم)."
قال أحد الصحفيين العبارة وهو ينظر إلى (سالم) مبتسما،
في حين قال رئيس التحرير مخاطبا الجميع: - " هذا هو الوقت يا شباب لترتفع جريدتنا إلى القمة. ففي الوقت الذي سيتابع فيه الرأي العام التحقيقات التي تنشر السالم بعنوان الجزار لغز بلا حل، يجب علينا أن ترتفع ببقية أقسام الجريدة، ونكشف مجهودنا، كي لا يعتقد القارئ أن جريدتنا تعتمد على خبر واحد ليحملها. يجب أن تحتوي الأعداد القادمة على تحقيقات في نفس قوة تحقيقات (سالم)
لنسانده بها."
قال أحد الصحفيين معترضا:
- " ولكن جريدتنا لها قراؤها بالفعل، والذين يحترمون
مصداقيتها، ورجل الشارع يعرف جيدا سمعة جريدتنا وحيادتها
وسط صحف المعارضة والصحف الصفراء."
رد عليه أحد الصحفيين . قائلا:
- " نعم هذا صحيح، ولكن لا ضير من أن نكسب مزيدًا
من القراء للجريدة من الذين سيتابعونها الأيام القادمة بسبب
تحقيق الجزار."
تكلم أحد الصحفيين موجها سؤاله إلى (سالم):
ولكن ما حكاية الإمضاء في نهاية التحقيقات باسم
(أبو وافي)؟"
ضحك رئيس التحرير و (سالم) معا، ثم قال رئيس التحرير : - " أنا الذي اخترت له هذا الاسم، كي يمكنه أن يظل أطول وقت ممكن في جمع معلومات تلك القضايا، ونشرها
تباعا."
أكمل (سالم) على كلام رئيس التحرير :
" وخاصة أن الأيام القادمة ستحمل مفاجأة أخرى، وهي
أن يوم الثلاثاء ليلا سيقتل شخص آخر، وسيكون لنا السبق الصحفي مرة أخرى في إكمال سلسلة التحقيقات، والتي أدعمها بنسخ من صور لم ولن تحصل أي جريدة على مثلها." نظر الجميع لبعضهم وهم يتسمون للنجاح الذي بدأت الجريدة تشاهده تلك الأيام، مما يعني نجاحهم الصحفي هم
أيضا.
ستحمل الأيام القادمة مفاجآت كثيرة.. ولكن هل هي مفاجآت سارة؟
الثلاثاء ١١/٢٤/ ٢٠٠٩ الساعة 3 مساءً)
دخل (سالم) بقامته القصيرة، وشاربه المنمق يحمل حقيبة
سوداء على كتفه، وهو يلقي التحية والنكات على كل من يقابله، متجها إلى مكتبه في مبنى الجريدة، حتى وصل هناك وفتح باب الغرفة لتطالعه المكاتب التي يجلس عليها زملاؤه وأصواتهم المرتفعة، وهم يباشرون إنهاء تقديم التحقيقات واستقبال مكالمات من محررين ومراسلين، والجميع يعمل كخلية نحل، في حين دخل (سالم) وهو يطلق صغيرا لأغنية قديمة لوردة، واتجه لمكتبه، فنادى عليه ، وهو يسأله هل تحقيق الغد جاهز للنشر ؟
- " لا تسل هذا السؤال مرة ثانية.. أنت تعرف أنني جاهز
دائما .. دقائق، وأعطيه لك من على الكومبيوتر الخاص بي." قالها (سالم) وهو يجلس إلى مكتبه الصغير مسترخيا، ثم يخلع الحقيبة، ويخرج منها كومبيوتر محمول (laptop)، ويضعه أمامه. وفجأة سمع صوت زميلته، التي تقترب منه، تقول:
- " على فكرة يا (سالم) هناك خطاب أتى لك صباحا على
الجريدة، ويحمل اسم (أبو وافي).. ها هو ."
اقتربت من مكتبه، ووضعت الخطاب كانت زميلته قد بجانب (سالم)، الذي نظر له مندهشا وهو يقول:
- " خطاب هذا أول خطاب أتسلمه في حياتي بعد
خطاب الرفت الذي تسلمته في الثانوي بسبب الغياب. هل هناك من يتعامل بالخطابات هذه الأيام !!!!! "
أمسكه وفضه بحرص، فوجد ورقة صغيرة قرأها في البداية بعدم اكتراث، ولكن عينيه اتسعنا فجأة وهو يكمل القراءة، ثم زاد اتساعهما، وبدأ جسده يتحفز، مما جعل زملاءه يلاحظون تلك الانفعالات، فسأله أحدهم؛ ولكنه لم يرد، وظل يقرأ الورقة حتى انتهى منها، ورفع عينيه مخاطبا زميلته التي
أحضرت له الخطاب، قائلا بحدة:
- " من أحضر هذا الخطاب لمبنى الجريدة؟"
ردت عليه بعدم فهم:
- " لا أعرف.. لكن بالتأكيد ساعي البريد، لأن الخطاب
مرسل من صندوق بريدي.
