رواية بقايا عطر عتيق الفصل الرابع عشر بقلم مريم نصار
ازدحم بيت العائلة الكبير شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت، حتى بات يعج بالحركة والأصوات. الأطفال يركضون في كل ركن، والأولاد يتجادلون أو يلهون بصخب، بينما النساء يتنقلن بين الغرف لإنجاز الأعمال اليومية. اجتمع في البيت عائلة حسين الكبيرة بجانب جميع إخوته، مما جعل المساحة تضيق بهم يومًا بعد يوم.
حينها، قرر حسين أن الوقت قد حان لإيجاد حل، فاقترح بناء دار جديدة بجوار بيت العائلة. تلك الدار ستكون مسكنًا مستقلًا لإسماعيل وزوجته شوق، وكذلك لحسان وزوجته عزيزة وأولادهم. كانت الفكرة تهدف إلى تخفيف الضغط عن البيت الكبير، حيث يقضون الليل في دارهم الجديدة، بينما يعودون في الفجر إلى بيت العائلة الكبير ليجتمعوا مع بقية الأسرة. وبذلك، حافظوا على تقليد العيش المشترك دون أن يشعر أحد بالضيق من زحمة الحياة اليومية.
وبالفعل، بدأوا في البناء، لكن صباح لم تكن راضية. في قلبها، شعرت بغيرة من أن الجميع سيكون لهم بيوت منفصلة، بينما هي ما زالت مقيدة بهذا البيت الكبير. راحت تفكر في أن تقنع إخلاص ووفاء – سلايفها – بأن يطالبن أيضًا كل واحدة ببيت خاص بها.
كان الجد والجدة يستعدان للسفر إلى الحج، وخرج حسين والحاج عبد اللطيف وبعض رجال العائلة لمرافقتهما إلى الميناء وتوديعهما قبل الإبحار. بعد مغادرتهم، خيّم الهدوء على البيت الكبير، حيث غاب العديد من الرجال في وداع الحجيج. ومع غياب حسين، تولى عبد العزيز وإسماعيل مسؤولية رعاية الأرض والإشراف على المحاصيل، ليظل العمل مستمرًا حتى عودة أخيهم الكبير.
جلست الحريم أمام الدار في صباح هادئ، وفي ظل غياب الرجال، كان الجو مليئًا بالهدوء، لكن قلب صباح كان مشحونًا. رفعت صباح عينيها نحو إخلاص ووفاء، ثم بدأت الحديث بنبرة مترددة تجمع بين الضيق والكتمان، قائلة:
ـ اني مش عارفه، هيفضل مكتوب علينا التعب والشقى لحد امتى!
تبادلت إخلاص ووفاء نظرات سريعة، فأجابت وفاء بتعجب وشيء من التفاؤل:
ـ تفي من حنك يام راضي فين بس الشقى دِه، داحنا عايشين في خير لا له أول من آخر.
لكن صباح لم تكن مقتنعة، فأكملت بامتعاض:
ـ اممم، وانبي إيه؟حوش حوش، وانتي هتقوليلي يا وفاء! ماني عارفه طريقتك في الكلام حلوه ومترتبه وده اللي واكله بيه عقل حماتك يختي.
ضحكت وفاء وأجابت بحكمة:
ـ الكلمه الزينه بتطيب القلب والخاطر يام راضي، ده كمان بتلين الحجر الصوان، يبقى ليه مش اتكلم زين وارتب حديتي؟
عوجت صباح فمها وردت بحذر:
ـ اممم، معلش مش كل الناس بالها طويل زيك يا وفاء.
بينما كانت وفاء تستعد للرد، قاطعتها إخلاص، تحاول تهدئة الموقف:
ـ خلاص ياصباح صلي على النبي وكبري راسك، الهم يختي ورانا ورانا بس نقول إيه الحمد لله، ماشيه، ومدام صحتنا عال العال وعيالنا موجودين بخير ورجالتنا حسهم في الدنيا، هنعوز ايه تاني؟
لكن صباح لم تستسلم بسهولة، فتنهّدت وقالت بحدّة:
ـ نعوز كتير يا إخلاص، نعوز كتير يختي،ولا إحنا هنفضل كده في قعر القُفه، محدش داري بينا ولا شايفنا!
