رواية بقايا عطر عتيق الفصل السادس عشر بقلم مريم نصار
كان يجلس عبد اللطيف على المصطبة أمام الدار، يودع حفيدته عائشه وهي تحمل وليدها الرضيع بين ذراعيها، وقد امتلأت عيناه بالفرح. منذ سنوات طويلة وهو ينتظر اللحظة التي يرى فيها أحفاده يكبرون أمامه، واليوم، كان يشعر بأن العمر أخيرًا منحه تعويضًا صغيرًا عن خسائره الكثيرة.
وبعد إن غادرت عائشه لمنزل العائلة التفت عبد اللطيف إلى زاهية، التي كانت تجلس بجواره بملامح متصلبة، عيناها تنظران إلى السماء وكأنهما تهربان من كل ما حولها. بصوته الهادئ، قال:
– سبحان الله يا زاهية، شوفتي؟ عيشت لحد ما شوفت أحفاد احفادي بعيني. الواد ده بركة من ربنا، بنتك سميرة جوزت البنات وجابت لنا النعمة دي. وكمان بنات صبري ولدنا عوضونا بالخلف الصالح، بس اني شايفك يعني مش فرحانة و وشك مقلوب ليه كفى الله الشر؟
نظرت إليه زاهية نظرة باردة وقالت بنبرة متحجرة:
– أفرح بإيه؟ما كل اللي في عمرها خلف من بدري، جديده دي يعني؟وبعدين دي بت بنتك، مش بت ولدك. ما حدّ من عيالهم هيشيل اسمك ولا اسم ولادك. والخيبه بنات صبري اتبشروا بالبنيه قبل الصبي خلفتهم شوم بعيد عنك.
شعر عبد اللطيف بوخزة في صدره، لكنه احتفظ بابتسامته وقال بنبرة هادئة وهو يحاول أن يلين قلبها:
– الواد زي البت يا زاهية، دلوقتي الزمن اتغير. المهم اللي يكون حنين عليكي ويحطك فوق راسه مين؟ الواد ولا البت؟
رفعت زاهية عينيها ببطء، ونظرت إلى الأمام كأنها ترى ما وراء الأفق. بلهجة ملؤها الحقد قالت:
– الواد هو الواد ياعبد اللطيف، راجل يسند ويملى العين. أما البت، عودها ضعيف ويتكـ.ـسر مع أول ريح. البت مش دايمه في دار أهلها ، الواد هو اللي يسند ضهرك وهو حمايتك.
سكتت للحظة، ثم أضافت بغيظ:
– مش لو عبد الحميد، ابنك، كان موجود معانا دلوقتي، كنت فرحت بخلفته. هو الكبير وكان زمان الواد لكبير عنده قد صالح، ابن بنتك. لكن ابنك جابلي العا.ر وحر.ق قلبي عليه.
شعر عبد اللطيف بغصة في حلقه، وألم عميق يعتصر قلبه. لم يكن قادرًا على الرد مباشرة، فالجراح التي فتحتها كلمات زاهية كانت أعمق مما يتخيل. فكر في ابنه عبد الحميد، الذي تركهم منذ سنوات ولم يُظهر أي إشارة بأنه مازال على قيد الحياة. عينا عبد اللطيف امتلأتا بالحزن وهو يتساءل في نفسه:إيه اللي عملته في حياتي عشان ابني يبعد كده؟ يا ترى هو عايش؟ ولا الأيام دارت عليه وودته مطرح مافيش منه رجعة؟
لكنه أخفى ألمه، وحاول أن ينهي الحديث بنبرة مليئة باللطف:
– الزمن دوار يا زاهية. اللي فاكره إنه بعيد عننا يمكن يرجع في يوم، والمهم دلوقتي إنك تشوفي الخير اللي بين إيديكِ بدل ما تبصي ورا. عيشة، حفيدتنا، جابتلنا بركة من عند ربنا. وكمان بكره بنات صبري زي ما جابوا البت يجيبوا الواد. روقي حالك انتي بس.
لكن زاهية ظلت صامتة، تحدق بعيدًا، وعيناها مشحونتان بالغضب والخيبة.
بينما كانت الشمس تميل نحو الغروب، تخللت شائعات الكفر عن وصول واحدة من "الفتاحات" الشهيرات، امرأة تردد الكلمات الغامضة: "أبين زين أبين! واكشف المستور" وهي تدّعي قدرتها على كشف الأسرار المخفية. تلك العبارات التي كانت تتردد على لسانها، جعلت الناس يتساءلون، هل تحمل معها حقًا القدرة على كشف المجهول؟
امام في البيت الكبير، عمّ الهدوء وقت العصر. كان حسين جالسًا على الأرض أمام الدار، يحتضن حفيده الرضيع بين يديه، ملامحه هادئة، لكنه غارقاً بالأفكار التي تراوده. حوله جلس إخوته الرجال، ينغمسون في حديث مرِح، أصوات ضحكاتهم تتعالى في الهواء وكأنهم يتبادلون ذكريات طفولية قديمة.
غير بعيد عنهم، كان عبد العزيز منهمكًا في خياطة كيس من القماش البالي. أصابعه تتحرك بخفة بين الغرز، كأنه يحاول حياكة ذكرياته مع خيوط الزمن. تعابيره جادة، وصمته يوحي بأنه يجد في هذا العمل ملاذًا من أفكاره.
