رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثالث عشر 13 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثالث عشر بقلم مريم نصار 

ركضت إخلاص إلى غرفتها مسرعة، وعلامات التوتر والارتباك بادية على وجهها. كانت تتلفت وكأنها تحاول إخفاء شيء ما، وما أن رآها زوجها سعد بهذه الحالة حتى توقف عن الخروج، واستغرب من تصرفاتها وسألها:

ـ مالك يا بت؟ داخلة كيف الفرخة الدايخة أكده ليه؟

حاولت إخلاص التظاهر بالهدوء وردت بتوتر واضح: 

ـ مفيش، مفيش حاجه يسي سعد.

لكن ارتباكها كان أكثر وضوحًا مما حاولت إخفاءه، فازدادت دهشته وسألها بجدية أكبر: 

ـ ايهي ازاي بس مفيش حاجه؟ دانتي زي ما يكون هربانه م الحكمدار! ما تنطقي وقولي مالك، حصل ايه؟ مخليكي مفزوعه أكده! 

تنهدت إخلاص وهي تحاول شرح ما حدث بوضوح وقفت أمامه وهي تنوح: 

ـ انت بتقول فيها، إني هربانه بصحيح. وياحز.ني يسي سعد ع اللي جرالي. واللي كان. 

ضرب كفا بكف وقال بتعجب:

ـ يا مثبت العقل في الراس، حز.ن إيه يا إخلاص داحنا طالعين من فرح ولسه بنقول يا هادي، هببتي إيه يابت انطقي؟

ابتلعت لعابها وهى تقول بقلق:

ـ أصل اني، أمي الحاجة نادت عليّا وروحتلها، سألتني وقالتلي، بت يا إخلاص ليه حس إسماعيل كان عالي أكده في وسط الدار؟ وأنا قولتلها اللي حصل.

تجهم وجه سعد قليلًا مستفسرًا: 

ـ وإيه بقى اللي حصل؟

أجابت إخلاص: 

ـ أصل وأنا رايحه أسخنلك المية شفت صباح وهي بتخبط على مقعد إسماعيل، وكانت عاوزه شوق تسيب فرشتها وتاجي ويانا وتقسم عليها شغل الدار.

اتسعت عينا سعد بدهشة وقال: 

ـ يادي الحَطة! في ليلة صبحيتها عاوزين يقسموا عليها شغل الدار؟ ليه؟ هي الدنيا طارت ولا طارت؟

ردت إخلاص بسرعة: 

ـ دي صباح ياخويا اللي عاوزه تقسم، مش أني.

نظر اليها سعد بنظرة فاحصة، ثم سألها بتفهم: 

ـ وإنتِ بقى إيش حشرك بالقصه دي؟

أجابته بقلق، وكأنها تحاول توضيح موقفها: 

ـ اللي حشرني إني حظي العفش وقعني في طريق أمي الحاجة، لما شافتني سألتني وإني زي المدب قولتلها على كل حاجه، وشكلها اتضايقت وبرقتلي أكده بعينيها وقالتلي روحي اندهيلي صباح تاجي على المندره.

تفهم سعد الوضع وسألها بلطف أكثر: 

ـ اممم كده اني فهمت، بس وانتي إيه اللي مخوفك قوي كده؟

نظرت إليه بخو.ف وقالت: 

ـ انت مش عارف صباح ولا إيه يسي سعد؟ دي مش بعيد تحطني في راسها لما تعرف إني اللي قولت للحاجه.

تنهّد سعد بلا مبالاة، وقال: 

ـ لا، شيلي الفكر دِه من راسك. مرت أخويا مش هتعمل حاجه واصل، دي حَنك على الفاضي، وبعد كده تقولي مشوفتش ومعرفش، عشان ما تتخبيش كيف الديك الكمشان في العشة كده.

ثم أضاف بلهجة صارمة:

ـ وفوتي يلا، جهزيلي المية، عايز اتسبح قبل الصلاة.

أنهى حديثه ثم نظر إليها وعندما رأي خوفها الواضح من صباح ظهرت عليه ابتسامة خفيفة، وأكمل طريقه ليتهيأ للاستحمام، تاركًا إخلاص تراجع كلماتها وتلتقط أنفاسها من التوتر الذي كانت فيه.

كانت الجدة نعيمة تجلس في المندرة على الكنبة الصغيرة، تنظر برضا إلى صواني الخبز والهدايا التي تلقتها من الجيران بمناسبة الزفاف. دخلت صباح بخطوات مترددة، وبدت على وجهها ملامح دفاعية. حيت الجدة بصوت متكلف:

ـ صباح الخير يما الحاجة.

رفعت الجدة بصرها نحو صباح، ونظرت إليها بنظرة ثابتة، كانت توقعها أن شيئًا قد حدث ،صحيح، خاصة مع تعابير وجه صباح المتوترة. ردت الجدة بحدة وحزم، دون أن تبادلها التحية:

ـ وهياجي منين الخير يا مرات ابني؟

ثم تابعت بجدية واضحه: 

ـ إيه اللي عملتيه دِه يا صباح؟مين اللي أذِنلك تروحي وتقسمّي الشغل على عروسة الدار؟ 

لمحت صباح في عيني الجدة شيئًا من عدم الرضا، لكنها حاولت تجاهله وأسرعت لتبرير نفسها، قائلة:

ـ يما، إني مش قصدي حاجه شينه، ما هي لازم تشيل شغلها من بدري، وإحنا شغلنا كتير. قولت أساعد.

ردت الجدة بنبرة صارمة وهي تهز رأسها بضيق:

ـ مساعدة إيه يا بت؟ ولا هو من قلة الحريم في الدار! 
عجايب ياولاد! دي عروسة جديدة ولسه ماخدتش نفسها في دار جوزها، مش تعكري عليها يومها من أول ساعة، وعيب اللي عملتيه،كان المفروض تحترمي كبرات الدار أقل حاجه.

