رواية بقايا عطر عتيق الفصل العاشر بقلم مريم نصار
مرت الليله بسلام على جميع أفراد العائلة وبعد ظهر اليوم التالي، كانت زاهية تتنقل في المنزل بضـ.ـجر، وعينيها تمتلئان بنظرات حا.دة ومليئة بالخبـ.ـث، فقد كانت تنتظر بفارغ الصبر سماع الرد بالموافقة من عبد الرحيم. شعورها بالانتصار كان يكبر كلما اقترب الوقت، وكأن خطتها بدأت تؤتي ثمارها.
اقتربت من صبري، الذي كان جالسًا على مقعد خشبي، في ساحة الدار منهمكًا في تعديل شاربه، وقالت له بنبرة لا تخلو من الخبـ.ـث:
ـ قاعد توضب شنبك ودقنك وسايبني أكل في نفسي ياصبري؟ وبعدين دار عمك قالولك هتاخدوا الرد ميتى؟
في هذه اللحظة دخل عبد اللطيف بهدوء وثقة قائلاً:
ـ بكره بعد صلاة العشا يا زاهية، الحج عبد الرحيم و ولده حسين هياجوا ويدونا الرد إن شاء الله.
ثم نظر الي إبنه بحنـ.ـق وقال:
ـ وربنا يستر ومخسر.ش أخوي بسببكوا.
لمعت عينا زاهية بخـ.ـبث، ولم تهتم لحديث لزوجها فهى تتوقع الموافقة بنسبة كبيرة لأنه إبن عمها وظهرت ابتسامة مكـ.ـر خفيفة على شفتيها، فقد شعرت بأن كل شيء يسير كما خططت له. كان انتظارها على وشك أن ينتهي.
أما صبري، فقد اعتدل في جلسته وفرك شاربه بفخر، ثم قال بابتسامة واثقة:
ـ برواه عليك يا واد يا صبري، مكتوبالك تاخد حتة الملبن دي.
ضحك بخفو.ت، وكأن حلمه أصبح قريبًا من التحقق، وزاهية كانت واقفة تراقبه، تدور في عقلها خطط كثيرة لما ستفعله عندما تصبح فاطمة في بيتهم وتحت سيطر.تها.
بينما كان عبد العزيز جالسًا تحت شجرة المانجو يستظل بظلها، ذهبت الية صباح لتخبره كي يستعد للذهاب حتى يُطعم المواشي في حظير.تها. لكنها وجدته شاردًا، استغلت الفرصة وبدأت تز.ن وتلح عليه كالعادة. حتى تعرف سبب شروده هكذا.فاستسلم وسرد لها ما يحدث في تلك الفترة فجلست بجانبه وهي غير مصدقه ما سمعته للتو، ونظرت إليه بعد تفكير وهى ترفع حاجبها بتعبير سا.خر، ثم بدأت بلهجتها الحا.دة:
ـ اممم ايوه ايوه، بقى هى الحكايه كده؟ صبري ابو قاسم وسميرة عايزين يحاوطوا على دار القواسمه من كل جهه ويكو.شوا على كل حاجه!
رفع عبد العزيز عينيه نحوها دون أن يجيب في البداية، وهي تكمل بنفس الحما.س:
ـ ايه بتبحلـ.ـقلي كده ليه! مش لادد عليك حديتي؟ طيب فسرها أنت كده! ورحمة امي هتلاقي كلامي صُح، إزاي راجل شايب وعايب زي صبري مخلف كوم عيال واصغر عيل فيهم يفصل من عيالك اتنين؟ عايز يتجوز بت بنوت وعيلة صغيرة زي فاطمة؟ هو عايز يلهفها ويكوش على كل اللي في إيدينا!
ثم استرسلت وهى تستنبط حديثها قائلة بدها.ء واضح كي تشرح له:
ـ يعني سميره تتجوز وتتهنى واني و إخلاص و وفاء وكمان خواتك البنات عيشه وزينب وفتحيه كلنا أكده نتجوز رجاله زين ونتزاين بيهم ونتفشخر وسط أهل الكفر، وتاجي على أختك الحز.ينه دي. تبقى ماشيه جار واحد قد أبوها والاسم جوزها! والناس يفتكروها بته!
