رواية بعينيك اسير الفصل الرابع والاربعون 44 والاخير بقلم شهد الشوري




 رواية بعينيك اسير الفصل الرابع والاربعون 44 بقلم شهد الشوري

  وقفت أماليا في ركن بعيد، تائهة في عالم آخر، الأصوات من حولها تتلاشى كأنها في ضباب بعيد كانت عيناها مفتوحتين على آخرهما، تغوصان في بحر من الذهول والخوف، تنظر إلى ثيابها ويديها اللتين التصقت بهما آثار دم سفيان


لم تكن هناك دموع تنهمر، بل صدمة تثقل عليها....كصخرة عظيمة على صدرها، شعرت أن العالم من حولها يغرق ببطء، كأن عقارب الساعة تتعمد إطالة كل لحظة صوت دقات قلبها يكاد يغطي على كل شيء، يحفر في أذنيها إيقاعاً مرعباً من الترقب


على الجانب الآخر، وقف أهلها وأصدقاؤها في ترقب مضطرب، كل واحد منهم يراقب باب غرفة العمليات بقلقٍ يتسلل إلى قلبه، الجميع كان ينتظر، لكن لا أحد منهم يعرف حقيقة ما حدث، عدا فارس الذي تلقى مكالمة من أماليا، وأخبر الجميع بما يكفي لإشعال فتيل القلق في نفوسهم!!!


اقتربت ميان ببطء نحو أماليا، وداخلها شعور الحزن والشفقة، كان وجه أماليا شاحبًا، وعيناها شاردتان كأنهما فقدتا القدرة على التواصل مع العالم، لم تستطع ميان كسر هذا الصمت الثقيل الذي يغمر المكان، لكنها حاولت الاقتراب بلمسة خفيفة على كتفها، وكأنها تخشى أن تزيد جراحها بأي كلمة، وهمست بصوت خافت، وقد امتزجت في نبرتها الشفقة والعجز :

أماليا.....انتي كويسة ؟


نظرت أماليا نحوها، كأنها عادت للحظة من عالمها البعيد، لكن شفتيها عجزتا عن الكلام زفرت نفساً عميقاً، وعادت بذاكرتها إلى ما جرى على الطريق، الدماء، والخوف العارم الذي كاد يقضي عليها


اقترب فارس منها وقال بحزن :

سفيان هيبقى كويس متقلقيش !!


تحولت عيناها إلى فارس، لكن نظرتها كانت ضائعة كأنها لا ترى أمامها لم تلتقط كلماته، ولم تشعر بوجوده كانت غارقة في عالم آخر، وبصوت مخنوق بدأت تتكلم بعدم اتزان وكأنها تحادث نفسها، عيناها مثبتتان في الفراغ :

كنت بحاول....كنت بس بحاول ألحقه بس كان نفسه ضعيف، وأنا مش عارفة أعمل حاجة....بس الدم....حتى لما وقفت العربية على الطريق....حسيت كأني في كابوس....كل ده حصل بسرعة !!


بدت وكأنها تغوص أكثر في أفكارها، متناسية كل من حولها

تنهد فارس وقال بحنان محاولاً تهدئتها :

أماليا خلاص....انتي عملتي اللي عليكي وزيادة إحنا كلنا هنا، سفيان قوي...وهيعدي منها ويقوم على رجليه !!!

ساد الصمت، وعاد الكل للتأمل في وجوه بعضهم البعض، مترقبين أن تفتح أبواب غرفة العمليات لتكشف عن مصير سفيان، وهم على قيد خيط رفيع بين الأمل والخوف


وسط هذا الصمت القاتل، وقفت والدة أماليا، وقد لمعت في عينيها مشاعر مختلطة من الغضب والخوف لم تستطع تحمل المزيد من الغموض، ولا رؤية ابنتها في هذه الحالة المزرية بحدة لم تستطع كتمها، توجهت نحو أماليا تسألها :

كنتي بتعملي إيه معاه تاني، شوفتي اللي جرالك من وراه شوفتي حالتك عاملة إزاي مستنية إيه تاني يحصلك بسببه، فهميني، إيه اللي حصل، عملك إيه واللي وصلكم لهنا.....ردي عليا !!!


نظرت أماليا إلى والدتها للحظة، وكأن كلماتها تخترق الضباب الثقيل الذي يلف عقلها، لكنها بقيت صامتة، شفتيها ترتجفان كأنها على وشك الانهيار


سرعان توقفت أماليا عن الصمت، وامتلأت عيناها بالدموع التي احتبست طويلاً لم تعد تحتمل الضغط ولا نظرات والدتها اللائمة فجأة، انفجرت بنهيار قائلة بصوت مشحون بالألم والغضب كأنها تخرج ما في قلبها من نار مكبوتة :

اللي أنا فيه ده كله بسببه!!!!...... هو اللي هنا بسببي، عشان لحقني، عشان جه ينقذني، لما واحد حقير حاول....حاول يعتدي عليا وياخد مني شرفي، سفيان هو اللي لحقني، ولولا هو كان زماني.....!!!!!


توقفت للحظة، تتنفس بصعوبة، شهيقها ثقيل ونفسها متقطع، ثم أكملت بصوت مختنق، مليء بالألم :

لما جه يلحقني، الحقير دا ضربه بالنار فاهمة، سفيان خاطر بحياته عشاني، أنا مش ندمانة، ولا هسمح لحد يلومه على اللي عمله هو حاول يحميني وأن...أنا مقدرتش أعمل حاجة، شوفته بينزف قدامي حسيت بالعجز ومقدرتش أعمل أي حاجة غير إني أشوفه بيتألم !!!!!


ساد الصمت من جديد، لكنه كان صمتًا مشحونًا بالكلمات التي تركت أثرها على الجميع كل من في المكان شعر بثقل معاناة أماليا، كأن الصدمة انتقلت إليهم جميعاً، تغمر قلوبهم بالقلق والأسى !!

..........

في بيت بسيط بمنطقة هادئة، حيث كانت الحياة تسير ببطء كأنها تمنحها فرصة للتفكير، وقفت بسمة أمام المرآة تتأمل نفسها الحجاب الذي طالما زين مظهرها ظل كما هو، لكنه أصبح الآن ينسدل على ملابس واسعة تخفي تفاصيل جسدها بالكامل لم يكن هذا التغيير مجرد تعديل في مظهرها، بل كان انعكاسًا لتحول أعمق...بداية جديدة لها مع نفسها ومع العالم


نظرت إلى وجهها، ذلك الوجه الذي عانى طويلاً من الخوف والخضوع سنوات من الانكسار تركت بصمتها عليه، لكن مع ذلك، كانت ترى ملامح جديدة بدأت تظهر صلابة لم تعرفها من قبل وهدوءًا يشبه السلام الذي طال انتظاره، هذا الاحتشام الذي اختارته لم يكن هروبًا أو محاولة لإخفاء نفسها، بل كان امتدادًا لاحترامها لذاتها، لإعادة بناء ما هدمه الخوف


الخوف... ذلك الشعور الذي عاش بداخلها كوحش لا يهدأ، كان هو السبب وراء سنوات من الانكسار أمام نادر، الذي أذلها وأطفأ روحها، كان هو السجان الذي منعها من أن ترفع رأسها أو تدافع عن نفسها، وهو ذاته الذي دفعها إلى خداع يزن والتظاهر أمامه بمشاعر لم تكن في البداية سوى كذبة فرضها الخوف


الخوف جعلها تخفي نفسها عن العالم، تعيش وكأنها ميتة في نظر الآخرين، سنوات ضاعت في صمتها، تختبئ خلف قناع من التقبل والخذلان، لم تكن قادرة على مواجهة الحياة فاختارت أن تظل غائبة، تراقب الزمن يمر دون أن تعيشه

لكن اليوم، الأمور تغيرت التحقت مؤخرًا بمستشفى كبيرة وبدأت تعمل وسط بيئة أعادت لها شيئًا من الثقة التي فقدتها شعرت بأن لها دورًا، بأن لحياتها معنى جديدًا بعيدًا عن نادر ويزن وظلال الماضي....العمل لم يكن مجرد وظيفة، بل كان فرصة لبناء ذاتها بعيدًا عن قيود الماضي



أمسكت طرف حجابها تعدل وضعه بخفة ثم نظرت في المرآة مرة أخرى، رأت انعكاسها بثبات لم تعهده


تنهدت بعمق، كأنها تحاول إخراج كل ما يثقل صدرها في زفرة واحدة جمعت أغراضها بخطوات ثابتة، ثم غادرت البيت البسيط الذي أصبحت تشاركه مع ضحى، قريبتها...