ثم أضافت معاتبه: 

ـ بقى تروحي تصحي العروسة من قبل الفجر في يوم صبحيتها؟ ومن غير ما ترجعيلي ولا تسألي حد كبير في الدار! إيه خلاص؟ صوتك بقى من راسك يا صباح! 

لم ترد صباح وأبقت رأسها منخفض واكملت الجده محذره:

ـ احترمي نفسك يا صباح بعد أكده، بدل وايمنات المصطفى مهيحصل خير معاكي أبدا.

خفضت صباح عينيها مرة آخرى، وارتبكت من شدة كلام الجدة. قالت بعدم رضا: 

ـ اني ما قصدتش حاجة شينه قولت، فكرتك هتعملي معاها زي ما عملتي ويايا ليلة فرحي.

ضاقت عين الجدة وهي تتذكر ذلك اليوم، ثم قالت بحدة لم تخففها الأعوام:

ـ كانت ليله غابره ومش فايته بعيد عنك، كان قدمك قدم السعد ع الدار باللي فيها، يدوبك رجلك اتحطت في الدار الزريبه قا.دت فيها النا.ر، وسقف الدار اتعو.ج زي سنينك العو.وجه يا صباح.

ارتبكت صباح، وتملكتها الحيرة والضيق من كلام الجدة، ثم حاولت تغيير الموضوع بلهجة معترضة:

ـ يوه، يوه ،في ايه يما، انتي جرشا ملحتي ليه بس؟ 

هزت الجدة رأسها بشيء من الشفقة، وقالت بنبرة محذرة:

ـ عشان مش عاقله ياصباح، انتي كبيره جته بس عقلك قليل، يابت خليكي ذوق وخلي عندك مفهوميه، ميت مرة أقولك قبل ما تنوي تعملي ايوتها حاجه تيجي تشوري عليا، واني اقولك إن كان ينفع ولا لأ عليها، اعرفك إيه الصح والغلط مش عيب كُلنا بنتعلم، بس نقول إيه؟ دماغ بُلغ  مش راضيه تتنجر وتتعدل.

كانت صباح تنظر للجدة نعيمة بملامح ممتلئة بالاستياء، ثم رفعت صوتها معترضة:

ـ هو في إيه! اني عملت ايه لدِه كله!  واني عاوزه أعرف دلوقتي انتوا بتكرهوني كده ليه؟ومحدش بيطيقني في الدار دي!
. ليه بس اني اللي مش عَجباكوا في الدار، مع إني شغالة زي البهيمة في الساقية، ومحدش بيشوف تعبي ولا بيحس بيا.
 ماني لو سميره ولا وفاء ولا حتى إخلاص؟ محدش كان عمل حاجه. إنما اني لأ، قطتي جمل! 

نظرت الجدة نعيمة إليها نظرة طويلة، وفي عينيها خليط من الحزم والشفقة، ثم قالت بصوت هادئ لكنه حازم:

ـ نحمد الله إن ابوكي عبد الرحيم في الجامع، وإلا كان سففك تراب الدار كلها. 
بس اني هقولك اللي جوايا يمكن تفوقي وتعقلي، محدش بيكرهك في الدار ياصباح. إنتِ اللي شايفة اكده عشان عينيكي مش عاوزه تشوف إلا اللي بتحب تشوفه.  روحي كده وبصي حواليكي؟ شوفي حريم الدار، سلايفك، كلهم بيشتغلوا من النجمه وما بيعملوش حاجة غير لما يرجعولي ويشوروا عليا. حتى زينب، بتي اللي من بطني،ماتستجراش تعمل حاجه ف الدار من غير ما ترجعلي، بتكبر بيا وبتهابني، إنما انتِ، ماشيه بدماغك وسايقه العاطل في الباطل وتتصرفي من راسك وعامله نفسك مش شايفانا.

ثم صمتت للحظة، تأملت وجه صباح المتجهم، ثم أضافت بلهجة مخففة، تحاول إيصال المعنى بلطف أكبر:

ـ بصي يا بتي، ما حدش في الدار دي يقدر ينكر تعبك وشقاكي، اني عارفه زين كل واحده فيكم بتعمل ايه، وربنا يعلم اني بدعيلك ليل نهار يديلك الصحة والعافية. لكن ده مش معناته تتصرفي لروحك وتطنشي الباقي.

ثم ابتسمت الجده ابتسامه طفيفه وهي تنظر اليها معاتبه وهي تقول:

ـ اوعي تكوني فاكره يا بت اني نايمه على وداني ومش عارفه إيه اللي بيحصل في الدار دي؟ لا انا عارفه زين قوي وعارفه كمان إنك بتزني على جوزك عبد العزيز في كل حاجة تحصل هنا في الدار. الصغيره قبل الكبيره، عشان نا.رك شديدة بس هو مكبر راسه، و اني بيعجبني ولدي إنه شاري خاطر اخواته، ومحكم عقله.
واحد غيره! من كتر زنك عليه؟ يمكن كان و.لع في الدار باللي فيها. وخسر خواته وهج م البلد.

ثم وجهت الجدة نعيمة نظرة حادة لصباح، وأضافت بلهجة واثقة:

ـ أهدي يا صباح، اهدي واعقلي.أنتِ مرت ابني، وعبد العزيز غالي عليَّ، وانتِ من غلاوته عندينا. ما تخليش الشيطا.ن يضحك عليكي ويقولك دول بيكرهوكي. ما فيش حد هنا بيكرهك يا بتي، انتي بافعالك اللي عايزانا نبعد عنك ونهجر الحديت وياكي من حنكك اللي بيطلع بار.ود كل شوية . اهدي وفكري في كلامي، واكسبي جوزك ورضاه عليكي، واكسبي محبة حريم الدار. وخلي عينك تشوف الحلو والزين حواليكي،والله يهدي العاصي يا صباح.

