رواية بقايا عطر عتيق الفصل الحادي عشر 11 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل الحادي عشر بقلم مريم نصار 

بدأت الاستعدادات لبداية العام الدراسي الجديد في بيت عبد الرحيم، وكانت الفرحة تغمر قلب صالح الصغير. منذ أن أعلن الجد موافقته على تعليم صالح، بدأت الجدة نعيمة في التحضير لهذا اليوم بحماس.
أرسلت الجدة نعيمة إلى صالح ليأتي إليها في غرفتها وسرعات ما أتى رآها وهي تحمل قطعة من القماش وكانت جديدة واردفت قائلة: 

ـ تعال ياصالح، شوف بعت جبتلك إيه؟

أقترب منها ليجلس أمامها ينظر لما بين يديها وهو يقول:

ـ القماشه دي ليا اني ياستي؟

أجابته مبتسمه:

ـ ايوه حتة القماشه ديه ليك عشان  المدرسة. اومال ايه مش لازمن تروح بتوب المدرسه الجديد؟.

ـ كاد صالح يطير من الفرح، عيناه تلمعان وقال في سعاده:

ـ ايوه صُح عشان المدرسة ماني لازمن ألبس مريلة وابقي زييهم في البر التاني ايوه اومال إيه، ربنا يخليكي لينا يا ستي.

ضحكت الجده وهى تقول:

ـ شوف الواد يا ولاد فرحان ازاي.

ـ اني مش بس فرحان يستي اني قلبي طاير طاير كيف العصافير.

ربتت على صدره بحنان وهي تقول:

ـ ربنا يكتب الفرح من حدك ونصيبك ويفرح قلبك وبدنك يابن الغالي. 

في اليوم التالي، جاءت الخياطة إلى الدار. جلست في المندرة، وطلبت من صالح الوقوف حتى تأخذ مقاساته. وقف صالح بثبات، وكأنه جندي، بينما الخياطة تقيس طوله وتحدد المقاسات بدقة. كانت الجدة تنظر إليه بفخر وتقول: 

ـ عارف ياصالح قلبي بيقولي إنك بكره لما تكبر هتبقى حاجة كبيرة قوي.

أجابها صالح متمنياً:

ـ يارب ياستي وافرحك انتي وأهل الكفر كله.

تنهدت وتمنت من أعماق قلبها أن يحفظ الصغير إلى أن يكبر ويعود لبيته مرة أخرى ولا يفعل كما فعل خال الصبي من قبل.

بعد أيام قليلة، انتهت الخياطة من تفصيل المريول، وحين رأى صالح المريول للمرة الأولى، لم يستطع إخفاء ابتسامته. كذلك كانت الحقيبة، لم تكن مثل حقائب البندر الفاخرة، بل كانت مصنوعة من نفس القماش الذي فصلت منه المريول. حمل صالح الحقيبة بيديه الصغيرة وهو يتخيل نفسه في المدرسة بين زملائه.

وفي اليوم نفسه، جاء الجد عبد الرحيم إلى صالح وهو يحمل دفترًا جديدًا وقلم رصاص. قدّمها إلى صالح قائلاً:

ـ أمسك ياصالح جبتلك من الدكان كراسه وادي القلم اللي هتكتب بيه، يلا ورينا شطارتك بقى.

لم يتمالك صالح نفسه من الفرحة، وقبّل يد جده قائلاً:

ـ ربنا يخليك لينا يا جدي وتعيش وتجبلنا كل حاجه زينه.

في تلك الليلة، ذهب صالح إلى فراشه مبكرًا، متحمسًا لأول يوم دراسي. قلبه كان يملؤه الحماس والتوتر في آن واحد، وكان يتخيل كيف سيكون يومه الأول في المدرسة، والدفتر والقلم في حقيبته الجديدة.

مع بزوغ الفجر، كان عمّه حسان في انتظاره بجوار الدار، يربط البغل بالحبل. نادى على صالح بصوت هادئ: 

ـ يلا يا صالح، عشان اوديك المدرسه مش عاوز أتأخر ع الأرض ورايا شغل ياما.