قام من مكتبه فجأة، وهو يخرج من الغرفة، وأصوات زملائه تلاحقه بالأسئلة، ولكنه لم ينتبه وهو يتجه إلى الطابق، الذي
يحوي مكتب مدير التحرير.
(الساعة ٣:١٥ مساءً)
دق (سامح) الباب ثلاثة دقات، حتى سمع من يدعوه للدخول، فدخل المكتب ليجد رجلا في الخمسين، يجلس على المكتب، قام من مكانه وهو يصافح (سامح) باحترام، ثم دعاه للجلوس، وقال له: هناك عمليتان من العمليات التي كنت تتابعها تحتاج
التدخل مباشر مرة أخرى منك، وهذا بناء على طلب ضباط الحالة، الذين استلموا عملياتك، ولهذا تم استدعاءك لمبنى الجهاز
مرة أخرى من القضية التي تشرف عليها الآن."
قال (سامح) مستفسرا:
- " أي عمليتين؟"
- " عملية تسمى (الشاطئ)ويقول ضابط الحالة إن
الهدف اختفى فجأة منذ ليلة وعملية (القصر التركي) ويقول
إن المندوب خرج عن السيطرة."
كان الرجل يبلغ ( سامح) بما أخبره به ضباط الحالة كأسماء كودية، وأشياء لن يفهمها سوى (سامح)، لأنه برغم رتبته الأعلى منه، لم يكن من حقه معرفة العمليات، أو نوعها،
وأهدافها.
- " ما أخبار القضية التي رشحتك لها؟"
تنهد (سامح) وقال:
- " سرت فيها بخطوات سريعة، ولكني أقابل تجاهل
مقصود من باقي الرجال المشتركين في القضية، وكل ما أحاول
الحصول عليه يتأخر لأيام، وهذا ما يعطلني."
حاول ألا تثير المشاكل معهم، وحافظ على هدوء
أعصابك، فهذه ليست قضيتنا من الأساس، أنت مجرد مساعد بها، ومن اليوم ستعود إليك بعض عملياتك لتتابعها مرة أخرى
في الجهاز، وفي نفس الوقت تظل مع القضية."
أنهى الاثنان الحديث، واستأذن (سامح) الرجل، ثم صافحه
وخرج.
" أعد القراءة مرة أخرى يا (سالم) .
قالها رئيس التحرير، وهو يمسك مقدمة جبهته مفكرا، و (سالم) يجلس أمامه، ويمسك ورقة، ويقول:
(بسم الله الرحمن الرحيم.. أنت الصحفي الذي أطلقت على لقب (الجزار)، وفي نفس الوقت أول من تكلم عن القضية بحياد. أنا لست قاتلاً يا سيدي، بل أنا رجل قتلني هؤلاء الرجال منذ فترة طويلة، وكل ما فعلته أنني عدت من موتي لانتقم منهم لم أقتل ولن أقتل، لأنني لست مثلهم ولكن كل ما أفعل أنني أخذ منهم الأشياء التي قتلوني بها، كي لا يؤذوا شخصاً آخر. هل أنا مخطئ؟.. لا أريد شهرة ولا نقود ولا أمان.. كل ما أريده أن تتركوني بسلام، أنفذ
ما عدت من أجله، وإن كنت لا تصدق أنني أنا من تطلق عليه لقب الجزار، فسأعطيك دليلا. يوم الثلاثاء ليلا، سأشبع جوعي من جديد.. ساكل قطعة جميلة من رأس أحدهم... سأشبع جوعي مرة أخرى، وبرأس هذا الرجل الذي حلمت كثيرا أن أكل رأسه وأتذوق ذلك الطعم اللذيذ الخلاب الذي يدغدغ معدني مع كل قضمة. قل لي: هل أنا أقتله بهذا ؟.. لا .. أنا أشبع جوعي فقط، ولو مات هو فهذا ذنبه، وليس ذنبي أرجو أن تصدقني وتوقف بحثك وراني، كي تمر الأيام بسلام وأنهي عملي وأعود للموت مرة أخرى. واعتذر لك الآن بسبب بعض الترتيبات التي أقوم بها، لأن
عندي صديق على العشاء.