صباح، وقد شعرت بتوبيخ الجدة يتغلغل إلى داخلها، لم تجد ما تقوله. نظرت للجدة بملامح متصلبة وقالت:

ـ إن شاء الله يمه الحجة، عايزاني في حاجة تاني ولا أروح أشوف شغلي؟

تنهدت الجدة وهي تشعر بنوع من الإحباط، وقالت بصوت منخفض:

ـ ما فيش فايدة، روحي اتكلي على الله شوفي وراكِ إيه.

غادرت صباح المكان وهي تجر قدميها، بينما تابعتها الجدة بنظرة ملؤها الحيرة والتساؤل، تنهدت بهدوء وهي تراقبها تختفي عن الأنظار، كأنها تتمنى أن تفهم صباح الكلام يومًا ما.

مر الوقت وكانت صباح تعمل في البيت في صمت مطبق، تسحب جسدها بتثاقل وكأن أعباء الدار قد أثقلت روحها قبل جسدها. تفكر في حديث الجدة لها،تحركت بخطى ثابتة بين الغرف، تجمع الأطباق هنا، وتحمل الحطب هناك، وكل حركة تقوم بها كانت أشبه برسالة خفية، رسائل تُرسلها دون كلام، لعلها تشعر بثقلها أو بشكواها من هذا العبء الذي لا ينتهي.

كانت إخلاص تعمل بجانبها، عينها تحاول مراقبة صباح دون أن تلفت الانتباه، تتقدم خطوة وتتراجع أخرى، خائفة من أن تثير غضبها أو تثير أي مشاعر مكبوتة قد تفجرت في لحظة دون سابق إنذار. كلما اقتربت صباح منها، شعرت إخلاص بتوتر يتصاعد في أعماقها، وراحت تحاول مضاعفة جهودها، تحسبًا لأي تعبير يخرج من صباح يفسد اللحظة.

أما صباح، فكانت تتجاهل وجود إخلاص ببرود، وكأنها تعمل وحيدة في هذا البيت، ولا تريد أن تشارك أحدًا ثقل الأيام وتعب السنين الذي صار جزءًا من حياتها. كانت نظراتها تمر بجوار إخلاص دون اكتراث، وكأن وجودها لا يهم، ولكنها لم تكن غافلة عن خوفها الظاهر. على الرغم من صمتها، شعرت بارتباك إخلاص يتسرب في الأجواء، وكم كان ذلك يزيدها شعورًا بالسلطة والهيبة، فهي تعلم جيدًا أن إخلاص لا تستطيع مواجهتها أو التصرف بحرية في وجودها.

استمرت صباح في العمل، وداخلها شعور ممزوج بالضيق والتفوق، وأحيانًا بالشفقة على إخلاص التي تتجنب نظراتها خوفًا من أن تقلب عليها.

بعد صلاة الجمعة، رجع إسماعيل من المسجد مرتديًا جلبابه الجديد، يعلو رأسه عمة بيضاء مربوطة بإحكام، ونظراته تلمع بفرح العريس الذي يترقب لحظات الاحتفال مع عائلته. كان يخطط للذهاب إلى بيت زوجته شوق، حيث تنتظره هناك ليجمعوا الهدايا والتبريكات من أفراد العائلة.

عندما دخل إسماعيل إلى البيت، وجد والده الحاج عبد الرحيم جالسًا في وسط الدار، يحيط به الأهل والجيران الذين حضروا للتهنئة. وبعد مغادرتهم، اقترب إسماعيل بخطوات ثابتة من والده، وانحنى مقبلاً يده احترامًا قائلاً:

ـ السلام عليكم يا با الحاج.

ابتسم الحاج عبد الرحيم، وأخرج من محفظته الكبيرة نقودًا ووضعها في يد ابنه قائلاً:

ـ وعليكم السلام يا ولدي... مبروك، وعقبال ما تفرحنا بعيالك إن شاء الله.

تملّكت الفرحة إسماعيل وهو يتفحص المال، ثم اتجه يصافح الأهل واحدًا تلو الآخر، وكل منهم يقدم له نقود المباركة. بعدها التفت نحو الباب وأشار لزوجته شوق لتدخل وتلقي التحية على عائلته، وهي تنتظر بالخارج بوجلٍ وخجل.

اقتربت شوق بخطوات مترددة، وعيناها لا تفارق الأرض، متذكرة وصية إسماعيل قبل خروجها من غرفتها: "خلي عينِك في الأرض وانتِ بتسلمي ع الرجالة، عيب البنيّة ترفع عينيها فيهم.

تقدمت شوق ببطء نحو الحاج عبد الرحيم، ومدت يدها تقبّل يده بحياء قائلة:

ـ السلام عليكم يا با الحاج.

أجابها الجد بلطف:

ـ وعليكم السلام ورحمة الله، يا مرحب بيكِ يا عروسة ابني.

ثم أخرج من محفظته نقودًا أخرى، مباركًا لها زفافها. بعد ذلك، اتجهت شوق نحو حسين، تنظر بخجل نحو الأرض، فحيّته سريعًا، وبدوره قدّم لها هديته قائلاً بابتسامة هادئة:

ـ مبروك يا مرت الغالي، وإن شاء الله تكوني وش الخير على جوزك وعلينا.