أما النساء، فكنّ جالسات على الأرض في زاوية قريبة من الرجال، يجمعهنّ حوض واسع ممتلئ بالقمح. بأيدٍ خبيرة، كنّ يمررن أصابعهن بين الحبات، ينتقين منها كل ما علق بها من شوائب صغيرة، كحبات الطوب والرمل وبقايا التبن. كانت أياديهنّ لا تهدأ، تتحرك بسرعة ودقة وكأنهنّ في سباق صامت مع الزمن.
رائحة القمح الجاف تملأ المكان، وصوت الحبات وهي تتساقط في الحوض كان متناغمًا مع ضحكاتهنّ وأحاديثهنّ التي كانت تتقاطع دون أن تفقد إيقاعها. بعضهنّ كنّ يثرن النكات، وأخريات يتبادلن الأخبار، لكن عيونهنّ ظلت مركزة على القمح، وكأن لكل حبة منه قيمة لا تقدر بثمن.
فجأة، شقت أجواء السكون هذه المرأة الغريبة. كانت تحمل كيسًا من الودع بيديها، تسير بخطوات ثابتة، تنظر من حولها بنظرات واثقة كأنها تبحث عن هدف محدد. توقفت أمام البيت الكبير، وبعينين مليئتين بالغموض، وجهت نظرها إلى عبد العزيز الجالس قرب باب الدار.
اقتربت بخطوات بطيئة وجلست أمامه، ثم وضعت كيس الودع أمامها وبدأت تهمس بكلمات خافتة، كأنها تُدخل عبد العزيز في طقس غريب. كان يراقبها بحذر بينما أطلقت عبارتها الأولى، تلك التي جعلت الجميع ينتبه لما يجري.
قال عبد العزيز باستغراب:
ـ خير يا وليّه انتي؟ جاية لحد عندي ليه؟ مش شايفة الرجالة قاعدين هناك؟ حبكت اني يعني تفتحيلي المندل؟
رفعت المرأة عينيها إليه ونطقت بصوت خافت لكنه محمّل بالثقة:
ـ أبين زين أبين. جيت أشوف اللي في قلبك واكشفلك المستور والمستخبي كيف المرايه قدامك. جواك علة محدش داريان بيها، قلبك موجوع يا نضري، عندك صبر غلب الصبر نفسه، بس نقول إيه؟ ادي حال الدنيا.
تبدلت ملامح عبد العزيز، وبدأت لمحة من القلق تظهر على وجهه، لكنه سرعان ما تدارك نفسه. من حوله، كان إخوته يراقبون الموقف بفضول، ينتظرون ما ستقوله هذه المرأة الغريبة.
بعد لحظة صمت، قرر عبد العزيز مجاراتها، فوضع بعض النقود في يدها قائلاً:
ـ طيب، هاتي اللي عندك، وقوليلي إيه اللي مخبياه الدنيا، وإياك تطلعي كدابة!
اقتربت المرأة من الودع، بدأت تضربه برفق، وكأنها تُدخل الحاضرين في مشهد سينمائي مليء بالتشويق. ثم نظرت إلى عبد العزيز وقالت بثقة غريبة:
ـ كبدي عليك يا واد عمي، جواك هم كبير ،وكتير قوي وقلبك شايل أكتر، تايه ومحتار مابين تبوح ولا تسُر في قلبك وتسكت؟ وفي ناحيه تانيه قلبك مليان نا.ر الفُرقه، و عاشق ولهان، روحك معلوله من عشقك لصباح لحد الحين، مع إنها هجرتك وهجرت الدار.
كانت الصدمة واضحة على وجه عبد العزيز، لكنه لم يلبث أن أطلق ضحكة ساخرة وقال:
ـ عشقان و ولهان؟ وصباح؟ انتي بتضحكي علينا ولا بتفتحي المندل بكلام ماسخ؟ مامنوش عازه؟
أجابت المرأة وهي تلوّح بيديها دون أن تهتز، أكملت:
: أيوه، يا عبد العزيز! هي وحشاك قوي، ونفسك تشوفها! قلبك بيدق ليها بالعشق، هى في الدار دي كوم وغلاوة الدنيا عندك كوم تاني، صباح جواك بالدنيا كلها.
عبد العزيز، وقد بدأت ملامح الغضب تتملك وجهه، صاح:
ـ دانتي كذابة قوي قوي! صباح مين دي اللي عاشقها؟ دي لو هجت من البلد كلها، هاكون أسعد واحد في الكفر. قومي فزي من هنا، عكرتي مزاجي الله يعكنن عليكي!
بينما كان الجميع يشاهد هذا المشهد، حاولت المرأة الحفاظ على هيبتها وقالت بصوت مليء بالثقة:
ـ متدارِش يا عبد العزيز، عينك فضحاك! صباح هترجع ويمكن الليلة، وهتكون أول واحد يفرح برجوعها. عينك فضحاك ياواد عمي.
لكن عبد العزيز لم يتحمل أكثر، وقف وصاح بغضب:
ـ انتي حد مسلطك عليا ياست انتي؟ هى ناقصاكي؟ قولتلك قومي فزي من هنا وهاتي الفلوس اللي خدتيها! حار ونا.ر في جتتك، ما ناقص تقوليلي إني مغرم صبابه كمان؟! وشوية شوية هسرح بربابه وراها! الله يخرب بيت اللي جابك وحدفك علينا!