في المستشفى. هناك، بدأت تجد جزءًا من ذاتها المفقودة اندمجت في روتينها اليومي، ألقت السلام على كل من صادفته بابتسامة هادئة، تلك الابتسامة التي كانت تخفي وراءها طبقات من الحزن والإصرار، كأنها تعيد ترتيب نفسها مع كل تحية تتلقاها، تُعيد صياغة دورها في هذا العالم بخطوات صغيرة


ارتدت زي المستشفى الأبيض، وشدت معطفها على كتفيها بحركة مألوفة، كانت في طريقها لمباشرة مهامها، عندما توقفت فجأة، كأن العالم بأكمله تجمد من حولها، نظرت إلى الأمام، ووجدت نفسها وجهًا لوجه مع الماضي الذي حاولت الهروب منه انه "يزن"


تلاقى نظرهما كما تتلاقى الأرواح التي أثقلها عبء الماضي، دون صخب أو كلمات.... كان الصمت سيد اللحظة، لكن أعينهما تحدثت بلغة لا تُخطئها القلوب المثقلة، بينهما وقف مدير المستشفى ويدعى "توفيق"، يراقب الاثنان بتعجب قبل أن يقطع الصمت بسؤاله :

انتوا تعرفوا بعض؟


مرت لحظة من التردد كأن الزمن توقف فيها، قبل أن ينطق يزن بصوت مبحوح، كمن يسترجع ذكرى ثقيلة :

أيوه... بسمة تبقى مراتي!!!


لكن بسمة قالت وبصوت قاطع كأنه سيف يمزق أي خيط أمل :

وقريبًا طليقته!!!!


تلك الكلمة ضربت يزن في مقتل، كأنها سهم أصاب قلبه في أضعف نقطة وقف مشدوهًا، يتأملها، يحاول أن يجد تفسيرًا لهذا البرود القاسي في عينيها، نظراتها لم تكن مليئة بالغضب، بل بالألم والخذلان، لكن معهما كان هناك شيء آخر، شيء أشبه بالإصرار، كأنها تقول له بصمت "انتهى كل شيء"


شعر توفيق أنه غريب وسط هذه الحرب العاطفية الصامتة، فانسل من المكان بخطوات بطيئة

قبض يزن على يد بسمة فجأة، وكأنها طوق النجاة الأخير في بحر ذكرياته الغارقة، جذبها بقوة إلى أول غرفة صادفته، غير مكترث إن كانت مغلقة أم لا.....ولحسن حظه، كانت خالية

أغلقت الباب خلفهما، ثم جذبت يدها من قبضته، كانت نظرتها إليه هذه المرة مختلفة، لم تكن نظرة ضعف أو انكسار، بل كانت أشبه بنظرة ناجٍ يرى حطام سفينة خلفه دون أن يرغب في العودة، وقفت أمامه، قوية، ثابتة، عكس كل ذكرياته عنها أما هو، فبدا مكسورًا، هزيلًا، كأن الحياة نزعت منه كل ما كان يجعله صلبًا


تأملها يزن بصمت، وكأن عينيه تبحثان عن تلك المرأة التي عرفها يومًا، لكنه لم يجدها، هي الآن شخص آخر، شخص خلقه الألم والخذلان


كانت هناك رسالة واضحة في تلك النظرات، رسالة قرأها دون أن تحتاج للكلمات، قطع الصمت صوتها، حاسمًا، لا مجال للنقاش فيه :

طلقني!!!!


كانت الكلمة بمثابة إعلان نهائي، جرس يعلن نهاية الرحلة، لم تكن فقط تطلب منه إنهاء علاقتها به، بل كانت تقول له بوضوح إنها انتهت منه، انتهت من هذا الحب الذي صار عبئًا


كانت الكلمة كالسقوط الأخير، لم تكن مجرد طلب، بل كانت نهاية فصل، كانت إعلانًا أن الحب الذي جمعهما يومًا لم يعد له مكان هنا، شعر للحظة أن كل شيء بداخله ينهار، لكنه لم يعرف كيف يعيد ما انتهى كل ما استطاع فعله هو الصمت، صمت رجل يدرك أنه......خسر كل شيء!!!


تلاقت أعينهما وسط صمت عاصف، صمت حمل بين طياته كل الكلمات التي لم تُقال وكل المشاعر التي تراكمت لسنوات طويلة وقف يزن أمام بسمة كأنه يبحث في ملامحها عن شيء يعرفه، شيء يعيد إليه تلك المرأة التي أحبها يومًا، لكنه لم يجد سوى شخص مختلف، شخص أنهكته الأيام وأعاد تشكيله الألم


قطعت بسمة الصمت أخيرًا، بصوت هادئ لكنه كالسيف القاطع، حادٌ في وضوحه :

أنا وانت وصلنا لنقطة النهاية، بعد كل السنين دي، اكتشفت إن حبك بدل ما يريحني كان عبء عليا يا يزن، كنت فاكرة إن الحب أمان، لكنه معاك كان خوف، خوف من المواجهة، خوف من الحقيقة، وخوف من إنك تسيبني وما تصدقنيش وأنا... أكبر غلط ارتكبته كان إني خوفت أواجهك، وخوفت من نادر


توقفت لحظة، تنظر في عينيه وكأنها تريد أن توصل له كل ما عجزت عن قوله في الماضي ثم تابعت بصوت أشبه بالاعتراف الأخير :

أكبر غلط عملته في حياتي إني سمحت للخوف يسيطر عليا، لو كنت صدقت نفسي من الأول، كنت عرفت إن أي علاقة مفيهاش ثقة مصيرها الفشل وأنا وأنت... ما كانش بينا ثقة، عشان كده وصلنا للي احنا فيه


ظل يزن صامتًا، كأن الكلمات التي يسمعها تخترق أعماقه، لكنها تقيده، تمنعه من الرد أما هي، فكانت تتحدث كمن ينفض عن روحه عبئًا ثقيلًا ظل يحمله لسنوات :

الحقيقة يا يزن... إنك محبتنيش، ولا حتى حبيت همس, لو كنت حبيتني بصدق، عمرك ما كنت هتحب غيري، ولو كنت حبيت همس برده بصدق، مكنتش هتفكر فيا من تاني زي ما انا شايفة في عيونك دلوقتي، انت محبتش حد غير نفسك


شعرت بأن كلمتها الأخيرة أصابته، لكنها لم تتراجع بل رفعت رأسها بإصرار لتواجهه بما كانت تخفيه طويلًا :

أيوه، انت أناني، وأتمنى تعترف بده لنفسك، العيب مش إنك غلطت، العيب إنك مكمل زي ما انت، وأنا كمان غلطت، غلطت كتير، خوفي من نادر خلاني أخدعك، ونسيت إن ربنا فوق الكل وقادر على كل شيء.....ده ذنبي، وأنا مش بتهرب منه، بالعكس انا دلوقتي اتعلمت كتير وعمري ما هرجع زي ما كنت، انا عاوزة ارمي الماضي وافتح صفحة جديدة، ببسمة جديدة، بس مش عاوزاك تكون معايا لأنك خلاص....تعبت يا يزن


جلس يزن على أقرب مقعد، كأن قدميه لم تعد تقويان على حمله، لم يتكلم، لكن عيناه كانتا تقولان كل شيء، ألم، وند


استجمعت بسمة أنفاسها، ثم تابعت بصوت منخفض، لكن كل كلمة كانت كجرس يُعلن النهاية :

أنا مش عارفة إذا كنت أنا السبب في حيرتك أو في اللي وصلتله دلوقتي، لكن انا بعتذر، بعتذر عن كل لحظة وجع اتسببت ليك فيها، وعن خداعي ليك



نظرت إليه للحظة، ثم تابعت، عيناها تحملان مزيجًا من الحزن والإصرار الذي لا يتزحزح :

مهما حاولنا، مستحيل نرجع زي ما كنا، لا أنا هنسى كلامك اللي وجعني، ولا انت هتنسى اللي انا عملته، فأفضل حاجة نقدر نعملها لنفسنا... إننا ننهيها بهدوء، أنا تعبت كتير في حياتي، ومعنديش استعداد أكمل اللي باقي منها في وجع وتعب....