(الجزار ) "
يعرف
ومره اخرى
ساد الصمت للحظات بين (سالم) ورئيس التحرير بعد قراءة تلك الكلمات، حتى قطع الصمت صوت (سالم) الذي قال بحسرة:
- " لو كان هذا هو الجزار بحق، فهذا يعني أن جريمة
سترتكب الليلة.. ولو كانت هذه دعابة، فهي مصيبة أكثر
فذلك يعني أن هناك من تأثر بتلك الشخصية، ويمكن أن
يقلدها، ويحاول أن يرتكب جريمة.. ولكن الخط المكتوب في
الورقة غريب، فهو صغير جدا، ويقرأ بصعوبة لصغره، والكلمات مكتوبة بخط منمق جدًا، لشخص يعتني بالحروف بطريقة الرسم. لو كانت دعابة، أليس من الأسهل أن يرسلها الشخص مكتوبة على الكومبيوتر، أو على الآلة الكاتبة، كي
يبعد الشبهات عنه؟"
رد رئيس التحرير وهو لم يخرج . من شروده بعد: - " يجب أن تنشر تلك الرسالة كما هي في عدد الغد، كي
نخلي مسئوليتنا، ونقول إننا لا نعرف هل هي دعاية أم حقيقة ونترك الحكم للقارئ. لو لم ننشرها، وحدث ما هو مكتوب في الرسالة، فهذا يعني أننا أخفينا دليلا هاما يخص القضية، وخصوصا أنه يحدد أن من قتلهم قد ضروه قديما. وفي نفس الوقت، هذه الرسالة هي وثيقة هامة تحل أجزاء من اللغز الذي
نثيره بالنسبة لقراء الجريدة."
هذه الرسالة ستشعل الدنيا عندما تنشر، ولا يمكن أن أبلغ الشرطة لسببين أولهما أنهم يتوقعون أن تحدث جريمة
الليلة، فلن أضيف جديدا، وثانيهما أن الرسالة احتمال كبير أن تكون دعاية، فلن نستفيد بتلك الطريقة."
- " إذن ستنشرها غدًا؟"
نظر (سالم) عندها للورقة التي يمسكها بيده وهو يقول:
نعم سأنشرها، وسأكشف للعالم ما يجول بخاطر الجزار."
(الساعة ٩:٤٠ مساءً)
كان (سامح) يسير في الممر الموصل لغرفته، التي أعدوها له في مبنى المباحث، وهو يراجع بسرعة تفاصيل العمليات التي تسلمها اليوم في الجهاز والقرارات التي اتخذها بشأنها، وتنفذ حاليا، وصل إلى الغرفة، فلم يجد العسكري يجلس أمامها ككل مرة، ففتحها ودخل، ثم ضغط على زر الإضاءة، ليفاجأ بوجود ملف على المكتب، موضوع في مكان، ظاهر فاقترب منه وفضه، ليجده ملف الرائد (على). إذا فقد أرسله له العميد
(عمر) أخيرا..
الساعة ١:١٢ صباحا)
منزل (عمر)، لقد كان هذا المنزل هو حلمه منذ الشباب لقد حلم بأن يبني له ولعائلته منزلا من طابقين، بحديقة صغيرة وسور يحيط بالمنزل، والأشجار العالية خلف السور. بالفعل بعد أن باع قطعة الأرض التي ورثها في شبابه، وأودعها في البنك في شكل وديعة لمدة عشرين عاما، قام باستردادها، بعد أن أصبحت مبلغا محترما، يمكنه من فعل ما كان يحلم به اشترى قطعة أرض في إحدى المناطق الهادئة، وقام ببناء المنزل الذي حلم به، وفي نفس الوقت قام بشراء قطعة أرض أخرى، وبني عليها منزلاً مكونا من أربع طوابق لأطفاله الثلاثة، عندما يحين زواجهم، الذي اقترب بالتأكيد وما بقى من المبلغ، سيجهز به بناته (عائشة) و (سلوى)، و يساعد ولده (محمد) في زواجه. وكان المبلغ يكفي ويفيض، وهذا ما جعله مطمئنا المستقبله بطريقة ما، لأنه لا يملك سوى راتبه وراتب زوجته، التي تعمل
مديرة بإحدى المدارس. هذا هو (عمر)، ينام على فراشه في غرفته بالطابق الثاني.. الغرفة مظلمة، ولكن ضوء القمر يدخل بصيصاً من النافذة، لينير جزء من الفراش الذي يرقد عليه على جانبه الأيسر، وهو يرتدي (تريننج)، ويضع يده اليسرى تحت رأسه.
لكن لحظة.. (عمر) مازال متيقظا، فهو يبتلع ريقه بصوت مسموع كل بضعة دقائق وحبات عرق باردة نبتت على حبينه - بالرغم من برودة الجو وعيناه التي تتشنج وهو يغلقهما بشدة، كأنه يشعر بألم أو كأنه يجاهد ليغلقهما.
