رواية بقايا عطر عتيق الفصل الخامس عشر 15 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل الخامس عشر بقلم مريم نصار 

جلس إسماعيل على حافة السرير في غرفته، يضع رأسه بين يديه، وكأن ثِقل العالم كله قد استقر فوق كتفيه. كان قلبه مشتعلاً، مزيجاً غريباً من الغضب والخذلان. لم يكن يتخيل يومًا أن تصل الأمور بين أهل بيته إلى هذا الحد.

ـ مراتي انضر.بت!، كان هذا الصوت يتردد في عقله كأنما يعيد تشكيل مشاعره. شعر بالغضب لكرامته التي دُهست، ولزوجته التي بكت بين يديه وهي تشتكي مرارة ما حدث لها من صباح وطيغا.نها المستمر عليها. لكنها فقط لم تكن مجرد مسألة كرامة؛ كان هناك ما هو أعمق، ألم دفين تجاه شقيقه عبد العزيز، ومع ذلك، كلما فكّر في المواجهة، ظهرت صورة عبد العزيز في ذهنه. محدثاً نفسه:-أخويا الكبير. عبد العزيز دِه اللي علمني كيف أكون راجل، هو اللي وقف معاي في كل مصيـ.ـبه كنت اعملها ويداري عليا. إزاي اقف قصاده واقوله لم أهل بيتك! لاه ينقـ.ـطع لساني يوم ما افكر اقف قصاده واعدّل عليه، لم يستطع أن يتجاهل هذا الإحساس العميق بالولاء لأخيه، لكنه أيضًا لم يستطع أن يترك الموقف يمر دون حساب.

كان عقله يُصارع قلبه. كلماته تتجمد في حلقه بين الدفاع عن زوجته ومراعاة شقيقه. أراد أن يحفظ حقها، لكنه أيضًا لم يكن مستعدًا لخسارة أخيه الذي كان له بمنزلة السند.

زفر بقوة، قام من مكانه واتجه إلى النافذة، متكئًا على الجدار، ينظر إلى شوق بنظرة مزيجها غضب وعتاب. كانت شوق تجلس على طرف السرير، عاقدة ذراعيها وكأنها تحتمي بهما من سيل لومه. حين تحدث كان صوته منخفضًا لكن حادًا كالسيف وهو يقول:

ـ اللي عملتيه دِه غلط كبير منك ياشوق، مكنش ينفع مهما حصل  تقفي قصاد مرت اخويا ولا تمدي إيدك عليها.

رفعت شوق رأسها بحدة، وقالت بصوت مسموع مليء بالغضب:

ـ وهو اني عملت كده بمزاجي ياسماعيل! ولا هى كانت واقفة ساكتة؟! ماهي اللي بدأت الأول ، دي شتمتني قدام الكل! وجابتني من شعري، عاوزني أعمل إيه يعني؟ أسكتلها؟

اقترب إسماعيل منها بخطوات حادة، وصوته يعلو قليلًا:

ـ شتمتك؟ ماشي. ليها راجل يترد عليه، بس تمدي إيدك؟ وعلى مرت اخوي الكبير كمان لاه، دي محصلتش واصل. ولا انتي عاوزه الناس تقول مرت إسماعيل ابو قاسم اتفرعنت فيها؟

نظرت بعيداً وقالت: 
ـ أهو اللي حصل بقى، أنت عارف اني مش كده ابدا، بس إن جيت للحق هي تستاهل، وبعدين اني مالي إن كان ابويا الحج هو اللي شرط علينا نقعد في الدار الجديده، هو حد يقدر يقول لاه على حاجه في الدار دي؟ دي حسستني إني اللي قولت لابويا الحج ابنيلي دار لروحي. دي مصيـ.ـبة ايه دي؟ وتقولي اني اللي غلطانه؟ ليه معنديش كرامه يعني عشان استحمل عمايلها دي؟

تنهد إسماعيل بعمق، محاولًا أن يهدأ، ثم وضع يديه على كتفيها بلطف، ونظر في عينيها مباشرة:

ـ يابنت الناس كرامتك على عيني وراسي، لكن الكرامة متتصانش بالعناد ونشوفية العقل. دي مرات أخويا الكبير، وأني مش عاوز مشاكل في الدار! الكل هنا عارف صباح على ايه وعارفينك على ايه. كان لازم تتطولي بالك شوية ياشوق.

نظرت شوق إليه بنظرة مليئة بالاستفهام وقالت بحزم:

ـ هو اني اللي بعمل مشاكل في الدار ياسماعيل؟ ولا اني قصادها حتى؟داني أكتر واحده متحملاها ومتحمله عمايلها فيا. اني طولت بالي بما فيه الكفاية. 

رد عليها إسماعيل، محاولًا أن يخفف من حدة الموقف:

ـ وامي الحاجه بتنصفك في الآخر ياشوق، خلاصة القول اسمعيني زين. أخويا عبد العزيز الله يكون في عونه متحمل واحده مش طايقها مش هنبقى إحنا كمان عليه. 

تنهدت بحزن على حال عبد العزيز موافقه لحديث زوجها واكمل اسماعيل قائلا:

ـ عايزك تقومي. وتروحي تعتذري لعبد العزيز، عشان نطفي النا.ر دي قبل ما تكبر. انتي متعرفيش ده صابر معاها على تكه.

ردت شوق بحدة، كما لو أن الكلمات خرجت منها دون تفكير:

ـ ينهار اسو.د عايزني اتأسف على حاجه اني مش غلطانه فيها ياسماعيل؟ عايزني اضيع حقي؟

ـ شوق!

قالها إسماعيل بحدة، لكن صوته انخفض سريعًا وهو يكمل بنبرة أكثر هدوءًا:
ـ اني مش بقولك سيبي حقك، وحقك هيرجع، وبعدين انتي عاوزه ايه اللي يحصل تاني، ماهو ضر.بها لما شبعها ضر.ب وسابت الدار وطفشت، إيه عاوزاها تتطلق؟ والدار تخر.ب؟قومي فزي اسمعي الكلام اومال.

لم يكن هناك جواب فوري، بل خيمت فترة من الصمت بينهما، ثم قالت شوق بصوت خافت وهي ترفع يديها بإستسلام:
ـ ماشي، ياسماعيل هطلع احب على راسه كمان، اني لا خر.ابة بيوت ولا بحب المشاكل من أصله.