نظرت إخلاص إلى صباح بدهشة واستفسرت بلهجة حائرة:
ـ قُفة ايه ومقطف ايه؟ اني مش فاهمه حاجه!
ردت صباح بنبرة غاضبة، وهي تحاول أن توضح:
ـ وعمرك ما هتفهمي، هتفضلي كده زي القمح في الچورن مقفول عليه.
ثم نظرت إليهم بنظرة مثقلة بالغضب وقالت بحدة:
ـ جرا إيه ياست منك ليها؟ هو إحنا مش حريم الدار قبل شوق وعزيزه ولا إيه؟ ليه بقى لما يبنوا دار جديدة؟ ميخلوناش إحنا اللي نقعد فيها؟ مش إحنا اولى منيهم؟ اشمعنا عيال امبارح هما اللي يتستتوا واحنا نفضل في الدار القديمة؟
صمتت إخلاص للحظة، تفكر في كلام صباح، ثم ردت بتردد:
ـ اي والله صح! كلامك زين يا صباح، اني مجاش ع بالي الكلام ده أبدا ،اشمعنا صحيح شوق وعزيزه هما اللي يقعدوا فيها مع إن إحنا أقدم منهم في الدار دي!
نظرت صباح بإصرار، وقالت بحزم:
ـ أقولك اني ليه يا إخلاص، عشان هما يختي اللي ع الحجر، وأحنا ولاد البطه السودا.
حاولت إخلاص أن تهدئها، متسائلة بنبرة حائرة:
ـ بس وانبي وطي حسك يا صباح ودني اتخرمت، اني مش حملك، بس قوليلي كده واحده واحده وبراحه، ايه العمل؟ وايه اللي في ايدينا نعمله؟
ردت صباح بعناد لا يقبل الجدال:
ـ في ايدينا حجات كتير قوي يختي، وأولها كده اني مش هسكت، وهطلب دار لروحي.
شهقت إخلاص بذهول، وقالت محذرة:
ـ ينهار مدوحس! عاوزه دار لروحك يا صباح؟ اوعي يابت تعملي كده، دِه ابويا الحج لو شم خبر بس! مش بعيد يقـ.طع خبرنا ويد.فنا في الجنينه، و الدار تقوم حر.يقة يا صباح.
ردت صباح بغضب يتصاعد:
ـ ليه إن شاء الله؟ كنت كفـ.ـرت ولا كفـ.ـرت اني بطلب حقي مش بجور على حد فيهم!
فيما استمر النقاش الحا.د بين إخلاص وصباح، بقيت وفاء صامتة، تستمع إليهما بحذر وتمعن. لم يمر سكوتها على صباح دون ملاحظة، فالتفتت إليها بسخرية، وقالت بنبرة ساخرة:
ـ شاله يكون كلامنا فات على معدتك وهضمها يا وفاء، أصل اني عارفه إن كلامي مش هينزل معدتك واصل ولا هيتبلع.
ابتسمت وفاء بحكمة وردت بلهجة هادئة:
ـ لاه ليه بتقولي كده، اني قاعده بسمعكوا.
ضر.بت صباح كفًا بكف، وقالت بتحدٍّ:
ـ طيب، يختي ايه قولك في كلامي؟ هو اني مش من حقي يبقى ليا دار لروحي! ولا من حق شوق وعزيزه وبس؟
نظرت إليها وفاء بهدوء، وأجابت بطريقة ملتوية، محاولة إقناعها:
ـ لاه، من حقك يكون ليكي دار، ودار كبيرة قوي يام راضي.
بدا على صباح ابتسامة انتصار، لكنها سرعان ما تلاشت عندما أكملت وفاء:
ـ بس اني عوزه اقولك حاجه قبل ما تفكري في حكاية الدار دي.
نظرت إليها صباح باستغراب، وسألت:
ـ حاجة ايه يا وفاء؟
تقدمت وفاء بالشرح، محاولة توصيل فكرة عميقة دون صدام:
ـ مسألتيش نفسك ليه أبويا الحاج عبد الرحيم ربنا يرجعه بالسلامه قال إن شوق وعزيزه يروحوا على الدار الجديدة واحنا لأ؟
ردت صباح بنبرة مريرة:
ـ عشان مش عاوز لينا الراحة.