خرج صالح مسرعًا، مرتديًا مريوله الجديد، وحمل حقيبته على ظهره. 
ركضت سميره خلفه وهى تحمل كيس السندوتشات، كان يطلق عليه عادة "كيس الورق" أو "كيس الجرايد"، حيث كان يتم استخدام أكياس ورقية بنية اللون أو أوراق جرائد للف الأطعمة مثل السندوتشات. كانت تلك الطريقة شائعة قبل انتشار الأكياس البلاستيكية. ناولته إياه وعادت إلى الدرا مرة أخرى.

ركبا صالح وعمه على البغل، وسار عمّه حسان بهدوء نحو المدرسة. كان الهواء باردًا قليلاً، وصوت خطوات البغل على الطريق الريفي يكـ.ـسر الصمت.

كان صالح جالسًا خلف عمه، ينظر إلى الأمام بحماس لا يوصف، ينتظر بشوق لحظة دخوله المدرسة لأول مرة.

في أرض القطن الواسعة، كان الإخوة يعملون بجد لجمع المحصول. الشمس كانت في منتصف السماء، تنثر أشعتها الذهبية على الأرض الممتدة، بينما كان الهواء يحمل رائحة القطن النقي.  

حسين، عبد العزيز، وسالم كانوا منشغلين بعملهم. وكان حسين دائماً يقودهم كفريق، كان يوجه إخوته بروح القائد. عبد العزيز كان يجمع القطن ويضعه في أكياس كبيرة، بينما كان سعد يساعده في نقل الأكياس إلى المكان المخصص.

قال حسين للجميع وهو ينظر إلى الكومة المتزايدة من القطن: 

ـ الهمه يارجاله شدوا حيلكوا أكتر من أكده، لازمن نخلص جمع القطن كله قبل الشمس ما تحمى.

أردف عبد العزيز، وهو يرفع كيساً ثقيلًا: 

ـ محنا شغالين أهو يابا الحاج. طب داحنا بالصلاه على النبي نسد عين الشمس.

علق حسان، الذي جلس أرضا يجفف عرقه وكان يأخذ فترة راحة قصيرة:

ـ اني جوعت قوي، ومبقتش قادر، اني دلوقت عرفت ليه اسماعيل اخويا كان بيجوع على طول، الشغل ياما علينا.

أردف عبدالعزيز قائلاً بعبو.س: 

ـ جوعت ايه يابغـ.ـل أنت! اومال مين اللي لهف طبق القشطة لروحه! مش انت! جاك خابط انت راخر.

بينما كانوا يتحدثون، كان صوت الضحك يعلو بين الحين والآخر. كانوا يتبادلون النكات والمزاح لرفع معنوياتهم وسط العمل الشاق.
مع مرور الوقت، استمر الإخوة في جمع القطن، متعاونين ومبتهجين رغم الجهد المبذول. كانت الشمس تقترب منهم، ورغم التعب، كانوا يشعرون بالفخر بما أنجزوه.

ورغم العمل الشاق الذي كانوا يقومون به، كانوا يفتقدون وجود إسماعيل بينهم، فإسماعيل كان يتمتع بروح الدعابة والمرح التي تخفف من عبء العمل أكثر بكثير. وعندما عاد إسماعيل في أول إجازة له، علم بما فعله حسين تجاه فاطمة، فرح كثيرًا. وطلب العفو والصفح من أخيه الكبير على ما بدر منه قبل ذلك.

في الجهة الأخرى، كانت قلوب صبري وزاهية تشتعل بنيران الغـ.ـضب من أفعال حسين، ولم ينسيا تلك "الإساءة" أبدًا. لكن عبد اللطيف، بوقاره وحز.مه، كان يقف لهما بالمر.صاد، مهد.دًا إياهما بشدة كلما حاولا إثا.رة الموضوع، ما جعلهما يتناسيان الأمر مع مرور الوقت، رغم أن النا.ر ما زالت مشـ.ـتعلة في قلبيهما.

أما فاطمة، فقد كانت تعد الأيام والشهور بانتظار انتهاء إسماعيل من واجبه العسكري. حتى الجدة نعيمة، بعد مرور عامين وأكثر، شعرت بفراغ كبير بغيابه، وكانت تدعو الله كل يوم أن يعود ابنها سالمًا. ومع مرور الشهور الأخيرة، عاد إسماعيل إلى الدار مرة أخرى، فعادت الحياة إلى طبيعتها.