وقبل أن يرد إسماعيل، سُمع صوت طرق سريع على الباب. فتحه إسماعيل ليجد أحد أولاد العائلة يقف هناك، وجهه يبدو عليه القلق.

ـ أبا إسماعيل، ابويا حسين عاوزك في المندرة دلوقتي. 

في المندرة، كان حسين جالسًا على كرسيه الخشبي العريض، عينيه تعكسان صرامة المعتادين على قيادة البيت الكبير. دخل إسماعيل بخطوات مترددة، لكنه حاول أن يبدو ثابتًا.

ـ تعالى اقعد يا إسماعيل.

قالها حسين بصوت هادئ لكنه مليء بالهيبة.

جلس إسماعيل على الكرسي المقابل، منتظرًا حديثه. لم يطل الانتظار، إذ بدأ حسين حديثه بنبرة صارمة:

ـ اسمعني زين ياسماعيل، البيت الكبير دِه ليه نظام، ولو كل واحد عمل اللي في دماغه، هنضيع واحد ورا التاني. واخوك عبد العزيز كبيرك، واحترامه من احترامي. مينفعش ترفع حسك عليه، ولا توجه له كلمة، لا هو ولا مراته.

حاول إسماعيل أن يتكلم مدافعاً عن نفسه، لكن حسين قاطعه بحزم:

ـ اني لسه ما خلصتش كلامي! صباح غلطت، ومراتك غلطت. يعني ده شغل حريم، بره عنك وعن عبدالعزيز ،يعني الرجالة مالهاش دعوة واصل. بس لو سمعت إنك اتدخلت في الموضوع ده، تبقى بتكسر كلامي، وتقلل من مقام أخوك. الكبير كبير، واحترامه واجب عليك وعلى الكل!

قام إسماعيل من مكانة وجلس بالقرب من حسين، يتحدث بهدوء محاولًا كبح غضبه ووزن كلماته بعناية، وهو يدرك أن أي انفعال قد يُفسر خطأ. رفع رأسه قليلاً ونظر إلى حسين بعينين غلب عليهما مزيج من الألم والاحترام، قبل أن يقول:

ـ انت بتوصيني على حاجه معروفه يابا الحاج؟ أخويا عبد العزيز على عيني وعلى راسي، وعمري ما أفكر لا دلوقتي ولا بعد ١٠٠ سنه إني اعاتبه ولا أقوله كلمه تعيب في حقه،واني عارف إنك هتجيبلي حقي، ودريان إنك عارف مين الغلطان. وأني هسكت، مش عشان ضعيف، لا، عشان خاطر غربة أبوي وامي. ماهو ماينفعش الحج والحاجة لما يغيبوا عن الدار؟ نقوم إحنا ناكل في بعض، وهسكت كمان علشان خاطرك انت، وخاطر عبد العزيز.ماهو مش حرمه اللي تخسرني أخويا. على آخر الزمن. 

تأمل حسين وجه أخيه، ثم ضربه برفق على كتفه بابتسامة تحمل في طياتها تقديرًا صادقًا وقال:

ـ براوه عليك يا إسماعيل. راجل، راجل من ضهر راجل. اسمعني بقى، روح شيل الحموله مع أخوك، ساعده فيها، واتسامر وياه... وغير معاه الموضوع. وبينله إنك مش متضايق.فاهم ياواد؟

نهض إسماعيل من مجلسه برأس مرفوع، وقد شعر بثقل المسؤولية يخف قليلاً عن كاهله، لكنه كان يعرف أن الأمور لم تنتهِ بعد: 
ـ فاهم يابا الحاج. فاهم.

كانت الشمس تتوسط السماء، وعبد العزيز منهمك في ترتيب الحمولة فوق العربة، ينقل الأكياس الثقيلة بعزم، لكن التعب واضح في حركاته. فجأة، وقفت شوق أمامه، مكسورة الخاطر، وعيناها ممتلئتان بالندم. ترددت قليلاً قبل أن تتحدث بصوت هادئ:

ـ ابا عبد العزيز ، والله ما كنت أقصد، ولا أعرف إن كل ده هيحصل من ورايا، اني محقوقالك، واللي تحكم بيه عليا اني راضيه بيه.

توقف عبد العزيز عن عمله، رفع عينيه ونظر إليها بصمت للحظة قبل أن يقول بصوت منخفض يشوبه العتاب:

ـ إنتِ اللي جايّة برجليكي كمان علشان تطيّبي خاطري؟ هو مين اللي يقول لمين محقوقلك يا شوق؟

تلعثمت شوق قليلاً، ثم ردت بإصرار:

ـ اني اللي أجي وأقولك حقك عليّا من هنا للسنة الجاية. طبعاً اومال ايه؟ داني مكسوفة قوي منك ومن اللي حصل، بس تلاته بالله العظيم غصب عني، وخلاص بقى ما تزعلش ولا تشيل في قلبك مني.

عبد العزيز تنهد ونظر بعيداً وهو يقول:

ـ بكفياكي يا شوق، بكفياكي تحسسيني إني عيّل صغير. صباح مرتي هي اللي غلطت في حقك، وأم صالح قالتلي على كل حاجة، وإني اللي بقولك، حقك عليّا انتي وجوزك. اني عارفها من زمان قوي ودايق مرارها وده مش جديد عليها.

حاولت شوق طمأنته سريعاً وقالت:

ـ إيه الكلام ده بس؟ مفيش حق ولا حاجه. وما تشيلش همنا، إحنا مش زعلانين والله، ده حتى اسماعيل جوزي. شايل همك ويقولي إلا اخويا عبد العزيز ياشوق، دي الدنيا بحالها في كفه وغلاوة أخويا ده في كفه لروحه، شاله ماتتحرموا العمر كله من بعض يارب.

ثم صمتت لثواني ونظرت إليه في ارتباك وقلق وهى تقول: 
ـ وليا طلب عندك يابا عبد العزيز ، الهي يسترك، تروح تراضي مرتك وترجّعها على الدار.عشان خاطر العيال.