دخلت النساء بعد قليل ليكملن مراسم التحية، وما إن انتهين حتى التفت إسماعيل إلى شوق وأخرج من شاله منديلًا جديدًا معطرًا، وفي داخله قطعة نقدية، وأعطاها لها قائلاً:

ـ فوتي حطي المنديل ده في يد أبويا، هدية الصباحية.

تقدمت شوق بخفة وخجل، ووضعت المنديل في يد الحاج عبد الرحيم، الذي نظر إليه مبتسمًا وقال:

ـ منديل زين وريحته زينة، وكمان جنية فضة! هدية مقبولة من يدك يا شوق.

ضحك إسماعيل قائلاً ممازحًا:

ـ دي أقل حاجة، يا با الحاج. شوق من عشيّة وهي تقول "أول ما أبويا الحاج عبد الرحيم ياجي من صلاة الجمعة، هحط خيري تحت رجليه.

ضحك الجميع وأضافت شوق بخجل:

ـ مش عاوزين غير رضاك علينا، يا با الحاج.

وبعد لحظات، سحبت شوق من طيات منديلها شالاً من القطيفه الملوّن، وقدمته للحجة نعيمة، قائلة:

ـ ده عشانك، يمه الحاجة، شال قطيفه تتهني بيه يا رب.

استقبلت الحجة نعيمة الهدية بامتنان قائلة:

ـ ربنا يرضى عليكِ يا بتي، شال للدفا والبركة. ربنا يبارك في أيامك ويجعلك صالحة لجوزك ويهَدي سركم، ويعوض عليكم بالخلف الصالح.

ثم أخرجت شوق طرحة حرير أخرى، وناولت زينب قائلة:

ـ ودي طرحة حرير عشانك، يا عمة زينب، وجبت زيهم لعماتي عيشه وفتحية وعمتي فاطمة، ولكل حريم الدار، عشان العشرة بينا تبقى حلوة وزينة.

وبحركة لطيفة قدمت شوق هدية لصباح، التي كانت تجلس في زاوية الدار، نظرت شوق نحوها وقالت بابتسامة ودودة:

ـ واللون الحلو ده عشانك يا صباح، هيبقى لايق عليكي وحلو قوي.

ردت صباح بثبات: 

ـ من يد ما نعدمهاش ياست شوق.

في تلك اللحظة، أدرك الجميع أن هدايا الصباحية لم تكن مجرد عادة، بل كانت رمزًا للمحبة والتقدير، علامة على أن شوق قد دخلت بيتًا يجتمع أفراده على الألفة، واحتوائها بحب واحترام.

ومع مرور الأيام، كانت شوق تبذل كل ما في وسعها لتكسب محبة من حولها؛ عاملت الجميع بود، وحاولت التكيف مع حياة الدار والعائلة الكبيرة. نجحت في كسب قلوب عائلة زوجها، وكان إسماعيل أكثر من يشعر بالرضا عن زواجه، فقد رأى في شوق شريكة مخلصة تبذل جهدها لإسعاده ومساندته. عاشا معًا فترة من السعادة والحب في بداية زواجهما، وشعر إسماعيل بالامتنان لما جلبته شوق من دفء وطمأنينة إلى حياته.

وفي هذه الأثناء، كانت إخلاص تنتظر مولودها الرابع، وهي تترقب بلهفة وسعادة. لم يمضِ وقت طويل حتى انتشر خبر آخر في العائلة بأن شوق، حامل أيضًا، فأضاف هذا الحدث فرحة جديدة وسط الجميع.

مع حلول فصل الشتاء، كان البرد قد بدأ يطرق الأبواب، ومعه عادت الأجواء الأسرية لتنبض بالدفء حين جاء صالح في إجازة من دراسته، تزامن ذلك مع بداية شهر شعبان. وكعادتها كل عام، شرعت سميرة بالتحضير للمواسم استعدادًا لاستقبال الشهر المبارك، إذ حرصت على إعداد المؤن والهدايا الخاصة لأخوات زوجها؛ عيشة وزينب وفتحية وفاطمة، فتعتبر تلك العادة العائلية الطيبة بمثابة رمز للكرم واحتفال بالشهر الفضيل.

بينما كانت سميرة منغمسة في تجهيزاتها، لمحت ابنها صالح عائدًا من الخارج، فابتسمت بخفة ثم نادته على عجل قبل أن يلتحق بباقي الرجال، واصطحبته إلى غرفتها ليكون حديثها معه بعيدًا عن مسامع الآخرين. نظر إليها صالح بتعجب وسأل بلهجة متوجسة:

ـ في ايه يما؟ أني عملت حاجه؟

أجابته بنبرة تخفي قلقًا خافتًا:

ـ لا يا قلب أمك، إنت ما عملتش حاجه... بس يعني اني كنت عايزه أسألك على حاجه كده.

نظر صالح إليها وقد بدا عليه الفضول:
ـ خير يمه، إيه هي الحاجه اللي عايزه تسأليني عليها؟

ترددت سميرة لبرهة، ثم استطردت بنبرة يشوبها الحنين:
ـ وإنت يعني وانت في البندر ما تخيلتش كده.ولا لمحت خالك عبد الحميد؟

ظهرت الدهشة على وجه صالح، فأجابها مستغربًا:
ـ واه يمه! وأنا إيه اللي هيعرفني بيه؟ مصر كبيره قوي  قوي يمه... وكمان اني ماعرفش شكل خالي ده إيه؟

ردت سميرة بعفوية واشتياق وهي تصف له أخاها بصوت مفعم بالحنين، وكأنها تستحضر صورته أمام عينيها:
ـ اسم الله عليه... زينة شباب الكفر طول بعرض، وشه مدور، شنبه يقف عليه الصقر، وتحسه كده فيه من جدك عبد اللطيف كتير... طيب وغلبان زيه.