وقد أنهى صالح الصف الثالث الابتدائي، وهو الآن في بداية الصف الرابع، بعد أن سمح الجد عبد الرحيم بتعليم جميع أحفاده، ما جعل صباح تشعر بسعادة غامرة. ومرت الأعوام حتى أنهى صالح المرحلة الابتدائية بنجاح باهر، مما أدهش والده، الذي تعجب من إصراره الكبير على التعلم. وكان ذلك مصدر فخر لحسين.

تقدم عريس لفاطمة يُدعى "شاكر"، من طرف زوج أختها عائشة المقيم في البلدة المجاورة. وبعد أن وجدوه مناسباً لها، تمت الموافقة عليه. وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياتها. واتفق الجميع على أن يكون زفافها في بداية العام المقبل، قبل أن يغادر صالح إلى البندر لاستكمال دراسته.

جلس حسين مع ابنه صالح تحت شجرة توت كبيرة بجانب الترعة. كان الجو هادئًا، وصوت الرياح يتسلل بين أوراق الشجر، بينما كان حسين يتأمل ابنه بتفكير عميق. شعر صالح بقـ.ـلق شد.يد، حتى اعتقد أنه ارتكب خطـ.ـأً كبيرًا، مما جعل قلبه يد.ق خو.فًا من صمت والده.

استدرك متسائلاً بتو.جس:

خير يا با. أمي قالتلي أجيلك الغيط عشان عاوزني في حاجة.

ثم استرسل قـ.ـلقًا:

هو أنا عملت حاجة يا با؟

أخذ حسين نفسًا عميقًا، ثم قال بهدوء وهو ينظر إليه:

كبرت يا صالح، وبقيت راجل.وخلاص هتروح البندر.

ابتلع صالح ريقه بقـ.ـلق، وقال:

ـ اني لسه صغير يا با، وعمري ما أكبر قدامك أبدًا.

ابتسم الأب وقال:

العلام حلو بردك ، خلاك تعرف تتحدت وتقول كلام زين.

ثم أكمل مضيفًا:

ـ اسمعني زين يا ولدي. إنت دلوقتي هتكمل علامك زي ما جدك قال، والكل راضي باللي قاله. ومحدش يقدر يتنيله كلمة. ودِه مش خوف، لاه؛ دِه احترام وتربية ومرجلة. الراجل الصُح ما يقفش في وش أبوه وأمه، ولا يقول لهم تلت التلاتة كام! ومهما كبر، عمره ما يكبر على اللي أكبر منه.

ثم أضاف بحز.م:

وفي حاجة مهمة لازم تعرفها يا صالح: مش كل اللي ينزل البندر عشان يكمل علامه ينسى أصله وما يرجعش تاني.

نظر الصبي لوالده بصـ.ـمت، محاولًا أن يفهم ما يحدثه به. أشار حسين إلى شجرة التين العملاقة، وقال له:

شايف السجرة دي يا ولدي؟ جذورها قوية في الأرض ثابتة، حبت الأرض دي وعشقتها، ورمت جذورها فيها لحد ما بقت حتة منيها. ومحدش يقدر يجلعها من مكانها. ومهما كبرت وورقها علي لفوق في السما، عمرها ما هتنسى جذورها وأصلها. واني وعمامك اكده برضو يا صالح. حبينا الأرض دي، وعشقنا دارنا. وكبرنا لقينا جدك هو اللي سَقانا وروانا لحد ما كبرنا وجذورنا قوية، ولا حد يوم يقدر يفرقنا عن بعض أبدًا.

ثم أضاف منبهًا:

ـ اسمعني زين قوي النوبادي يا صالح. وحط كلامي دِه جوه راسك. مهما رحت البندر ولا اي مكان تاني واتعلمت، ولفيت الدنيا دي كلها، لازم تفضل فاكر إن أصلك هنا.. في الأرض دي، في العيلة دي، في الدار دي.

ثم مد حسين يده وأمسك بيد صالح الصغيرة، مشيرًا إلى الأرض أمامهم حيث أشجار الذرة الخضراء والحبوب.

الأرض دي يا صالح زي العيلة. زي دارنا بالملي. هتلاقي كل عود جنب التاني بتسند عليه، ولو عود واحد وقع أو مال، الباقي كله هيحزن عليه العمر كله لحد ما يجف ورق كل العيدان وتقع. ومن هنا تبدأ الفُرقة يا ولدي. عشان اكده بقولك، العلام مهم، بس الترابط أهم. أنت هتروح تتعلم، بس لازمن تفضل قريب منينا، وتعرف إن العلم والبندر مش هيبعدوك عن اللي بيحبوك.