قال على رأي المثل: كل سجرة بتطرح حباتها، ومش بعيد تكون الحبات مُرّة.
عيني عليكي يا فاطنه دي هتشيل الهـ.ـم زيي واكتر.
ظل عبد العزيز صامتًا للحظة، يتأمل ما تقوله، ثم همهم برأسه كأنه يتفق معها. لكن قبل أن يتحدث، شهـ.ـقت صباح بصوت مرتفع عندما تزكرت كلماته الاخيره وقالت:
"يامصيـ.ـبتااي! هو انت صُح قولت، ابوك الحج عبد الرحيم خلاص وافق؟! يادي الحز.ن ويادي الحطه، روحنا بجمل ورجعنا على بطه.
في هذه اللحظة، شعر عبد العزيز بالغـ.ـضب المتزايد، فالتقط حذائه بيده (البُلغة) بجانبه والقا.ها نحوها قائلاً بحد.ة:
ـ الهي تتبـ.ـطي زي العيش المرحرح ياجلابة النصا.يب. خر.عتيني وصر.عتي وداني، قومي فز.ي من جاري.
ثم رفع يداه للأفق مستا.ءا:
ـ روحي يا بت أبو زاكي، الهى مصـ.ـيبة تتحط فوق راسك. ماتعرفي تفلفصي منيها.
صر.خت به وهى ذاهبه معلنة عن غـ.ـضبها قائلة:
ـ جرا ايه ياراجل، انت على طول حمقان كده! ولا بس عشان كلامي صُح جه على الو.جيعه! روح اتنصح على اللي عايز يلهف تعـ.ـبك وشقا.ك، خلي ياخويا عيالك يلحسوا الطـ.ـين، بلا خيبه راجل تشّيل الهم للي حوالين منك.
بعد مغادرة صباح، انفـ.ـعل عبد العزيز بشد.ة، إذ شعر في قرارة نفسه بأنها على حق هذه المرة. كانت الغضـ.ـب يتصاعد في صدره كالنا.ر في الهشـ.ـيم.
خـ.ـلع قبعة الرأس القطنية التي كان يرتديها، وألقا.ها على الأرض بقو.ة، كأنما يرمز بذلك إلى عدم رضاه عن الوضع الراهن. و من تلك الحمقا.ء زوجته أيضاً.
قبل الغروب جلست الجدة نعيمة أمام الدار، مستظلة بشجرة تين كبيرة، وفاطمة تجلس بجانبها تدير الرحايا ببطء وثبات. (الرحايا)وهي عبارة عن حجرين دائريين كبيرين متراكبين فوق بعضهما البعض، كانت تُستخدم لطحن الحبوب يدويًا. تمسك فاطمة بيدها المقبض الخشبي المتصل بالجزء العلوي من الرحايا، وتحركه بحركة دائرية هادئة. الحجر العلوي يدور فوق السفلي بينما الحبوب تسقط بينهما، لتخرج منها طحين ناعم يتساقط في وعاء صغير موضوع تحته.
الأم نعيمة كانت تراقب ابنتها بنظرة رضا ومتابعة، وعينيها تمتلئان بحنان الزمن.ولكن قلبها يشعر بالو.هن تجاهها على ما ستلاقيه في سنواتها المقبله إن تمت تلك الزيجة الغير مرغوب بها، تنهدت بقلة حيلة وقالت وهي ترمق فاطمة بحنان عميق:
ـ شدي حيلك يا بتي.
اردفت فاطمه ذات اليد الصغيره التي تقبض على يد الرحا بكل قوتها حتى تصبح قادره على طحن حبات الذرة و وجهها عا.بس قائلة:
ـ ماني شغاله اهو يما والرحايا تقيله على يدي قوي، إلا إيه كان لازمتها الرحايا بس يما.
تنهدت الأم مبتسمه مجيبه بحكمه:
ـ الرحايا دي يابتي زي الدنيا، ما بتطـ.ـحنش إلا اللي ما يقدر عليها.ونتي قادرة عليها يا فاطمة، وقد الشيلة إن شاء الله.
