رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثاني عشر 12 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثاني عشر بقلم مريم نصار 

خلف شجرة التوت الكبيرة، اختبأ إسماعيل مترقبًا اللحظة المناسبة ليظهر أمام الفتاة التي أحبها كثيراً. كانت تمشي بخفة وهي تتفقد الطريق تحمل على رأسها دلو ماء، وعندما تأكد أنها وحدها، خرج من مخبئه وقال لها بابتسامة واسعة:

ـ يادي النهار النادي، يا صباح الفل والياسمين على ست البنات.

شهقت الفتاه خجلاً من هول الموقف ونظرت حولها حتى لا يراها أحد واخفضت رأسها وهى تقول بنبرة مرتعده: 

ـ أخص عليك يا سماعيل فز.عتني.

ليرد هو مبتسماً:

ـ يابوووي على اللسان اللي بينقط شهد ده ياولاد، معلش ياشوق غصبن عني. اني من ساعة ماشوفتك في فرح فاطمه ديك النهار واني بنام بحلم باليوم اللي هيجمعنا لروحنا في دارنا يابت .

وضعت الشال على وجنتها بخجل ونظرت بعيد وهى تقول: 

ـ لم نفسك ياسماعيل وعيب الحديت ده.

ليرد قائلاً:

ـ ايهي واني قولت إيه عيب بس! ياشوق انتي متعلميش اني فرحان قد اي، خلاص يا بت، فاضل ع الحلو تكه.

نظرت له شوق بدهشة، ثم ارتبكت وقالت وهي تحاول إخفاء خجلها: 

ـ مش هتجيبها لبر إياك، أسمع! لو وقفتني تاني في الطريق أكده؟ اني هقول لابويا، وهيروح يشتكيك لابوك الحج حسين، وساعتها بقى يعـ.ـلقك على الفلـ.ـكه.

ضحك إسماعيل وهو يحاول تهدئتها: 

ـ يرضيكي يا قلب إسماعيل إنضـ.ـرب واني شحط أكده؟

نظرت له بحد.ة مصطنعة وهي تخفي ابتسامة خجولة:

ـ لاه للجد مايرضنيش، بس بردك، لم روحك بقى. واوعاك توقفني تاني في طريق، افرض حد شافني واني وياك يقول عليا إيه؟

تجرأ إسماعيل وقال: 

ـ وهو حد يقدر يجيب سيرتك إياك واني موجود! داني كنت وكلته غمر البرسيم الحجازي ده لحد ماينعر زي البهيمه القا.طعه.

ابتسمت لوهله ثم جف حلقها قلقاً لوقفتها في منتصف الطريق معه وإذ رآها أحد الماره لم تسلم من ألسنتهم منذ هذه اللحظة، واخبرته أنه بهذا التصرف سيجلب لها الكثير من المتاعب، وإن كان يريدها حقا يأتي لمنزل أبيها ويقوم بخطبتها. فقاطعها هو على الفور وقال:

- سدي حنكك واصبري على رزقك وخدي منابك صبر، اني جاي أقولك وافرحك معايا، اومال يعني اني خابط المشوار ده كله لي! اني فتحت كلام مع أبويا الحج حسين، وقالي خلاص قبل رمضان الجاي هنتجوز وهتبقي ليا ومعايا ياشوق.

ارتجف قلبها وهربت الفتاة بسرعة من أمامه وهى تبتسم، ووجنتاها تشتعلان بالاحمرار، وهي تقول: 

ـ اختشي على روحك ياسماعيل قولتلك. وعيب الكلام ده.

وقف إسماعيل محدقًا في مكانها الذي غادرته، ثم خلع قبعته والقاها أرضا وضرب يده على جذع شجرة التوت وقال بلهجة مغرمة: 

ـ يا بوي يا مثبت العقل في الراس، البت حلوة قوي قوي. امتى بقى، امتى يتقفل علينا باب واحد ياشوق.

فجأة، شعر بصفعة خفيفة على مؤخرة رأسه، التفت ليجد عبد العزيز واقفًا خلفه وهو يبتسم بخـ.ـبث: 

ـ بتكلم روحك يا هبا.ب البر.ك؟

تذمر إسماعيل وهو يحاول إخفاء ارتباكه: 

ـ مالك يا عبد العزيز، بكلم روحي ولا بكلم عفريت ماتسيبني في حالي. وبعدين في حد يفز.ع حد كده! 