غادرت المرأة وهي تتمتم بكلمات غامضة، والعيون تلاحقها بابتسامات مكبوتة. وبمجرد اختفائها، انفجر الإخوة في ضحكات متواصلة، بينما عبد العزيز كان يحاول إخفاء ارتباكه. كانوا يعلمون أنه صدقها في البداية، لكنه حوّل الأمر سريعًا إلى سخرية مريرة.
وهكذا مضى الوقت بمزيد من الضحك والقصص التي ستُروى طويلًا في الكفر.
بينما كان المساء يقترب، وتلونت السماء بألوان الغروب الهادئة، عاد الحديث عن المرأة الغريبة ليملأ الأجواء. بينما حسين، بدا عليه عدم الاكتراث بما حدث، وقف فجأة واتجه نحو البيت الجديد. كان عقله مثقلًا بالتفكير في الأيام القادمة، وبالمسؤولية التي يحملها تجاه العائلة.
على بعد خطوات، لحقت به سميرة، مترددة لكنها مصممة على التحدث معه. اقتربت منه وهي تقول بنبرة هادئة لكن فيها رجاء:
ـ ابو صالح. بكره أول يوم في الصيام، والليالي دي كلها خير وبركة. وكنت بقول يعني مفيهاش حاجه لو ترّجع صباح على الدار، كفاية اللي حصل. أخوك صعبان عليا، واني متوكده إن الكل هيكون مبسوط لو رجعت وبقت وسط عيالها من تاني.
توقف حسين، وأدار رأسه نحوها ببطء. نظر إليها بعينين ضيقتين، ثم قال بحدة وهو يلوح بيده:
ـ إيه يام صالح؟ انتي صدقتي كلام الولية المخبولة دي اياك؟ فاكرة إن الخبل وشوية الودع بتاعها ده ليه لازمة؟ هي بتقول أي كلام عشان تلم قرشين وخلاص.
تراجعت سميرة خطوة، لكنها لم تفقد شجاعتها، فأضافت بنبرة حانية:
ـ لا، مصدقتش. اني بتكلم وياك عشان أخوك عبد العزيز صعبان عليا قوي، وباين عليه إنه موجوع كفاية لما بشوفه يبص على عيل من عياله ويسألوه امي هترجع امتى يابا؟ قلبي بيتخلع عليه وعليهم. ومهما كان اللي حصل، في الأول والأخير دي مرته ام عياله وإحنا عيلة، والضفر عمره ما يطلع م اللحم. والبيت عمره ما هيعمر بالفراق ياسي حسين.
ارتفع صوت حسين وهو يقترب منها:
ـ بقولك إيه يا سميرة، متتدخليش في اللي مالكيش فيه. وعبد العزيز لو كان رايد يجيبها كان قالي ولا راح جابها. مش هنبه عليكي، متفتحيش السيره دي قدامي تاني مفهوم؟
نظرت إليه بحزن، لكنها فضلت الصمت. رأت في عينيه عنادًا لا يمكن كسره الآن. استدار حسين وأكمل طريقه، تاركًا إياها واقفة وحدها أمام مدخل البيت.
كانت الرياح تحمل معها أصوات الضحكات من الجلسة السابقة، لكن سميرة شعرت ببرودة تغلف الجو. رددت في نفسها: "يمكن الأيام المفترجه دي تكون فرصة، يمكن الخير ياجي من غير ما نفكر ونشيل هم ليه. الله يهدي الحال، هاتها جمايل يارب،ثم عادت أدراجها، وملامحها تتحدث عن أمل ما زال ينبض في قلبها، رغم الجفاء الذي يملأ الأجواء.
كانت الشمس قد غابت وابتدت ظلال المساء تكسو البيت. في وسط الدار، جلست صباح على الأرض، ملامح وجهها مغمورة بالهدوء والصمت، لا تسمع في المكان سوى صوت يديها وهي تعجن العجين برفق، وكأنها تغمس أصابعها في قلبها لتخفف عن نفسها هموم الأيام. كان العجين يلتصق بين يديها بينما كانت أفكارها تائهة، قلبها لا يزال مشغولًا بما تركته خلفها.
دخل الحج زكي، من باب البيت بعد صلاة المغرب، وكان في يده مسبحته التي يمررها بين أصابعه. خطواته كانت هادئة، لكنه شعر بوجود شيء غير طبيعي في الجو. لاحظ كيف كان البيت هادئًا جدًا، وكيف أن صباح، مثلما اعتاد، تجلس بصمت. اقترب منها، ثم وضع المسبحة في جيبه، وقال بصوت هادئ محب:
ـ كل سنه وانتي طيبة يا صباح، يا بنتي، ينعاد عليكي بالخير.
رفعت صباح رأسها، ونظرت إلى أبيها نظرة عميقة، ثم ردت بحب وهدوء:
ـ وانت بخير يابا، ينعاد عليك بالصحة والعافية.