ثم نظر إليه وأكمل، وبداخل عينيه ترجي كبير:

اوعى تعمل زي خالك، وتحر.ق قلبنا عليك يا ولدي.

نظر صالح في عيني والده، حيث ارتسمت على وجهه ملامح الجـ.ـد والتحدي. كانت مشاعر مختلطة تعـ.ـصف بقلبه؛ بالفخر لكونه محط اهتمام والده، يتصا.رع معه القـ.ـلق من التحديات القادمة. تملأه الحماسة حيال ما ينتظره في البندر، لكنه يشعر بثـ.ـقل المسؤولية التي حملها على عاتقه.

تتردد كلمات والده حول الأصالة والترابط في أذنه، وتحـ.ـفر عمقها في نفسه. تساءل عن كيفية تحقيق التوازن بين التعلم والوفاء لعائلته. تمنى لو يستطيع أن يكون قويًا مثل شجرة التين الكبيرة التي تظللهم، راسخة في الأرض، ثابتة في وجه الرياح.

شعر بحماس يتدفق في عر.وقه، فهو يعلم أنه مقبل على مرحلة جديدة من حياته، لكن خو.فًا خفيفًا يتسرب إليه من فكرة الابتعاد عن عائلته. وفي تلك اللحظة، أدرك أنه مهما كانت مغامراته الجديدة، سيظل مرتبطًا بجذوره، يحن إلى الأرض التي نشأ فيها وعائلته التي أحبها.

بينما كان ينظر إلى الأرض، تجلى أمامه مستقبل مشرق، لكن شعور الحنين والواجب لم يفارقه، وهو يتعهد في نفسه أن يكون دومًا فخرًا لعائلته، مهما كانت المسافات.
وفي تلك اللحظة، اقترب إسماعيل منهما، وهو يركب بغلته، وبعد أن نزل من عليها قال:

يا با الحاج حسين، أنا لفيت الكفر، عزبة عزبة، ودار دار، وعزمت كل أهل الكفر على حنة فاطمة يوم الأربع الجاي زي ما قلتلي.

ابتسم حسين بفخر وأومأ برأسه، قائلاً:

ـ طيب، زين قوي. شيل بقى غمر الدراوه دِه وروحه على الدار. وخد معاك صالح في طريقك، وأنا هروح لمتولي الحلاق يخففلي دقني دي عشان الفرح.

ضحك إسماعيل بصوت عالٍ، لكنه أضاف بخجل:

ـ وماله يا با الحج، حلاقة الهنا ونعيماً من قبلها، وعقبالي اني كمان. بس يعني مش هتتكلم مع أبويا الحج عبد الرحيم في موضوع جوازي اني التاني.

رد حسين ضاحكًا:

ـ ومستعجل على إيه يا كوم الهبا.ب انت راخر؟

أجاب إسماعيل بتذ.مر:

ـ ايهي، يا با الحاج، في إيه بقى؟ ده اللي في سني اجوزوا وخلفوا كمان؟ واني مرسيك ع اللي فيها، وحياة عيالك، يا با الحاج، أنا همو.ت وأتجوز. ويبقالي مقعد لروحي، جوزني بقى يرضى عليك.

قهقه حسين، وضحكاته تملأ المكان:

ـ يخر.ب مطنّك يا واد ياسماعيل، قد اكده مستعجل على الجواز! ومالو نخلص بس من جوازة أختك فاطمة، وبعدين نشوفك. يعني تقدر تقول أكده على بيع محصول الدرة وزراعة القطن الجاية، نروقلك مقعد لروحك جار أخوك سالم ونجوزك بمشيئة الله. أهو بالمرة يكون قبل رمضان الجاي ومرتك ترمضن وياك.

فرح إسماعيل، وركض ليحمل اعواد الذرة الخضراء الصغيره بحماس كبير، وهو يصرخ:

ـ يصلاة النبي، ياحليلاه ياولاه،أنا هتجوز ياناس! وهيبقالي مقعد وسرير نحاس بعمدان لروحي!