رفعت فاطمة رأسها نحو أمها مكشره عيناها ولم تفهم ما ترميه إليها أمها من هذه الكلمات العميقه، لكنها ظلت تركز على الرحايا، تديرها ببطء، وكأنها تفكر في شيء بعيد، ثم قالت بنبرة هادئة:
ـ صحيح الدنيا زي الرحايا، ما بتسيب حد على حاله. خد.ت مني أخوي اسماعيل وبعتته على الجهاديه، لو كان معانا دلوقتي وشافني أكده! كان قالي انتي يدك صغيره على الرحايا يافاطمه خلي عنك واني هسد مكانك، قد ايه اسماعيل حنين وقلبه كيف اللبن الصافي، والله اتوحشته قوي يما.
كانت الرياح الخفيفة تهب بينهما، تحرك أغصان الشجرة، وكأنها تتناغم مع إيقاع الرحايا، تنهدت نعيمة، وعرفت أن فاطمة غداً ستحمل هماً أكبر من عمرها. في تلك اللحظة رأت حسين يقترب منهما فوضعت يدها بحنان على كتف فاطمه وقالت بصوت هادئ وأسلوب مبطن:
ـ كل خواتك حنينين عليكي يابتي، وإن كان كف يدك الصغير دِه اسماعيل بيخاف عليه، فكل خواتك عنديهم استعداد يخبوا كفك وسط قلوبهم ولا يمسكيش أذى، وبكره تشوفي وتقولي امي قالت، اني ورثت في الدنيا دي!رجاله في ضهري بحق وحقيق.
ومهما كانت الدنيا شد.يدة، هتلاقي اللي يسد عنك ويقف في ضهرك يحميكي.
أستمع حسين لكل كلمة أطلقتها أمه وكأنها ترسل إليه رسالة خاصه بطريقة غير مباشرة حتى يغير قراراً مصيريًا مثل هذا بما أن الأمر متروك له، تبادلت بينهما النظرات مابين الحد.ه من نعميه والحير.ه والتخـ.ـبط من حسين، وتتوسطهم فاطمه التي لا تفهم شيئاً على الإطلاق ، زفر حسين بإنز.عاج شد.يد وذهب من امامهم دون حديث.
بعد وقت وفي نفس اليوم، جلس حسين مع أبيه الحج عبد الرحيم في المندرة ليخبره بقراره. كان الجو هادئًا، والنجوم تلمع في السماء، لكن قلب حسين كان مليئًا بالحير.ة. يعلم جيدًا أن أمه لا ترغب في زواج فاطمة من صبري، لكنه لا يريد أن يعصي أو يغـ.ـضب والده ويعـ.ـصي أمره. كان عليه أن يجد حلاً يرضي الجميع. وضع الأب كوب الشاى أمامه وقال:
ـ ها يا ولدي نويت على إيه؟
حسين بعد لحظة صمت، نظر لأبيه وتنحنح وقال بصوت هادئ وواثق:
ـ والله ماني عارف أقول ايه يابا!
أردف الأب:
ـ قول لا إله إلا الله يا ولدي.
أردف حسين معلنا ما بداخله:
ـ ونعم بالله ياحج ، واسمحلي في الكلمتين اللي هقولهم دلوقت. اني عارف إن الكلمة بين الرجاله ما ترجعش، بس اني عندي كلمة حق، لازمن أقولها.
الحج عبد الرحيم رفع رأسه وقال:
ـ قول يا حسين، وكلمة الحق ماتزعلش واصل.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم تابع:
ـ يابا صبري إبن عمي وعارفينه زين، وهو على راسي من فوق وراجل طيب ومايعبوش اي حاجه، ويقدر يتجوز بدل المرة اربعه مادام هو عايز أكده، بس،اني شايف يعني إنه مش هيبقى لايق لفاطمه اختي. البت لسه عودها أخضر وعيلة صغيرة ، وهو راجل عدى سنين طويله في عمره، واتجوز مرتين قبل سابق وطلق، وبرضو هو حر مادام بعيد عن حريم دارنا، وفاطمه دي يابا مش اختي وبس! دي بتي وبصراحه يابا، اني حاسس اني هعمل حاجه كبيره وذ.نب كبير قوي في حقها لو جوزتها واحد قدي في السن.