نظر اليها عبد العزيز بعينين حادتين، والغضب يشتعل في صوته:
ـ انتي انهبلتي إياك يا شوق؟ إني مش هروح أجيبها ولا رايدها. اني مبقتش قادر على بلاويها. دي عامله زي الراديون مبتفصلش يخر.بتها. لاه كده أحسن خليني أريحلي سنتين تلاته كده من غيرها، خلي الدار تعمر.وكمان دار إيه اللي صباح عايزاها لروحها دي؟ دي كانت بتنام في عشة من الخوص، جاية تتنطط علينا دلوقت؟ الله يرحم يا بنت أبو زاكي.

كان واضحاً أن كلماته تحمل الكثير من المرارة، وأنه غير مستعد للتراجع عن قراره.

في هذه اللحظة، أقترب منهم إسماعيل ووقف أمامهم، ناظرًا إلى شوق بعتاب مصطنع وهو يقول بنبرة مرحة:

ـ واقفة مع أبوكِ عبد العزيز بتعملي إيه يا بت يا شوق؟ ده بدل ما تشيلي معاه الحمولة وتساعديه فيها؟

ابتسمت شوق وقالت وهي تضحك:

ـ وماله، أشيل معاه وعنه وأريّحه كمان. ده أبويا عبد العزيز، نوّارة الكفر والله. الدار متحلاش إلا بيه.

ضحك إسماعيل وقال:
ـ طيب يختي، يلا روحي اعملي لنا دور شاي بالنعناع. نشربه ونروق اني وابوكي عبد العزيز.

ابتسمت شوق بخجل وهرولت إلى المطبخ لتجهز الشاي.

نظر إسماعيل إلى عبد العزيز وتقدم ليساعده في رفع أحد الأكياس وقال:

ـ إيه يا عبد العزيز، ضارب بوز كده ليه؟ هتفضل شايل طاجن ستك كده لحد إمتى؟

ابتسم عبد العزيز بإحراج وقال:

ـ إني مش عارف أقولك إيه ياسماعيل، بعد اللي حصل.وشي في الأرض منك متزعلش ياخوي.

ضحك إسماعيل وربت على كتفه قائلاً بمزاح:

ـ أزعل من إيه يا راجل؟ ده المفروض كلنا نقف جارك، ونواسيك. دانت طلعت متجوز حيل يا راجل. الله يكون في عونك.

ابتسم عبد العزيز بمرارة وقال:

ـ آمال أنت مفكر إيه ياخويا؟ داني شايل في قلبي كتير. وساكت.

رد إسماعيل ممازحاً:
ـ ولا كتير ولا حاجة. بس تصدق إن الدار ملهاش حس من غير مرتك صباح؟

قاطعه عبد العزيز بسرعة:

ـ يا شيخ اتلهي واكتم، جيبلنا سيرة غير دي.

ضحك إسماعيل وقال:

ـ طب والله، الدار ملهاش لازمة من غيرها. إزاي هنعيش في أمان كده ومحدش هينكد على حد؟ إنت لازمن تروح تجيبها عشان تعدل موازين الدار.

انفجر الاثنان في الضحك، وكأنهما نسيا ما كان يثقل قلب عبد العزيز للحظة. في تلك الأثناء، عادت شوق تحمل صينية الشاي وتضعها أمامهما بحذر، قائلة بابتسامة دافئة:
ـ يلا يا رجّالة، الشاي سخن، وجبتلكم قرصتين لسه طازه، بألف هنا.

جلس عبد العزيز وبجواره أخيه الأصغر، وتشاركوا لحظات من الضحك والهدوء، كأن عبء المشاكل خف قليلاً بفضل تلك اللحظة العائلية البسيطة.
كان حسين يراقب المشهد من بعيد، عينيه تتابعان إسماعيل وهو يهون على اخيه عبد العزيز. لمعت في وجهه ابتسامة هادئة، وكأنه وجد في تصرفات أخيه ما يطمئنه ويؤكد له أن الد.م يظل أقوى من أي خلاف.

بدون أن يقول كلمة، استدار حسين ومشى بخطوات ثابتة نحو الحقل، يترك خلفه إخوةً يداوون جراحهم بالصبر والاحترام.

كان الجو في بيت الحاج زكي والد صباح مشحو.نًا بالغـ.ـضب واللوم. صباح، جالسة في منتصف المندره، يعلو صوتها ويتردد صداه في أرجاء المكان. لم تهدأ منذ أن دخلت البيت غاضبة، تُلقي باللوم على الجميع، وكأن العالم كله تآمر ضدها. أما الحاج زكي، فكان جالسًا على مقعد خشبي قديم بجوار النافذة، يهز رأسه بحسرة وهو يحاول استيعاب ما تقوله.

ـ آه يا نا.ري، بقى كده ياعبد العزيز؟ تمد إيدك عليا وقدام الحريم؟ آه زمانهم فرحانين فيا وشمتانين كمان.

ثم نظرت لوالدها الذي ما زال صامتاً وصاحت صباح، وهي تضر.ب على فخذ.يها بغضب: 

ـ إنتوا إيه كلكوا متفقين عليا؟ اني بس اللي طلعت شينة وقلبي أسو.د في الآخر؟

أجابها الحاج زكي بحزم، محاولًا أن يُثنيها عن غضـ.ـبها:

ـ انتي غلطانة والحق راكبك من راسك لرجليكي! بقى يا كبيرة يا عاقلة تمدي إيدك على سلفتك! وكل ده ليه؟ علشان الدار؟ طيب وهي مالها وفي إيدها إيه تعمله؟

نظرت إليه صباح بعينين متسعتين من الغضـ.ـب، وقالت:

ـ في إيدها كتير! كانت تقولهم الدار الجديدة دي؟ المفروض يقعدوا فيها الكبار، مش هما بتوع امبارح! إني اللي عندي خمس عيال، المفروض الدار تبقى ليا، اني.