بينما تردد صدى ضحكات الأهل والجيران في أرجاء الأراضي المجاورة، قدم الجميع التبريكات والتهاني لإسماعيل، الذي أصبح يحمل أحلامه بوضوح، وعيناه تتلألأ بفرحة العريس المنتظرة.

في صباح اليوم الذي سيحتفل فيه الجميع بحنة فاطمة، كانت الحركة والبهجة تملأ دار عبد الرحيم. الزينات والرايات تتدلى من السقف، والصواني المليئة بالقطائف والكعك تتنا.ثر على الطاولات الخشبيه، استعدادًا للضيوف المنتظرين. وبينما كانت النساء ينشغلن بإعداد كل شيء، أرسلت نعيمة في طلب فاطمة.

دخلت فاطمة إلى المندرة، حيث جلست أمها على كرسي مغطى بغطاء أبيض مطرز. كانت أمامها صينية نحاسية وعليها كوب شاي دافئ. رفعت نعيمة رأسها، وبمجرد أن رأت فاطمة ابتسمت ابتسامة دافئة، وأشارت لها أن تجلس بجوارها:

ـ تعالي يا بنتي، اقعدي جاري.

جلست فاطمة بجوار أمها وعينيها تمتلئ بالخجل، وهي تدرك أن هذه اللحظة تعني الكثير لعائلتها، وفراقها للعائلة أيضا ليس بهين عليها. مدّت نعيمة يدها لتلمس يد فاطمة بحنان، وقالت بنبرة ملؤها الحب والهدوء:

ـ واللاه وكبرتي يا فاطمة وبقيتي عروسه زي القمر، و بكره خلاص هنزفك على دارك الجديدة، ودِه اليوم اللي كل أم بتستناه لِبتها. بس قبل ما تروحي على دارك، لازم تسمعي مني الكلمتين اللي رايده اقولهم.

توقفت للحظة، ثم تابعت بنبرة جا.دة:

ـ اسمعيني زين يابتي، دار جوزك، دي هتكون دارك دلوقت، ولازمن تبقي فيها كيف الشمس اللي تنور القلوب. البنيه المتربية تعرف إزاي تخلي اللي حوالين منيها يرتاحوا ويحبوا وجودها، سواء كان جوزها، أو حماتها، وكمان سلايفها. مهما كان ومهمن حُصل، خلي لسانك حلو وكلامك زين وطيب، وتكوني طول عمرك صابره ورايقة.

انخفضت عينا فاطمة واستمع قلبها لكل كلمة تخرج من والدتها، بينما أكملت نعيمة بنبرة مملوءة بالحكمة:

ـ الدنيا يا بتي، ساعات هتكون خفيفه وياكي كيف الريشه وساعات هتلاقيها بتتقل على كتافك قوي، بس الشاطرة والناصحه هي اللي تعرف تلم الدنيا حوالين منيها، وكمان لازمن تخلي مقعدك رايق ونضيف والشمس تنوره من كل جهه، وريحته كيف العنبر. وإياكي، مهما حُصل، تعلي ولا ترفعي صوتك على جوزك أو حد من أهله.اللي بتحترم الناس بيدعولها هى وأهلها ويقولوا يازين ماربوها، واللي بتطول لسانها ويبقى عفش. بتجيب ليها ولأهلها اللـ.ـعنه والشتمه، وكلمة راجلك هى اللي تصونيها، واللي يتحدته وياكي جوزك بينك وبينه! تخبيه في قلب جوفك اني معرفوش ولا حد يعرفه، سرك من بكره هيبقى مع جوزك وسره وياكي، مدخليش تالت بينك وبينه يابتي عشان دارك تعمر وتكبر. 

ثم نظرت في عيني فاطمة بتمعن، وقالت:

ـ عيلة أبو قاسم معروفين بالرجوله، وبالطيبة والمعروف والصبر. وزي ما كانوا جدودك! انتي لازمن تبقى زييهم كمان وترفعي راسنا. وتشرفينا وياهم.

كانت عيون فاطمة تلمع بالدموع، لكنها حافظت على ابتسامة صغيرة على وجهها. أكملت نعيمة حديثها بنبرة دافئة:

ـ كلمة نعم وحاضر بتريح يابتي، وفي الآخر، الدار دي دار جوزك وهتبقى دارك وعشك. لازمن تحاوطيها بدفى قلبك الأبيض عشان تعيشي مرتاحه ورايقه يانضري.