ضحك عبد العزيز وقال بسخرية: 

ـ ايهي! كِنها ياخويا زي الفز.عه اللي فزعتها لبت حمدان. ولا انت البعيد فكرني مش عارف ايوتها حاجه؟

ثم أفصح بوضوح يشوبه نبرة السخريه:

ـ بتحب وتتساير مع البنيه كمان يا شحط؟ دانت غلبت وعديت صبري ولد عمك.

اغتاظ إسماعيل عند ذكر إسم ذلك الرجل وقال:

ـ متجبليش سيرته، وبعدين هو انت مش كنت بتعزق الأرض! جيت تتصنت عليا ليه! 

ليضحك شقيقه ممازحاً:

ـ جيت اشوف بعيني اللي واقف مغرم صبابه، ومن ساعة مخلص الجهادية وهو رايح جاي على البر ده! و واقف يحب على روحه! دي باين القيامة هتقوم ياولاد، عشنا وشوفنا راجل م القواسمه يوقف في طريقه حرمه! دانت فاضلك ربابه وتمشي في الكفر وتقول مواويل في عشق شوق بت حمدان لاسماعيل العويل.

نفض إسماعيل جلبابه ورد بشجاعة مصطنعة: 

ـ اني مش عويل ياعبدالعزيز، الملافظ سعد،واني مش بعمل حاجه غلط.اني قلت لأبويا حسين يجوزهالي وهو عارف كل حاجه.

علق عبد العزيز وهو يقهقه:

ـ طب ياخويا اشرب بقى واستلقى وعدك لو أبوك حسين شم خبر بوقفتك مع شوق، وحلال عليك الفلكة. في فرق بين كلمتك مع ابوك الحج و وقفتك معاها في وسط الشارع أكده وكمان في عز النهار. يابجاحتك ياولا. عينك بقت واسعه وكلحه دانت غلبت مرتي. 

نظر اليه إسماعيل بحنق وقال شامتًا:

ـ والله ربنا مابيعمل حاجه شينه واصل ياولاد، وحلال فيك صباح ياعبدلعزيز واللي مدوقهولك.

اختفت ضحكته ورد بوجه عبوس:

ـ ليه السيره النكد دي بس ياغراب البين، ماكنا ماشين حلوين.

ليبتسم اسماعيل بنبره شامته:

ـ شوف وشك بهت إزاي لَمن قولت إسمها بس، ما بالك لو قولتلك إن صباح مرتك واقفه دلوقتي وراك؟

التفت عبدالعزيز بسرعه فزعا خوفاً منها،ولم يرى أحد خلفه، وكانت دعابه من شقيقه وتنفس الصعداء واستفاق على ضحكات أخيه وهو يقول:

ـ آه ياولاد داباين القيامه هتقوم،عشنا وشوفنا الراجل هو اللي يكش من مرته.

وكزه عبد العزيز في كتفه وقال:

ـ لم نفسك واتحدتت عدل يا.بغل، مانت لو متجوز واحده زي صباح دي! هنلاقيك هجيت من الكفر كله، وسرحت في بلاد الله تبيع بطاطا.

ثم أضاف وهو يتذكر طريقتها معه: 

ـ صباح دي عامله الجرار الزراعي، بتقلب كل حاجه في بعض وتنغص عليا حياتي وياها، ياما نفسي اصحى في مرة والقيها تقولي هروح اقعد في دار أبويا سنتين ولا حاجه. ساعتها بس هاخدها بيدي دي واوديها واقوله خدها، خدها اني مش عاوزها تاني. ويعوض عليا ربنا في الكردان اللي لهفته مني بنت ابو زاكي.

انخفض إسماعيل بجزعه وهو يضحك ليأخذ قبعته ليزيح منه الغبار ويضعه على رأسه وهو يقول: 

ـ على رأي المثل الراجل راجل لو كان على الحصيره ياعبدالعزيز، واكـ.ـسر لها ضلع يطلع لها أربعه وعشرين.

عقب عبد العزيز ساخراً:

ـ بكره نشوفك وأنت بتكـ.ـسر لمرتك ضلوعها يا زين الرجال.