جلس على الكرسي الخشبي المكسو بالغبار، والذي كان يعرفه جيدًا، كما كانت يديه تداعب حواف الكرسي قبل أن يلتفت مجددًا نحو ابنته. كان في قلبه شيء يريد أن يقوله، شيء لم يستطع أن يحتفظ به أكثر. فقال:
ـ بمناسبة إننا في أيام مفترجة وداخل علينا عيد، مش ناوية ترجعي لدارك وزوجك؟ أو حتى ترجعي عشان خاطر عيالك؟ متوحشتهمش إياك؟
توقفت عن العجن لحظة، ورفعت نظرها إلى أبيها. ملامح وجهها كانت مليئة بالحزن، لكنها لم تترك مجالًا لأي حديث عن رجوعها. قالت بصوت حازم، دون تردد:
ـ مش هارجع يابا، مش هحط رجلي في دار القواسمه إلا لما ياجي جوزي لحد عندي ويتحايل عليّ. ويردلي كرامتي،وإن كان على العيال؟ بشوفهم كل فين وفين بس بردك دول بيبقوا عيالهم في الأول قبل ما يبقوا عيالي، وهما هيخلوا بالهم منهم زين.
الحج زكي، وقد استشعر العناد في كلماتها، تنهد وقال بصوت لا يخلو من الحزن:
ـ يعني مش هترجعي لدارك يا صباح؟ هتفضلي متربسة عقلك كده يا بنتي؟
ابتسمت صباح ابتسامة صغيرة، وأشارت بإشارة بيدها إلى العجين في الوعاء وقالت:
ـ لو متقل مني ومن قعادي هنا! اروح دار حد من عمامي. واهو تكون مرتاح مني يابا.
ـ لاه ايه الكلام الماسخ ده يابتي؟ وانتي يعني قاعده على راسي؟ دي الدار بقى ليها حس من يوم ما جيتي، وربنا يعلم اني شايل همك وخايف عليكي قد ايه؟
ـ متخافش عليا، وريح بالك يا با، وخش ريح جتتك شوية. وإني هقوم عما أخبز شوية العيش دول، تكون قدرة الفول طابت وبعدها نتسحر، وربنا يتقبل منا ومنك.
علم الحج زكي أنها قد أغلقت باب الحديث، وأدرك أن كلامها جاء من قلبها. دعا لها في سرّه بالهداية، وتمنى أن ينقشع غيم الحزن عن قلبها في الأيام القادمة. نظر إليها نظرة محبة، ثم قال وهو ينهض من مكانه:
ـ ربنا يهديكي يا صباح ويريح قلبك يابنتي،وهو يهم بالخروج، تحركت أيديها برفق لتكمل عملها في صمت
في أول أيام الصيام، كان الهواء في الريف يحمل نسيمًا دافئًا يعلن بداية أيام العبادة وتأدية المناسك. مع بزوغ الفجر، كانت بيوت الفلاحين تستيقظ مع دقات الآذان. النساء يجهزن الفطور السريع لأفراد أسرهن الصغار، والأطفال يسرحون في الباحات الصغيرة. كانت المنازل بسيطة، ولكن في داخلها كان هناك دفء خاص يعكس الروح الجماعية للعائلة. كانت الأجواء تعج بحركة مريحة، مع التركيز على التهيؤ للصيام، والتحضير لأيام العمل الشاقة التي تتبع رمضان. فكل شيء كان يسير بهدوء، دون ضوضاء، لأن الحياة كانت تدور حول العمل والعبادة والتلاحم العائلي.
عبد العزيز، الذي كان يغالب حزنه، كان يراقب أولاده يلعبون في ساحة البيت. لكن في عينيه كان هناك ألم غامض بسبب غياب زوجته. فقد كانت الأيام تمر ثقيلة عليه، لا سيما مع رؤيته لأولاده وهم في شوق لعودتها، في حين كان هو عاجزًا عن فعل شيء ظل جاهدا عدم إظهار حزنه على غيابها. العيال قاعدين من غير أمهم، بس كل شوية يزنوا عليا أرجعها على الدار، كيف يعني أرجعها بعد ما صغرتني قدام أهل الدار كلها؟ لاه اني مش هجيبها حتى لو قعدت عمري كله لروحي! كانت تلك الأفكار تلاحقه في صمت.
في البيت الكبير، كانت العائلة تلتئم حول مائدة الإفطار. كان عبد الرحيم ونعيمة في حجهم، لكن المكان لا يزال يعج بالحياة. سميرة، تجلس على طرف المائدة مع أولاد عبد العزيز. كانت كل امرأة تعرف دورها، منهن من تضع الطعام أمام الأولاد، ومنهن من تهتم بكل التفاصيل، ضاحكة معهم، ولكن في أعماقها كانت الحزن يحزنها على غياب أمهم صباح. أما في بيت صباح، كانت هي تجلس مع والدها في صمت، تضع الطعام، بينما في قلبها كان هناك حنين كبير لأولادها. رغم ذلك، كانت ترفض الاعتراف بهذا الضعف، وتتمسك بموقفها.
بينما كانت النساء يعكفن على العناية بأولاد عبد العزيز، كان هناك نوع من الحنان الجماعي يتغلغل بينهن. سميرة وإخلاص وغيرهن من نساء العائلة كان يحرصن على أن يشعر الأولاد بالأمان والمحبة، وكأنهن امتداد لوالدتهم في غيابها. كان المشهد يشير إلى قوة المرأة الريفية وتماسكها دائماً في الأوقات العسره.
أما حسين، فكان قد وضع أمام عينيه هدفًا كبيرًا: إتمام بناء البيت الجديد قبل عيد الأضحى. كان يعلم أنه يحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة تجاه عائلته، خاصةً مع غياب عبد العزيز المستمر عن بعض الأمور. كل صباح كان ينهض قبل الفجر، يتأكد من كل صغيرة وكبيرة في موقع البناء، يشرف على العمال بنفسه، ويعمل بكل جد وسعي لإنهاء العمل في الوقت المناسب. بالنسبة له، لا شيء أهم من أن يرى عائلته في العيد، متجمعين أمام البيت الجديد، مفعمين بالفرحة والفخر بما تحقق.