فجأة تكلم (عمر)، وهو مازال مغمض العينين، ولم يحرك أي أطرافه قائلا:
" أنت هنا.. أليس كذلك؟"
بدا وكأنه مجنون وهو يحدث نفسه بتلك العبارة، التي
خرجت واضحة؛ ولكن العجيب أن الرد أتى له:
".نعم " -
كان صوتاً رحيماً خافتا، يمتلك صاحبه بحة في حلقه، وكأنه يجاهد لإخراج الكلمات، مع بطء واضح في نطق الحروف وقد أتى الصوت من مكان ما في يحرك (عمر) الغرفة. لم
ساكنا، وقال بهدوء
- " منذ متى؟"
أجابه الصوت:
زادت و حبات العرق زادت . جبين (عمر) وهو يفتح عينيه ببطء
العرق
قائلا:
- " لقد أرسلت زوجتي والأطفال إلى بلدتي، وقلت إنني
سأذهب لهم غدًا، بعد أن أنتهي من أ...ية، وفتحت با...
المنزل، وباب الغرفة."
- " أعرف."
ببطء شديد أدار (عمر) جسده حتى صار ينام على ظهره وهو ينظر إلى ظلام الغرفة، يبحث بعينيه، حتى وقعت عينه على شيء، فركز نظره عليه، وقال وهو يحاول أن يتماسك:
- " عندما مات والدي وأنا صغير، سمعت أمي تقول لخالتي إن والدي كان يشعر أنه سيموت.. قالت أنه كان يتصرف طبيعيا كأحسن ما يكون، وكأنه سيعيش ألف سنة، ولكنه في لحظات ما كان يجلس وحيدا.. كانت تراه، وكأنه يشعر بأنه ميت، أو سيلاقي مصيبة ما لم أصدقها.. ولكن منذ اللحظة التي مات فيها (لطفي)، وأنا أشعر أني سأموت؛ لكني كنت قويا وعنيدا، أعيش حياتي كما فعل والدي تماما، كأنني سأعيش ألف سنة، ولكن من داخلي كنت أنتظر الموت. فكرت أن أقاوم، ثم لم أحد فائدة.. أحسست أنه قدري.
والليلة.. شعرت أنك ستأتي.. وها أنا أنتظرك."
بعد أن انتهى (عمر) من حديثه، كان مازال ينظر إلى هذا الشيء في الظلام، الذي يبدو خيال لرجل بالغ، يقف ناظرا إليه، ولكنه لم يتحرك طول هذا الوقت. وفجأة.. خرج من
هذا الشيء الصوت الخفيض قائلا: - " للأسف.. لا أشعر بشعورك الذي تصفه، لأن الليلة التي قتلتموني فيها لم أشعر قبلها بأنها آخر ليلة. كنت ناجحا،
والمستقبل أمامي يرسم الأحلام بريشته الرقيقة.. زوجة جميلة مخلصة حنونة، وطفلة تشبه الملائكة، وعمل يدر علي دخلا، وقد بدأت مباهج الحياة في الظهور. لم أتوقع للحظة أنني سأموت في تلك الليلة؛ وحتى لو توقعت، لم أكن أتوقع أن تموت حبيبتي وطفلتي. إنه لقاس أن تفقد حبيبتك، التي لا تتخيل أن تعيش مستقبلك وهي ميتة.. لا مستقبل بدون لمسة يدها... لا مستقبل بدون أحضانها الدافئة.. لا مستقبل بدون ضحكة طفلتي.. لا مستقبل بدون وجهها الملائكي.. لا مستقبل بدون عينيها، التي كانت تملكني وأنا أحملها بيدي."
سكت لحظات وأكمل:
- " والحمد مت الله لقد من بعدها، فلم أظل على قيد الحياة
كثيرا، وعائلتي بعيدة عني."
ارتفع حاجبا (عمر) وهو يقول بدهشة: " أنت ميت؟!"
شعر (عمر) بأن الرجل الواقف في الظلام يبتسم وهو يقول:
- " نعم.. أنت قتلتني بسبب عقلك تلك الليلة.. أنت من
أمرت بنقل الجثة، ورميبي في الزنزانة حتى ماتت طفلتي من
الجوع. كان يمكنني أن ألحقها، ولكنك بعقلك الحكيم منعتني
من الحرية، وقمت بإخفاء كل شيء عن تلك الليلة، بل قمت بمساعدة من فعلوا ذلك بي على الخروج من مأزقهم. علي أن أعترف أنك تمتلك عقلا يجب أن يحترم ...
فجأة توقف عن الحديث لحظات وهو ينظر الساعة يده
اليسرى، ثم نظر لعمر وقال:
- " حان موعد العشاء."
اتسعت عينا (عمر) من الفزع عند سماعة العبارة، وقال
بكلمات خرجت مهزوزة
...هل " - هل سأشعر
ظهر أن الرجل الواقف في الظلام يخلع شيئا . ما يرتديه، يبدو أنه سترة، وأثناء خلعه لها ظهر المعان الأشياء معدنية، تبرق من
داخل السترة على ضوء القمر .
" أعدك أنك لن تشعر بشيء، عندما تغمض عينيك."