الحج عبد الرحيم قطـ.ـب جبينه وقال:
ـ عاوز تقول إيه! وتقصد إيه بحديتك يا حسين؟
حسين نظر إلى والده بجد.ية وقال:
ـ سامحني ياحج في جر.أتي ،أني بقدر كلامك ومشورتك عليا وانت كبير العيلة وحكيمها، بس اللي أقصده، إن حر.ام فاطمة بت امبارح تدخل دار كبيره قوي عليها تقـ.ـطم ضهرها وتنشف عودها الأخضر قبل أوانه، فاطمه لسه بدري عليها والحق حبيب الله. اللي المفروض لما تتجوز! نجوزها راجل سنه معقول ومسبقلوش الجواز قبل أكده، اما صبري راجل وعنده عيال وشيله كبيره ومسؤوليات، وهو اللي شيلها لروحه بمزاجه، محدش قاله يروح يتجوز وير.مي بنات الناس، واني خا.يف على فاطمة وانت خابر مرت عمي هتخليها تشرب المُـ.ـر في أباريق، واختي تسكت وتتحمل فوق طاقتها. مش عشان مش قادرة، لا عشان لسه صغيرة على كل ده ومش فاهمه حاجه.
وانت دايما ياحج لما أمي الحاجه كانت تخلف بت، كنت تقولي، البت زي السجرة، لازم تترعرع على مهلها عشان تطرح حباتها وتنور.
تأمل الحج عبد الرحيم كلام حسين، ثم هز رأسه بتفكير عميق وقال:
ـ يعني انت شايف إن الجوازة دي مش هتكون لصالحها؟
حسين أومأ بحز.م وقال:
ـ أيوه يابا، وكل اللي عاوزه إنك متزعلش مني. دي مهمن كان بنتنا، ومش هنفر.ط فيها لأي حد حتى لو كان إبن عمي صبري. واني متوكد إنه لو كان فكر زين! مكنش هيقدر يرفع عينه فينا ولا يفكر يتكلم على بت عمه الصغيره.
صمت الحج عبد الرحيم لبرهه ليفكر وهو يقلب حبات سبحته الخاصه بين يديه وانتظر حسين متمنياً أن يقنع والده، إلى أن قـ.ـطع الصمت والده وقال:
ـ برد عليك باكر إن شاء الله.
حرك حسين رأسه متو.جسا من أن يغضـ.ـب عليه أباه وقال:
ـ على أقل من مهلك يابا الحاج ، واللي هتقوله هيمشي على ر.قبة الكل.
أصبح الآن الأمر متروك للأب كبير العائلة وكان حسين يشعر بالحير.ه وكلما نظر الي شقيقته الصغيره يرى حجم الكا.رثة التي كان سيو.قعها فيها، كانت أثـ.ـقل ليله على قلب حسين الذي يتسطح الآن في فراشه بجانب زوجته التي تغط في نوم عميق أثر العمل الشاق، ويفكر هل بهذه الكلمات التي حدث بها والده استطاع أن يقنعه على الر.فض أم سيظل على قراره النهائي بشأن موافقته، أخذ نفسا عميقا محاولا أن يغفو حتى يستيقظ مبكرا ليعرف ما هو القرار الأخير. وما إن أشرقت شمس يوم جديد واستيقظ الجميع وقبل ذهاب حسين الي الأرض مر على والده في الحديقه أمام الدار وهو يسقى بعض الأشجار المثمرة وبعد حديث دار بينهما سأله حسين:
ـ ها ياحج مقولتليش كلمتك في موضوع صبري.
وضع الأب سطل الماء بجانبه و وقع نظره على فاطمه التي كانت تركض خلف ابنة أخيها التي تكبرها بعام، ورأى أنه إلى الآن يرى أن حفيدته ما زالت صغيره فما باله بابنته، فهز رأسه مبتسماً وقال:
ـ كلامك عَشيه كان زين قوي ياحسين ياولدي، وأني كمان خا.يف على البت، بص عليها أكده هناك بتجري ورا بتك عيشه وصُح لساتها صغيره.