ثم أكملت بقلب حنون: 

ـ وبردك بقولك. إحنا أهلك وسندك وضهرك وهنفضل وياكي. ولو الدنيا ضاقت عليكي قوي! ولقيتي نفسك إنك محتاجه لينا! تيجي. إحنا دايمًا معاكي في الزينه والمُره، بس اوعي، اوعي في يوم تسيبي دارك وانتي المحقوقه يابنت عبد الرحيم أبو قاسم.

حركت فاطمه رأسها دون اعتراض على نصائحها الغاليه بالموافقة.وقامت من مكانها، وقبّلت يد أمها بحب، ثم نظرت لها بنظرة امتنان وهمست:

ـ حاضر يما، ومتخافيش عليا اني هعمل زي ما قلتيلي وعمري ما خلي حد في يوم يعيب في ربايتي، ولا في يوم هاجي ولا هسيب داري محقوقه واصل. اني ربايتك وعمري ما دوقت منك عفش واصل، وعمري ما اقصر برقبتكوا أبدا.

 ربتت نعيمة على كتف ابنتها، وقالت بابتسامة مطمئنة:

ـ زين يابتي، ربنا يكملك بعقلك، وتعيشي هاديه ناديه طول عمرك، يلا، بقى روحي. خلي حريم الدار تزينك وتبقي عروسة زينة الليلة، وبكره تكوني أجمل عروسة وتفرحي قلبنا كلنا وترفعي راسنا ياقلب أمك.

ابتسمت نعيمة، وهي ترى أمامها ابنتها التي غُرست فيها القيم والتربية الطيبة، وشعرت بالراحة لأنها تعرف أن فاطمة ستدخل بيتها الجديد بكل ما تحمله من حب وتربية أصيلة.

جاء وقت "الحنة" وكان يومًا مشهودًا، الكل اجتمع في ساحة البيت الكبيرة التي تزينت بالفوانيس المتلألئة، والرايات الملونة التي ترفرف بفعل نسمات الهواء. رائحة الحلوى والمشروبات العطرية تملأ المكان، تعلن عن فرحة كبيرة تملأ القلوب.

كانت الأم نعيمة جالسة على "الدكّة" أمام البيت، ترقب الحركة بحب وسعادة. النساء تحركن بحيوية في كل مكان، منهن من تجهز "الحنة" وتضعها في أواني نحاسية مزخرفة، ومنهن من تساعد في إعداد الحلويات والمشروبات للضيوف. وكانت سميرة هى من تشرف على كل شيء بحرص شديد. كان صوت الأغاني الشعبية يملأ الأجواء، بينما تجتمع النساء في مجموعات يغنين ويدقن على "الدف" فرحًا بفاطمة.

كانت "الزغاريد" تنطلق كل بضع دقائق، تملأ الجو بالنشوة والبهجة. وفي وسط الساحة، جلست فاطمة بوجه متورد من الحياء والخجل، ترتدي جلبابًا زاهي اللون مطرز بخيوط ذهبية، وعلى رأسها طرحة خضراء مزركشة، تزيد من جمالها وجاذبيتها. العروس الصغيرة بدت وكأنها زهرة تفتحت وسط هذا الزخم من الألوان والصوت.

وفي وسط الزحام، قامت إخلاص، لتدخل دائرة النساء التي تجمعت للغناء، وبدأت ترقص بخفة وحيوية. كانت تتمايل على أنغام الدفوف وصوت الزغاريد المتصاعدة، وكل من حولها يصفق لها ويشجعها. شاركتها في الرقص أيضاً زينب وبعدها وعائشه وفتحيه وابتساماتهم واسعة، وعيونهم تلمع بفرح غامر. زغردت صباح بصوت عالٍ قائلة وهى تصفق: 

ـ ياحليله ياحليله البت إخلاص شعـ.ـللت الفرح! يا بختك يا فاطمة، كله فرحان بليلتك.

اقتربت وفاء منها، وابتسامة واسعة على وجهها، وهى تحمل الحنه وقالت بحنان: 

ـ يا بختك يا فاطنة. بكرة تروحي بيتك وتبقي ست الدار. مبروك ياست العرايس.