ضحك صالح ضحكة خفيفة، وضع يديه على بطنه وقال وهو يحاول تخفيف وطأة حزن أمه بطريقة هزلية:

ـ كلام إيده بس يمه، بقولك مصر كبيره قوي قوي وزحمة يا ما، وعمري ما هقابله... وانتِ قلتي قبل سابق يا عالم إن كان عايش ولا لأ.

ظهرت خيبة الأمل على وجه سميرة، وشعرت بأن آمالها قد تلاشت مرة أخرى، فقالت له بنبرة منزعجة وممزوجة بالزفر:
"طب خلاص، بكفياك لت وعجن... امشي من قدامي، اطلع شوف الرجالة بيعملوا إيه واعمل معاهم. حر.قت د.مي، الله يسامحك.

نظر إليها صالح نظرة محبة وودّ، ثم طبع قبّلة على يدها قبل أن يغادر، تاركًا في قلبها شعورًا بأن شيئًا من أملها لازال حيًا بين ضلوعها، ربما يأتي اليوم الذي يجمعها بأخيها المفقود.

بعد ذلك حضّرت سميرة المواسم بعناية، ووُضعت السلال (السبت) فيها خيرات متعددة من الأطعمة والطيور، ثم حضرت العربة الكارو في الدار، وبدأ الرجال يحملون السلال، وصالح كان يساعد عمه إسماعيل في رفعها إلى العربة بحماس. وبينما كانوا يستعدون للانطلاق، قال صالح بلهفة:

ـ أنا هروح مع ابويا سالم وابويا اسماعيل لعمتي فاطمة، يابا. اتوحشتها قوي.

وافق حسين على الفور، وأعدوا العدة ومعه شقيقه سعد لزيارة عيشة، بينما توجه عبد العزيز وحسان إلى بيت زينب حاملين معها نصيبها من الموسم. أما سالم وإسماعيل والصغير صالح، فقد خرجوا إلى بيت فاطمة مهنئينها بقدوم شهر شعبان، إذ كانت العادة أن يتم إيصال المواسم في أول هذه الشهور المباركه.

ومع مرور بضعة أيام، بدأت أيضًا "المواسم" تعود إلى بيت العائلة، ابتدأ من شوق إذ كانت عائلتها تُهدينها جزءًا من خيراتهن كتقدير ومحبة. وبعدها جاء موسم وفاء، ثم موسم إخلاص محملاً بالطيور الطازجة، ليليه موسم سميرة الذي أُعدّ بعناية بفضل والدها. ثم جاء الدور على صباح التي اختتمت المواسم، مكللةً هذه الأجواء بلمسة ختامية مميزة.

كانت هذه الأيام البسيطة مليئة بالحب والترابط، ترسم ملامح الحياة الريفية في تلك الحقبة الجميلة، حيث تكاد طقوس العطاء المتبادل تجمع الجميع في نسيج من العلاقات الدافئة التي تحفظ روابط القربى، وتضفي على الحياة في الريف رونقًا خاصًا.

مر شهر شعبان بسلام على العائلة، وقد امتلأت الأيام السابقة بأجواء الإعداد والتجهيز لشهر رمضان، حيث انشغلت النساء بتنظيف البيوت وتخزين الزاد وتحضير ما يلزم من الزينة البسيطة، فالتجهيزات لم تكن معقدة، لكن لها طابع خاص يملأ القلوب بالبهجة.

وفي آخر ليلة من شعبان، كان الجميع يجتمع حول "الرؤية" التي ينتظرون سماع خبرها بفارغ الصبر، فقد كانت هذه الليلة مميزة بانتظار هلال رمضان. جلس الرجال في ساحة الدار معًا، بعضهم يتهامسون حول الشهر الكريم، وآخرون يتسامرون عن عاداتهم وذكرياتهم في رمضان الماضي. كان حسين يجلس بجوار والده الحاج عبد الرحيم، يملأهما الأمل والتطلع إلى أجواء رمضان. وكان الجميع يترقب سماع صوت المؤذن الذي سيعلن ثبوت الهلال.

ومع غروب الشمس، بدأ الأطفال يهرعون إلى الشوارع، يركضون هنا وهناك، مستعدين لنقل الأخبار بأي لحظة، حتى جاء صوت المؤذن مهللًا من الجامع القريب بأن غدًا أول أيام رمضان، فعمّت الفرحة كل البيوت. تعالت التكبيرات من المساجد، واكتست الوجوه بالبشر والسعادة، وأخذ الناس يتبادلون التهاني بينهم، يباركون لبعضهم بحلول الشهر الكريم قائلين:

ـ رمضان كريم، كل سنة وأنت طيب.

ـ الله أكرم ، وانت طيب ربنا يجعله شهر خير علينا وعليكم.

كانت التحايا البسيطة تعبر عن روابط الإخاء، فالجار يهنئ جاره، والأقارب يزورون بعضهم، وتعلو الدعوات الجميلة في كل ركن. بينما النساء كن يجتهدن في إعداد ما يلزم من طعام السحور، ويجمعن الصغار ليحتفلوا ببداية الشهر المبارك، وبعضهن يجهزن المصابيح والشموع الصغيرة التي ستضيء أول ليلة رمضانية.

ومع أول يوم من رمضان، بعد السحور عمّت السكينة الدار، فالجميع استيقظ على صوت المؤذن لصلاة الفجر، وقد ارتفعت الدعوات بقلوب خاشعة، داعين الله أن يكون شهر خير وبركة. حلّت أجواء من الهدوء على الجميع في ذلك الصباح، فالعيون كانت وديعة، وأصوات النساء منخفضة، والرجال يسيرون على أطراف أصابعهم لئلا يوقظوا الأطفال. بدا عليهم الشعور برهبة اليوم الأول، وشعورهم بالصيام لأول مرة في هذا العام.