في إحدى الجلسات مع إخوته أثناء إشرافه على العمال، اقترح أحدهم بفكرة بسيطة لكنها مميزة: أن يتم رسم سفينة كبيرة على جدار المنزل الجديد، مع كتابة بعض الكلمات الدلالية مثل "حج مبرور وذنب مغفور" احتفاءً بعودة الجد والجدة من الحج. لم يتردد حسين لحظة في الموافقة، بل استدعى العمال على الفور وطلب منهم تنفيذ الفكرة بعناية، مشددًا على أن تكون الكتابة واضحة والألوان زاهية.
لم يقتصر الأمر على ذلك؛ حسين، بحسه المسؤول، أمر أيضًا بدهن جدران المنزل الجديد من الداخل والخارج بأفضل الألوان، ليبدو مهيبًا وجميلًا، جاهزًا لاستقبال العيد. وبنفس الروح، نظر إلى البيت الكبير الذي يجمع العائلة وقرر أن يشمله هو الآخر بلمسات تجديد. طلب من العمال دهان البيت الكبير بنفس الاهتمام والتفاصيل، كي يشعر الجميع بأن العيد هذا العام يحمل في طياته فرحة حقيقية وتجديدًا لكل شيء.
كان حسين يعمل بصمت، لكنه في داخله كان سعيدًا برؤية البيت يتحول يومًا بعد يوم إلى رمز للترابط العائلي والبهجة المنتظرة، مستعدًا لاستقبال عائلته في أجواء يملؤها الحب والتلاحم.
مضت أيام الصيام بطيئة على الريف، وأتى اليوم التاسع، يوم عرفة. كان الهواء عليلًا، والناس في بيوتهم يتأهبون لإعداد الإفطار، ويتوجهون إلى الله بالدعاء والعبادة. أما صباح، فقد كانت تعد الطعام على الكانون، الدخان يملأ الأفق برائحة الخبز الطازج الذي يصعد مع النسيم. كانت تركّز في عملها، تحاول أن تبقي ذهنها مشغولًا عن غياب أولادها وعما يزعج قلبها.
فجأة، سمعت طرق على الباب، وعرفت أن أحدًا قد جاء، فانتبهت. سرعان ما قام والدها، بفتح الباب ليجد حسين يقف أمامه. كان دخوله مفاجئًا لها، فهي لم تكن تتوقعه.
رحب به الحج زكي في سرور قائلاً:
ـ أهلاً وسهلاً يا حج حسين، ادخل، اتفضل يا بني.
وضع حسين قدمه على عتبة البيت بخطوه ثقيلة، وهو يتنحنح قبل أن يدخل. قال وهو يخطو:
ـ يا رب يا ساتر.
ثم جلس على الكرسي الخشبي داخل المندرة، حيث كان الحج زكي يجلس.المندرة كانت واسعة، جدرانها باهتة بلون أبيض مصفر، تحكي عن سنوات طويلة من الذكريات. على الأرضية سجادة كبيرة بنقوش تقليدية، تعلوها طاولة صغيرة تحمل إبريق شاي وصينية نحاسية. الإضاءة خافتة صادرة من مصباح معلق في السقف، تضفي دفئًا على المكان. الحوائط مزينة بصور عائلية قديمة، تحكي عن أمجاد العائلة وأصولها.
بدأ الحديث بينهما عن أحوال الأهل، ولفترة قصيرة تحدثوا عن الأمور العادية، لكن حسين لم يكن ليدع الحديث يمر هكذا. بعد قليل، رفع رأسه وقال:
ـ بستأذنك يا حج زكي، عايز مرت أخوي في كلمتين مهمين، ده لو تسمحلي طبعاً.
ابتسم الحج زكي وقال بهدوء:
ـ ايهي إذن ايه بس يابو صالح؟دي صباح زي أختك يا راجل. وعاشت في دار القواسمه أكتر من دار ابوها، هنادي عليها حالا، وربنا يهدي الأحوال.
ثم أضاف بتمني:
ـ متأخذنيش ياحج حسين، في اللي هقوله، صباح بتي أغلب من الغلب والله، بس هى حيمقيه حبتين، مبتعرفش تفكر قبل ما تحكي، وزي ما قولتلك هى أختك وعايزين نرجع المية لمجاريها.
أبتسم حسين وحرك رأسه بهدوء وقال:
ـ اطمن يا عمي، ولاد القواسمه مابيمشوش غير في الخير.
نهض الحج زكي من مكانه وتوجه إلى داخل المنزل، حيث نادى بصوتٍ مرتفع:
ـ صباح! صباح! تعالي سلمي على ابوكي الحج حسين.
فور دخول صباح إلى المندرة وجلوسها على الكنبة المقابلة، كانت نظراتها متوجهة إلى الأرض، تتجنب لقاء عيني حسين. كانت تشعر بثقل الجو، وكأن الصمت الذي يملأ المكان يزيد من حدة التوتر. الجدران التي اعتادت أن تكون شاهدة على حديث العائلة، اليوم تبدو كأنها تحتفظ بأسرارها.