ابتسمت وفاء وردت بلهجة ودودة تملؤها الحكمة:
ـ لاه، مش أكده خالص يا أم راضي. الحكاية وما فيها إن أبويا الحاج عبد الرحيم وأبويا حسين شايفين إن الدار دي بيت العيلة الكبير، واللي يقعد فيه لازمن يكون كبير وعارف كل كبيرة وصغيرة عنه! وفاهم وعارف ومسؤول عن كل حاجه فيها. يعني يا صباح، سابوكي انتي وسميرة هنا قبل منينا علشان آنتوا إكبار الدار دي، وكبرت بيكم آنتوا قبل منينا. وكمان أبويا حسين فكر في صالح العيلة يعني مقالش اني الكبير واني اللي يحقلي أقعد في دار لحالي لأ، ولا حب يعمل إشكالية بين إخواته. ولما شاف الدار اتملت بالعيال، اللهم صل على النبي، قال خلاص أصغر اتنين في الولاد يقعدوا جارنا علشان محدش يقول اشمعنى دي ولا اشمعنى دوكها.
بدا على إخلاص الاقتناع الكامل، وهزت رأسها مؤيدة، قائلة:
ـ ايوه والله كلامك زين قوي يا وفاء. ماهو من باب أولى صحيح إن ابويا الحج حسين هو اللي ياخد دار لروحه عشان هو الكبير، بس معملش أكده.
ثم نظرت لصباح بتوجس واضافت بقلق:
ـ طيب عارفة! لو كانوا قالوا صباح تقعد في دار بروحها كانت قالت اشمعنى اني اللي عاوزين تعزلوني.
وكزتها صباح بغضب، مما جعل إخلاص تنتفض مكانها:
ـ ماتلمي روحك يا إخلاص ليه يختي! كنت هقول كده إن شاء الله؟ هبلة ولا هبلة.
ردت عليها إخلاص بإقتضاب، محاولًة إنهاء الجدل:
ـ يوه يا صباح مابراحه عليا يختي، انتي من أصله مابيعجبكيش العجب، لو قالوا دِه نهار، انتي هتقولي لاه دِه ليل، ولو قالوا دي شمس، انتي هتقولي دي جمر نا.ر. انتي ما بيعجبكيش العجب ولا الصيام في رجب.
صمتت صباح قليلًا، ثم تمتمت بكلمات غاضبة، تنظر إلى إخلاص التي ارتبكت، وقالت:
ـ اني غلطانة اني عاوزة مصلحتك ياغراب البين انتي، انتي سمعتي كلام وفاء وصدقتيه! عشان عبيطة يا إخلاص، وفاء دي بتحب تكبر راسها، واحدة مش عارفة مصلحة روحها.
هنا قررت وفاء إنهاء الحوار قبل أن يحتد أكثر، فنهضت وقالت بصوت هادئ:
ـ يختي، ولا مصلحتي ولا مصلحتك، كل واحد حر يعمل مابداله. وإن كان عليا اني، مش عاوزه حاجه، عاوزه أعيش في دار ستراني وسط جوزي وعيالي حيطة تدارينا وفرشه تدفينا، ولقمه تكفينا وبس، بالإذن، هروح أزود الزير ميه.
تمتمت صباح بالكلام، تراقب وفاء بنظرات حادة، فيما بقيت إخلاص مترددة، وقالت مغمغمة، وهي تنظر إلى صباح بحذر:
ـ ايه مالك، هتاكليني بعينيكي ليه! إني قولت الكلام الموزون والصح يا صباح.
نظرت إليها صباح مستنكرة وسألتها:
ـ ايه اللي هو ايه يا إخلاص؟
أجابت إخلاص بنبرة مترددة، تحاول إنهاء الجدال بحكمة:
ـ اللي هو تقصري الشـ.ر وبلاش تعملي مشاكل. أبويا الحج حسين لو عرف مش هيسكت، اللي انتي هتعمليه دي اسمه نعكشة العيلة.
تحدقت صباح بحدة وقالت:
ـ قصدك ايه يا إخلاص؟ اني هفرق العيلة من بعضها كل ده عشان بطلب حقي؟ بقى كده يابت!