تراخی جسد (عمر) وهو يغمض عينيه، وهو يسمع صوت خطوات خفيفة تقترب منه، وهو يقول بصوت مرتعش يحمل لمحة من السخرية
" كنت أقول لحسن أنني لن أقتل على يد الجزار مهما حدث كلامي كان مقنعا بدرجة كبيرة.. لكن من داخلي
كنت أعرف أنني سأقابلك."
شعر بوخزة محقن في ذراعه اليمنى، وسائل يدخل في عروقه. في تلك اللحظة فتح عينيه فجأة، ونظر إلى الرجل ووجهه المظلم بسبب ضوء القمر الخافت، الذي يأتي من خلفه... بالرغم من الضوء الخافت الذي يخفي معالم وجهه، إلا أن
(عمر) بعد أن نظر له.. صرخ فحاة ..!!!!
الأربعاء ۱۱/۲۵/ ۲۰۰۹ (الساعة ٦:١٢ صباحًا)
- " بابا.. أين أنت؟"
خرجت العبارة من (منة)، الطفلة الصغيرة، التي كانت تسير بخطى واسعة، وهي تبحث في الشقة عن والدها، ثم تذكرت مكان ربما وجدته فيه جرت حتى وصلت إلى إحدى نوافذ الشقة، فجدت والدها بالفعل يجلس أمام النافذة، على مقعده الجلدي المفضل، وهو ينظر إلى الشمس، التي بدأت تشرق ملقية بضوء خافت خجول يدخل من النافذة المفتوحة ويسقط بعضه على وجه والدها شعر بما (سامح) والدها - فنظر لها بسرعة بابتسامته، ورفعها وأجلسها على قدميه، وهو
يمرر يده بين شعرها، وهي تقول له بعتاب:
- " كنت أريد أن أفاجئك، وأيقظك من النوم، لكن لم
أجدك على فراشك.. لماذا يا أبي لا تنام أياما كثيرة في فراشك وتجلس هنا أمام النافذة؟"
زادت ابتسامته وهو ينظر إلى ضوء الشمس ويقول:
" يشغلني شيء ما."
كان من عادة (سامح) عندما يشعر بخطر ما سيحدث في إحدى العمليات التي يتولاها، ولا يمكنه فعل شيء سوى انتظار النتيجة، أن يعود لمنزله، ويجلس هكذا أمام النافذة حتى صباح اليوم التالي، الذي ينتظر فيه النتيجة. يظل يراجع كافة الاحتمالات طوال الليل كثيراً ما شعر بأنه لا يعطي لبيته الاهتمام الكافي، وخاصة لمنة و(عبد الرحمن)؛ ولكن زوجته كانت تقوم بكل شيء بدلا منه ببسالة غريبة، بلا شكوى ولا ملل، بل كانت تعمد إلى توفير سبل الراحة له، سواء خارج أو داخل منزله.. عمله هو ما يجعله يغيب عن مترا منزله كثيرا، وهي تنفهم ذلك، ولا تسأل كثيرا عن مشاكله في العمل، فهي تعلم أنه لن يجيب، ولكنها كانت تشعر به وهو يحمل هموم عمله منزله، فلا تحاول الإثقال ل عليه بأي مشاكل، وهذا ما داخل يجعله يشعر بالذنب أكثر وأكثر من بسالتها، التي لم تطلب أمامها مقابلا، بل دائما تشعره بأنه يستحق ما هو أفضل.
يعرف داخله أن اليوم قد تمت الجريمة الجديدة، ولكنه وجد منطقيا أنه لن يمكنه فعل شيء سوى الانتظار. لقد راجع ملف (علي) البارحة، ووجد مفاجأة تنتظره، فهناك أوراق ناقصة من الملف، لن يلاحظها الكثيرون ولكن عينيه لاحظت اختفاء
ورقات بكل تأكيد.. أوراق عن العمليات التي اشترك بها
(علي) منذ ما يقرب من عامين.
العميد (عمر) قصد ذلك، ولكن لماذا؟ لماذا عطله كل هذا الوقت ليطلع على الملف، وفي النهاية اقتص بعض الأوراق منه ؟ ما مصلحته؟ وهل توصل هو لشيء لا يريده أن . أيضا إليه ؟ يصل هو
ع صوت ہو ظلت الخواطر تلعب برأسه، حتى الباب. إنه بائع الجرائد، الذي في آخر الشارع، وهو يوصل الجرائد أمام الشقة كل يوم، ويضرب الجرس ويتركها، كما اتفق هو معه حمل (سامح) طفلته التي لم تتعد الثامنة، وهو يلعب معها، حتى وقف أمام الباب فأنزلها، وفتح الباب وأحضر الجرائد، في حين أن الصغيرة ذهبت سريعا للحمام، وهي تغني بصوت عال
قلب في الجرائد بهدوء، ومرت نصف ساعة وهو يقرأ بأحد الجرائد، ثم تبعها بجريدة أخرى حتى أمسك بجريدة (........) وفتحها، لتتسع عينيه وهو يشاهد صورة الخطاب مكتوب بحروف غير واضحة ومانشيت عن أن الجزار أرسل خطابا يصف فيه ضحيته القادمة، وطريقة قتلها. قلب بسرعة الصفحات، حتى وصل إلى صفحة التحقيق، وأخذ يقرأ الكلمات بسرعة ولهم، حتى انتهى منها وهو يرفع رأسه مفكراً.