حسين، بلهجته الحازمة وصوته الذي لا يعترف بالضعف، لم يمنحها فرصة للتهرب من الموقف. نظر إليها نظرة ثابتة، وكان حديثه محملًا بالثقة والجدية. قال بنبرة جادة، كأنما يريد أن يضع النقاط على الحروف:
ـ ازيك يا صباح؟
فأجابته صباح، بصوت خافت:
ـ نحمد الله يابو صالح.
ولكنه، دون أن يعطيها فرصة للراحة، تابع:
ـ ها، مبسوطه بقعدتك في دار ابوكي؟
ـ أرض الله كلها حلوه يابو صالح.
نظر إليها حسين نظره حادة، ثم قال:
ـ ولما هو أكده قولك! وأرض الله كلها حلوه وزينه! ليه نبشتي على دار جديده لروحك؟
تلعثمت صباح، محاولًا السيطرة على نفسها، ثم أجابت:
ـ اني مقولتش أكده بالظبط. اني قولتـ.
تابع حسين بصوته الثابت الذي يشبه ضربات المطرقة:
ـ قولتي وهما قالوا انِّي ماليش في لت وعجن الحريم ده. نهايته. اني عندي كلمتين جاي أقولهملك وبعدها اختاري. ياتفضلي قاعده جار أبوكي العمر كله، وحد الله بينك وبين دارنا، ياتسمعيهم مني وترجعي معايا على دار جوزك، متصانه ومعززه مكرمه.
صمتت صباح، وعينيها مليئة بالحيرة.
كانت الشمس وقتها قد مالت إلى الغروب، وهدوء المندرة لم يكن يعكس ما يدور في قلب حسين من عاصفة حقيقية، كأنها تضرب وجه صباح بإصرار، عينيه تشعان بالغضب الممزوج بالحزم. بينما صباح تجلس على طرف الكنبة، ارتبكت قليلاً عند رؤية ملامحه الجديه هكذا، لكنها حاولت أن تبدو ثابتة، رغم أن قلبها يخفق بسرعة.
بينما حسين عيناه مثبتتان عليها كأنهما تخترقان دفاعاتها.، لكنه لم يترك عينها ولو للحظة. تنحنح بصوت عميق، قبل أن يبدأ كلامه، بينما صباح تشعر أن كل كلمة منه كانت مثل صفعة.
قال بحزم، نبرة صوته لا تحتمل أي جدال:
ـ شكلك بتنسي كتير اليومين دول، بس مفيهاش حاجه لمن ارجع وافكرك مين هما رجالة القواسمه؟
. رجالة القواسمه كيف السد ميأثر فيه ريح ولا عاصفه، واحنا مانفرقش عن بعض حاجه، د.منا واحد، ضهرنا سند لبعض، لو حد وقع التاني يشيله، ولو الدنيا ضاقت على واحد، كلنا نوسع له ونقدمله الدنيا بحالها علشان تساعه.
كانت صباح تنظر إلى الأرض، وكأنها تحاول الهرب من كلماته، لكنه أكمل بصوت أقوى، كأنما يريد أن يزرع كلماته في عقلها وقلبها:
ـ عبد العزيز أخويا وابني، وعياله عيالنا، وانتِ مرات أخويا يعني مقامك كبير كيف مقام أختي. بس أختي لو غلطت مرة بعديها والتانيه بردك بعديها وبمزاجي وبكيفي، بس لو اتمادت في الغلط؟ بوقفها وبعرفها غلطها وبفهمها وإن معقلتش بالذوق هتعقل بالعافيه.
شعرت صباح أن عينيها بدأت تدمع، لكنها أسرعت بمسح دموعها قبل أن يلاحظ، بينما حسين يتابع بنبرة أكثر جدية:
ـ الغلط وارد يا صباح، وانتي معذورة، مش عارفه تعيشي زين وترمي من جواكي سوا.د القلب، بس اللي مش وارد إننا نسيب بيتنا يتفرق أو حد يشمت فينا. دي أصولنا اللي اتربينا عليها، واللي عمري ما هفرط فيها.
رفعت صباح عينيها للحظة، محاولة أن تقول شيئًا، لكن نظرته الحادة أوقفتها، وكأنها شعرت أن أي كلمة قد تزيد من الموقف سوءًا.
تابع حسين بصوته الثابت الذي يشبه ضربات المطرقة:
ـ الكبير فينا بيشيل الصغير، والصغير بيحترم الكبير، وده اللي مخلي اسمنا مرفوع، مهما حصل، الرجولة والجدعنة دايمًا فوق دماغنا. فاهماني ولا أقول تاني؟
ثم نظر اليها وقال بعزم:
ـ الحريم في دار القواسمه متصانين، ليهم كرامتهم وعزهم، أصلا هما عمود الدار اللي بيشيلوا الهم عننا، واللي بيربوا العيال وبيهونوا علينا شقى العمر كله. الحريم في دارنا هي أمي، وأختي، ومرتي، ومرتي أخوي، عيني ما تترفّع فيها أبدًا، وكل واحدة فيهم كنها أختي ومن دمي. ويحرم علينا غير اكده. بس انتي عمرك ما هتفهمي حاجه زي دي، ولا هتحسي بيها.