هزت إخلاص رأسها وأجابت، محاولة توصيل وجهة نظرها:
ـ لاه، بس انتي كده هتفتحي عيوننا كلنا على حاجات مكناش واخدين بالنا منيها، وهتقوم البيت حر.يقة. لما انتي تعوزي دار لروحك؛ بكره اني كمان هعوز، وسميرة وكل سلايفنا لحد ما الدار تتهـ.ـد فوق روسنا كلنا، يا اما هنطلق على آخر الزمن. استهدي بالله يا صباح، وسكري على الكلام ده نوهائي، وقومي اعجني العجين واني هقوم أحمي الفرن، خلينا نخبز ونجهز الوكل للرجاله.
أنهت إخلاص كلامها وغادرت لتكمل عملها، بينما ظلت صباح جالسة، تفكر فيما ستفعله، وقد عزمت ألا تتنازل عن حقها في أن يكون لها دار لوحدها.
في هدوء الظهيرة، ومع اقتراب موعد عودة الرجال من الأرض، كانت نساء الدار قد أعدَّن الغداء وهن ينتظرن عودتهم. بينما كانت شوق، تنزل من السلم الطيني بحذر، تحمل على رأسها سلة الغسيل وفي يدها الأخرى تمسك بيد طفلها الصغير. وفي لحظة ظهورها، التفتت إليها صباح، التي كانت تجلس على حافة الدار بانتظار الطعام، وعلّقت بسخرية، قائلة:
ـ على مهلك يا شوق، معلش يختي السلم ضيق. بكره ياختي يكملوا بنيان الدار الجديدة ويعملولك سِلّم أوسع من دِه، عشان تطلعي وتنزلي براحتك. أمال إيه، بعد كده ليكم حق تتمرعوا علينا!
أسرعت سميرة، وهى تطعم صغار الدجاج جوارها، بلهجة دفاعية ووجه مستنكر، لترد على كلام صباح، قائلة:
ـ كلام إيه ده يا صباح؟ ملوش لازمة ننكش في الكلام ده كل شويه. الدار الجديدة هتتبني زي دي بالظبط، والدار لازقه في الدار، وما فيش شبر فارق بيناتهم.
لكن صباح، واصلت السخرية بحدة، وقالت وهي تنظر لسميرة بتهكم:
ـ اني مكلّمتكيش أنتِ، يا سميرة، ولا وجهتلك كلام. خليكي يختي في كوزك لما نعوزك، ولا انتِ على طول لازم تحشري نفسك في كل كلمة أقولها؟
تنفست سميرة بعمق وقالت باستسلام:
ـ الله يجيبك ياطولة البال، اني هسكت يا صباح بس عشان اليوم يعدي على خير.
نزلت شوق بهدوء من على السلم، تساعدها إخلاص في وضع سلة الغسيل. نظرت شوق إلى صباح وقالت بلهجة هادئة، رغم آثار التعب على ملامحها:
ـ مالك يا ام راضي فيه ايه؟ هو انا اتكلمت ولا عملت حاجه؟ ولا هو اني اللي قلت اروح الدار التانيه؟ طب والله العظيم على حبّة عيني اني هروح الدار الجديده واسيب بيت العيله الكبير.
هنا تدخلت عزيزة بلطف قائلة:
ـ إيه يا شوق، إحنا يعني هنروح وهنقعد هناك نتسامر؟ ده إحنا هنروح على النوم، ومن فجر ربنا هنكون هنا بنشوف ورانا إيه. مش هنروح هناك نقعد ونتونس ونتسلى، ده هو بس سواد الليل.
صباح لم يعجبها هذا الرد، فردت بحدة قائلة:
ـ أيوه أيوه، نطقتي يا عزيزة، وطلع لكِ صوت كمان يا بَت؟
وضعت عزيزة يدها على فمها كنوع من المزاح وقالت بابتسامة:
ـ أها، قفلت حنكي أهو يا أم راضي، يكش تكوني راضية عني يا غالية!
لكن كانت شوق، متعبة من الاستفزاز المستمر، قالت بتنهدة مرهقة:
ـ وبعدين بقى يام راضي؟ هو انتي كل يوم والتاني هتستلميني بكلام ممنوش عازه؟ انا بقالي سنين في الدار دي بحاول على قد ماقدر احببك فيا بس انتي مش عايزه فانتي بقى حره، بس اني لا قلت لحد يبنيلي دار! ولا قلت حد يطلعني من هنا،وبشوقك بقى.