هز الحاج زكي رأسه بيأس، وقال بنبرة مثقلة بالحزن:

ـ واشمعنى انتي الدار تبقى ليكي؟ ليه متبقاش بتاعة أم صالح ولا مرت سعد؟ ليه انتي بالذات يا صباح؟

ردت صباح بصوتٍ متقطع من الغضب والانفعال:

ـ علشان اني أم لخمس عيال، وبنتي ع وش جواز، وإخلاص معاها أربعة بس. أما زفت الطين سميرة، بناتها الاتنين اتجوزوا، وصالح في البندر هو وأخوه، مفيش وياها غير البت نعمة. و وفاء مش عاوزه الدار، يبقى مين أولى؟ إني ولا هما؟

تنهد الحاج زكي وحاول أن يُبقي على صبره، ثم قال بنبرة هادئة ولكن حازمة:

ـ الأولىَ حسين الكبير يا صباح. كبير الدار هو اللي ليه الحق ينقل في دار جديدة. الحج حسين هو اللي كبر إخواته ووقف جارهم، مسابهمش دقيقة واحدة ولا بعد عنهم. ماشي بيهم كيف الحيط السد، ومحابي عليهم.

ثم أضاف، محاولًا أن يلطف الأجواء:

ـ يا بنتي، يابنتي اخزي الشيطا.ن وبلاش تخليه يضحك عليكي. دار الحج عبد الرحيم أبو قاسم، أكبر دار في البلد كلها. وناس أنعم وأكرم ومفيش منهم ولا في أخلاقهم ومعشارينهم من زمن الزمن. ناس ما عندهمش العيبة أبدًا، وبيحترموني كلهم. هاتاجي انتي على آخر الزمن؟تقللي مني قدامهم؟ اخزي الشيطا.ن وقومي وروحي على دارك.

لكن صباح لم تهدأ، بل صاحت بصوت مرتفع، والدموع تلمع في عينيها:

ـ ينهار أسو.د! عاوزني أرجع الدار بعد ماجوزي ضر.بني ومد إيده عليا! قدام أهل الدار؟آه يا نا.ري! ماشي يا عبد العزيز، بقى انت بترفع عليا يدك وبتضر.بني! ده لا كان ولا هيكون أبدًا. ومش هرجع إلا ما ياجي لحد هنا ويترجاني ويجبلي حقي. إني مش قليلة علشان يدوسوا عليا كده.

فقد الحاج زكي صبره أخيرًا، وضرب الأرض بعصاه بغضب، وقال بصوت عالٍ:

ـ وهو حد يقدر يدوس عليكي؟ دانتي عاملة زي القشاش، دايسة على الكل! خليكي كده قاعدة جاري، عايزة حقك قال! ده لو بس حد منهم خبط عليا  يبقى كويس وكتر خيرهم.

ثم أشار إليها بيده وهو يشيح بوجهه عنها:

ـ قومي، قومي من وشي! ما تجيش وفي إيدك خير أبدًا، لأ جاية ضا.ربة اللي في الدار. ده الله يكون في عونهم منك.

نفخت صباح بغضب، ورفعت يديها إلى السماء وهي تدعو على نفسها بحرقة، قبل أن تترك الغرفة وتدخل غرفتها بعنف، مغلقة الباب خلفها بشدة، تاركة الحاج زكي جالسًا في مكانه، ينظر نحو الباب المغلق بحسرة ويهز رأسه بأسى.

في الصباح الباكر عند الحنفية العمومية، كانت زينب وفاطمة تملآن جِرار الماء وتتناقلان الحديث بينهما. كان الجو هادئًا، لا يُقطعه سوى صوت تدفق الماء ووقع الأقدام على الأرض المبتلة.

فاطمة، وهي تنقل الجرة الممتلئة إلى الأرض، نظرت إلى زينب بحزنٍ، ثم قالت بصوت منخفض:

ـ "شوفتي يا زينب، صباح عملت إيه في دار أبوكي عَشيه؟ محدش بيعرف يكسبها أبدًا، خر.بت الدنيا في الدار، ونكدت على أبويا عبد العزيز. وفي الآخر سابت الدار ومشيت غضبانه؟

زينب، التي كانت مشغولة بفتح جرة أخرى لتملأها، التفتت إلى فاطمة وأجابتها بصوتٍ خافت، وكأنها تشعر بثقل الكلمات:

ـ شوفت، شوفت يختي وعرفت، وهى صباح دي وراها حاجة غير جر الشكل والمصا.يب؟ دي مش هتهمد ولا هترتاح غير لما تشوف إخواتنا الرجالة بياكلوا في بعض، الشـ.ـر بره وبعيد يارب.

ثم أضافت زينب باسي، وعيناها مليئة بالحزن:

ـ والله يا فاطمة، الدار من غير أبويا وامي ملهاش حس ولا روح. وقولت السلايف هتحابي على بعض، ونعيش في سلام، بس نسيت إن وسطينا عايشة صباح.

فاطمة أكملت حديثها بتنهيدة ثقيلة، عينيها تبتعدان في الفراغ، وكأن الذكريات تلاحقها:

ـ اللي زي صباح كتير يا زينب، موجودين في كل دار، بس ربك كبير إن شاء الله ويرجع حق أخويا عبد العزيز، اللي يشوفه يقول عليه هو الكبير البكري من الهم والغم اللي عايش فيه.

زينب ردت برقة، تحاول أن تخفف من وقع الكلمات:

ـ آه والله يا فاطمة، بيصعب عليا. كبر قبل أوانه، بس إن جيتي للحق؟ هو اللي وصل روحه للي هو فيه دلوقتي. لو كان شكمها من الأول مكنش كل ده حصل.

فاطمة، التي كانت تراقب الأرض أمامها، رفعت رأسها وقالت بنبرة حزينة:

ـ يعني هو ده جزاة الراجل الطيب يا زينب؟ أخويا قلبه أبيض زي الحليب، عمره ما بيشيل من الغريب، يقوم هيشيل من مرته أم عياله؟ واحدة غير صباح دي؟ تحمد ربها إنها عندها راجل طيب وبيصبر عليها. بس نقول إيه؟ نصيبه أكده.

زينب هزت رأسها في صمت، ثم قالت بهدوء:

ـ على قولك نصيب، وكل واحد فيه اللي مكفيه. والناس مبقتش ناقصة كلام ولا مشاكل. وصباح هتتجازى على اللي عملته. أبويا حسين مش هيعدي ده بالساهل أبدًا. ده محرج علينا كلنا من كبيرنا لصغيرنا ماحد فينا يهوب ولا يخطى ناحية دارها، واللي هيكـ.ـسر كلامه هتبقى ايامه ملهاش ملامح، الله يجازيها كان المفروض تحترم نفسها شوية وتسيب الدار تعيش في حالها.