عندما بدأت الشمس تميل نحو المغيب، تلوّنت السماء بألوان دافئة، تتدرج من البرتقالي الزاهي إلى الأحمر الداكن، ممزوجة بخيوط ذهبية ناعمة تتلاشى ببطء في الأفق. تلمع أشعة الشمس الأخيرة كأنها وميض يودّع اليوم، حيث تنعكس على سطح الماء الصافي، فتشع منه ألوان متراقصة تتماوج مع حركة النسيم الهادئ. الأشجار تلقي بظلال طويلة على الأرض، وكأنها تُطيل أذرعها لتلمس خيوط الشمس الهاربة. الهواء يعبق بنسمات لطيفة، مُحمّلة برائحة الأرض الدافئة، وكأن الطبيعة كلها تستعد للهدوء والسكون، معلنةً انتهاء نهارٍ آخر، واستقبالاً لهدوء الليل الآتي.
حينها دخل حسين الدار بعصـ.ـبية ظاهرة على وجهه، عينيه تقدحان شر.ارًا، وصوته الجهوري يسبق خطواته الثقيلة. ألقى نظره سريعة على الموجودين، ثم سأل بحدّ.ة:

ـ فين القطر.ان إسماعيل أخوك ياواد ياحسان؟ حد يقولي راح فين الواد ده!

نهض حسان ليقف مكانه وجفّ حلقه من معالم أخيه الغا.ضبة، وأيضاً تجمّدت النساء في أماكنهنّ، وهن ينظرن لبعضهن بحيرة، إلا أن صباح رأت أنها من الأصلح أن تنجو بنفسها وأشارت له نحو المندرة لوجود إسماعيل هناك. ما لبث أن دخل حتى أمسك بإسماعيل من ياقة جلبابه وسحبه بقوة، دون أن يتردد أو يلقي بالًا للعيون المستغربة التي تتبعت المشهد.

كان إسماعيل يحاول التملّص من قبضة حسين، لكن الأخير كان غا.ضبًا جدًا، ولم يسمح له بحركة. سحبه إلى الحوش خلف الدار، حيث كانت هناك "الفَلّكة" تُنصب عادة لمعاقبة الصبية المتمرّدين. الفَلّكة عبارة عن خشبة طويلة، تُربط عند أطرافها حبال غليظة، تُستخدم لتثبيت القدمين بحيث يكون الجسد ممددًا في الهواء، ما يجعل الضر.ب مؤ.لمًا وأثره عميق.

لم يفهم إسماعيل ما يجري ودق قلبه ر.عبًا وهو يقول:

ـ إيه اللي جرا يابا الحاج؟ واخدني عند الفلكة ليه! إني معملتش ايوتها حاجة.

ربط حسين قدمي إسماعيل بحز.م، ولم يُجبه وشدّ الحبال بمهارة تعود إليها منذ سنوات، ثم تناول العصا وبدأ في توجيه الضربات بقوة، دون أن ينطق بكلمة. كانت الضر.بات تنزل ثقيلة، كل واحدة تحكي عن غضـ.ـب مكبوت:.

ـ بتقف مع بنات الناس في الشارع وتتساير معاهم يا قليل الرباية؟ إيه! خلاص معدش خشا ولا أدب؟ كنت فاكر إني مش هاعرف؟! فاكرني طرطور في الدار داي!

كانت الكلمات تنقـ.ـطع بين ضر.باته، فيما إسماعيل يصر.خ ويتوسل:

ـ يابا الحاج، حر.ام عليك، ارحمني، سامحني. آه. خلاص ورحمة سيدي أبو قاسم مش هاعملها تاني!

ركضت نساء الدار من أماكنهنّ، ودقات قلوبهن تتعالى بخو.ف وقـ.ـلق، كل واحدة تحاول أن تتفادى ما يحدث ولكن بلا حول ولا قوة. أما حسان، فلم يتحمّل الموقف، فركض بسرعة وهو يصيح لإخوانه:

ـ يا رجاله! يا رجاله! آنتوا فين ياناس؟

وجدهم يتسامرون عند الجنينه، يتبادلون الأحاديث والضحكات.وهم يتناولون الذره المشوي.وقف أمامهم يلهث، وملامحه مليئة بالذ.عر وهو يقول بصوت مرتجف:

ـ "آنتوا قاعدين تاكلوا وتتسايروا وسايبين أبويا الحج حسين نازل ضـر.ب في إسماعيل على الفلكة! انتوا نايمين؟ قوموا اتحركوا بسرعة!