كانت كلماتها ثقيلة كالصخر، لكنها واضحة، كأنها تضع نقطة النهاية في قصة استنزفت كل ما فيها، بقي يزن في مكانه، صامتًا، عاجزًا عن الرد، لكنه أدرك في تلك اللحظة أن ما بينهما انتهى وأن نظراتها الأخيرة كانت تحمل الحقيقة المؤلمة لم يعد في قلبها له مكان...ولن يعود أبدًا


اقترب يزن منها بخطوات ثقيلة، الصمت يلف المكان كأنه شاهد على وداع لن يُنسى نظر في عينيها للحظات، وكأن الكلمات تخونه أمام ما يشعر به، دون أن ينطق، مد ذراعيه واحتضنها بقوة، حضن كان يحمل كل ما لم يستطع قوله، حضن وداع عرف كلاهما أنه الأخير


لم تتردد بسمة، بل احتضنته هي الأخرى، بقوة لا تعبر عن ضعف بل عن وداع مُر، عن لحظة تُسدل فيها الستارة على قصة لم تعد تنتمي لهما


بعد لحظات، ابتعد يزن قليلاً، نظر إلى ملامحها كأنه يحفظها في ذاكرته للأبد، ثم لثم جبينها برقة، كان صوته مبحوحًا، يحمل كل الألم الذي يعجز قلبه عن تحمله، حين قال أخيرًا :

أنا آسف....انتي طالق يا بسمة!!


تراجعت بسمة خطوة إلى الوراء، ثم زفرت بعمق كأنها تطلق سراح سنوات من الألم والوجع، شعرت بثقل ينسحب من على صدرها، وكأنها أخيرًا تنفست بحرية


خرج يزن بخطوات بطيئة، كأن كل خطوة تمزقه أكثر، وما إن أغلق الباب خلفه، حتى خانتها دموعها....تركتها تسيل بلا مقاومة، دموع لم تكن على فراقه فقط، بل على سنوات من الحب والوجع والخوف، انتهت أخيرًا


بكت بسمة بحرقة، لكنها في أعماقها شعرت براحة غريبة، راحة منحتها يقينًا بأن هذا القرار، رغم ألمه، كان خلاصًا لها !!

........

خرج الطبيب أخيرًا من غرفة العمليات بعد ساعات طويلة من الانتظار، وجهه يحمل مزيجًا من الإرهاق والأسف، نظر للحضور بعينين مثقلتين وقال :

الإصابة خطيرة جدًا وقريبة من العمود الفقري، للأسف هو كمان دخل في غيبوبة، احنا عملنا كل اللي نقدر عليه، والباقي على ربنا.....ادعوله

كلماته كانت كالسيف، شقت الصمت لتترك وراءها وجعًا عميقًا لم تتحمل أماليا الصدمة، فانهار جسدها وانهارت معه قدرتها على المقاومة.....سقطت مغشيًا عليها، بينما عمار شعر وكأن الأرض قد سُحبت من تحت قدميه، ترنح جسده وسقط جالسًا على مقعد خلفه، لم يكن يبكي بصوت عالي، لكن دموعه سالت صامتة، ثقيلة، رفع عينيه نحو أماليا الملقاة على الأرض، وإحساس بالمسؤولية نحوها تملك منه.....إنها تخص شقيقه.....سفيان دفع حياته ثمنًا لحمايتها !!


حمل علي شقيقته "أماليا" مسرعًا إلى غرفة الطوارئ، بينما بقي عمار في مكانه، عاجزًا عن استيعاب ما حدث، بدا وكأن الوقت قد توقف من حوله، عقله يتخبط بين مشاعر الصدمة والخوف، لكنه أفاق فجأة على صوت فريدة، التي انفجرت غاضبةً، توجه كلماتها إلى ميان كأنها سهام مسمومة، قائلة :

كله منك...انتي السبب، منك لله، كان فيها إيه لو سامحتيه، فضل يجري وراكي عشان بس ترضي عنه، لكن انتي عملتي ايه، بكل برود اتجوزتي غيره وعيشتي حياتك وسبتيه ضايع عايش غي وجع وهم


لم تستطع ميان أن تتحمل تلك الاتهامات الظالمة، فقاطعتها قائلة بصوتٍ مرتفعٍ مليء الغضب، لتواجهها بحقيقتها :

اسكتي بقى، انتي إيه يا فريدة، مش بتتعلمي، حفيدك اتعلم، وانتي لسه، اللي سفيان فيه ده بسبب عمايله، محسساني إني أنا اللي قتلت ابني بإيدي، وان أنا اللي ضربت نفسي لحد ما كنت بين الحيا والموت، سفيان هو اللي وصل الحال بينا لكده، خليكي حقانية، بدل ما تدعيله إنه يقوم بالسلامة، جاية تفتري وتدوسي عليا أكتر....... اتقي الله !!!


نظرت فريدة إليها بغل، وقالت بحدة :

انتي لعنة....لعنة في حياة حفيدي


اشتعلت عينا ميان بالغضب، وصاحت بصوتٍ حادٍ :

مفيش لعنة غيرك انتي....انتي اللي شيطانة وأنانية، مش شايفة غير نفسك وأحفادك، ولأخر مرة يا فريدة بحذرك انك تتكلمي معايا بالأسلوب ده، ولو كنت سكت زمان فدلوقتي لأ، الزمي حدودك معايا


لم تتحمل فريدة هذا الرد، فتقدمت نحو ميان بغضبٍ عارم، ثم رفعت يدها لتصفعها وهي تصرخ عليها بغل :

اخرسي، محدش هنا أناني غيرك، انتي اللي سبتيه وروحتي لغيره، عمرك ما حبيتيه!!!!


لكن قبل أن ترفع يدها على ميان، تدخل فارس بخطوة سريعة، جذب ميان لتقف خلفه، ثم أمسك يد فريدة بقبضة قوية، وواجهها بنظرةٍ ملأها الغضب والهيبة، قائلاً بصوتٍ حازم، يحمل نبرة صارمة أرعبت فريدة وأجبرتها على التراجع :

أنا ساكتلك لحد دلوقتي وبعدي، لكن تتجرئي وترفعي إيدك على مراتي، لا، هنا بقى مفيش سكوت، مش هعمل اعتبار حتى لابنك اللي جوه ده، الزمي حدودك يا فريدة، وافهمي كويس إن مراتي خط أحمر، وإن كان زمان حفيدك سمحلك تقللي منها، فأنا بقولك دلوقتي لا، وألف لا واللسان مش بس الايد، اللسان اللي يترفع على مراتي ولو بكلمة ما تعجبنيش، أقطعه....فهمتي !!