فاطمة هزت رأسها بامتعاض، وقالت بصوتٍ منخفض:

ـ أيوه، بس هى تمرض لو سكتت وقفلت حنكها شوية من غير ما تعمل مصيبة. بس يلا، ربنا يهدي. إحنا ما لناش دعوة بحد. منحبش نجيب سيرة الناس، ربنا يهدي الجميع.

ثم تذكرت شيئًا فجأة، وابتسمت بخفة، قبل أن تسأل زينب بتلهف:

ـ إلا قوليلي، صحيح  الواد صالح عامل إيه؟ هيجي إمتى من البندر؟ متوحشاه قوي، قوي.

 ابتسمت ابتسامة خفيفة، وردت بصوتٍ هادئ:

ـ زمانه قرب من البلد. أصل سي حسانين، جوزي، قالي إنه ركب من فجر الله وجاي في الطريق. يا ريت ياجي بسرعة هو اللي هيهون على عمه شويه.

فاطمة أطلقت تنهيدة طويلة وقالت بتمنٍ:

ـ إن شاء الله. ويجيب العواقب سليمة يارب.

أكملتا ملء الجرار بصمت، كأن كل واحدة غارقة في أفكارها الخاصة. ثم، ببطء، رفعن الأوعية الثقيلة على رؤوسهنّ، وعادتا باتجاه المنازل، تودعان بعضهما البعض حتى صباحٍ آخر.

كان حسين يجلس تحت شجرة العنب، في المكان الذي كان والده يفضله، يحتسي كوب الشاي برتابة وهدوء. النسيم الخفيف يمر عبر الأوراق، بينما يمتزج صمت الصباح بصوت بعيد لعصافير تغني أغنيتها اليومية. من بعيد، لمحت سميرة زوجها، واتجهت نحوه بخطوات قلقة. كانت ملامح وجهها تقول الكثير قبل أن تنطق، عيناها تحملان مزيجًا من التوتر والحيرة.

جلس حسين بلا حركة، يراقبها بهدوء قبل أن يأخذ رشفة من كوب الشاي، ثم قال وهو ينظر للأفق الأخضر أمامه:

ـ مالك ياوليه على الصبح؟ جايه وشك مقلوب ليه؟

تنهدت سميره، وكأنها تحاول أن تهدئ من روعها قبل أن تقول بصوت متوتر:

ـ اني بس قلقانة على الدار واللي فيها يسي حسين. مش كان المفروض برضو؟ تقول لعبد العزيز أخوك يعقل ويروح يجيب مرته؟

رد حسين بنبرة واثقة، وهو يضع الكوب بجانبه:

ـ سبيها بظروفها يام صالح، اني عارف اني بعمل إيه كويس، ومش عايز حد يدخل في اللي ملهوش فيه.

ارتبكت قليلاً، ثم تحاول الدفاع عن رأيها قائلة:

ـ اني قصدي الخير يابو صالح. أخوك هو اللي هيتعب لروحه، الكل هنا قاعد مع مرته إلا هو، ومحدش داري باللي جواه، يا كبدي عليه.

رد حسين بحزم، وصوته يحمل صلابة القرارات التي لا تقبل الجدل:

ـ مرته دي لازم تتربى. اللي تفكر تمد إيدها على حرمة تانية في الدار، يبقى تستاهل اللي يحصل لها. وترفع صوتها على جوزها؟! دي باين القيامه هتقوم ولا إيه؟ وبعدين هو اني مش قولت محدش يتدخل في اللي ملهوش فيه؟ ولا عاوزه تحصليها انتي التانيه؟

حركت رأسها بخوف وقلق، ثم اجابته سريعًا:

ـ خلاص يا خويا، لا أحصلها ولا تحصلني. اللي شايفه صح يتعمل. أمال إيه؟

هدأ حسين قليلاً، ثم سألها وهو يحاول تغيير الموضوع:

ـ طمنيني على البت عيشة، الحكيمة ما قالتلكيش هتولد إمتى؟

ابتسمت سميرة، وكأن الحديث عن ابنتها أزاح جزءًا من قلقها، وقالت بنبرة هادئة:

ـ ما تخافش عليها، بنتك طالعة لامها، جبل ما يهزوش ريح. والحكيمة قالت بالكتير سبوع او اتنين وتولد. والله وهتبقى جد يابو صالح.

ارتسمت ابتسامة دافئة على وجه حسين، وهو يمرر يده على لحيته قائلاً بضحكة خافتة:

ـ العيال هتكبرني ولا إيه يا وِليه؟

ضحكت سميرة، وأجابت بمرح:

ـ يوه؟ فشر، ده انت أصغر من صالح ولدك. داني لو وقفتك كده جار خواتك، هتبقى أنت أصباهم. اسم الله عليك، الله يحرسك.

ضحك زوجها وكانت كلمات سميرة مليئة بالحب والدعاء الصادق، مما خفف عن حسين قليلاً من حمل الأيام الثقيلة. أشار لها لتجلس بجواره، وتأمل وجهها الذي كان يشع بالإخلاص، وقال بنبرة تجمع بين الجد والمزاح:

ـ اسمعي يا سميرة.

رفعت عينيها إليه باهتمام قائلة:

ـ نعمين يا خويا.

نظر إليها بحنان الأب الذي لا يريد سوى راحة أولاده:

ـ إنتِ بمشيئة الرحمن هتروحي لبِتك من قبل ما تولد بليلة. خليكي جارها، ماتسيبهاش دقيقة واحدة. وتاخدي من خير الدار كل حاجة موجودة. عايزك تاخدي زيارة ملوكي تقوّتي البت بيها.

لمعت عيناها بفرح غامر، وأجابت بحب:

ـ بس كده؟ من عينيَّ يابو صالح.

أضاف حسين، محاولًا إخفاء قلقه:

ـ وما تنسيش أول ما تولد تشيّعيلي حد من الدار يقولي، وساعة زمن هكون جيت واطمنت عليها.

ابتسمت سميرة، وهي ترى في عينيه الأب الحنون الذي يحمل العالم على كتفيه لأجل أسرته. تنهدت وقالت بحب واضح ودعاء خالص:
ـ شاله يخليك ويسترك، ويجعل الدار مفتوحة بحسك، ويمتعك بصحتك وعافيتك، قادر يا كريم.