الساعة ٩:٥٥ صباحا)
(سالم) عرف أن هذا الرجل ينتظره، لقد قال له رئيس التحرير إنه ضابط من المخابرات العامة. حاول وهو يدخل مبنى الجريدة أن يكون متماسكا أكثر من هذا، ولكن ذلك الشعور الذي تشعر به في أسفل بطنك، عندما كان المدرس في الفصل ينظر إليك، وكأنه سيسألك سؤالاً عن درس اليوم، فتجد دقات قلبك قد زادت، وسرعة تنفسك أصبحت كالقطار في سرعته، وتنميل يسري في أسفل بطنك، وجزء من صدرك.. باختصار كان هذا هو شعور (سالم) الآن، وهو يسير في الممر الموصل المكتب رئيس التحرير، وهو يتخيل ما يمكن أن يحدث، مما كان يسمع من زملائه عن المخابرات الذين يعلقون المذنبين في خطافات كالذبائح، وهم يجلدوهم بالكرابيج، ويحرقونهم بالزيت. قرر من داخله أنه لن يسمح بذلك، ولن يجبره أحد على ق قول ما لا يريد قوله.. نعم لن يخاف من أحد.
كان في تلك اللحظة يطرق باب المكتب بأدب، فسمع من يدعوه للدخول، فدخل وهو يجول بعينيه بسرعة، باحثا عن رجل المخابرات، فشاهد رجلا يجلس على مقعد، معطيا ظهره له، وعندما دخل وجده يقف وينظر له وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة مجاملة ...
- " ما كل هذا العرق الذي يغرق وجهك يا بني ؟ هل
أتيت من منزلك إلى هنا جريا ؟ "
قالها رئيس التحرير، فشعر (سالم) بالخجل، فهو لم يلحظ . من كثرة تفكيره وخوفه حبات من العرق التي تكونت على وجهه، من ذلك الإجهاد العصبي، الذي لازمه طول الطريق.
2 اقترب من الرجل، فمد الرجل يده اليمنى، مصافحا يد (سالم) التي اهتزت برعشة محسوسة، فقال رئيس التحرير:
- " أعرفك يا (سالم) بالسيد (سامح).. هو يريدك في مناقشة ودية على انفراد. سأترككما الآن، وحينما تنتهيان،
يمكنك أن تطلبني على هاتفي يا (سالم)."
قال رئيس التحرير آخر عبارة وهو يغادر مكتبه، ونظرات (سالم) تلاحقه، وكأنه طفل يلوم أمه على تركه أول يوم في المدرسة وحيدا.
- " قرأت مقالك اليوم عن الجزار .
كان (سالم) مازال واقفا، فنظر السامح وهو يبتلع ريقه، ثم
جلس على مقعد أمامه، وهو يقول محاولاً الابتسام:
- " وهل أعجبك؟
" التأكد وخصوصاً أنك تستخدم |
>
التخطي |
- " بالتأكيد.. وسأله تستخدم المدرسة
الكلاسيكية في الأدب الساخر، والتي اعتمدت على الرموز برغم إن تلك المدرسة أصعب في الكتابة عن أي مدرسة أخرى، بسبب أنك تحاول إيصال كل ما بعقلك للقارئ من
خلال الرموز."
فغر (سالم) فاه مندهشا، وسأل (سامح) بحرج: 2
- " هل تتابع : أنواع الأدب على الساحة؟" ؟"
- " بالطبع.. هل هناك من لم يتابع (أحمد رجب) و (محمود
السعدني وغيرهم وغيرهم من أدباء العصر الحديث، الذين اعتمدوا على خلط المدارس الأدبية، وابتداع تيمات جديدة في عالم السخرية؟ أنت تمتلك دما خفيفًا، يظهر بكتاباتك حتى في
وصف الأحداث المؤثرة، فإنك تحولها الكوميديا سوداء."
نسی (سالم) الشعور بالخوف الذي ساوره في البداية،
وشعر أنه اندمج في الجو، وقال:
- " كثيرا ما لامني زملائي على اعتمادي على السخرية في
كتاباتي، وخصوصا السخرية السوداء كما قلت. أعترف أن
هذا بدأ منذ متابعتي لأعمال الكاتب العبقري (أحمد رجب)،
عندما كنت صغيراً، فربما تأثرت به.