بعد ساعات طويلة من الصمت، استفاقت أماليا، أنفاسها مضطربة وعيناها تبحثان عن الأمان وسط الفوضى التي اجتاحتها تذكرت كُل شيء فجأة، كسيلٍ اجتاح ذاكرتها دون رحمة لم تنتظر لحظة أخرى، بل دفعت جسدها المثقل بالضعف وركضت خارج الغرفة، قلبها يتخبط بين ضلوعها كطائر جريح، ولكن خطواتها توقفت فجأة عندما وجدت عمار، شقيق سفيان، يقف أمامها بوجه متماسك يخفي خلفه حزنًا جارفًا، تنهد ثم قال لها بصوت متزن يحمل في طياته رجفة خفية :

سفيان هيكون كويس...عدى بأصعب من كده ووقف على رجليه. هو قوي ، بس دلوقتي دورنا إحنا نكون أقوى عشانه



توقف للحظة كأن كلماته تخونه، ثم تابع، وصوته يزداد وهنًا :

يمكن سفيان يبان صعب....قاسي حتى، بس من جواه...فيه خير كتير،هو مش وحش زي ما ناس كتير شايفاه، بس هو كان ضحية....ضحية وجع أمي....امي اللي كسرتنا، انا مش عارف انتي تعرفي حاجة عن الموضوع ده ولا لأ، بس الست دي سببت لينا جروح.....جروح ما اداوتش لحد دلوقتي، وعاوز أقولك حاجة كمان الصدمات تأثيرها على الناس مش زي بعض، أنا قدرت أكمل، لكن هو لسه بيحاول.....لسه بيحارب نفسه كل يوم عشان يكون أفضل


رفعت عينيها الممتلئتين بالدموع وسألته بصوت مختنق :

هيبقى كويس...قولي إنه هيبقى كويس!!!!


تنهد بعمق ثم رد عليها :

إن شاء الله هيبقى كويس، بس هو محتاجنا....محتاج نكون معاه، مش ضده، محتاج إحنا اللي نشده، ونصدق إنه بيتغير، مفيش حد بيتغير لوحده


أومأت له مرات عديدة، وكأنها تستمد القوة من كلماته، ثم قالت بلهفة :

والله مش هسيبه تاني مهما حصل.....بس يقوم بالسلامة


ابتسم لها عمار ثم غادر، لكنها بقيت في مكانها، نظرتها متعلقة بالأرض، حيث كانت تشعر أن العالم كله ينهار من تحت قدميهاؤ التفتت إلى والدتها وإخوتها، وقالت بصوت خافت يحمل ثقلًا لا يُحتمل :

سيبوني لوحدي....لو سمحتوا !!!


رغم ترددهم، غادر الجميع، وتركوها تُصارع أفكارها. جلست على السرير للحظات، لكنها سرعان ما دفعت نفسها للنهوض، توضأت ببطء وكأن كل حركة هي جهاد مع ضعف جسدها طلبت من الممرضة ملابس للصلاة، ووقفت في الزاوية، تصلي وتبكي، كأنها تفرغ كل ما في قلبها من رجاء بين يدي الله


بعد ساعات بدت كأنها دهور، خرجت من غرفتها كأنها تحمل على كتفيها ثقل الزمن كله. نظراتها كانت زائغة، وكلماتها المرتبكة تخرج كأنها آخر رجاء، تتوسل للطبيب أن يسمح لها بالدخول، حاول أن يثنيها، ولكن أمام إصرارها....سمح لها


خطواتها داخل الغرفة كانت واهنة، تكاد لا تسمع لها صوتًا، كأنها تخشى أن تعبث بسكون اللحظة. الهواء كان ثقيلًا برائحة المعقمات وصفير الأجهزة، والضوء الخافت يزيد من ألم قلبها، تقدمت نحو السرير ببطء، وعندما وقعت عيناها على ملامحه الشاحبة، وكأن الحياة انسحبت منه ببطء، شعرت بشيء عميق ينهار بداخلها، إحساس حاد، كأنه شظايا زجاج مزقت روحها، جعل دموعها تتفجر بلا توقف!!!!


وقفت هناك، عاجزة عن لمس يده، وكأنها تخشى أن تكون لمستها هي السكين الذي يقطع الخيط الأخير الذي يربطه بالحياة، جلست بجواره، أمسكت بيده الباردة وضغطت عليها برفق، ثم همست بصوت يفيض بالألم :

هو ده وعدك، عاوز تسيبني من غير ما توفي بكل كلامك ليا، قوم.....بالله عليك قوم، بلاش تقهر قلبي كده، والله اي وجع ممكن أعيشه على إيدك أهون بكتير من وجع خسارتك، قوم، لو بتحبني.....متسبنيش لوحدي


تدفقت دموعها على وجنتيها، لكنها لم تتوقف وتابعت بقهر :

أنا ظلمتك لما فكرت إن الفرصة لعلاقتنا كتير عليك، كنت فاكرة إني بحمي نفسي منك، بس الحقيقة أنا كنت بظلمنا إحنا الاتنين، كنت عاوزاك تبعد عني علشان أهرب من ضعفي، بس والله مكنش قصدي تبعد خالص....مكنش قصدي تسيبني لوحدي في الدنيا دي....غيابك كسرني يا سفيان، انا خايفة اوي



شهقت من البكاء، ثم قالت بصوتٍ يتهاوى تحت وطأة ألم لا يُحتمل:

أنا مكنتش اعرف يعني إيه حب، ولا كنت فاكرة إني لما هحب هتوجع كده، ولا كنت متخيلة إني ممكن أعيش كل ده، بس لو رجع بيا الزمن، هختار أحبك برده، أنا مش عاوزة غيرك، يا سفيان.....قوم، عشان خاطري، أنا مش هسيبك تاني، وهفضل جنبك، وهنعدي كل ده سوا.....بس انت قوم


دفنت وجهها في كفه، ودموعها تغمره كأنها سيل جارِف همساتها كانت كالرصاص، تنطق بألم لا يُحتمل، وكأن كل كلمة تخرج منها تقطع قلبها :

ياريتني أنا اللي حصل فيا كده.....ولا اني أشوفك في الحالة دي.....بسببي


لم تكن تتوقع شيئًا، لكن فجأة شعرت بتشنج خفيف في يده. رفعت رأسها بذهول، وعيناها تبحثان بلهفة عن أي إشراقة للحياة...وفي لحظة صمت ثقيلة، سمعته يهمس بصوت خافت، مثقل بالتعب :

بعيد الشر عنك....


كأنما العالم توقف لثوانٍ، ثم عاد ينبض بالحياة من جديد، كما لو أن الوقت نفسه عاد ليتنفس من جديد!!!!!

.......

بعد وقت طويل من الترقب الممزوج بالخوف، خرج الطبيب أخيرًا، ارتفعت الأنظار نحوه بلهفة وقلق ينهش القلوب، لكنه ابتسم بهدوء وطمأنهم قائلاً بصوت ثابت :

الحمد لله، المريض استعاد وعيه وحالته مستقرة دلوقتي، الإصابات كانت خطيرة، بس التدخل الطبي المبكر ساعد في تقليل المضاعفات، هيفضل في المستشفى كام يوم تحت الملاحظة، عشان نتأكد ان مفيش مشاكل تانية، لكن الوضع بشكل عام أحسن من المتوق


ارتاحت الأنفاس المكبوتة، وزفرت الصدور المتعبة، وعمت القاعة لحظة من الهدوء المشوب بالأمل، لكن أماليا لم تنتظر حتى تكتمل الكلمات، بل ركضت مباشرة إلى الغرفة، متجاوزة الجميع دون أن تلتفت إليهم، كأن شيئًا في داخلها كان يقودها بقوة نحو سفيان

دخلت الغرفة بخطوات متسارعة، وإذا بعينيها تقعان عليه، مستلقيًا على السرير، ووجهه الشاحب يعكس تعب ما خاضه الساعات الماضية

ابتسم لها سفيان، ابتسامة ضعيفة لكنها مليئة بالحب، وكأنها رسالة طمأنة من قلبه رغم وهنه، لم تستطع أماليا كبح دموعها التي انهمرت دون توقف، لكنها ابتسمت بسعادة غامرة، واقتربت منه بخطوات خفيفة، لتسمعه يقول بصوت خافت، متقطع :

انتي كويسة... مش كده؟


حركت رأسها وهي ترد عليه بصوت مختنق :

المهم انت....المهم انت تكون بخير


صمتت للحظة، ثم أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تخفض عينيها إلى الأرض، كأنها تخشى النظر إليه، ثم قالت بصوت منخفض، مليء بالندم :

أنا آسفة...