ثم بدأت تدهن يديها بالحنة، ترسم عليها نقوشًا دقيقة، بينما النساء من حولها يتبادلن النكات والضحكات.

بينما كانت النساء منشغلات بالغناء والرقص والحناء، كان للرجال أيضًا احتفالهم الخاص. اجتمعوا في الساحة الكبيرة بجوار الدار، حيث فرشت الحصير الكبيرة، وجلسوا متحلقين حول الطبلية الممتلئة بأشهى الأطعمة. كانت قدور اللحم تغلي على النار، والرائحة الطيبة تعبق في الأجواء. جلس عبد الرحيم في مقدمة المجلس، محاطًا بأقربائه وأصدقائه، يرحب بكل من يأتي ليهنئه بزواج ابنته، وهو يقول بفخر: 

ـ يامرحب يامرحب. الله يبارك فيكوا، عقبال ما نجاملكم في الأفراح جميعاً.

كان الطعام بسيطًا لكنه كثير، يحمل نكهة الريف الأصيل. أحضروا صواني الأرز المزين بقطع اللحم، والأواني المليئة بالملوخية الساخنة، وصحون السلطة الفلاحية، مع كومة كبيرة من الخبز الفلاحي المخبوز حديثًا. ولا ينسوا الطبق الرئيسي في كل وجبه وهو المخلل والجبن.
بدأ الرجال في تناول الطعام، ومن بينهم حسين الذي كان يحرص على أن يأكل الضيوف حتى الشبع، يقول بصوت عالٍ: 

ـ اتفضلوا يا رجاله، كلوا . مش عاوز حد يقوم جعان، خير ربنا كتير، والوكل كتير. ودار الحج عبد الرحيم أبو قاسم هتفضل مفتوحه دايما بحسه وخيره. يا ألف مرحب. 

لم يكن الطعام وحده هو ما جمعهم، بل كانت الضحكات والنكات والقصص. عبد اللطيف يجلس بالقرب من عبد الرحيم، يتحدث عن الأيام القديمة، ويقول بصوت جاد لكنه يمزح: 

ـ زمان، لما كنا صغيرين، ما كنش في حنّة زي دي، ولا فرحه كبيره زي دي كنا بس نجيب شوية عيش ناشف وزيت، لما مصار.ين الواحد نشفت، ونسهر ونقعد نصهلل لحد الفجر.

الضحك عمّ المجلس، وكان الجو ممتلئًا بالحيوية. قام بعض الشباب بإحضار أباريق الشاي، وجلسوا يغرفون منه للضيوف في أكواب زجاجية صغيرة. قدموا كذلك أباريق العصير النحاسيه، والذي أطفأ حرارة الجو، وكان الأطفال الصغار يركضون بين صفوف الرجال، يلعبون ويضحكون.

في الركن الآخر، كان حسين يجلس بجوار إسماعيل وصبري الذي يكبح غيظه داخله، يتبادلون الحديث بصوت منخفض، يحاولون بقدر الإمكان حسين وإسماعيل كبح فرحتهم وفخرهم بأختهم الصغيرة التي أصبحت عروسًا. قال حسين وهو يبتسم بفخر: 

ـ إيه يا واد ياسماعيل؟ مش كت ليلة امبارح عمال تصيح زي الديك وواجع راسنا وتقول هقول موال لأختي! فين اومال؟

ابتسم إسماعيل، وقام ليقف في وسط الدائرة قائلاً:

ـ بس كده أسمع يابا الحاج حسين. موال اسماعيل أبو قاسم. 

ثم رفع كف يده بجوار وجهه وانشد موال بصوت عالٍ:

ـ الأرض أرض الله فيها الشجر طارح.
 المانجه جنب العنب جارهم لامون طارح.
 والميه واحده تسقي الحلو والمالح.
 انا اللي طول عمري ودني بتسمع كلام أمي وهيا تقول؟ روح يابني والله العظيم ما أنت فالح.

ضحك الجميع بقهقات عالية وانطلقت مع إسماعيل الأغاني والدفوف، والطبل والمزمار ليبدأ الجميع في التصفيق والرقص، حتى الأطفال كانوا يجرون في الساحة، يحملون شموع صغيرة مضاءة تضيء وجوههم البريئة بالبهجة.