أما شوق، فقد كانت تستقبل شهر رمضان بقلبها المفعم بالحب والخير، نظرت إلى زوجها إسماعيل بحنان ودعت الله أن يكون شهر رحمة وسكينة لهما، وأن يتم عليهما بالخير.وسميرة كانت دائمة الدعاء أن يحفظ لها زوجها وجميع عائلتها، وكانت صباح تحاول أن تسيطر على غضبها ولكن كانت المناوشات بينها وبين زوجها لا تنتهي،ووسط سكون اليوم، حين كانت العائلة تجتمع على أول إفطار، كانت النظرات المتبادلة تحمل مشاعر الفرح والتقدير. لم تكن مائدة الإفطار مزدحمة بأصناف متعددة، بل كان كل ما فيها يعبق بالنكهة الأصيلة والطعم البسيط، ما جعلهم يشعرون بأهمية كل لقمة وكل دعوة تقال في هذه اللحظات المباركة.

وكانت أول ليلة رمضانية قد حلّت، وبدأ الرجال يستعدون للتراويح، بينما النساء يتهيأن لإتمام صلاة المغرب والدعاء في خشوع. وكانت هذه الليلة بدايةً لأيام رمضان الجميلة، حيث تكتمل الألفة ويعود السلام إلى النفوس، ويجتمع الجميع تحت سقف واحد في أجواء من الرحمة والصفاء.

وجاء ثاني يوم من رمضان، ومعه اجتمع أهل البيت حول المائدة ينتظرون الأذان، كانت الأجواء مليئة بالنفحات الروحانية، والدفء العائلي الذي يميز رمضان في الريف. الحجة نعيمة تجلس في مكانها المعتاد تُنظم الأمور بحكمة، والأولاد والبنات يتحركون بسرعة لإحضار الصحون والأطباق، والتهليل بالأذان يملأ السماء، معلنًا بداية الشهر الفضيل.

توالت الأيام والأسابيع، وحلّ عيد الفطر بهجةً وسرورًا، وتكبيرات العيد تملأ المكان.

في ليلة فجر العيد الصغير، تزيّنت أجواء الريف بالبهجة والفرح الذي يملأ كل زوايا الدار. الجميع كان في حالة من الاستعداد، كلٌ يعرف دوره، وفي كل ركن صوت التكبيرات التي تنطلق من المآذن، يرددها الكبار والصغار.

داخل البيت، كانت سميرة تمشط شعر ابنتها الصغيرة نعمة، برفق وتدندن بلحن قديم كي تهدئ من حماسها، فنعمة لم تستطع كتمان الفرحة وهي ترتدي فستانها الجديد المطرّز، وتمسك بإحكام بحذائها اللامع بين يديها الصغيرتين. أما وفاء، فكانت تساعد ابنها حافظ على ارتداء جلبابه الصغير، وتعدل الطاقية البيضاء على رأسه، تبتسم له بحنان وتقول: ده أحسن عيد جاني وانت جاري ياحبيب أمك. كل سنه وانت طيب يانور عيني.

وفي غرفة سعد، كانت إخلاص تسرّح شعر ابنتها الصغيرة، تجمعه برفق وتربط شريطةً بيضاء فوقه، تهمس لها بضحكة ودعاء: 
ـ يا رب العيد الجاي تكوني كبرتِي أكتر وشعرِك يطوّل اكتر يا قلب أمك.
كانت الصغيرة تبتسم وتتأمل نفسها ، بينما ترتدي فستانها المزركش بالألوان وتستعد ليوم طال انتظاره.

وفي زاوية الغرفة الكبيره، كانت الجدة نعيمة تفرز النقود، تعدها بعناية وتجمعها في كيس من القماش. ووسط كل هذه التحضيرات، تبتسم الجدة، وتشعر بالسرور وهي ترى أطفالها وأحفادها يستعدون لاستقبال العيد، تتخيل ضحكاتهم وعيونهم اللامعة حين يتسلمون العيدية.

وفي الخارج، تجمّع الرجال والأطفال يرتدون جلابيبهم الجديدة وأجمل ما لديهم، واتجهوا معًا إلى المسجد. كان المسجد الصغير والزوايا المنتشرة في القرية تستقبل الجميع بصدر رحب، ومن لا يجد مكانًا، يصلي في الساحة الكبيرة تحت السماء المفتوحة، يتعالى فيها التكبير وكأنه يغمر القرية كلها بالبهجة والسكينة.

بينما صباح أمام الدار كانت تمسك بالمقشة، تكنس الساحة أمام الدار وتنثر المياه برفق على التراب لتمنع الغبار، وتنعش المكان. تُردد تكبيرات العيد في صوت منخفض وهي تعمل، وتستقبل النسمات الباردة التي تتخلل الفجر. كانت سعيدة بهذا العمل، تعلم أن البيت يجب أن يبدو كأنه عروس في هذا اليوم.

قريبًا منها، كان حسان يجمع الحطب ويشعل النار في المنقد الطيني، يضبط الخشب ليشعل دفءً سيستقبل العائدين من صلاة العيد. يعرف أن الجميع سيكونون في حاجة إلى الدفء بعد صلاة العيد في الساحة، فيبرد الجو قليلاً في الصباح الباكر. أشعل المنقد وذهب مسرعاً للمسجد.

بعد انتهاء الصلاة، خرج الجميع من المسجد يكبرون ويهنئون بعضهم البعض، الأطفال يتقافزون حول آبائهم، مستشعرين هيبة هذا اليوم وفرحته. عادوا جميعًا إلى البيت، ليجدوا نساء العائلة بانتظارهم على عتبة الدار. كانت كل زوجة وأم تقترب لتسلم على زوجها وأبنائها، تُقبّل الأيادي وتدعو لهم بفرحٍ صادق، وتتمنى لهم عيدًا سعيدًا.