ثم نظر إليه وقال:
ـ بس اني متعودتش ارجع في كلمتي وإلا ساعتها هيقولوا على ابوك ايه؟
أجابه حسين مسرعاً وبوضوح وقال:
ـ ورحمة سيدي قاسم اللي يفكر بس يرفع عينه في كبيرنا لانخلي جنا.زته في الكفر كله تتزف بالطبل البلدي، واني بقولك اهه، متشلش هم الحكايه دي يابا، وانت مش هترجع في كلمتك ولا حاجه، محدش يعرف بموافقتك غيري اني والحاجه، وفي الأول والأخير انت كنت مستني ردي عليك وبعديها نشوف الصالح واللي هيتم ونعمله. وعشان خاطر عمي عبد اللطيف مايزعلش، مع إن دي حاجه متزعلش، هما فكروا في اللي يريحهم على حساب تعـ.ـبنا إحنا، بس الد.م اللي بيناتنا أكبر من أي زعل، اني بنفسي هروح الليلادي بأمر الله واتحدتت ويا عمي ومش هسيبه غير وهو مرضي.
حرك الأب رأسه معلناً عن موافقة حديث أبنه الكبير وقال بحز.م:
ـ زين ياولدي، أعمل الصالح، وبلغ عمك عبد اللطيف وقوله بتنا لسه عودها أخضر مايخدهاش غير صبي يزينها.
وبهذا التصرف خرج حسين من المأز.ق بأسلوب صريح، محققًا التوازن بين احترام عمه وعدم الدخول في خلاف مع والده، وفي نفس الوقت حافظ على مصلحة فاطمة، مما يجعل القرار مقبولًا لجميع الأطراف.
هكذا، حسين يظهر قو.ته ومروءته دون أن يخو.ن العادات أو يخالف كلمته، لكنه في نفس الوقت يستخدم العقل والحكمة لإقناع الجميع.
بعد مغرب اليوم، قرر حسين أن يزور عمّه عبد اللطيف. وصل إلى منزل عمه، وقبل أن يطرق الباب، كان يشعر بثـ.ـقل في صدره. لكن عليه أن يتحدث، فالأمر يتعلق بمستقبل عائلتة.
فتح عبد اللطيف الباب وابتسم حسين برسميه قائلاً:
ـ سلام عليكوا يابا عبد اللطيف.
ـ وعليكوا السلام يامرحبا، كيفك ياحسين، جيت في وقتك، تعالى ادخل.
دخل حسين وسلّم عليه، ثم جلس. وما إن علمت زاهيه همت لتقف بجانب الباب كي تسترق السمع لتعرف ما يدور بينهم. وتنتظر الموافقه بفارغ الصبر.
بعد أن قدم له عمه الشاي، سأله:
ـ اومال الحج عبد الرحيم فين اومال؟ مجاش وياك ليه؟
رد حسين بإقتضا.ب وقال:
ـ كان هياجي معاي لولا رجالة ابو سويلم جم طبوا علينا يستأذنوه يصلح،و يحللهم إشكالية بيناتهم وبين دار ابو سعفان. قولتله خلاص خليك انت يابا واني هروح لدار عمي، مانت خابر اني كبيرهم برضو.
وكانت آخر كلماته تلك يقصد بها أنه مسموح له بأخذ القرار الذي فيه مصلحة عائلته دون تردد أو خو.ف.
أردف عمه قائلاً:
ـ وماله الله يعينه، اخويا الحج مشاغله كتيره قوي، بس خير يا ولدي في حاجه ولا إيه؟
أخذ حسين رشفة من كوب الشاي، ثم قال بصوت خشن:
ـ اني جاي أتحدت وياك في كلمتين أكده.
عبد اللطيف استعد لما سيقوله حسين، فقال بتركيز:
ـ قول ياولدي سامعك.
حسين بدأ حديثه بهدوء:
ـ النهارده زي ما انت خابر ردنا عليكوا بخصوص موضوع صبري.
أبتسم عمه وقال:
ـ وكلمتكوا سيـ.ـف جيت على المعاد مظبوط.
تنحنح بصوت أجش وقال:
ـ تعيش ياعمي، وانت طول عمرك تعرف في الأصول زين قوي، والحق مايزعلش ولا إيه يابا الحاج كلامي فيه حاجه عيب!