اقتربت منها صباح باندفاع وقالت بلهجة حادة:
ـ بشوقي يعني إيه ياشوق؟اخبط دماغي في الحيطه ومش همك يابت! خلاص يا كبرتي عليا وبقى ليكي دار؟
اه بكره تتنططي وتقولي انا رايحه داري وجايه من داري.وعلى رأي المثل يعملوها ويخيلوا.
وده كله من زنك على جوزك، و تلاقيكي ياختي دايره تقوليله الدار ضيقه علينا ياسماعيل، المقعد صغير ياسماعيل، انا عايزه مقعد اكبر من كده ياسماعيل. يقوم اسماعيل ايه بقى؟ يروح يقول لاخوه الكبير، اه ما هو ابويا حسين ما يحبش الا اسماعيل.
يقوم بقى هو يجيبها في نفسه ويقول عايزه ابني دار عشان الدار اضيقت ع الكل،وتبقي مشيتي اللي في راسك ومشيتي اللي في دماغك علينا كلاتنا.
بس لا! ده مش هيحصل ابدا طول ما اني عايشه في الدار دي، وزي ما يكون ليكي دار اني كمان من حقي يبقى ليا دار.
نظرت شوق بانفعال وقالت:
ـ يا ستي، شالله تبني صرايا على فدان، اني مالي؟ وبعدين خليكي كده حطاني في دماغك واقعدي اظلمي فيا، يمين بالله اني لا قلت لاسماعيل حاجه ولا نطقت بكلمه، وحياة عيالي اللي بترجاهم من الدنيا، وبكفاياكي بقى يا ام راضي بكفياكي ظلم فيا انا زهقت وطهقت منك ومن عمايلك معايا.
لم تتحمل صباح رد شوق وصوتها العالي، فقامت بجذبها من شعرها واشـ.ـتعل بينهما عراك. تعالت أصوات النساء وهن يحاولن الفصل بينهما، لكن الاشتباك اشتد، حتى عاد الرجال ورأوا المشهد الفوضوي أمامهم.
تدخل عبد العزيز بعصبية، وقال بصوت صارم:
ـ إيه اللي بيحصل هنا؟ هى وصلت للضر.ب كمان انتي وهي؟!
ردت صباح غا.ضبة وهي تشير لشوق:
ـ أنت جاي تز.عقلي اني؟ شوف مرت أخوك اللي لسانها طال عليا!
كانت شوق تبكي وقد تجمع حولها أطفالها، فردت بدموعها وبين شهقات قائلة:
ـ والله ما عملت حاجة، يابا عبد العزيز.. هي اللي بتظلم فيَّا وجرشا ملحتي وهى اللي هجمت عليا وضر.بتني ولو مش مصدقني! اسأل الحريم. وأسأل أم صالح.
نظر إسماعيل لزوجته بحنق وقال بغضـ.ـب مكتوم:
ـ بكفاية بُكا يا شوق، اسكتي. ومش عايز أسمع حسك. ولا تنطقي بكلمة واحدة. لاحسن وكتاب الله ماتباتي فيها الليلادي.
أسكتها كلامه، ونظرت للأرض مطيعة، وهى تجفف دموعها،في حين اقترب إسماعيل من صباح قائلاً بلهجة هادئة رغم الغضـ.ـب المتراكم:
ـ متشكرين يا مرت أخويا.متشكرين قوي.
ردت صباح بصوت عالٍ:
ـ لا شكر على واجب ياسماعيل، ما اني عارفه إنك هتحابي ليها، وعمرك ما هتصدقني.
عبد العزيز ضاق ذرعاً وقال بحزم:
ـ اسكتي يا صباح! مش عايز أسمع حسك.اكتمي انتي التانيه.
لكن صباح لم تسكت، وصر.خت بعناد:
ـ لا ياخويا مش هكتم، مش هكتم يا عبد العزيز ده بدل ما تجيبلي حقي من اللي ما تتسمى مرت اخوك؟ ده صوتها علي عليا وكان لسانها طول كده وبتشتمني ده كان ناقص كمان تديني باللي في رجليها.