وضع الكوب وهو يتنهد وكان بداخله عالم آخر. ثم سألته  عن أبنها صالح متى سيعود، فأجابها بأنه أرسل إليه أخيه عبد العزيز ليستقبله في محطة القطار حيث أنه لا يريد أن يترك عبد العزيز وحيداً، تفهمت سميره وظلا يتحدثان في أمور كتيره.وساد بينهما لحظة صمت، حملت بين طياتها مودة تفوق كل الكلمات.

عندما عاد صالح من سفره، قرر أن يرافق والدته سميرة لزيارة جده عبد اللطيف وجدته زاهية في دارهم. كانت الشمس قد بدأت تختفي خلف الأفق، تاركة السماء متوشحة بخيوط من البرتقالي والذهبي، بينما يملأ هواء الريف البارد المكان برائحة الأرض المبللة بنسيم المساء.

حين وصلوا إلى الدار، كان الظلام قد بدأ يزحف ببطء على الحقول المحيطة. طرقت سميرة الباب الخشبي القديم، وما إن دخلوا حتى وجدوا الجدة زاهية جالسة عند الطاولة الخشبية، تتناول عشاءها بهدوء، تتسلل منها هالة من الصرامة التي تكاد تكون جزءًا من شخصيتها.

سمعت زاهية صوت خطواتهم، فرفعت رأسها بهدوء، وألقت عليهم نظرة لم تخلُ من مزيج السخرية واللامبالاة، ثم ردت على تحيتهم بصوت مغمغم بينما ترفع يدها مشيرة نحوهم:

ـ وعليكم السلام. تعالوا اتعشوا معايا.

ردت سميرة بابتسامة مجاملة وهي تحاول الحفاظ على ود الحديث:

ـ تسلمي يما، إحنا سبقناكي.

اقترب صالح من الطاولة، مبتسمًا بحفاوة شبابية لا يخفيها شيء، وقبّل يدها وقال:

ـ الله يسلم يدك يا ستي، إحنا جايين نسلم عليكي وعلى جدي.هو فين؟

ضحكت زاهية بخفة ساخرة، وقالت:

ـ جدك بيلف في البلد. هو وراه حاجه غير إنه يصلح بين الناس؟

رد صالح بإيجابية تحمل احترامه الكبير لجده:

ـ ربنا يتقبل منه، السعي ورا الخير حلو قوي يا ستي، وكله بثوابه.

نهضت زاهية، متكئة على الدكه الخشبيه، وتوجهت لإحضار الشاي من المطبخ المجاور. بدت خطواتها ثقيلة لكنها ثابتة، وكأنها معتادة على أعباء الحياة التي حملتها على أكتافها طويلاً. عادت وهي تحمل صينية الشاي بيدين بدت عليهما آثار الزمن، وضعتها أمامهم، وجلست على الكرسي المقابل، موجهة حديثها لسميرة:

ـ جبتلكم شاي، عشان ماتقولوش إني ماستقبلتكمش زين.

أخذت سميرة كوبها وهي تحاول إخفاء الضيق الذي يتسلل إليها من كلمات أمها الجافة:

ـ من يد ما نعدمهاش يما، منك زي الشهد.

ردت زاهية دون أن تفوّت فرصة للسخرية:

ـ وانبي إيه! ماشي ياختي، خدي اشربي وناولي ولدك كوبايته.

ثم أضافت متسائلة بفضول: 
ـ هى صحيح صباح سلفتك غضبانه من عشيه؟

زفرت بحنق وقالت:

ـ ايوه غضبانه الله يهديها.

ـ وايه السبب بقى؟ 

ـ اتخانقت ويا جوزها، الله يهدي الحال بينهم. بس هيجيبها تاني، مهمن يحصل بيناتهم مالهمش إلا بعض.

علمت زاهيه إن ابنتها تخفي الحقيقة عنها ولكنها ستعرف من مصادرها الخاصة. توجهت بحديثها إلى صالح بنبرة فضولية تحمل في طياتها أسئلة أكثر من الكلمات:

ـ جيت ميتى من البندر؟

أجابها: 
ـ جيت النهاردة ياستي. خدت الاجازه الكبيرة خلاص. 

زمت شفتيها وسألت مجدداً: 

ـ قولي، أنت في سنة كام دلوقتي؟ وهتخلص ميتي علامك؟

تغيرت ملامح صالح قليلاً وهو يحاول أن يبدو جادًا، ورد بهدوء:

ـ أنا إن شاء الله رايح رابعة طب ياستي، وقدامي سنتين وعليهم سنة الامتياز يعني قدامي تلات سنين ونفسي يعدوا بسرعة و وقتها هابقى أحسن دكتور في مصر كلها.

ابتسمت زاهية ابتسامة ساخرة، وقالت:

ـ يابوي تلات سنين؟؟! ليه كل ده؟! وفي الآخر تبقى كيف الحكيم صُح؟ يعني بعد كل السنين دي؟هتبقى حكيم في الوحدة الصحية كيف الحكيم عصران؟

صالح، الذي بدا وكأنه توقع هذه الإجابة، شرح لها بصبر:

ـ لا يا ستي، الحكيم حاجة، والدكتور حاجة تانية خالص. الحكيم بيشتغل في الوحدات الصحية، لأنه اتدرب على الاسعافات الاوليه واكتسب خبره، لكن الدكتور اللي زيي إن شاء الله بيكون دارس طب وشغال في المستشفيات أو العيادات. إحنا بندرس كل حاجة عن الأمراض وطرق علاجها. فاهماني ياستي؟

زاهية لم تفوّت فرصة لإبداء رأيها بنبرة تحدٍ قائلة:

ـ ايون فاهماك بس بردك، ما فيش فرق بينك وبين الحكيم. اني بس ياحبة عيني صعبان عليا تعبك دا كله و هيروح على فشوش. يعني أنت عملت ايه؟ دي كلها شوية علم وأدوية. وكله بنفس الماهية. يعني ماهيتك، هتبقى نفس ماهية الحكيم ويمكن الباش تمرجي بياخد أكتر منه ومنك كمان. 