" لا مشكلة في ذلك، فأنت لست مقلدا، بل متأثرا، وهذا التأثير في رأبي قد لا يلاحظه القارئ، بسبب اكتسابك خبرة مع الأيام في استنباط أسلوبك الخاص في
الكتابة. "
أخرج (سالم) منديلا، وراح يجفف حبات العرق، وهو يعتدل في جلسته أكثر، ليستريح، وقد شعر بالسكينة تغلف قلبه، واستمتاعه بالحوار ، في حين قال (سامح) وهو يسأله: - " هل تنوي أن تتخصص في الأدب الساخر الأيام
القادمة ؟"
- " لا أعرف، ولكن أرتاح في ذلك ! النوع."
ابتسم (سامح) قائلا:
الباب
- " لم أجد بعد الكاتب الساخر، والذي يضحك الناس،
وعلى وجهه تنبت حبات العرق بهذا الشكل عند مقابلة ضيوفه؟"
انتبه (سالم) مرة أخرى، وكأنه يعود للواقع، عندما تذكر
مع من يجلس، فقال بشك:
- " هل يمكنني أن أعرف لماذا تريد التحدث معي على انفراد
أرجو ألا تمانع في ذلك، فأنا.."
لم يملك (سالم) نفسه وهو يقاطع (سامح) قائلا وكأنه
يريد أن يقول شيئا منذ بداية الجلسة :
" لن أتكلم قبل أن أرى إذن من النيابة باستدعائي
للاستجواب."
شعر (سالم) أنه أقدم على حماقة بتلك العبارة، التي قالها بدون داع، ولكن الخوف في داخله الذي عاد مرة أخرى، جعله يقول تلك العبارة كنوع من التنفيس وإظهار القوة، فرد
(سامح) ببساطة:
- " وهل أحتاج لإذن من النيابة لطلب استشارتك؟" ، استشارتك؟"
" !!!!!!!! استشارة " -
مرة أخرى
رد (سامح)
" نعم.. كل ما أحتاجه منك هو بعض النصائح
واستشارات، وإذا لم تقبل، فيمكنك أن ترفض بلا مشاكل
وسأكون سعيداً بالتعرف على رجل مثلك."
لم يعرف (سالم) ماذا يقول؛ ولكن (سامح) عاجله قائلا:
- " أعتقد - والله أعلم أنك تمتلك فكرة ليست صحيحة عن الأجهزة الأمنية."
استنشق (سالم) نفسا طويلا، وقال بشك:
- " أي فكرة ؟ "
- " فكرة أن جهاز المخابرات العامة يتسلى بتعذيب الرجال على سبيل الرياضة، وأنه يمتلئ بالمعتقلات والسجون
الخفية وأدوات التعذيب. أليس كذلك ؟ "
تلجلج (سالم) وهو يرد:
- " لا أقصد هذا ولكن.. "
- " هل سألت نفسك ما الفائدة التي ستعود على الجهاز
من توجيه كافة طاقته لتلك الأساطير ؟ منذ بداية الجهاز وهو يركز كل مجهوده على الأمور السياسية والاقتصادية والعسكرية داخل وخارج مصر، ولا يمكنه التدخل في الشئون الداخلية لمصر، إلا في حدود عمليات المتابعة لشبكات التجسس، أو زرع العملاء، أو الإضرار بالأمن القومي من جهات خارجية ليسوا هم زوار الفجر، ولا الرجال الأشداء الذين يعذبون المواطنين بدون وجه حق، ولا هم من يحملون المسدسات ليطلقوا الرصاص في كل جهة كالأفلام الرخيصة. ما وصلك هو نوع من الدعاية المضادة، وهي طريقة قديمة في المخابرات، عن طريق بث دعاية تشوه صور الأجهزة الأمنية
داخل الدول المعادية كيلا يتعاون المواطنون معها، وبالتالي يمكنها استقطاب هؤلاء المواطنين للعمل تحت حسابها، وتجنيدهم بدون علمهم في جمع المعلومات، وبث الدعايات. أنت مثلا لو كرهت جهاز أمني داخل بلدك لدرجة كبيرة، ثم زميل لك طلب خدمة لتشويه صورة ذلك الجهاز، أو روى لك حكاية فعلها أفراد الجهاز فستصدقها على الفور بسبب عدم ثقتك في هذا الجهاز الأمني، وبالتالي ستكون أنت الأداة التي تضرب بها الدول الأخرى والمنظمات الدولية داخل بلدك."
تغيرت حالة (سالم) من الخوف إلى الهجوم عندما قال: - " ولكن أليست الأجهزة الأمنية تمتلئ بالفاسدين؟ لا
تقنعني أن جميع من يعملون بتلك الأجهزة هم ملائكة من السماء. وحتى في جهازك أنت كان هناك قضية انحراف قديمة
لو أردت أن أذكرك."