ابتسم لها سفيان رغم التعب الذي يكسو ملامحه، ورفع يده المرتجفة نحوها بإشارة خافتة يدعوها أن تقترب، لم تتردد بل اقتربت منه أكثر وجلست بجانبه على السرير


أمسكت يده بحزن، أناملها ترتجف بين أنامله الضعيفة، وعيناها تمتلئان بالدموع التي لا تستطع السيطرة عليها ظلت تحدق فيه، تبحث عن أي طمأنينة في ملامحه الشاحبة


ابتسم لها سفيان مرة أخرى، ابتسامة صغيرة لكنها مليئة بالحب، ونطق بصوت متعب لكنه عميق كأنه يسكب قلبه في كلماته :

فداكي عمري كله


تجمدت للحظة، كأن كلماته ضربت أعمق نقطة في روحها، ارتعشت شفتاها وهي تحاول أن ترد، لكن دموعها سبقتها، ضغطت على يده قليلاً وقالت بصوت مختنق :

أنا السبب في اللي أنت فيه، غلطت لما ركبت مع اللي اسمه عصام ده من البداية، كنت خايفة، ومع ذلك ركبت معاه.....سامحني انا غلطت!!!


ظلت تمسك بيده، تشعر بضعفها في مواجهة نظراته، بينما هو ما زال يبتسم بهدوء، وكأنه يريد أن ينزع عنها هذا الحمل الثقيل، فردد بصوت هادئ لكنه مليء بالحب والصدق :

أنا مستعد أفديكي بروحي، ماتفكريش في اي حاجة، الاهم دلوقتي انك هنا وفي امان

ارتجفت شفتاها وهي تحاول أن تنطق، لكن الكلمات أبت أن تخرج بسهولة، وكأنها تخشى مواجهة ثقل الحقيقة، ضغطت على يده برفق، وكأنها تتشبث بها كملاذ أخير، ثم رفعت عينيها إليه، صوتها كان مرتعشًا، مزيجًا من الندم والحيرة :

سامحني....سامحني على بُعدي عنك الفترة اللي فاتت، كنت مجروحة...كنت خايفة ومتلخبطة، كل حاجة جوايا كانت بتقولي إنك ما تستاهلش فرصة تانية، وإن حتى مشاعرك ناحيتي ممكن تكون مجرد وهم او خدعة....كنت شاكة في كل حاجة.....حتى في إحساسي!!!!!


صمتت للحظات، كأنها تحاول أن ترتب الأفكار المتشابكة في عقلها، ثم تابعت بصوت أضعف لكنه مليء بالتردد :

أنا مش عارفة....مش عارفة إذا اللي بعمله ده صح ولا غلط، خايفة أقرب منك وأندم.....وخايفة أبعد وأندم أكتر



تسارعت أنفاسها، وارتعشت يدها بين يده، قبل أن ترفع عينيها إليه مجددًا، كانت نظرتها تحمل كل الاضطراب الذي يعصف بها، لكنها أنهت كلماتها بصدق يمزق جدران الخوف :

بس...وسط كل الحيرة دي، جوايا حاجة بتقولي إني مش عاوزاك تبعد عني، وإن قلبي مش هيتحمل فراقك



ثم تابعت وعينيها مليئة بالرجاء، وقالت بصوت مرتجف :

ماتخلينيش في يوم أندم...ده طلبي الوحيد منك يا سفيان !!!


ابتسم سفيان ابتسامة مليئة بالحزن والحب في ذات الوقت، ورفع يده المرتجفة ليضعها على يدها، عينيه تحملان بحرًا من المشاعر لا يستطيع اللسان التعبير عنه، كأنهما تروي كل ما عجز عن قوله


تنهد بعمق، ثم نطق بصوت متعب، لكنه كان مشبعًا بقوة تنبع من قلبه :

انا مش عاوز الحادثة اللي حصلت دي تأثر على قرارك، اعتبري إن مفيش حاجة حصلت، أنا مش عاوز أضغط عليكي أو أجبرك على أي شيء، أهم حاجة عندي دلوقتي إنك تشوفي إنتي عاوزة إيه، وتاخدي قرار انتي متطمنة ومرتاحة ليه


ثم صمت لحظات، يأخذ نفسه من التعب، قبل أن يتابع بصوت مليء بالصدق :

مهما كانت مشاعرك، مهما كان القرار اللي هتاخديه، أنا هحترمه لو قررتي تقتربي اوعدك انك هتكوني أسعد واحدة في الدنيا، وهعمل كل اللي اقدر عليه عشان تكوني متطمنة معايا، وهعمل كل حاجة عشانك، عشان حياتنا تكون زي ما أنتي عاوزة، ولو لسه مش متأكدة، هفضل جنبك برده، وهحبك أكتر وأكتر، المهم بالنسبة ليا إنك تكوني مبسوطة، وكل خطوة هتخديها في حياتك أنا هكون فيها جنبك وهساعدك مهما كان......




ثم تابع بحب :

المهم انك تكوني سعيدة


صمتت أماليا للحظات، تتأمل كلماته، عيونها مليئة بالتردد والحيرة، لاحظ سفيان توترها، فابتسم بخفة، ورفع يده المرتجفة ليضعها على يدها بلطف، وقال بصوت هادئ، لكنه مليء بالحب :

بلاش دلوقتي، الحادثة ممكن تأثر على قرارك، فكري بهدوء، لما تحسي إنك أخدتي القرار الصح، هتلاقيني دايماً مستنيك



أومأت له برأسها بامتنان، وعيناها مليئة بالتأمل، لا تصدق أن الشخص الذي أمامها هو ذاته من كان يُتهم بالوحشية، لم تكن قد اكتشفت بعد تفاصيل علاقته بوالدته وما حدث منها، لكنها كانت تشعر بصدق مشاعره، كان قلبها ينبض بطمأنينة تجاهه، ورغم ذلك، كانت لا تزال في حيرة من أمرها، القرار الذي ستتخذه اليوم سيحدد مصيرها، ومصيره، ومصير علاقتهما معًا....من الضروري أن تأخذ وقتها للتفكير، وأن تتأكد تمامًا من اختيارها قبل أن تتخذ خطوة قد تغير كل شيء !!



اطمأن الجميع على حالة سفيان، وكان أول من بادر إلى ذلك عمار، الذي لم يتمالك نفسه أمام مشهد شقيقه الملقى على السرير، فاقترب منه بحنان ممزوج بالندم، وأخذ يلثم جبينه، معاتبًا نفسه على تقصيره الفادح في حقه طوال الفترة الماضية، أما فريدة، فكانت تقف بجانب حفيدها، دموعها تنهمر دون توقف، وهي تراقب ميان وفارس بنظرات ملتهبة، عيونها مشبعة بالغضب والحقد


رغم امتنان والدة أماليا الكبير لتضحيات سفيان، إلا أن قلبها لم يعرف الراحة تجاهه، كيف لرجل يحمل ماضٍ مثقل بالأخطاء أن يكون شريكًا لابنتها، التي لا تزال في بداية حياتها وتستحق الأفضل، ترى ان ابنتها جديرة برجلٍ ناصع السيرة، يمنحها الأمان والاستقرار، أما إخوتها، فقد أبدوا شكرًا شكليًا، لكن عيونهم عكست حقيقة مشاعرهم، اعتقادهم أن ما فعله سفيان، مهما كان، لن يُغير مكانته في نظرهم ولن يجعل منه الخيار المناسب لشقيقتهم


أما سفيان، فاكتفى بتحريك رأسه بصمت، وهو يعتمل بداخله غضب مكتوم تجاه والدة أماليا التي لم يغفر لها بعد كشفها لماضيه بهذه الطريقة المهينة وعلى مضض، غادرت أماليا مع والدتها، التي أصرت بعناد على رفض بقاء ابنتها معه في المستشفى، لكن سفيان، الذي لاحظ التوتر الحاد بينهما، أشار لها بنظرة خفية، مشجعًا إياها على الرحيل ثم قال للجميع بهدوء :

انا كويس وهنام وارتاح، ملوش لزوم تفضلوا هنا

غادرت أماليا مكرهة، لكنها وعدت نفسها بالعودة في الصباح، فيما تبعها الجميع واحدًا تلو الآخر بعدما اطمأنوا عليه، تبقى في الغرفة فقط فريدة، وعمار، وقصي، وفارس، وميان التي قالت بهدوء لسفيان :

ألف سلامة عليك يا سفيان


أومأ لها سفيان برأسه بصمت، ولم يُظهر سوى نظرة ممتنة، مدركًا لمشاعر فارس، الذي اكتفى هو الآخر برد مقتضب :

ألف سلامة عليك

........