تدخلت سميرة التي لم تستطع أن تتحمل المزيد من التعليقات، وقالت بحزم: 
ـ ايهي! جرا ايه بقى؟ مالوش لازمة التقطيم ده يما، صالح ابني، إن شاء الله بكره يبقى دكتور قد الدنيا، ويعالج ناس كتير. والماهيه آخر حاجة نبصلها، المهم دعوة الناس ليه.

ضحكت زاهية بنبرة استفزازية، وقالت:

ـ أحسن دكتور؟ وهيعالج مين بقى؟ ده بيقولك قدامه تلات سنين غير السنة الجايه!  ولو كده، هنكون وقتها مو.تنا واحنا لا هنبقى ساعتها سمعنا ولا شفنا. اسمعي ياسميره! العيال دي كلها طايرة في السحاب، والنهاية واحدة، كله بيضيع. افتكري اخوكي عبد الحميد عمل ايه فينا! 

صرت سميره على أسنانها محاوله كبح جماح غضبها و وضعت الكوب بغيظ،حاول صالح تغيير الموضوع بسرعه، وهو يحاول أن يبتسم ليخفف من حدة النقاش:

ـ ربنا يطول في عمرك ياست الكل، وسيبك إنتِ يا ستي، أنا متوحشك قوي. وخالي صبري كمان فين؟ وحشني جدًا. وخالي حامد هو كمان عايز أشوفه

ردت زاهية بنبرة لا تخلو من اللامبالاة:

ـ خالك صبري تلاقيه على القهوة زي عوايده. وحامد وحجازي عند نسايبهم.

ابتسم صالح وأومأ برأسه، وقال محاولاً تغيير الجو:

ـ وماله الله يقويقهم، ابقي بلغيهم سلامي.

كان الجو مليئًا بالتوتر المخفي خلف الكلمات المبطنة. زاهية لم تكف عن تقديم تعليقاتها اللاذعة التي كانت دائمًا تغلفها بحس السخرية، بينما كانت سميرة تحاول أن تبدو متماسكة أمام والدتها، محافظة على احترامها رغم شعورها بالضيق.

صالح، الذي اعتاد على أجواء الجدة الصعبة، كان يحاول قدر الإمكان أن يحول الحديث إلى مواضيع أكثر إيجابية، لكنه كان يشعر بثقل الكلمات التي تُلقى بين السطور.

وبينما كانوا يحتسون الشاي، قالت زاهية بنبرة تعبر عن مزيج من السخرية والجدية:

ـ إحنا على أيامنا، ما كانش فيه لا طب ولا هندزة، كله كان فلاحه في الأرض. دي كانت الحياة الصح، اللي تبين الراجل من الصبي. ويعرف معنى الشقى وقيمة الدنيا. 

رد صالح بابتسامة خفيفة وهو يحاول أن يحتفظ بلباقته:

ـ زمان كان ليه ظروفه ياستي، زي ما بيقولوا أكده كل وقت وليه أدان، والنهارده الدنيا اتغيرت ولكل واحد دوره في الحياة، إحنا جداً محتاجين اللي يزرع الأرض وقصاده محتاجين اللي يعالج الناس. ما فيش حد يقدر يستغنى عن حد. ياستي كلنا في دايره لازم نكمل بعض فيها، عندك مثلاً أيام الكوليرا أيام الله لايعودها تاني، ولولا الطب واكتشاف العلاج ليها كانت الدنيا خربت وناس كتيره قوي ما.تت، زي ما في ليل ياستي لازم تلاقي بعديه يطلع نهار. متخليش اللي حصل مع خالي عبد الحميد يأثر عليكي وتخليكي تشوفي الكل هيروح مش هيعاود تاني، عندك اني اها مفيش اجازه قضيتها بعيد عن العيله، ولا اخواتي ولا حد من جيلنا، والله أعلم بالظروف اللي مر بيها خالي خلاه مايعاودش، والغايب حجته معاه يستي ولا إيه؟ 

صمتت زاهية قليلًا وكأنها تفكر في كلامه، ثم قالت بجمود:

ـ يمكن كلامك فيه حاجة من الصح، بس انت ما تعرفش، الأيام والسنين ياولدي هي اللي بتعلم الراجل الصح من الغلط. وخالك عبد الحميد خلاص اني اعتبرته ما.ت من زمان قوي. 

أما سميرة، فقد كانت تتابع الحديث دون أن تضيف الكثير، لكنها حرصت على إنهاء الزيارة قبل أن يتصاعد التوتر أكثر. قالت وهي تضع كوب الشاي جانبًا:

ـ اخويا عبد الحميد هيرجع، إن مكنش النهارده يبقى بكره، الطير المهاجر مسيره راجع لعشه يما.

نظرت لها زاهيه بقوه، وقبل أن تنطق بكلمة نهضت سميره وقالت:

ـ إحنا مش هنطوّل عليكي يما، جايين نسلم عليكِ ونسمع منك دعوة حلوه، وإن شاء الله برجع اشوفك قريب.

ردت زاهية وهي تنظر إلى سميرة بنظرة ذات مغزى:

ـ الدعوة الحلوه حداكم في ي داركم يا بتي. واني متوكده إن حماتك هتدعيلك كتير في أرض الحجاز، خلي بالك من عيالك. 

ساد الصمت لبعض الوقت، حتى انتهت الزيارة وغادرا الدار تحت ضوء القمر الذي بدأ يظهر خجولاً، كأنه يراقب أسرار الليل المتناثرة في صمت الريف.

كان حسين يقف وسط الحقل، يراقب سير العمل بعين يقظة، وفي يده عصا صغيرة كان يهش بها على الأرض بين الحين والآخر. الشمس بدأت تميل نحو المغيب، والأفق يشتعل بلون برتقالي دافئ. كان صوت حسان، شقيقه، يقطع صمت الحقل وهو ينادي من بعيد. رفع حسين رأسه، وقد عقد حاجبيه مستفسرًا عن سبب مجيئه في هذا التوقيت. اقترب حسان بخطوات سريعة، وصوته يخرج مفعمًا بالحماس:
ـ يابا الحاج حسين ، يابا الحاج حسين ، ألف مبروك، عيشة بتك ولدت، و جابت واد! 