تجمّد.ت الضحكات في الهواء، وترك كل منهم ما في يده ونهض الرجال من أماكنهم بسرعه، ينظرون لبعضهم البعض بدهشة، لم يفهم أحد منهم لما قد وصلت الأمور لهذه الدرجة.وما حدث لكل هذا. لم ينتظروا لحظة أخرى، فانطلقوا ركضًا نحو الحوش خلف الدار، يحاولون اللحاق بالموقف قبل أن يتفاقم.

لم يتوقّف حسين عن الضر.ب، كان ينزل با.لعصا على قدمي إسماعيل دو.ن رحمة، وكأن كلماته لم تكن سوى هواء. استمرّ إسماعيل في البكاء والتوسّل، يحاول التماسك ولكن الأ.لم كان فوق احتماله:

ـ الحقوني يا ناس، آه..خلاص، يابا الحاج! لجل ربنا اعتقني،ابوس ايدك، والله العظيم ما هاتحدت وياها  تاني! 

لكن حسين لم يتأثّر، بل اقترب من وجه إسماعيل، وصاح بصوت يشبه الزئير:

ـ دلوقتي بتحلف، وكمان بتعيط زي النسوان! بقى اني! على آخر الزمن يتقالي روح اشوف أخوك اللي ماشي يتصرمح مع بنات الناس! وسمعته قالبه الكفر كله؟ من الليلادي اني هعلمك الأدب وازاي تبقى راجل! اني مش كنت بربي عيل عشان لما يكبر ويبقى شحط يعاكس بنات الناس ويجيبلي العار! فاهم؟

نظر إسماعيل إلى عيون أخيه المليئة بالغـ.ـضب والخجل، وحاول التماسك وهو يقول بصوت متهدّج:

ـ والله العظيم اللي حصل مش كده يابا حسين، اني كنت بقولها خلاص إني كلمتك وناوين نتكلم عليها. بجد والله. واني عمري مقصر رقبتك واصل.

تنفّس حسين بعمق، وحاول تهدئة نفسه قليلاً، لكن ملامحه ظلت صار.مة:

ـ يخسارة ربايتي فيك، كنت فاكرك راجل، بس طلعت عيل. اني هخليك بعد اكده تتلفت حوالين منك زي الحريم.

ثم رفع العصا ليكمل تربيته له،ركض سعد وسالم وعبد العزيز نحو الحوش، وحاولوا جاهدين تهدئة حسين، الذي كان يتنفس بصعو.بة والغـ.ـضب يتفـ.ـجّر من عينيه. حاولوا أن يمسكوا بذراعه ليوقفوه عن ضر.ب إسماعيل، لكن حسين في لحظة حاسمة، رمى العصا على الأرض بقو.ة، وقال بلهجة أ.مر:

ـ الواد ده يفضل في مقعده تلات أيام بلياليهم، ما يفوتش بره عتبة باب الدار ولا يشوف الشمس لحد ما يتربى. واللي هيعصى كلامي اني مش هسمي عليه من كبيركم لصغيركم.

ثم أدار ظهره لهم ومشى بخطوات سريعة، تاركًا إسماعيل معلقًا ومتأ.لمًا.

اندفع عبد العزيز نحو أخيه إسماعيل ليفكّ وثاقه، وباقي اخوته كذلك وبينما كان يفعل ذلك، انطلقت دموع إسماعيل من عينيه وهو يقول بعتاب مرير:

ـ بقى أكده تخبص عليا يا عبد العزيز ياخويا.

سنده عبد العزيز وسالم، وحاولوا أن يحملوه بلطف، لكن عبد العزيز رد عليه بضـ.ـيق:

ـ أخبص عليك إيه وانيل إيه يا زفت الطين؟ هو أنت هببت إيه من أساسه؟

ساعدوه للوصول إلى الغرفة، وأجلسوه على الكنبة برفق. جلس إسماعيل هناك، منهكًا ومتأ.لمًا، لم تتحمل قداماه أن تلامس الأرض ثم قال بصوت مبحوح:

ـ أبويا حسين عرف إني كنت واقف مع شوق.

صد.م عبد العزيز، واتسعت عيناه، ورد بسرعة:

ـ عليا النعمة من نعمة ربي ما قولت حاجة، واني عبيط ياواد عشان أقول أكده! ماني عارف لو أبويا حسين عرف كان هيعـ.لقك.