شعر عبد العزيز بالحرج الشديد، وكأن كلماته اصطدمت بجدار صلد حين لم تجد لها صدى في أذنيها. قارَنَ، من دون وعي، موقفها بموقف شوق التي كانت دومًا تنصت لزوجها إسماعيل وتطيعه. شعور الإهانة تغلغل بداخله، فلم يستطع تحمله أكثر. في لحظة غضب مكبوت، مدّ يده وأمسك بذراعها بقوة، وعيناه تشتعلان بنظرة توعد قائلاً بلهجة حادة:
ـ يا وليه قلتلك اكتمي وعيب تعلي صوتك عليا، اسماعيل قال لمرته الصغيره اسكتي سمعت كلامه وسكتت وماتنتهاش. انتي بقى! هاتصغري بيا قدام اخويا الصغير ومش هتسمعي كلمتي؟عيب عليكي وعلى سنك. وفوتي قدامي على مقعدك.
لم تتقبل صباح هذا الإذلال، فشدّت زراعها وصاحت:
-أنت خايف من أخوك؟! اني بقى مبخافش من حد، ومش هسكت إلا لما أجيب حقي! يا اما تلاته بالله العظيم مقعدلك في الدار دي بعد النوبادي. اه ماهو أنا مش هبقى ملطشة الدار! للي يسوى وميسواش.
صكّ إسماعيل على نواجذه غيظًا، وهو يكتم في صدره غضبًا جامحًا تجاه صباح التي زادت في استفزازها للجميع. كان يريد أن يؤدبها، ولكن التزامه بمكانة أخيه عبد العزيز حال بينه وبين أن يفعل. على الجانب الآخر، لم يكن لعبد العزيز نفس القدرة على كبح جماح غضبه. في لحظة انفجا.ر، أشبه ببركان ظلّ خامدًا لسنوات طويلة، انهال عليها ضربًا وسط ذهول النساء.
ارتفعت أصوات الصر.اخ في الدار، وحاولت النساء التدخل لتهدئة الوضع، وهنّ يتوسلن لعبد العزيز أن يتوقف، بينما ركض إسماعيل ليفصل بينهما ويعيد السيطرة على الموقف. ولكن الضرر كان قد حدث. كانت صباح، غاضبة ومهزومة، سحبت بعض ثيابها بسرعة وخرجت من الدار بخطوات مسرعة. كان صوت صر.اخها يتردد في أنحاء البيت الكبير، فيما وقفت النساء يراقبن المشهد بحسرة، محاولات تهدئة النفوس المتأججة من حولهن.
مرت فترة طويلة منذ أن خرج حسين من المينا، وفي تلك اللحظة، وصل إلى دار العائلة، حيث استقبلته النساء بحركات متوترة وهنّ يحكين له كل ما حدث. وعندما سمع القصة كاملة، استغرق بعض الوقت جالساً في المندرة يفكر قبل أن ينادي على عبد العزيز بصوت عميق، لم يكن فيه الكثير من التساؤلات، بل كان فيه نوع من الحسم.قال حسين بنبرة حادة:
ـ عبد العزيز، تعال هنا.
في تلك اللحظة، جاء عبد العزيز وهو يظهر عليه التردد، فشعر حسين بعدم الارتياح لهذا الموقف الذي نشب بينه وبين صباح. لكن عبد العزيز قال له باستخفاف:
ـ أبا حسين! سايق عليك النبي، لو عايزني أروح أجيبها؟ مش هروح. اني خلاص زهقت منها ومن طولة لسانها اللي عامل زي الفرجّله.
كان حسين يدرك تمامًا أن هذا ليس وقت الجدل، فهو يشعر بعمق ألم أخيه ورد عليه بصوت منخفض وقوي:
ـ لا، اني مش جايبك عشان إكده. ومش عايزك تروح تجيبها لا اليوم ولا لشهر قدام كمان، إيه رأيك بقى!
لكن عبد العزيز، كما هو عادته، لم يلتزم الصمت وقال:
ـ ياريت، ياريت كمان تقول لسنين طويله إن شاء الله، ويكون أحسن بقى؟ لو طلقتها وريحت بالي من زنها.