توقف الزمن للحظة في ذهن حسين، الكلمات ترددت داخله وكأنها محاولة لفهم ما يعنيه هذا الخبر. ثم جاءت الصد.مة العاطفية، كأن شيئًا ثقيلًا قد أُزيح عن صدره. أخذ نفسًا عميقًا وطويلًا، وشعر بالارتياح يتسلل إلى روحه. ولد! حلم كل أب في القرية، وحلم حسين الذي لم يفصح عنه يومًا لكنه كان يكبر بداخله منذ أن زُفّت ابنته عيشة إلى بيتها الجديد.

ابتسم، ثم ألقى عصاه جانبًا، وقال بصوت واثق مليء بالسرور، دون أن يكترث بإخفاء مشاعره أمام شقيقه. بدأ يسير باتجاه القرية، خطواته ثقيلة ولكنها مليئة بالحماس. طوال الطريق كان يشعر بمزيج من الفخر والامتنان، وكأن الله قد أكرمه بفرحة تضاهي سنوات العمل والكد. في داخله، كان يستعيد ملامح عيشة حين كانت صغيرة، وهي تركض حول الدار بضحكاتها الطفولية، وها هي اليوم قد أصبحت أمًا لطفل سيحمل اسم عائلتهم إلى الأجيال القادمة.

عند وصوله إلى دار عيشة، ألقى نظرة على الباب الخشبي القديم، ثم دخل بهدوء. في الداخل، كان الجو دافئًا، ورائحة البخور تعبق في المكان. وجد عيشة مستلقية على فراشها، وعلامات الإرهاق بادية على وجهها، لكنها تحمل نظرة فرح عميقة. بجانبها، كان الطفل ملفوفًا في قطعة قماش بيضاء، صغير الحجم لكنه يحمل عالمًا بأكمله في وجوده. اقترب حسين منها، ولمس رأسها بحنان، ثم نظر إلى المولود نظرة طويلة.

شعر بثقل المسؤولية على كتفيه، لكنه كان ثقلًا محببًا. هذا الطفل ليس مجرد حفيد؛ إنه امتداد له، جزء من روحه سيعيش بعده، شاهد على قصصهم وماضيهم. لم يقل شيئًا، لكنه في داخله كان يدعو الله أن يجعل هذا الولد صالحًا، حافظًا لاسم العائلة وكرامتها. أمسك بحفنة من النقود كان قد أعدها في جيبه، وضعها بجانب فراش ابنته كجزء من "الواجب"، ثم خرج ليأمر بإحضار بعض الطعام والحلوى لدار عيشة، ليكون احتفالًا بسيطًا، لكنه يحمل فرحة كبيرة.

مرت الايام وكانت صباح تجلس في ركن البيت، جسدها متصـ.ـلب وعينيها مملوءة بالشـ.ـرر. قلبها يكاد ينفـ.ـجر من الغضـ.ـب، والشعور بالخذلان يسيطر عليها بالكامل. مرّ شهر كامل، ولم يأتي إليها أحد من أهل زوجها، لا أخوه ولا حتى أخته، ولا زوجها. كانوا جميعًا يتجاهلونها وكأنها لا وجود لها في عالمهم. تفكيرها كان مليئًا بالأسئلة التي لا تجد لها جوابًا: هل تظن عائلته أنني لا أستحق السؤال؟ أم أنهم يظنون أنني أتحمل كل شيء وحدي؟ كل يوم يمر دون أن يشعر بها أحد، كان يزيد من غضـ.ـبها. وكأن الزمن كان يعا.قبها على صمتها، وعلى السكوت الذي حملته طيلة الفترة الماضية. عيونها تشـ.ـتعل بالبكاء الذي لا تجرؤ على إظهاره، فهي لا تريد أن تكون ضعيفة في نظرهم، لكنها تشعر بأن الصمت يجر.ح أكثر من الكلمات. في داخلها، يزداد الغـ.ـضب حتى وصل إلى مرحلة لم تعد قادرة على تحمله، وكلما تذكرت كيف كانت تسعى دائمًا لإرضائهم، كلما زاد الشعور بالمرارة في قلبها.

في أحد الأيام كان حسين يجلس تحت شجرة الجميز، يراقب السماء التي بدأت تكتسي بالنجوم. لم يشعر أن يومه كان استثنائيًا، بل كان مجرد يوم آخر في سلسلة أيامه. صحيح أن الحدث الأخير كان يحمل طابعًا خاصًا، فها هو يصبح جدًا لأول مرة، لكن فرحته كانت هادئة، ربما لأن الحياة بالنسبة له كانت دائمًا مشغولة بالعمل والالتزامات. شعر بشيء من الرضا، كأن هذا الولد جاء ليؤكد له أن تعب السنين لم يذهب سدى، ولكنه على جانب آخر كان عقله منشغلًا بقصة أخيه عبد العزيز الذي كلما نظر إليه وجد الحزن يكسو معالمه.

كان صالح يساعدهم في الأرض، وعندما شعر بحالة أبيه الشاردة، اقترب منه وجلَس بجانبه. لاحظ أن عيون أبيه كانت تائهة، متعلقة بأخيه عبد العزيز. قال صالح ملمحًا، محاولًا كسر الصمت:

ـ ابويا عبد العزيز مبقاش زي الأول يا با. من يوم ما مراته سابت الدار.

حسين نظر إليه قليلاً ثم رد بصوت منخفض:

ـ بكره ينسي ويبقى زين.

لكن صالح لم يقتنع، وأجاب بسرعة:

ـ مستحيل ينسى، دي مراته وأم عياله، فات على فراقها له شهر وأكتر يا با. وأحنا داخلين على أيام مفترجه.

حسين شعر بثقل الكلام في قلبه، لكنه حاول أن يغير مجرى الحديث قائلاً:

ـ عايز توصل لإيه يا صالح؟ اني مش فايقلك.

أجاب صالح بحماس، وكأن الأمر له أهمية خاصة:

ـ بقول يعني إن خلاص باقي يومين على شهر ذي الحجة ويبدأ، وهنبدأ صيام، وعايزينها تبقى ويانا في الأيام المباركة دي.زي كل سنه، بستأذنك علشان خاطري تروح ترجع مرت عمي صباح وتخلي فرحتنا تكمل.

حسين نظر أمامه بقوة، ثم رفع رأسه وقال بصوت حازم:

ـ مش هيحصل، ولسه متخلقش اللي يلوي دراعنا، ومش هترجع ولا تخطيها! قبل ما تتربى وتعرف إن الله حق! 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1