نظر حسان حوله، متعجبًا ومتفكرًا، ثم قال بلهفة:

ـ ياسو.اد الحلل. بس مين اللي قاله طيب؟

رد سالم بنبرة هادئة وعقلانية:

ـ تلاقي أي حد كان في الأرض. شافهم وراح قال لابويا حسين ، مانتوا عارفين إن الزريعه كلاتهم من أهل الكفر واني متوكد إن حد منهم خبص عليه، وبعدين أنت المحقوق ياسماعيل، وعيب على رجولتك توقف عيلة صغيرة في الشارع وتجيب لها الكلام.سمعة البنات مش لعبه.وادعي بقى ربنا يستر وما يكونش أبوها حمدان عرف هو راخر، وساعتها ممكن يد.فنها حية.وأحمد ربنا إن ابوك الحج وأمك الحاجه مش في الدار، وإلا كان يومك مش هيعدي بالساهل.

وضع إسماعيل رأسه على الوسادة، وأغمض عينيه بتأ.لم، وسال الدمع على وجنتيه، من ألم الضر.ب خطأ صغير فعله كاد أن ينهي كل شيء حلم به، بينما أفكاره مشوشة ومتأ.لمة، يتساءل عما سيفعل مع الفتاة التي أحبها، وكيف سيواجه مصيرهما الآن.

مرت ثلاثة أيام، وانتشر خبر إسماعيل في القرية كالنا.ر في الهشيم. الجميع كانوا يتحدثون عن الحا.دثة، عن الشائعات التي لاحقت "شوق" كانت شديدة الانتشار في القرية، حيث انتقلت من فم إلى آخر بسرعة البرق. فقد زعم البعض أنها تتحدث مع إسماعيل في الخفاء، وأنها تلتقي به بين الحقول بعيدًا عن الأنظار، مما أثار موجة من الأقاويل والهمسات بين النساء في الدار، وتحولت حديث المجالس إلى ما يحدث بين الشاب والفتاة.

كانت بعض النساء يتناقلن الأحاديث حول تلك اللقاءات، بينما كانت أخرى تحاول الدفاع عن "شوق" وتصفها بأنها فتاة طيبة وذات أخلاق رفيعة، لا تستحق تلك الاتهامات. ولكن مع ذلك، كانت الإشاعات تتزايد، وتنتشر كما لو كانت حقيقة لا يمكن إنكارها.

شعرت "شوق" بالخو.ف الشديد والقلق والحيرة، وهي تسمع هذه الأقاويل، وأدركت أن موقفها أصبح صعبًا في ظل هذه الظروف. كان إسماعيل يشعر بالأسى أيضًا، إذ كان يدرك أن ما يحدث لن يؤثر عليه فقط، بل سيلقي بظلاله على سمعة الفتاة المسكينة وعائلتها، الأمر الذي كان يسبب له الحز.ن. كان يعلم أن حبيبته ليست وحدها في مواجهة الشائعات، وأنهما معًا يواجهان تحديات كبيرة. وظل إسماعيل محبوسًا في غرفته كما أمر أخوه الأكبر، ولا أحد يستطيع أن يناقشه في هذا الأمر. حزنت سميرة على حال إسماعيل، وعندما ولجت عنده بصحن الطعام، سرد لها إسماعيل كل شيء، وأن "شوق" ضحيه تهوره وغباءه فهى لا تستحق كل هذا ،وايضا طلب منها المساعدة في أن يسامحه شقيقه الأكبر ويرضى عنه، فهو لن يتحمل تجاهل أخيه حسين له هكذا.

حلّ الليل، وذهب حسين لينام، وجاءت سميرة فنامت بجانبه. حاولت التحدث معه بخصوص إسماعيل، فقالت:

ـ وحد الله إكده يا أبو صالح.

ردّ حسين بوهن: 

ـ لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ابتسمت وتقدمت، وجعلته يجلس بجانبها على الفراش، ثم قالت:

ـ متزعلش مني أنت جيت قوي على أخوك إسماعيل.

ردّ حسين با.نفعال: 

ـ كنتي عاوزاني أعمله إيه؟ أقوله برواه عليك، روح اقف وياها كمان وجيبلها وجيبلنا العار أكتر وأكتر؟ انتي مش دريانه باللي بيتقال في البلد بره ياسميره.