اقتربت الجدة نعيمة من فاطمة، ووضعت يدها على رأسها، وقالت بحب واضح: 

ـ ربنا يسعدك ويجعل أيامك كلها بيضا زي قلبك يا بتي.

 ثم رسمت بإصبعها على يد ابنتها علامة الحنة، كمباركة للعروس. وقبلت فاطمه يد أمها وهى تدعي لها بطول العمر. 

وكانت زاهية تقف على بُعد قليل، تراقب الجميع بعينين متلألئتين، وكانت تخفي خلف ابتسامتها بعض الحـ.ـقد، لكنها حاولت التظاهر بالفرحة، لتشارك الجميع فرحتهم.

حين انتهوا باقي الرجال من الطعام، جلس الكبار يواصلون الحديث، وشُرِعت بعض الدفوف تُقرع على استحياء، فارتفعت الأغاني الشعبية على ألسنة الرجال، وبدأ البعض الآخر يدخن الشيشة، فكان الجو مليئًا بأبخرة التبغ، تختلط برائحة الطعام وزهور الياسمين التي زرعتها النساء حول الدار.

في هذا المجلس، لم تكن المناسبة مجرد حفل زفاف، بل كانت فرصة للجميع للاجتماع، ومشاركة اللحظات الطيبة، ومباركة العروس والعريس. وأمام الجميع، جلس حسين بجوار والده عبد الرحيم، يشعر بالفخر، وينظر نحو بيت العائلة المليء بالضيوف، وكأنه يرى عرسًا جمع كل أهل القرية، لا لأجل فاطمة فقط، بل لأجل العائلة كلها.

كانت الجدة نعيمة تراقب المشهد من على الدكّة، بعينين مليئتين بالرضا والسرور. وفي زحمة الفرح والرقص، جاء إسماعيل يصفق ويغني مع الصبية، وعلت الزغاريد حتى أضاءت الفوانيس سماء القرية، وتزاحمت النساء لأخذ بعض الحنه من سميرة التي كانت توزعها على الجميع.ثم بدأ الضيوف يغادرون المكان واحدًا تلو الآخر بعد أن انتهى الاحتفال في ساعة مبكرة.

في صباح اليوم التالي، بدأ بيت الجد عبد الرحيم يستعد ليوم الزفاف. كان الجميع منشغلًا، الفتيات يساعدن في تجهيز العروس، والرجال يتحضرون لاستقبال العريس. زينوا "الهودج" الذي سيحمل فاطمة، وعليه الأقمشة الحريرية المزخرفة، وكأنه منصة مرصعة بالألوان، تجذب الأنظار إليها.

مع حلول العصر، وصل العريس شاكر بصحبة عائلته من الرجال، وبدأت الزغاريد تعلو من جديد. كان يركب حصانه مرتديًا جلبابًا جديداً، ووجهه يغمره الفرح والهيبة. وقفت فاطمة تنتظر، محاطة بأخواتها وأمها، ثم وضعت على الهودج، وأصبح موكبها مستعدًا للتحرك.

خرجت القرية كلها لتشهد الموكب، الذي تحرك ببطء وسط زغاريد النساء وهتافات الرجال. كان الموكب يسير خلف الحصان الذي يقوده زوجها "شاكر"، وفاطمة تجلس في الهودج ووجهها متورد بالخجل، تحاول أن تخفي ابتسامة صغيرة لكنها لم تستطع.

وفي مقدمة الموكب، كان حسين يمشي بجوار أخته، يحمل نظرات الفخر والسعادة. كان قلبه يرقص فرحًا، لأنه يشعر بأن مهمة زواج أخته تمت على خير، وبأفضل مما كان يتمنى. نظر حوله ليرى كل أهل القرية تغمرهم السعادة، وكأن هذه اللحظة لم تكن فقط لعائلة عبد الرحيم، بل كانت فرحة لكل من حولهم.

وصلوا إلى بيت شاكر، وعندما نزلت فاطمة من الهودج، خرجت النساء ليحتضنها ويباركن لها، والرجال يتبادلون التهاني، والعريس يرحب بضيوفه بابتسامة عريضة. كان حسين يقف بعيدًا قليلًا، وعيناه تلمعان بفرحة غامرة، لأن اليوم الذي كانوا ينتظرونه مرّ بسلام، وانتقلت مسؤولية فاطمة بين يدي من سيحفظها.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1