بعدما وصل ميان وفارس إلى المنزل، جلست بصمت على الفراش، وكأنها تحاول لملمة شتات يومها، دقائق مرت قبل أن يأتي فارس ويجلس بجانبها، يسألها برفق :

سرحانة في إيه يا حبيبتي؟


رفعت ميان رأسها ونظرت إليه، لم تحتاج إلى التفكير، فقد كان فارس دائمًا توأم روحها، ذلك الشخص الذي تلجأ إليه بكل ثقة لتكشف عن أعمق أفكارها، بدأت تتحدث وكأنها تخاطب نفسها، وهي واثقة أنه سيفهمها دون عناء:

في سفيان... اللي حصل انهارده كان صعب أوي، أماليا صعبانة عليا....وسفيان كمان، يمكن تستغرب كلامي دلوقتي، بس سفيان من جواه فعلاً كويس، بس أقولك على حاجة....


أومأ لها فارس بصمت، مستعدًا لسماع ما تبقى، فتابعت بحزن وهي تشرد بعيدًا :

أنا للحظة حسيت بزعل لما افتكرت إني كنت في موقف مشابه....وهو مكنش معايا زي ما كان معاها، لما زاهر خطفني واتحبست ومكنش واقف جنبي ولا اهتم حتى يسأل عني، زعلي والله مش حب ولا غيرة، بس كشعور......هل أنا ما استاهلش!!!


صمت فارس، وهو يعرف جيدًا أن مهما حدث سيظل الماضي يثقل على قلبها، ويعلم أن الحمل زاد من حساسيتها وتخبطها، لذا وبدون حديث، جذبها إليه يحتضنها بحنان وكأن صدره مكانها الآمن الوحيد، فهمست له ميان بصوت متعب :

أنا تعبت أوي انهارده يا فارس...!!


ثم غفت بين ذراعيه، وغفا هو الآخر، وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة لتخرج كل ما يثقل قلبها دفعة واحدة، بعد يومٍ طويل من التوتر والذكريات المؤلمة، وجدت في حضنه ملاذًا أخيرًا، وكأن التعب الذي كبلها قد انساب معها في تلك الراحة الصامتة، تاركًا قلبها أخف، وعقلها أكثر هدوءًا

.......

مرت الأيام واستطاع سفيان مغادرة المستشفى دون أن تترك إصابته أثرًا على حركته، كما اخبرهم الأطباء مسبقا خلال تلك الفترة، لم تتوانَ أماليا عن زيارته باستمرار، متجاهلة اعتراض والدتها وغضبها، وهو الأمر الذي كان مصدرًا لسعادة سفيان الغامرة، لا سيما حين وافقت أخيرًا على منح علاقتهما فرصة


مر شهر تقريبًا، وفي صباح يوم جديد، عقدت أماليا العزم على مواجهة والدها بكل ما حدث اتجهت إلى شركته دون إخبار والدتها، استقبلها والدها "هاشم السباعي" بابتسامته المعتادة التي تشيع طمأنينة في النفس، لكنها هذه المرة لم تستطع أن تشعر بها، إذ أثقل صدرها ما ستقوله !!


أخذت نفسًا عميقًا، ثم سردت كل ما حدث خلال الفترة الماضية وما إن انتهت، حتى نظر إليها والدها بعينين تنطقان بالعتاب، وقال بهدوء :

وأخيرًا قررتوا تعترفوا بوجودي؟ وتقولولي إيه اللي بيحصل في حياة بنتي؟


خفضت أماليا رأسها بخجلٍ واضح، بينما تابع والدها بنبرة يملؤها التأنيب :

انا كنت عارف كل حاجة من الأول، راقبت من بعيد واستنيت حد فيكم يجي يحكيلي.....لكن ده ماحصلش


ردت عليه أماليا بتبرير :

حضرتك كنت مسافر

أجابها بسخرية لاذعة :

ورجعت.....وكمان، في حاجة اسمها تليفون لو تعرفوا عنه


لم تجد ما ترد به، فظلت صامتةً تحت وطأة الحرج، فتابع والدها بنفس النبرة :

وجايالي هنا بدل والدتك، عشان عارفة إنها رافضة الموضوع ده من أساسه، قولتي لنفسك أروح أصارح بابا، يمكن يوقف جنبي



انسابت دموعها خلسةً وهي تتلقى كلماته كطعنات، لكن والدها لم يتراجع، بل قال بحسم :

لكن المرة دي، أنا مش معاكي في اللي عايزاه


رفعت رأسها تنظر إليه بصدمة، ثم قالت برجاء :

ليه يا بابا....سفيان كويس هو بس

قاطعها قائلاً بحدة :

مفيش بس ده سمعته سبقاه، كان متجوز قبلك مرتين، ومراته التانية اتهمته إنه اتهجم عليها ليلة فرحهم، مراته التانية هي نفسها مراة فارس دلوقتي، والأولى خانته، وسيرته كانت على كل لسان.....ده غير ماضي أمه اللي كل الناس بتتكلم عنه


ثم تابع بصرامة :

الأحسن نبعد عن العيلة دي كلها، وبعدين من قلة الرجالة روحتي تختاري ده ؟


ردت عليه أماليا بصدق:

ـحبيته يا بابا، بتلوموني عشان اختارته من كل الناس، و متمسكة بيه، زي ما حضرتك عملت زمان مع ماما واتمسكت بيها


نظر إليها والدها فقالت بحزن :

مش حضرتك حكيت بنفسك إنك اتحديت الكل عشان تتجوز ماما رغم إنها كانت مطلقة، وقولت إنك ما اهتمتش بماضيها وإنك حبيتها وشفت إنها تستاهل فرصة، أنا كمان حبيت سفيان، وقلبي مصدق إنه اتغير ولسه هيتغير كمان للأحسن


رد عليها والدها بحزم :

كل دي احتمالات، ومفيش حاجة أكيدة


تنهدت أماليا ثم أجابته بإصرار :

حتى حضرتك لما ارتبطت بماما، كانت احتمالات، ومفيش شيء أكيد إن حياتكم هتنجح


ثم نظرت إليه برجاء وقالت :

أنا واثقة إنه اتغير، وحتى لو ما اتغيرش بالكامل، يكفي إنه بيحاول، ما ينفعش كلنا نتخلى عنه، سفيان محتاج انه يشوف اننا كلنا مصدقين تغيره ولو ده حصل هنشوف احسن ما فيه مع الوقت


لم يرد والدها، واكتفى بإشاحة وجهه عنهاؤ لكنها تابعت بلهجة رجاء :

أنا كبيرة كفاية يا بابا، واعرف ازاي أفرق بين الصح والغلط ليا، سيبني أقرر لوحدي، ولو غلطت هتعلم....محدش بيتعلم ببلاش.....بس أرجوك، اقعد معاه وشوفه بنفسك واسمعه


صمت والدها طويلًا قبل أن يقول باقتضاب :

خليه يجيلي هنا بكرة الساعة عشرة الصبح


تهللت ملامحها بسعادةٍ غامرة، فاندفعت تعانقه بامتنان، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة لم تستطع أن تراها !!

........