اردفت بسرعه وقالت: 

ـ لأ يا خويا، روق بالك، مش قصدي كده. ويتقـ.ـطع لسان اللي يجيب سيرتهم بالعفش،اني قصدي يعني إن إسماعيل خلاص معدش صغير، والدور عليه في الجواز. والبت شوق دي بت زي القمر، بياض وحلاوة ورباية وأخلاق. وإسماعيل مش أقل منيها، ده كفاية إنه من عيلة أبو قاسم على سن ورمح. واخوك الصغير.ومدام أبوها راضي وأبويا راضي، يبقى ليه توقف المراكب يا قاضي؟

نظر إليها مستفسرا: 

ـ عايزة تقولي إيه يا سميرة؟

وضعت يدها على ذراعه بدلال وحب، وقالت:

ـ عاوزة أقول يابن عمي إنك تقـ.ـطع لسان أي حد يتكلم في الكفر ويجيب سيرة حد فيهم. وتكبـ.ـسهم كده وتخليهم ينزلوا على فاشوش. وتلم لحم البنيه وتتوكل على الله، وتجوز إسماعيل لشوق، وساعتها الكل هيقطم. واللي عندها كلمه هتلمها، والبت الغلبانة دي! اهى تترحم من حديت حريم الكفر، ملهاش زنب بردك، حرام هنظلمها. ورحمة ستي، البت دي غلبانة قوي، يابو صالح.جوزهم بقى وخلي الدار تكتر أكتر وأكتر. وربنا يخليك لينا وتفضل الدار مفتوحه بحسك وعافيتك.

استند حسين بذراعه على الوسادة، وراح يتأمل في حديثها قبل أن يقول:

ـ امممم، والله كلامك المرادي زين، وكيف راسي يابت عمي. البت الغلبانه دي ملهاش زنب تتحاسب عليه. بسبب عمايل الجبله اخوي.

ضحكت بدلال، وقالت ببهجه:

ـ طول عمري كلامي حلو عشان أنت جوزي وتاج راسي. داني حلوة قوي بيك يا سبعي وراجلي.

ضحك حسين وهو يتفحص وجهها المشع جمالاً وقال:

ـ مالك يا بت عم بتحلوي وتصغري أكده ليه؟ هو انتي حاطة إيه على وشك بتضوي ضي أكده؟

مصمصت شفايفها وتنهدت وقالت بهيام:

ـ حطّا رضاك عليا يا سيد الناس وسيد الكفر كله.

قهقه حسين عاليًا، من مرواغة زوجته وبهذا استطاعت سميرة تحسين مزاج زوجها للأفضل.و مرت الليلة بسلام وأمان، وكانت الأفكار تدور في ذهن حسين حول مستقبل إسماعيل وشوق، ومدى إمكانية تحقيق حلمهما في الزواج.

في صباح اليوم الذي سيسافر فيه صالح، كانت سميرة تجلس في غرفة صغيرة وتضع آخر اللمسات على حقيبته. حرصت على أن تضع له كل شيء يحتاجه بعناية، من الملابس النظيفة إلى الحلوى التي يحبها. كانت تنظر إلى الحقيبة وتتنهد، وهي تحاول أن تخفي مشاعرها القلقة والحزينة عن كل من حولها.

في تلك الأثناء، دخل صالح عند الجده بهدوء واقترب منها، وجلس أمامها وقالت بصوت حنون:

ـ إيه ياصالح أمك خلصت توضيب حاجتك؟

أجابها بحز.ن طفيف:

ـ أيوه ياستي، وابويا هاياجي يغير هدومه وياجي معايا البندر مع جوز عمتي زينب.

اردفت الجده بتنهيدة:

ـ أيوه أمك قالتلي واكده أحسن بردك، جوز عمتك عارف البندر حته حته، وكمان هو اللي قدملك في المدرسه وهو اللي هيبقى ياجي يطمنا عليك، وكل نوبه حد من عمامك يروح وياه ويطمن قلبي عليك يانضري. 