ثم أقبل الجد عبد الرحيم، الذي تزينت ملامحه بتجاعيد العمر ووقار الأيام، أخرج كيس القماش الذي أعدّه أيضاً للأطفال، وزّع العيديات عليهم بحبٍ أبوي، وكل طفل يتلقى نصيبه بروح مرحة ونظرات امتنان. وكانت الجده تمد يدها لكل طفل بابتسامة دافئة، تضع النقود في أيديهم الصغيرة وتدعو لكل منهم: 
ـ ربنا يجعل أيامك كلها عيد يا ولدي. ترتفع أصوات الضحكات، وعيون الأطفال تتلألأ من الفرح، يجمعون العيدية بأيديهم ويركضون بها، كأنهم حصلوا على كنز عظيم.

لم يقتصر الأمر على الأطفال فقط، فقد كانت نساء الدار بانتظار العيديات كذلك، فابتسم الجد وهو يوزع عليهن أيضًا، وأعطى لكل واحدة منهن العيدية مضاعفةً عن الأطفال، كنوع من التقدير والاحتفاء بهن.

أما الأزواج، فلم ينسوا تقديم عيديات بسيطة لزوجاتهم، في لفتة تعبّر عن الشكر والمحبة الصادقة. تقبلت الزوجات تلك العيديات بابتسامة خجولة ورضا، مشاعر زادت من الألفة وأضفت دفئًا على صباح العيد، حيث عمت البهجة أرجاء الدار.

على الطاولة الخشبيه كانت صواني الكعك والقرص والمعجنات التي قضت النساء الأيام الماضية في تحضيرها، بجهد واعتزاز. تجلس العائلة حول الطاولة، وأمامهم أكواب الشاي بالحليب، لتناول الفطور التقليدي الذي يختلف طعمه وحلاوته في صباحات العيد. كانوا يغمسون الكعك الطري في الشاي، يتذوقونه بنكهة تعب الأيام الماضية، ويشعرون بلذة اللحظة التي جمعتهم كعائلة في أجواء ممتلئة بالدفء والسرور.

وبينما يهنئون بعضهم البعض، كان الجيران يدخلون بيوت بعضهم البعض، يقدمون التهاني ويتبادلون الحلوى. لم تكن الأبواب تُغلق في هذا اليوم، فالكل يشارك بعضه بعضًا فرحة العيد، ويتجول بين البيوت، يقدم التبريكات ويستقبلها، وكأنهم أسرة واحدة كبيرة.

كانت أجواء العيد في تلك الحقبة البسيطة مليئة بالخير والبركة، عادات تُحييها المحبة والصلة، وفرحة يعيشها الصغير والكبير بلا تكلف، تبقى حية في قلوبهم حتى أيامنا هذه.

لكنه لم يكن سوى فصلٍ قصير في قصة حياة العائلة. مرّت السنين بسرعة، وكأنها تسرق معها تفاصيل الحياة اليومية، وتُبقي في الذاكرة الأوقات الثمينة التي لا تُنسى.

مرت الأعوام وتزوج حسان من ابنة الجيران "عزيزة"، وأنجبا العديد من الأطفال، وامتلأت الدار بالخير والبركة.بينما تفتحت زهرة الشباب في حياة صالح، أخذت خطواته تحمله نحو أولى محطاته الجامعية في كلية الطب، عاقدًا العزم على تحقيق حلمه. كانت عيون والديه تتلألأ بالفخر كلما ذُكر اسمه مقرونًا بالجامعة، وأضحى حديث القرية التي لطالما رأت فيه رمز الأمل والطموح، فاختفى ذلك الطفل الصغير الذي كان يركض في أرجاء الدار وحل محله شابٌ ناضج له طموحات وأحلام. كانت الحجة نعيمة تلمع عيناها بفخر حين تراه عائدًا من البندر محملًا بالكتب والأحلام، يتحدث عن مستقبله بتفاؤل لا يعكره شيء.

وذات يوم، عاد صالح إلى البيت يحمل بين يديه جهاز راديو جديد، وكانت هذه الهدية تمثل للعائلة قفزة كبيرة في عالم لم يعتادوا فيه على مثل هذه التكنولوجيا الحديثة. دخل صالح إلى الدار حاملاً الجهاز بإعجاب وفرحة، وأعلن بصوت عالٍ:

ـ يا أهل الدار جبتلكم حاجة حلوة قوي من مصر جبتلكم راديو، عشان نسمع النشرة ونسمع منه القرآن والتواشيح!

تجمّع أفراد العائلة حوله بوجوه يملؤها الذهول والفرحة. ضبط صالح الموجة بعناية حتى انطلق صوت نشرة الأخبار، بصوت لم تألفه الدار من قبل. حين سمعوا صوت الرجل في الراديو لأول مرة، ارتبكت سميرة وركضت إلى آخر المندرة، وألقت طرحتها على رأسها كأنها تستعد لاستقبال ضيف غير متوقع. أما عزيزة فارتعبت واندفعت إلى الزاوية مختبئة، وكأن الصوت آتٍ من شخص مختبئ في أحد الأركان.

ردة فعل شوق كانت الأسرع، إذ جرت نحو الباب وكأنها تفكر في الهرب، مما جعل الجو في البيت يبدو وكأنه مشهد من مسرحية كوميدية. بينما كان صالح يشاهد كل ذلك، انفجر في ضحكٍ هستيري، فهو لم يتوقع أن يتسبب الراديو بهذا التفاعل.