أحست بارتباك يزداد داخلها، خاصة عندما أضاف حسين بصوت غاضب، وكأنما يضع النقاط على الحروف:
ـ أوعي تكوني فاكره ياصباح اني مش داري باللي بيحصل في الدار تبقي غلطانه قوي قوي، بعون الله النمله اللي بتاكل القمح في الجورن عندي علم بيها. غلطك في مرتي مرة واتنين وعديناه، غلطتي في مرت سالم قبل سابق وعملنا نفسنيا مش واخدين بالنا.
.حسان أخوي أصغر واحد في اخواتي، والبكري ليا اني. وعم العيال لمن ضر.ب عيال الدار عشان راحوا عند السكه الحديد وخايف عليهم، وقام مرجعهم على الدار؟ كل الحريم محد نطق فيهم، عادي عمهم وبيربيهم، إلا انتي حسك علي عليه وجاب آخر الدار. وامي الجاحه هى اللي نجدتك مني، وقولنا ماشي عديها لجل عيون الحاجه، ده غير مصايب كتير عملتيها وخناقات ملهاش أول من آخر وكله من وره جُرتك انتي.
وتسخين جوزك علينا وتملي ودانه عشان يقف قدام ابوه واخوه الكبير، بس مرجلة أخوي اللي بتوقفني، لأنه راجل وبياخدك على قد عقلك لأنه عارف إن عقلك صغير، ده غير الهم والغم اللي معيشاه فيه، عبد العزيز خلاص جاب آخره منك ومن عمايلك وياه، ناسيه إن كل مكيال بياخد على قده؟ لاه انتي خليتي عبد العزيز مكياله يطوف ويدلدق على الأرض. بس مش هيفضل ساكت كتير عليكي خلي دي في راسك.
واني إن كنت سكت عن ده كله، وبقول ولية عيانه في دماغها الله يعينها على حالها، بس انه اخرتها تستفردي بأن ابومي وامي مش موجودين في الدار تقومي تمدي إيدك على حرمه من حريمنا! لاه، وكمان مش عاجبك أمر ابويا في حديت الدار وعايزه دار لروحك!!! يبقى لحد هنا ولازمن تتأدبي.
كانت صباح تشعر كأن الكلمات تطبق على صدرها، وكأنها تُحاسب على كل خطأ صغير ارتكبته، ولم تكن قادرة على الرد أو حتى محاولة الدفاع عن نفسها.
واصل حسين بشدة، وهو يضرب بعصاه الخشبيه أرضا.وكأن كل كلمة منه تمثل حكمًا لا يقبل النقض:
ـ اني الكبير ياصباح، وإن كنتي فاكره إن سكوتي هيخليكي تتفرعني. اني هخليكي ترجعي زي ما كنتي، لسانك في حلق جوفك ولا تطقي بكلمه بعد أكده.
نهض من مكانه، وقف أمامها وكأنه جبل لا يتزحزح، ونظر إليها نظرة أخيرة قبل أن يقول بصرامة:
ـ رجالة القواسمه كيف العُقد مايتفككوش، وكلمتنا واحدة زي السيف، وأي حد يحاول يلعب ويانا بالنا.ر هيتحر.ق بيها أول واحد، سواء كان قريب ولا غريب. اي نعم انتي مننا، بس فوقي واعرفي مكانك.
ثم خرج بخطواته الواثقة، تاركًا صباح جالسة بمفردها، وجهها ممتلئ بالندم والخجل، وعقلها يدور في دوامة من الأفكار. لقد أدركت أن حسين ليس مجرد كبير البيت، بل هو الروح التي تجمعهم، ولن يسمح لأحد، حتى لو كانت هي، أن تمس هذه الروح.
عادت صباح إلى دار زوجها مع حسين، دون أن تنبس بكلمة. كانت خطواتها بطيئة، كأنها تستجمع شجاعتها للدخول إلى البيت الذي تركته خلفها أيامًا طويلة. بمجرد أن وطأت قدماها عتبة الدار، لم ترفع عينيها، توجهت مباشرة نحو المطبخ، حيث كانت النساء منشغلات بإعداد الطعام.
حين دخلت المطبخ، توقف الجميع للحظة بدهشة لرؤيتها، ثم بدأت الابتسامات تعلو وجوههن، واحتضنها بعضهن بحفاوة واضحة. كانت شوق من أوائل من اقترب منها بعد أن نظرت إليها سميره بتقديم الود أولا، رفعت يدها بابتسامة صافية واحتضنتها وقالت:
ـ حمدلله ع السلامة يا صباح، والله البيت كان ناقصك. وملوش حس من غيرك، نورتي الدار والكفر كله.حمدلله على السلامه يام راضي.
ترددت صباح قليلاً، ثم بادلتها التحيه، وشعرت بدفء غير معتاد. كانت تلك اللحظة مختلفة، وكأن شيئًا ما انكسر بداخلها. نظرت إلى وجوه النساء، وهن يتبادلن الأحاديث والضحكات معها، وشعرت أن ما كان غائبًا عنها بدأ يتضح: لم تكن وحيدة كما كانت تظن. هذا البيت مليء بالحب الذي تغافلت عنه.
بيدين ترتجفان قليلاً، بدأت صباح تساعد النساء في تجهيز الطعام. كأنها تحاول تعويض ما فات. شعرت بأن شيئًا صغيرًا في داخلها يتغير، وكأن الأمل الذي ظنت أنه ضاع بدأ ينسج خيوطه من جديد. لكن حديث حسين لها لم ولن تستطيع نسيانه، فإن كلماته أصابت شيئاً ملموساً داخلها، جعلها تشعر بالندم.