جلس سفيان مع والد أماليا في اليوم التالي، وكان الجو مشحونًا بالتوتر، نظر سفيان إلى وجه والدها، الذي بدت على ملامحه جدية عميقة، وكأن الكلمات التي سيقولها ستحمل الكثير من الثقل وقبل أن يفتح سفيان فمه ليبدأ الحديث، سبقه والد أماليا، الذي نظر إليه وسأله :

بتحب بنتي؟


رد عليه سفيان فورًا، دون أدنى تردد أو شك :

بحبها طبعًا


نظر والد أماليا إلى عينيه لبرهة، ثم سألخ بصوت عميق، وكأنه يريد أن يتأكد من صدق ما يسمع :

وهل مستعد تعمل أي حاجة هطلبها منك عشان اسلمك بنتي وانا مرتاح



أومأ له سفيان برأسه بجدية، وعيناه مليئتان بالثقة، قائلاً بلا تردد :

مستعد أعمل أي حاجة، المهم تكون اماليا مبسوطة، ده الأهم بالنسبة لي


تنهد والد أماليا قليلاً، ثم نظر إلى سفيان وقال بضيق :

شوف انا مش عاوز اظلمك واكون قاسي في حكمي عليك، انا عارف ان كل شخص يستحق فرصة تانية في الحياة ويا يستغلها صح يا يستغلها غلط وانا مش عاوز لو دي تكون موجودة، ومش عاوز اسلمك بنتي وانا عندي أحتمال واحد في المية انك هتأذيها


أخذ سفيان نفسًا عميقًا، ثم قال بثبات :

أنا عارف إن الماضي بتاعي ميشجعش حد إنه يثق فيا، وعارف إن أماليا تستحق حد أحسن مني،بس أنا بحبها بجد وهي تستحق إني أحاول أكون الشخص اللي يناسبها، الماضي خلاص انتهى، وميش بإيدي أغيره، بس المستقبل لسه قدامي وكل لحظة جاية هعمل فيها كل اللي أقدر عليه عشان أستحقها، وعشان ميجيش يوم تندم على قرارها


توقّف للحظة، ثم تابع بصوت مليء بالثقة :

كل اللي تطلبه مني وأي حاجة تشوف إنها هتطمنك على بنتك معايا، أنا موافق عليها ومن غير حتى ما أعرفها


صمت المكان للحظات ثقيلة، كان والد أماليا يحدق فيه بصمت، يتأمل ملامحه التي عكست صدقًا وإصرارًا واضحين. لم يكن القرار سهلًا، لكنه شعر بأن هذا الشاب يستحق فرصة


وأخيرًا، قال بعد صمت دام دقائق طويلة :

خطوبة سنتين


نظر سفيان إلى والد أماليا بعيون مليئة بالإصرار وقال رغم ضيقه من طول المدة :

موافق، وأنا هعتبرها فرصة أثبت لحضرتك إنك كنت على حق لما فكرت تديني الثقة، وهثبت ليها كمان إنها اختارت صح



تنهد والد أماليا بعمق وقال :

شوف يا سفيان، الكلام سهل، لكن الفعل هو اللي بيأكد السنتين دول مش مجرد وقت، هما اختبار أنا مش عاوز أشوف حاجة غير إنك فعلاً قادر تتحمل المسؤولية وتديها الحياة اللي تستاهلها لو شوفت حاجة واحدة بس تخوفني، الموضوع اعتبره أنتهى مفهوم


حرك سفيان رأسه بإيجابية، وقال بنبرة واثقة :

حقك تطلب ده، وواجبي أثبت لحضرتك إن أماليا هتكون في أمان معايا، وصدقني انا بجد بحبها من قلبي واي حاجة هعملها عشانها وبس والأهم من ده كله انها تكون مبسوطة


ابتسم والد أماليا بخفة وقال:

طيب يا سفيان، يبقى كده الخطوبة هتكون سنتين ولو كنت فعلاً الشخص اللي أماليا شافت فيك، مش هتلاقي مني أي اعتراض بالعكس هتكون ابني زيها ويمكن اكتر


نهض سفيان واقفًا ومد يده إلى والد أماليا قائلاً :

وعد مني، مش هخيب ظنك ولا ظنها، شكرا إنك اديتني الفرصة دي


صافحه والد أماليا بهدوء، لكنه شعر بشيء عميق يتسلل إلى قلبه كان في عيني سفيان صدق لا يمكن إنكاره، وكأنهما تعاهدتا معه دون كلمات رأى فيه إصرارًا لا يلين، وثقة لا تعرف التردد، وكأن هذا الشاب أمامه مستعد أن يحارب العالم بأسره ليكون جديرًا بأماليا


في تلك اللحظة، لم يرى فيه فقط عاشقًا، بل رجلاً يحمل ثقل المسؤولية على عاتقه شعر بتمسكه الصادق ببنته، ليس طمعًا في الفوز بها، بل إيمانًا بأنه يمكنه أن يكون الشخص الذي تستحقه، كان كمن يقول بصمته "أماليا أمانة لن أخونها، وأمل لن أضيعه" ورغم الحذر الذي ظل يحيط بقلبه كأب، وجد نفسه يضع بداية صغيرة من الثقة، وكأن حرارة يد سفيان تنقل له وعدًا صادقًا، وعدًا لم يُنطق بالكلمات، لكنه كان حاضرًا في كل نظرة وإيماءة

.........

ما إن علمت والدة أماليا بما حدث حتى ثارت ثورة عارمة، رافضةً الأمر بشدة، ومعلنةً معارضتها دون تردد. لكن حينما كُشفت لها تفاصيل فترة الخطوبة الطويلة التي ستسبق الزواج، هدأت ثورتها شيئًا فشيئًا. وبفضل إصرار زوجها وحكمته في شرح أبعاد الموضوع، بدأت تتقبل الأمر على مضض، مستسلمةً في نهاية المطاف لإرادة ابنتها. وكذلك كان الحال مع أشقاء أماليا، الذين قبلوا الوضع بعد جدلٍ طويل، وإن كان قبولهم يحمل ظلالًا من التحفظ.


مرت الأشهر على الجميع بهدوء، حيث استقرت حياتهم بشكل ملحوظ. وجاءت لحظة إعلان خطوبة أماليا وسفيان، مناسبة حضرتها الأسرة كاملة دون استثناء. بدا على الجميع الفرح، حتى أولئك الذين حملوا في قلوبهم ذكريات مريرة عن أفعال سفيان السابقة لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من المشاركة في الاحتفاء ومع ذلك، ظلَّت قلةٌ قليلة منهم تراقب الموقف بحذرٍ وصمت


في الوقت ذاته، أنجبت لينا طفلتها الأولى، التي أسمتها "ميان". كان الخبر بمثابة شعلة أضاءت سماء العائلة، إذ أضفى فرحًا وسعادةً على الجميع، عدا فريدة التي أُشعلت في قلبها نيران الحقد والغضب، وكأن الاسم وحده قد أثار شيئًا دفينًا في صدرها. على النقيض، رحبت ميان بالخبر بحبورٍ كبير، خاصة حينما وجدت في عمار دعمًا صادقًا لا يتزعزع كان عمار أكثر من سعيد بالمولودة الجديدة، بل بدا كأنه يعيش لحظة خاصة تفوق سعادة الأم نفسها


يوم ولادة الطفلة، كان لعمار كلمات عميقة همس بها إلى ميان، تحمل بين طياتها حبًا أخويًا صادقًا :

دي أقل حاجة أقدمها ليكي يا ميان، بفضلك أنا وقفت على رجلي من تاني، ولولاكي كان زماني خسرت كل حاجة، لينا، ونفسي، والناس كلها، فضلك عليا كبير اوي


ومع مرور الوقت، بدأت ميان ولينا تتأقلمان مع حياة الأمومة، وسط دهشة كارم وفارس، اللذين كادا يُجنان من تقلبات الوحم والهرمونات مشاعر متضاربة وأحداث متسارعة، لكن وسط كل ذلك، بقيت السعادة الحقيقية تخترق كل العوائق، معلنةً عن بداية فصل جديد من حياة العائلة

.........

ذات ليلة هادئة، حين ألقى الليل ظلاله الثقيلة على أرجاء المكان، كانت ميان تجلس على الفراش بجانب فارس، بدت مضطربة، لا تكف عن الحركة في مكانها، حاولت أن تتجاهل هذا الإحساس الغريب الذي يعصف بها، لكن شيئًا أقوى منها كان يدفعها نحو فارس


بنظرات مترددة، ألقت عينها عليه، كان يجلس بجانبها يعبث بهاتفه، لم تستطع كبح رغبتها أكثر من ذلك، فاقتربت منه بهدوء، وبدأت تشتم رائحته بنهم !!!