ثم أضافت مستفسره بعدما لاحظت حز.نه:

ـ مالك يا ولدي في حاجه مزعلاك ولا إيه؟

أجابها بصوت خافت:

ــ هتوحشك قوي يستي، وهتوحش حكاويكي الزينه والحلوه، وجدي كمان، وامي وابويا وأهل الدار وعيال عمامي هتوحشهم، واكتر حاجه مزعلاني ياستي إني مش هروح مع أبويا نودي الموسم لعمتي عيشه وعمتي فتحيه، زي كل سنه، ودلوقتي عمتي فاطمه اتجوزت ولازمن هتودولها موسم صح ياستي؟ بس اني مش هكون هنا.

رفعت الحاجة نعيمة رأسها ونظرت إليه بحنان، ثم قالت:

ــ حسك بالدنيا يانور عيني، ولمن تيجي في الاجازه بأمر الله انت أول واحد هتروح مع أبوك لعماتك بالمواسم، وكمان عاوزه اقولك إن دي عادة ماتتقطـ.ـعش ياولدي، وعوزاك لمن تكبر وخواتك البنات كل واحده تروح على دار جوزها؟  تودي ليها موسم هى كمان. إنت واخوك لازمن تقسموا المواسم عليكوا زي ما بنعمل أكده. وكمان عماتك وخلاتك لازمن تبرهم ياحبيبي. وزي مابتحب تتعلم القرايه والكتابه لازمن تحب عاداتنا الحلوه وتتعلمها، وتعلم عيالك وعيال عيالك كمان. لازمن الحجات اللي اتعودنا عليها تسير لآخر الزمن عشان يفضل الخير موجود جوانا يا ولدي.

نظر صالح إلى جدته، وشعر ببعض الراحة، لكنه لم يستطع أن يخفف من قلقه تمامًا. سمع إلى صوت أبيه أتى وتركها بعد أن قبّل يدها وذهب ليستعد للرحيل، بينما أكملت سميرة تجهيز الحقيبة، وعيناها مليئتان بالد.موع، لكنها حاولت أن تتمالك نفسها أمام نساء الدار.

 حان وقت الوداع، وهذه المرة الأولى التي يفارق فيها أحد اطفال العائلة لبلد آخر، ودع جده واعمامه وجدته، خرجت سميرة لتودع ابنها وسط بكاء مكتوم، ذهب صالح بصحبة أبيه، وكانت السلايف حول سميره يحاولن مواساتها. كل واحدة منهن كانت تحاول أن تخفف من حز.نها، باستثناء صباح التي قالت بتذ.مر:

ــ هقوم أحلب الجاموسه وأبطط الجله قبل ما الشمس تحمى. بالاذن.

نظرت إليها وفاء بتعاطف وحاولت أن تصلح الموقف بقولها:

ــ سيبك منها، ياعمه سميره هى ماتقصدش.

ردت سميرة وهي تمسح دموعها بظهر يدها:

ــ اني مش شاغلني غير ولدي اللي هتحرم منه ياوفاء.

ثم نظرت للافق بقلب متألم:

ـ هاتها جمايل يارب واحفظلي ولدي، ياترى ايه المستخبي؟

كانت كلماتها تخرج مليئة بالقلـ.ـق والخو.ف، لكنها حاولت متمنية أن يعود لها سالماً، وقد حمل من الخير والعلم ما يُسعد قلبها.

مرت الشهور وأصبحت سميرة تتكيف مع الوضع الراهن بعد غياب صالح. كان حسانين، زوج زينب، يذهب إلى البندر ليتفقد صالح في مدرسته، مما طمأن هذا قلب سميرة قليلاً. كانت هذه الزيارات تساعدها على التخفيف من قلقها، وتعطيها الأمل في أن الأمور تسير على ما يرام.

كان حسين، يخطط لجمع المال من المحصول حتى يتمكن من تجهيز زواج شقيقه بالاتفاق مع والدة الحج عبد الرحيم. وعلى الرغم من أنه لم يخبر إسماعيل عن خطته، إلا أن الخبر انتشر في أرجاء القرية، وعندما علم إسماعيل، فرح كثيرًا. تمت مراسم الزواج بين إسماعيل وشوق، وكان زفافهما يشبه زفاف فاطمة، حيث ركض إسماعيل على حصانه لاستقبال العروس، وأخذها بالهودج من أمام بيتها، وعادا معًا إلى الدار وسط الزغاريد والفرح الذي ملأ القلوب.