رد عمه بوضوح وقال:
ـ العيبه ماتطلعش من دار القواسمه عاد ياولدي.
رد حسين بدهاء:
ـ بس المرادي طلعت يابا الحاج عبد اللطيف، وطلعت من قلب دارك.
اتسعت عينا عبد اللطيف وكذلك زاهيه التي تتجسس عليهم، واكمل حسين معاتبًا:
ـ لما صبري اخوي الكبير وابن عمي واخو مرتي وخال عيالي، يدخل دارنا كيفه واحد منينا وياكل على طبليتنا.ونأمنه على لحمنا، يقوم يخو.ن العيش والملح ويبص ويرفع عينه على أصغر عيلة في الدار، عشان ينقي بعينه عيله أصغر من بناته، ولا إيه ياعمي!
صد.م عبد اللطيف من هجو.م حسين فهو يعلم أن ابنة أخطأ وكان ضـ.ـد هذا الأمر غير موافق عليه، ولكنه ظن منهم الموافقه على طلبه لصلة القرابه بينهم، دُ.هش من نبرة حسين ولمعة عيناه بغيره صار.خه وأكمل حسين حتى يقلب الطاولة عليهم ويصبحوا هم من لهم حق الرفض والقبول دون أن ينزعج منه عمه، ويخطط حتى يأتي عمه كي يطلب العفو من أخيه الكبير، حتى يجعل أبيه دائما في مكانه عالية لا يتخطا.ها صبري أو غيره، وقال على نفس الو.تيرة:
ـ أبويا زعل قوي يابا الحاج عبد اللطيف، ايوه وليه حق يزعل لما يلاقي أخوه عايز ياخد واحده من دور عيال عياله لابنه اللي كا.سر الأربعين ومش بس أكده، ده كمان عاوزين تجوزه البت قبل رمضان يعني كام شهر واختى الصغيره تبقى مرت أب، الحقيقه يا عمي أبويا حز.ن قوي.
ار.تبك عبد اللطيف وقال متلهفًا:
ـ يابني والله العظيم اني مقصد حاجه من دي، ده زعل أبويا الحج عبد الرحيم يقـ.ـطم ضهري، اني أخـ.ـسر ولدي ولا اني أخسر اخوي، وخلاص بلاها الجوازه اللي هتز.علنا من بعضينا دي.
وإن كان على صبري.
قاطعه حسين وقال:
ـ بعد إذن قـ.ـطع كلامك ياعمي، صبري مبقاش في بيني وبينه عتب، لأنه المفروض مش عيل صغير و كان لم عينه على حريم الدار.
ثم ابتسم حسين وربت على فخذ عمه وقال:
ـ بس روق انت ياعمي اني مايهونش عليا زعلك.
قال عبد اللطيف بأ.سى:
ـ اللي يهمني زعل اخوي ياحسين مش حد غيرو.
اخبره حسين قائلاً:
ـ اني قبل ما اجي خبرت ابويا إنك تلاته بالله العظيم تلاقي مادخلك حاجه بالموضوع ده واصل.
اجابه عمه على الفور وقال:
ـ تلاته بالله العظيم يابني ده اللي حُصل صحيح اني ماليش صالح بكل دِه، الواد صبري لما تربس راسه وكان هيطـ.ـينها ويروح هو لعمه بذات نفسه قولت لا خلاص اتكلم اني وامري لله.
رد حسين:
ـ اني قولت اكده بردك، أبويا عبد اللطيف لايمكن يعمل حاجه زي دي واصل، وعموماً إحنا ننسوا اللى كان حاصل دِه ولا كن صبري اتحدت في موضوع فاطمه، ولا كن حد يعرف واصل.
أردف عمه:
ـ زين كلامك ياولدي، واني هقوم دلوقت اروح اطيب خاطر اخوي.
أبتسم حسين لنجاح خطته:
ـ تلاته بالله العظيم مايحصل أنت مقامك كبير قوي، وسيب موضوع ابوي ده عليا اني.
تعجب عمه وقال:
ـ ازاي بقى! مش لازمن أراضيه.