انتفض فارس فجأة من مكانه، ينظر إليها بدهشة علت وجهه، وقال بصوت يحمل بين طياته مزيجًا من الاستغراب والمرح :

بتعملي ايه يا ميان ؟

لم ترفع ميان رأسها، بل واصلت ما تفعل وكأنها مسحورة، تهمهم بارتياح يكاد يكون طفوليًا، فتزايدت دهشة فارس وهو يراقبها غير مصدق، حاول أن يدفعها برفق، لكن ضحكة خافتة أفلتت من شفتيه حين قال بمرح :

اه الحكاية يا ميان هانم ؟


توقفت ميان فجأة، ووجهها اكتسى بحمرة الخجل. نظرت إلى الأرض محاولة أن تتجنب عينيه وهي تتمتم بصوت خافت :

أنا... أنا... أنا بتوحم على ريحتك!!!!!!!


تفاجأ فارس بردها، لكن سرعان ما انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ، لم يكن قادرًا على التوقف، فكلما حاول أن يهدأ كانت ضحكاته تعود من جديد


بينما ميان لم تستطع تحمل ضحكاته، فلكَمَته بخفة على صدره وقالت بتذمر وهي تحاول إخفاء ابتسامتها :

بطل تضحك عليا، أنا غلطانة إني قولتلك أصلاً


لكن فارس لم يتوقف عن الضحك، بل جذبها إليه في حضنه بكل عفوية، لا يزال يضحك من قلبه، وهو يشعر بالسعادة البسيطة في تلك اللحظة


سرعان ما ضحك أكثر عندما لاحظ أن ميان بدأت تشم رائحته من جديد بنفس الطريقة، كأنها لا تستطيع مقاومتها !!!!

........

بعد مرور اشهر طويلة في غرفة العمليات، حيث كانت الأضواء ساطعة كأنها مصابيح عملاقة تضيء مسرح عرض، كانت "ميان" تجلس على السرير، مُحاطة بكل أنواع الأجهزة الطبية، وفارس يقف بجانبها، يتأرجح بين القلق والارتباك، يحاول تهدئتها :

اهدي يا حبيبتي، كله هيكون تمام


قالها بلهجة تُشبه من يُهدئ عاصفة في فنجان شاي و

لكن بالنسبة لميان كانت كلماته لا تُعطي نتيجة، بل كانت كالشخص الذي يُحاول إخماد نارٍ مشتعلة بقطعة ثلج


بينما كانت ميان تأخذ نفسًا عميقًا، انطلقت صرختها في أرجاء المستشفى :

منك لله ، كان مالي ومال الحب وسنينه والولادة و كل ده ، منك لله مش مسمحاك يا فارس !!!



حاول تهدئتها لكن صرخاتها كانت تجذب انتباه الجميع في المستشفى، كأنها تعقد حفلة صاخبة بلا دعوة :

بطل تقولي اهدي، تعالى جرب اولد مكاني وشوف هتعمل إيه !!!!


في تلك اللحظة، اندلعت ضحكات من الخارج كان الجميع يتخيل كيف يمكن لفارس أن ينجو من غضب ميان وكأنهم يتابعون عرضًا كوميديًا


في تلك اللحظة، انبعث صوت صراخ مدوٍ في المكان، صوت كان يعرفه الجميع، فقد كان صوت "همس" التي كانت تصرخ من شدة الألم، جاء كارم من خلفهم وهو يحملها بين ذراعيه، وملامح وجهه تعبر عن القلق الشديد


كانت همس تلهث، وألم الولادة يعصر قلبها، لكنها لم تتوقف عن إلقاء كلماتها الغاضبة على كارم :

منك لله... منك لله مش قادرة هموت من الوجع أنا مش عاوزة أولد، ومش عاوزة الحب...وسنينه، رجعني عند بابا.... آه....حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا كارم


ضحك الجميع رغم قلقهم البادي على وجوههم، ولكن لم يلبث الوقت طويلاً حتى خرج فارس من غرفة العمليات، وهو يحمل طفلين صغيرين، وفرحة عارمة تملأ قلبه !!!


كان الجميع في غاية السعادة، وقلبه اكثرهم فرحاً، فقد كانت المفاجأة الكبرى أن الله رزقه بتوأم، صبي وفتاة، فهو وميان لم يكشفوا عن نوع الجنين، واختاروا ان تكون مفاجأة للجميع


أخذ والد ميان الطفلة بين يديه، بينما دموعه تنهمر من شدة الفرح، وهو يردد بتسبيح وحمد :

ما شاء الله تبارك الله


وفي تلك اللحظة، بدأ فارس يُؤذن في أذن الطفلة الصغيرة، وكذلك فعل والد ميان وها هي دموع الفرح تسيل من عينيه، وهو يقف في تلك اللحظة شاكراً الله على نعمته


ثم، بعد قليل، خرج كارم من غرفة العمليات وهو يحمل طفله بين ذراعيه، وجهه متعب ومنهك، لكن عمار لم يستطع إلا أن يطلق ضحكة، قائلاً بمرح '

ده واضح إن همس قامت بالواجب


ضحك الجميع، وتوالت الضحكات في المكان، أخذ عاصم الطفل من يدي كارم بسعادة تغمر قلبه وهو يحمل قطعه من ابنته


كانت لحظة سعيدة، لحظة انتعشت فيها الأرواح وزادت الحياة بهجة وحبّاً، العائلة أصبحت أكبر بثلاثة أفراد، تم تسمية الطفل "سيف" من قبل كارم وهمس، بينما اختار فارس وميان أن يسميا توأمهم "أوركيد" و"مروان" على اسماء اشقائهما الراحلين سعادة كبيرة غمرت أهله وأهلها


كانت لحظة مفعمة بالفرح والدموع، لحظة شهدت على بداية جديدة، على حياة جديدة، وعلى الحب الذي لا يزول

.........

أصبح يزن في عزلة تامة، حبيسًا داخل غرفته لأشهر طويلة، يبتعد عن الجميع، لا يشارك في شيء، ولا يجيب على أحد كانت الأيام تمر ببطء وبصمت مطبق، وكأن الحياة توقفت بالنسبة له....لكن اليوم، وعلى نحو مفاجئ، قرر أخيرًا الخروج، كان يجر قدميه في الشوارع بخطوات ثقيلة، يشعر وكأن العالم نفسه اصبح يرفضه، لكنه كان مضطراً للاستمرار


توقف فجأة أمام بناية قديمة، وقد وقع نظره على لوحة معدنية تعلن عن "عيادة الدكتور أشرف نعمان – استشاري في الطب النفسي" تأمل البناية لبضع لحظات، وكأن تلك اللحظة كانت محورية في حياته، تحمل بين طياتها مشاعر متناقضة من التردد والقرار ورغم الخوف الذي تسلل إلى قلبه، كان يشعر بشيء من الأمل في داخله


وبعد لحظة صمت، حسم يزن أمره ودخل المبنى بخطوات ثابتة، عازمًا على إصلاح نفسه وحالته النفسية، كانت تلك اللحظة بداية جديدة، خطوة أولى نحو التغيير ورغم إدراكه أن الطريق سيكون طويلاً وصعبًا، كان لديه يقين واحد لا بد له من البدء !!!!!

.......

مر الوقت بسرعة، والجميع كان يعيش في استقرار وسعادة، كل واحد منهم وجد طريقه أخيرًا وحقق ما كان يطمح إليه. كانت حياتهم مليئة بالإنجازات الصغيرة والكبيرة، كل منهم يسير نحو هدفه بثقة، بينما كانت روابطهم تتعزز أكثر فأكثر أما سفيان، فقد ظلَّ متمسكًا بوعده خلال هذه الفترة، كان يسعى جاهدًا ليُثبت للجميع أنه قد تغيّر بدأ يشارك بفاعلية في كل ما حوله، يشارك في الأحاديث، ويقدم المساعدة حيثما أمكنه، ويظهر التزامًا في كل شيء يفعله لم يكن التغيير مجرد أفعال سطحية، بل كان يعكس تحولًا حقيقيًا في شخصيته، مما جعل الجميع يلاحظون تطوره ويقدرونه أكثر.

الخاتمة من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1