وعند بزوغ الفجر، استيقظت "شوق"  مفز.وعة من طرقات الباب، وعندما قامت لفتح الباب مسرعة، أوقفها إسماعيل عندما شعر بها وقال بنعاس:

ـ استني يا شوق، رايحة فين؟

أجابته بخجل: 

ـ الباب بيخبط ياسماعيل، هشوف مين.

 نهض إسماعيل تاركاً فراشه وتوجه نحو النافذة، متعجبًا من قدوم أحد في مثل هذا الوقت:

 : عجايب الدنيا، لسه ليل، مين اللي هيخبط علينا دلوقتي وفي ليلة فرحنا؟

ردت شوق، محاولة تهدئة الموقف: 

ـ جرا إيه ياسماعيل هتسيب الباب عمال يخبط أكده وهتقعد تفكر! ياتفتح يافتح اني يمكن في حاجة مهمة.

طرق الباب مرة أخرى، وذهب إسماعيل ليفتحه بضجر، وقال:

ـ داري شعرك ولا أقفي في ركن أكده.

واضاف منزعجا:

ـ وحاضر، حاضر، اصبر يا اللي بتخبط الباب هيتخلع في إيدك.

وعندما فتح الباب، وجد صباح في انتظاره، فتعكر مزاجه وسأل بتشا.ؤم:

ـ استر يا رب، خير يا مرت أخوي، في حاجة؟

ردت صباح: 

ـ صباح الخير ياسماعيل، هي مرتك صحيت؟

قبل أن تجيب شوق، أشار لها إسماعيل بالصمت، متثائبًا:

ـ  لا، لسه نايمة، اني اللي صحيت على الرزع. قصدي الخبط. مقولتليش خير، عاوزه حاجة؟

نظرت صباح إليه بتعجب: 

ـ عاوزة سلامتك، الفجر هيدن، وشغل الدار كتير. صحي مرتك وقولها تقوم تشطف وشها كده وتيجي عشان تشوف إن كانت هتحلب البهايم ولا هتملى مية.

صدمت عينا إسماعيل، وهو يجيب بزهول: 

ـ مرت أخويا، هو أنتي مش دريانة! النهارده الصبحيه؟

ردت صباح مكشره: 

ـ ياخويا، أني اشتغلت من ليلة فرحي. خليها بس تقوم.

اغتاظ إسماعيل، وبدت نبرته مخنو.قة: 

ـ دي إيه الجوازه المبصوص فيها دي؟ أني ملحقتش أفرح.

ظهرت وفاء، تغادر غرفتها، وحين راتهم اقتربت منهم ابتسامتها العذبه وهى تقول لاسماعيل: 

ـ صباح الخير يابا اسماعيل صباحيه مباركه يا عريس.

رد اسماعيل بضـ.ـجر

ـ صباح الخير يا مرت اخوي، وعريس إيه بقى! ماهى سلفتك بدتها معانا بدري. شوفي الهنا اللي اني فيه. وبعدين سيبوني في حالي لاحسن وكتاب الله اسيب الدار دي واهج منها.

 سالته وفاء متعجبه:

ـ مالك بس على الصبح يابا اسماعيل ايه اللي جرى واللي كان مخليك متظرزر أكده.

استمعت وفاء إلى حديث إسماعيل وما تريده صباح. وعندما عرفت، اتسعت عينا وفاء في ذهول: 

ـ يوه يوه، البنيه لسه رجليها معلمتش في الدار يا صباح. شغل إيه اللي هتعمله من دلوقت؟

ردت صباح بانفعال: 

ـ وانتي مالك انتي يا وفاء؟ هو ده يختي، مش شغل الدار، ولا إحنا اللي هنشيل الطـ.ـين كده على طول؟ اهى على الأقل تشيل شغل فاطمة.

تنهدت وفاء: 

ـ دي عروسه والنهارده لسه صباحيتها ، سيبي شغل شوق عليا، اني يا صباح، هعمله بدالها.

ابتسم إسماعيل وهو يراقب ما يجري: 

ـ روحي يا مرت أخويا سالم، الهي يسترك يا شيخه.

ثم نظرة اشمئزاز مرت عبر عينيه وهو ينظر إلى صباح، ثم أضاف: 
ـ ويبعد عنك وعنا المرازيه وتقل الدم.

وقبل أن تفتح صباح فاها، أغلق إسماعيل الباب في وجهها، وكبحت وفاء ضحكاتها بينما غادرت مسرعة، تاركة صباح تسبح في نير.ان غضبها.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1