حسين تنفس بعمق، كما لو كان يزن الأمور في ذهنه، ثم نظر لعبد العزيز وقال:
ـ كلمة طلاق متتقالش في دارنا يا عبد العزيز، وعيب على شنبك اللي في وشك دِه، ده كلام خايب للراجل الخايب اللي ميعرفش يشيل المسؤوليه كيف ما كانت، اللي يحب يهرب قبل ما يقف في وش الريح.
صمت عبد العزيز ولم ينطق بكلمة، فقد كان داخله يغلي من التناقض، فهو لم يقتنع بما قاله حسين. زوجته صباح لم تكن كغيرها من النساء، كانت ذات طبع لا يحتمل، ولا تعرف الهدوء أو التسامح.
لاحظ حسين شرود أخيه وفهم ما يدور في ذهنه دون أن يسأله. اقترب منه وقال بصوت هادئ لكن يحمل في طياته حزمًا:
ـ اني عارف إن مرتك مش سهلة، وعارف كمان إنها ساعات تحشر نفسها في اللي ملهاش فيه ،بس نرجع ونقول دي حُرمه و في الأول والآخر الراجل اللي بيتحكم فيها. ويضحك على عقلها بالكلمه الحلوه، بتكبير الدماغ.
ثم نظر إليه وقرر أن يفتح عينيه بطريقة غير مباشرة. وأيضاً يلقي عليه اللوم،جلس في مكانه وأخذ يقلب بين كفيه وكأنه يفكر بصوت مسموع:
ـ مش يفضل ساكت ساكت مطاطي براسه ليها وبكيفه كيف البغله العرجه وياجي في الآخر ينطح ويضر.ب اللي ياجي في وشه. الراجل الصح هو اللي يمشي بيته زي الساعه ومن غير ظلم لا ليه ولا لأهل بيته.
كبح عبد العزيز اعتراضه ونظر بعيدا،فهم حسين أن الموقف يتطلب حزمًا، فألقى بكلماته وكأنه يلقي بحجر ثقيل في بركة راكدة، وقال بنبرة جادة:
ـ بص يا عبد العزيز،اني هقولهالك ومن الآخر. اللي أنت فيه ده؟ أنت السبب فيه. لما الراجل يسيب الحبل على الغارب من الأول، يبقى لازم يتحمل اللي يحصل بعد كده. أنت اللي خلتها تتمادى وتنفش ريشها عليك، لأنك ما حطتش حدود من زمن الزمن. ماتيجيش تلومها دلوقتي، لوم نفسك الأول.
شعر عبد العزيز بوخز الكلمات، فهم مغزاها لكنه اختار ألا يرد. ظل صامتًا، وعيناه موجهتان للأرض، بينما أكمل حسين بحدة:
ـ يعني أنت ياخويا يابن امي وابويا، اللي خليتها تحس إنك مش راجل البيت، وإن كلامها يمشي زي ما هي عايزة. كان لازمن توقفها عند حدها من زمان قوي قوي، بس أنت سايب الدنيا سداح مداح لحد ما وصلت لاكده. واللي بيزرع الريح ياعبد العزيز، يحصد العاصفة ياخويا.
ثم وقف حسين وسار بضع خطوات وكأنه يحاول تهدئة أعصابه، ثم التفت مجددًا:
ـ عارف ان كلامي تقيل وشديد عليك، واني مش بقول كده عشان أزودها عليك،اني عارف إنك طيب وجدع وبتكبر راسك،بس لازم تبقى فاهم.الحريم لو ما حسوش إن فيه حد ماسك زمام الأمور وياهم، هيفرضوا كلمتهم. ايوه متبصليش أكده ياولا، هي دي الحقيقة، وأنت اللي لازم تعدل المايل معاك من دلوقتي، النهادره الحريم ضربوا بعض! ويعالم بكره إيه اللي يحصل بعد أكده.
لم يستطع عبد العزيز الرد، وظل جالسًا في مكانه، يشعر بأن كلمات حسين أصابت موضع الألم داخله. كان يدرك تمامًا أن المشكلة لا تكمن فقط في الخلافات اليومية، بل في طبيعة زوجته التي لا تحتمل أي ضغط أو توجيه، مما جعله يشعر بالعجز أحيانًا. لكن حسين، بفطنته وخبرته، قرأ ما يجول في خاطر أخيه، فحاول أن يخفف عنه قائلاً:
ـ خلاص، ما تشغلش بالك. كل حاجة هتتحل وهتبقى زي الفل، وفي الأول والأخير ده شغل حريم ماسخ.