قال حسين وهو يمسح لحيته الخفيفة:
ـ لاه متشلش الحكايه هم انت خالص، أنت بردك كبيرنا واني مرضاش تروح محقوق لابوي، بس لو مش عايز ابويا يضا.يق.تاجي بكره بأمر الله بعد صلاة الجمعة انت ومرت عمي تتغدوا ويانا تحت العنبه ونشرب شاى بالنعناع ويساويها المولى من عنده.
تنهد العم وقال:
ـ وماله مايجراش حاجه ، بس يعني انت كمان مش زعلان ياحسين يا ولدي:
ـ لمح حسين طرف ثوب زوجت عمه من تحت عقب الباب وقال بمـ.ـكر وهو يحتسى الشاي:
ـ إحنا عيله واحده ياعمي والد.م عمره ما يبقى مية، ومداسك انت وابوي فوق روسنا يعلونا ميصغروناش.
تنهد عبد اللطيف بارتياح كبير وقال:
ـ الحمد لله. والله يرضى عليك ياولدي، ريحت قلبي،وربنا يعدي الموضوع ده على خير.
وقف حسين مستعدا للذهاب، ثم قال:
ـ كوباية الشاي زينة قوي، عقبال ما نشرب شربات عيال صبري ياعمي.
خرج حسين مبتسماً بنصر ولم يلتفت إلى زوجة عمه خلفه، تاركًا عبد اللطيف في حالة تفكير،و قلبه يشعر بالأ.لم.
بعد مغادرة حسين مباشرة، ولجت زاهيه الغرفة بعصـ.ـبية، وواجهت زوجها قائلة:
ـ غلبك بالكلام إبن نعيمه! بدل ما يقولوا مش موافقين جابوها فيك وفابنك ياعبد اللطيف؟
لم يتحمل عبد اللطيف نبرتها الصار.خه، ردّ بغضـ.ـب:
ـ كفاياكي زن ورطرطة، اني قلت من الأول البت صغيرة، وابنك راجل شايب! ولو جاني واحد زيه لواحده من بناتي، عمري ما هرضى بيه.
وما إن رأى صبري يقف على عتبات الباب وجه أبيه له حديثاً صار.ماً وقال:
ـ عاجبك ياغر.اب البين انت! كنت هتخـ.ـسرني أخويا كبيري اللي مربيني وكبرني وجوزني قبل منه عشان يرعانا كِلاتنا ، ودلوقتي جاي ترمي عينك على بت اخوي؟ العيله الصغيره؟ يابجا.حتك راجل.
ثم و.كزه بالعصا الخشبيه في كتفه وقال منبها:
ـ من فجر الله تروح وتحب على أيد عمك وتستسمحه وتقوله حقي بر.قبتي. ومترجعش الدار اللا وعمك رضيان عنك يابو.ز الفـ.ـقر.
شعر صبري بالضـ.ـيق والغضـ.ـب يتسللان إلى قلبه. قرر أن يخرج من البيت، واستقل الطريق إلى المولد.
مشي صبري في المولد، وكانت احدى الر.اقصات (الغزية) تتودد له، متحدثة بلكنة البندر وهى تسير برفقته:
ـ مش هتقولي يسيد الناس! مالك إيه معكر مزاجك كده؟
ولجوا إلى داخل خيمة كبيرة وجلس أرضا وهى جلست بجانبه وبدأ يسرد لها ما حدث.
عندما انتهى، ضحكت، وقالت:
ـ بقى عايز تتجوز بنت صغيره من دور عيالك؟
ثم أكملت بنبره مر.واغة بها د.لال:
ـ طيب بدال ما تبص بعيد! بص حواليك، يمكن جمبك واحدة تتمنى إنك تشوفها.
نظر اليها متطلعًا بها ثم ردّ مازحاً وهو يضحك بصـ.ـخب:
ـ عوزاني ابصلك انتي يا عوالي! ابص واتجوز غا.زية على آخر الزمن! حد قالك إني عبـ.ـيط! دي باينها خر.بت.
اغتا.ظت قليلاً منه وأشاحت برأسها بعيداً:
ـ مالها الغا.زيه ياسي صبري! مش دي اللي انت حفيت وراها علشان تنول رضاها! إيه اللي جرا دلوقتي؟
وقبل أن تذهب، لكنه سرعان ما أمسك يدها ليصالحها، قائلاً:
ـ يا بت، مقصديش حاجة. انتي بتتقمـ.ـصي طوالي أكده ليه!