من قال أن هناك جهاز أمني يخلو من الفاسدين؟ لكن عندما تهاجم الجهاز بالكامل، فأنت لا تعطي الفرصة للجهات المختصة بالبحث عن الفاسدين، لأنك تعمم التهمة على الجميع، مما يجعل من كان يسير مستقيما يتجه للفساد، بسبب اتهامه طول الوقت بأنه الجبار الشيطان. وبالنسبة لقضية انحراف جهاز المخابرات القديمة، فمالا تعرفه هو أن القضية كانت بعد النكسة، وقد خرج من الجهاز ثلاثة ضباط فقط، وبعض المندوبين، بسبب استخدامهم طرق خارجة في السيطرة على العملاء، واستخدام سلطاتهم في استقطاب المندوبين للعمل بدون موافقته، وقد توقفت تلك الطريقة، لأنها أثبتت أخطاء كثيرة؛ حتى بعد نجاحها الجزئي. إذا ليس كل الجهاز منحرفا كما اعتقد الكثيرون حتى الآن بسبب تلك القضية، فخروج ثلاثة ضباط من بين مئات من الضباط والعاملين ليس مشكلة، بل هو عدد طبيعي لقضايا الانحراف. وعلى كل ما أريد قوله إنني جئت اليوم طالبا مساعدتك بسبب قضية (الجزار) كما
أطلقتم عليه."
ظهر على وجه (سالم) عدم الفهم وهو يقول:
&
- " هل قلت الجزار؟ وما علاقة جهازك بقضية الجزار ؟!"
- " ليس هناك علاقة للجهاز، بل كل ما هنالك أتني
اشتركت في تحقيقات القضية، لأسباب لن تهمك. والآن هل تريد التعاون معي، أم تفضل الابتعاد ؟"
- " وماذا سأستفيد من التعاون؟"
." الحماية."
قطب (سالم) حاجبيه وهو يقول:حماية ؟ " -
- " أنت بتحقيقاتك تعرق سير القضية، وتحدث بلبلة عامة بين المواطنين، وبالتالي ستدخل في تحقيقات كثيرة، وستمنع من النشر والكتابة في تلك القضية، لحين الانتهاء منها، وربما تم اتهامك بعلاقتك بالجزار، بسبب ما نشرته اليوم من رسالة أرسلها هو إليك. أنا أقدم لك الحماية، واستمرارك في نشر تحقيقاتك، لو أردت التعاون معي، ولن يعلم أحد بهذا.. أما لو
رفضت التعاون للأسف لا يمكنني التدخل لإنقاذك، لأنني لن أمتلك السبب في إنقاذك منهم." ساد الصمت للحظات، و (سالم) ينظر لسامح، والآخر ينظر له بهدوء، وعلى وجهه تعبير جامد لا يمكنك أن تستشف منه ما بعقله.
- " برغم عملي في مهنة الصحافة؛ إلا أن والدي كان
تاجرا للأثاث، وقد حاول كثيراً تعليمي حرفة التجارة، ولكنه فشل. لكن أتذكر عبارة كان دائماً يقولها: (في بعض الأحيان الصفقة الجيدة تفرض نفسها عليك برغم إنك تراها سيئة وأنا أرى أن تلك الصفقة سيئة يا سيد (سامح)؛ ولكن
سأقبلها، ولا أعلم السبب."
تحفز (سامح) قليلا وهو يقول بجدية:" إذا أولا: يجب ألا يعلم أحد بتلك الصفقة، أو بعلاقاتك بي. ثانيا: رئيس التحرير يعلم بأني أتيت لك بصفة شخصية، لاستشارتك في أمر ما، ويمكنك أن تقول إن لي صديق يريد طبع ديوان شعر له على نفقته، وكنت أسألك أن تقرأ الديوان، ثم ترشح له مطبعة، وأنني أتيت لك لأن مقالاتك القديمة الساخرة أعجبت صديقي الذي يكتب الشعر الساخر، ويعتبرك مثلا أعلى.. ثالثا: ستقول لي الآن كل ما تعرفه عن تلك الرسالة التي وصلتك، كما تقول في التحقيق أمس، وأريد أن أطلع عليها ."
ترات السيارات حول منزل (عمر)، وهي تتنوع بين سيارات الشرطة والمباحث والمعمل الجنائي، وسيارات عادية تحمل أرقاماً مميزة. كان منظراً يبعث على القشعريرة من كثرة العساكر والضباط الذين انتشروا حول السيارات. توقفت سيارة (سامح)، المرسيدس السوداء بعيدا عن تلك السيارات، وترجل منها (سامح) وهو يجد السير، كي يصل إلى المنزل، حينما استوقفه العساكر، سائلين عن سبب وجوده، فأخرج لهم تحقيق الشخصية (كارنيه) الخاص بالمخابرات، فاتسعت عيونهم دهشة، وانزاحوا له عن الطريق.
لم تكف عيناه عن الحركة بمجرد دخوله من بوابة المنزل المفتوحة، وكثيرا ما اصطدمت عيناه برجال المعمل الجنائي