بعد لحظات من الارتباك، بدأت العائلة تدرك الأمر. وأبدت سميرة ذهولها قائلة:

ـ يحلاوة يا ولاد، شوفوا صالح جابلنا إيه! راديون.

قهقه صالح عاليًا وقال:

ـ اسمه راديو، يما، رررااادديوو.

حاولت سميرة تقليده بتأتأة مضحكة قبل أن تلوح بيدها باستسلام، بينما كانت عزيزة تتأمل الجهاز بفضول وتسأل ببراءة:

ـ والراديون ده ياسي صالح بنعمل بيه إيه؟ وازاي الراجل اللي بيتكلم ده خش جواه ويتكلم!

جلس صالح بجوارها وشرح بابتسامة:

ـ ده جهاز بنسمع منه لأخبار الدنيا، ونقدر نسمع تلاوة القرآن والتواشيح كمان. الصوت ده مش لراجل جوه، ده متسجل وبيطلع لنا ونسمعه.

وفاء التي دخلت وألقت نظرة على الجهاز قالت بحماس:

ـ ايهي يحلاوة انت جبتلنا راديو من البندر يا صالح؟

ابتسم صالح وسألها متعجبًا:

ـ الله ينور عليكي يا مرات عمي، بس انتي عرفتي إنه راديو إزاي؟

فأجابت بفخر:

ـ اني شوفت واحد زيه في دار عمتي زينب، وكنا بتسمع منه غنيوة الست أم كلثوم.

ضحك صالح، بينما تطلع الجميع إلى وفاء بدهشة، وقالت شوق بحلم:

ـ يما، نفسي اسمع غنيوه حلوة أكده اني واسماعيل ونكون قاعدين في الجنينه.

صفعتها سميرة بخفة على كتفها وأشارت إلى صالح قائلة:

ـ فوقي يا شوق وعيب، في راجل عذابي قاعد وسطنا.

ابتسمت شوق خجلاً، بينما سألت عزيزة بتفكير:

ـ يعني البتاع ده نقدر نسمع منه كل حاجة من غير ما حد ياجي يخش جواه صح كده ياسي صالح؟

رد صالح ضاحكًا:

ـ أيوه، يا مرات عمي، الراديو بتسمعي منه الصوت بس ويقدر يوصلنا بالدنيا كلها من غير ما نتحرك من مكانا ولا حد ياجي جاره.

جلس الجميع حول الراديو بحماس، وطلبت وفاء من صالح أن يشغل لهم شيئًا قبل عودة الرجال من الأرض.

حين شغّل صالح الراديو وبدأت موسيقى أغنية رومانسية "صافيني مرة" بصوت عبد الحليم حافظ، غمر الحلم عيني شوق التي استغرقتها الأغنية ووقفت بتركيز شديد، حتى نادت فجأة لصالح قائلة بجدية:

ـ اقفل البتاع ده دلوقتي، لحد ما يجي إسماعيل من الأرض ونقعد نسمع الغنيوة دي سوا، هيحبها قوي قوي .سَكته قبل ما يخلص!

أطلق صالح ضحكة عميقة وراح يشرح لها:

ـ غنيوة إيه اللي أسكتها يا مرات عمي! انتي فاكرة الراديو زي الحواديت بتوقف وتكمل؟ دي ليها وقت وبتخلص!

أدركت شوق كلماته واستوعبت الفكرة، بينما علقت وفاء قائلة بضحكة:

ـ جرب افتح حاجة تانية، يمكن نلاقي نفس الغنيوة ترجع من أولها!

أخذ صالح يقلب في المحطات، فتارةً يجدون صوت مذيع ينقل الأخبار وتارة أخرى موسيقى شعبية، وفي كل مرة كانوا يضحكون ويقولون: "لا لا، رجع الغنوه الحلوه اللي كانت شغاله،ليتجمع الجميع حول الجهاز في جو من المرح والاستكشاف، والضحك المتواصل.

مع مرور الوقت، بدأت النساء في استيعاب طبيعة الراديو، وكيف أن ما يُبث عبره يتدفق بلا توقف أو إعادة، لتصبح لحظة اكتشافه محطة فريدة تجمع بينهنّ، يمزجها الفرح والضحكات. في هذا اليوم، كان صالح قد قدم لهنّ تجربة لن تُنسى، مليئة بروح المرح التي أضاءت قلوبهنّ، في زمن كانت الأشياء فيه بسيطة، مليئة بالبراءة والسعادة.

أما الرجال، فقد استقبلوا خبر وجود الراديو بدهشة، ووقف عبد العزيز متسائلًا بدهشة ممزوجة بالسرور:
ـ زمان كنا بنعتمد على الأخبار اللي تيجي من المسافرين أو اللي تنقله المراكب، دلوقتي الراديو بقى عندنا في الدار محدش قدنا دلوقتي!

اتسعت العيون اندهاشًا تجاه هذا الجهاز العجيب الذي يحادثهم بأصوات تأتي من بعيد وكأنها على مقربة منهم، وكأنه نافذة تطل على العالم. تحول الراديو إلى جليسهم المفضل، يلتفون حوله بعد الإفطار ليستمعوا إلى آخر الأخبار، وينصتون للقرآن بأصوات شجية تملأ قلوبهم طمأنينة وسلامًا.

مرت الأيام وامتلأت الجدران بأصوات جديدة، وحكايات لم يألفوها من قبل، كان صالح بذلك قد جلب إليهم جزءًا من المستقبل، وجعل من تلك الأحلام البعيدة واقعًا أقرب. باتت العائلة أكثر اتحادًا رغم بساطتها، تدرك أن الزمن قد تغير، لكن قيمهم وتقاليدهم الأصيلة ستظل ثابتة، تنبض بالحياة مهما تعاقبت الفصول والسنين. 
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1