ثم أخرج من محفظته الكبيره مالاً واضعاً إياه في يدها وقال بغمز.ه ما.كره:
ـ خدي الجنيه دِه، وقومي هز.ي شوية. اني جايلك مخنو.ق ومضا.يق، متعكننـ.ـيش عليا انتي التانيه، قومي، قومي.
أخذت المال بفرح، غير مصدقه ونظرت له بعينين ما.كرتين:
ـ جنيه مرة واحده!
ثم ضحكت بد.لال وقالت:
ـ من عيوني،يسيد الناس، لاجلك أعملك اللي انت عايزه.
بعد أن عاد حسين إلى البيت، وجد والده عبد الرحيم جالسًا مع رجال من البلده، منهمكين في حل الخلاف بين العائلتين. جلس حسين بجانب أبيه، وشارك في الحديث بحكمة وصبر. كانت العائلتان متو.ترتين في البداية، لكن بهدوء وصبر عبد الرحيم وتدخلات حسين المدروسة، تمكن الاثنان من تهدئة النفوس وإيجاد حل يُرضي الجميع.
بعد أن ودعت العائلتان عبد الرحيم وحسين، وجلسا معًا، اقترب حسين من والده وقال:
ـ الحمد لله يا حاج، كل حاجة عدت على خير، وعمي مش زعلان زي ما كنت مفكر، ده كمان مفكر انت اللي زعلان وكان عاوز ياجي يحب على راسك.
لم يدخل في تفاصيل رفضهم لطلب صبري مباشرة، بل اكتفى بطمأنة والده أن الأمور سارت بسلاسة.
أضاف حسين مبتسمًا:
ـ بس اني حستها كبيره قوي إن عمي كبيرنا بردك يعمل أكده ، قومت عشان ابينله إننا لا زعلانين ولا حاجه وأنه كمان يبين لنا أنه مش واخد على خاطره منينا! قومت عزمته هو ومرت عمي بكره بعد صلاة الجمعة، وقولتله كمان هنتغدى سوا تحت العنبة. ورضي طوالي وقالي خلي الحاجه تسويلنا كام رقاقه طريه زينه أكده على الكانون.
أبتسم عبد الرحيم بفخر، فها هو ابنه قد أظهر رجاحة عقله وقوتة في حل المشاكل. قال عبد الرحيم بصوت مليء بالاعتزاز:
ـ زين ما عملت، أنت مش بس ابني الكبير. أنت كبير القواسمه وراجل العيلة، ربنا يبارك فيك يا ولدي.
قبّل يد والده، وقام حسين واتجه نحو الغرفه الكبيره حيث كانت والدته نعيمة تجلس. قبّل يدها بكل حب، ثم قال لها بابتسامة:
ـ خلاص يا حاجه من الليله نامي مرتاحه، موضوع صبري اتفض وخلص خلاص،وكل حاجة عدت زينه وقبل ما أنسى عمي عبد اللطيف وجماعته هياجوا بكرة يتغدوا معانا.
فرحت نعيمة بشكل كبير، وشعرت براحة نفسية. دعَت لابنها قائلة:
ـ روح ربنا يريح قلبك ويرزقك ويسعدك،ويرضى عليك يا حسين يابن بطني،ويجعل محبتك في قلوب الناس كلها زايده.
كانت تعلم أن الليلة ستكون مريحة لها، وستنام براحة قلب بعد أن سمعت هذه الأخبار السارة.
أما حسين، فقد تركها ودخل غرفته وأ.لقى بنفسه على الفراش، مسترخياً بعدما نجح في تنفيذ خطته بكل حنكة. استعاد في ذاكرته ملامح عمه عبد اللطيف، وكيف قلب الأمور لصالحه دون أن يشعر عمه بأي ضـ.ـيق. ابتسم ابتسامة عريضة، على حل الأمر دون خلا.ف،ثم أخذ نفساً عميقاً وكأنه يطمئن نفسه بأن الأمور تسير كما يريد.ولإتمام ما كان يريده إسماعيل شقيقه الأصغر.