وقف عبد العزيز أخيرًا، وجهه مشحون بالعبوس والحزن، وكأن الهموم تثقل على كاهله، ثم قال بنبرة مختنقة:
ـ اني هروح أقعد في الجنينه شوية لروحي، حاسس إن دماغي تقيلة ومش قادر أتحمل الكلام ده كله.
لكن حسين لم يسمح له بالانسياق وراء مشاعره أو الغر.ق في الحز.ن، فبادر بحزم ممزوج بالثقة:
ـ لا، ما فيش قعاد لروحك، مش فاضيين للكلام الفاضي دِه، اني عاوزك في مصلحة أهم من أي حاجة. تطلع تاخد حمولة السوداني، اللي جار الجنينه، ووديها لدار أبو عشري. هيديك عليها 30 جنيه. تجيبهم وتاجي.
لم يجد عبد العزيز مفرًا من الانصياع، فتنهد باستسلام وقال:
ـ حاضر، حاضر يابا حسين.
غادر عبد العزيز المندره ، بينما كان حسين يراقبه بعين الأخ الأكبر، الحريص على حماية أخوته واستقرار العائلة. في داخله كان حسين يعرف أن ما يفعله ليس مجرد تصريف للأمور اليومية، بل هو محاولة لترسيخ الانضباط في البيت الكبير الذي طالما حمل مسؤولية الحفاظ على تماسكه.
كان يسير عبد العزيز نحو الحمولة لينفذ ما طُلب منه، بينما بقي حسين جالسًا مكانه، يبدو عليه الهدوء الظاهر، لكن داخله كان يغلي بالتفكير. لم يكن ما يحدث أمامه مجرد مشكلة بين عبد العزيز وزوجته صباح؛ بل رأى فيه شر.ارة قد تشعل نا.رًا تهدد استقرار البيت الكبير بأسره.
حسين، الذي حمل مسؤولية العائلة منذ صغره، أدرك أن استقرار هذا الكيان يتطلب الحكمة أكثر من القوة، والصبر أكثر من الانفعال. نظر إلى ظهر عبد العزيز وهو يبتعد، وفكر بعمق: لو سابت الدنيا أكتر من كده، العيلة كلها ممكن تتفكك. وبنت الرفدي دي مش ناويه تجيبها لبر وتبطل جنان، عاوزه دار بروحها بنت ابو زاكي! آه لو أبويا الحج كان هنا وسمع المساخر دي؟ تلاته بالله العظيم مكان عدا الموضوع ده على خير أبدا، وبعدين في الورطه دي ياربي، اتصرف كيف بس؟ دي أمي الحاجه لو شمت بس خبر باللي حصل ده مش بعيد كانت تروح فيها، دي روحها في الدار ودوشتها، مايحلاش يومها من غير احفادها اما يكونوا بيجروا حواليها وجارها، ده ترابط العيله عندها اهم من الوكل والشرب ليها.
نظر حسين حوله، عيناه تبحثان عن حل وسط يحفظ التوازن. كان يعلم أن أي خطوة خاطئة قد تجعل النساء الأخريات في البيت يبدأن بطلبات مشابهة، وكل واحدة تسعى للاستقلال بدارها:- وبعدهالك يا صباح؟ ده مش بعيد كل حريم الدار بعد أكده عينيها تتفتح وكل واحده تعمل زيك وتقول عاوزه دار لروحها! لاه، لاه، مش معقول تعب عمري كله انا وأمي وابوي يتبعتر بسبب حرمه على آخر الزمن، لازم الكل يفهم إن البيت ده ليه نظام، ولو كل واحد عمل اللي في دماغه. ولو كل واحد قرر يمشي على هواه، تعب العمر كله هيضيع.
رغم الأفكار التي تدور في رأسه، أبقى حسين تعابير وجهه هادئة، متحكمًا في انفعالاته. بدا كجبل صامد أمام رياح المشاكل، يزن كلماته بميزان دقيق، محاولًا أن يحافظ على الرابط الذي يربط العائلة ببعضها، مهما اشتدت التحديات.