وقت الإفطار:
اجتمع الجميع حول الطبلية الكبيرة، الأطفال يلعبون بجانبهم، والرجال يتحدثون بمرح. جلست صباح في طرف الطبلية، تنتظر أن يبدأ الجميع. حين أطل عبد العزيز، جلس في الزاوية الأخرى، متجنبًا النظر إليها تمامًا. كانت تراقبه بصمت، تحاول أن تفهم ما يدور في ذهنه. لكنه بدا كأنه يضع حاجزًا بينهما، يأكل مع إخوته دون أن يلتفت إليها. شعرت بوخز في قلبها، لكنها لم تنطق. تكتمت على ألمها، وركزت على الأجواء من حولها، لكنها لم تستطع تجاهل الجفاء.
بعد صلاة العشاء:
بدأ الجميع يستعد للنوم، استعدادًا لصلاة العيد وذبح الأضاحي في الصباح. الأطفال كانوا متحمسين، يركضون في الفناء، بينما الكبار ينظمون الأمور بهدوء. صباح انسحبت بهدوء إلى غرفتها، لتجد عبد العزيز قد سبقها. كان مستلقيًا على السرير، ظهره نحوها، دون أن يلقي عليها ولو نظرة واحدة.
وقفت للحظة تنظر إليه، كأنها تنتظر كلمة أو إشارة، لكن لا شيء. تنهدت بهدوء، ثم جلست على طرف السرير، تحاول أن تستجمع ما تبقى من قوتها. شعرت أن الطريق طويل، لكن فكرة الأمل التي بدأت في المطبخ كانت لا تزال تلهمها. علّ الغد يحمل شيئًا مختلفًا.
بعد يوم طويل ومشغول بتحضيرات العيد، جلس حسين على حافة السرير، منهكًا ولكن يبدو عليه الارتياح. سميرة كانت ترتب ملابس العيد للأطفال، لكنها لم تستطع كتمان فضولها. التفتت إليه وقالت بهدوء:
ـ يعني فجأتنا بإنك جبت صباح، هو عبد العزيز اللي قالك تجيبها؟
رفع حسين رأسه ونظر إليها، ثم هز رأسه نافيًا وقال:
ـ لاه، عبد العزيز منطقش بكلمة، كنه مصدق هو راخر إنها تسيب الدار وتروح. بس هو معذور، داق منها مرار ياما. لكن اني قولت كفاية لحد كده. العيال مالهمش ذنب، حرام يعيدوا من غير أمهم.
ابتسمت سميرة بحنان وجلست بجواره، تنظر إليه بتقدير. قالت بابتسامة لطيفة:
ـ زين ما عملت يا سيد الناس، جبرت بخاطر العيال. إلهي يجبر بخاطرك زي ما دايمًا بتجبر بخاطر اللي حواليك.
تنهد حسين وقال بنبرة فيها رضا:
ـ يا رب، ويرجع الحج والحاجة على الدار تاني بخير وسلام.
لم يهدأ بال سميره حيث كان قلبها مشغول بأفكار كثيرة. كانت تراقب حسين بعينين ممتلئتين بالتساؤلات، وهى تضع الملابس على الدكة الخشبيه، ولكن في نفس الوقت، كانت تلاحظ شيء غريب في صباح. شعرت بوجود تغيرات غامضة في تصرفاتها، كما لو أن هناك شيئًا ثقيلًا على قلبها. كانت سميرة تحاول تفسير هذا التغير، لكن الشكوك تزداد بداخلها.قالت سميرة، وهي تحاول فهم الوضع:
ـ بس في حاجه غريبه يابو صالح، صباح كنها مش هي.
أجاب حسين ضاحكًا، محاولًا تهدئة الموقف:
ـ كيف يعني؟ أومال مين دي عفريتها ولا ايه؟
قالت سميرة، موضحة وهى تجلس أمامه:
ـ لاه، قصدي يعني كنها متغيره خالص، كنها واحده تانيه مش صباح اللي نعرفها.
كان يدرك السبب وراء هذا التغير، ابتسم بسخرية وقال لها:
ـ كيف يعني واحده تانيه؟ ماهو يا إما تكون صباح، يا إما واحده تانيه ركبها جني.
أجابت سميرة وهي تتذكر تصرفات صباح:
ـ لاه الشر بره وبعيد جن إيه بسم الله، اني بس بقول هى لمن دخلت الدار كانت ساكته وترد على قد الكلمه، تحسها حزينه قوي وفي حاجه كبيره مزعلاها.
نظر إليها بتبرم، وقد تكون لديه بعض الأفكار المخبأة في ذهنه. قال وهو يحاول تفسير الوضع:
ـ اممم يمكن مثلا عشان جوزها مجابهاش بنفسه.
لكن سميرة كانت ترفض هذا التفسير، وأصرت على أن هناك شيء آخر:
ـ لاه، مش ده السبب، لو أكده كانت اتعفرتت عليه أول ما خطت برجليها الدار. الموضوع كنه كبير قوي.
ثم نظرت إلى حسين بشك، وسألته بلهجة مليئة بالفضول:
ـ هو انت لمن روحت تجيبها؟ قولتلها حاجه تزعلها؟
ابتسم حسين بمكر وقال:
ـ اني؟طب داني غلبان، مش عارف ليه الكل متفق اني ضايقتها، اني ملحقتش أقول كلمتين ع بعض، يدوبك سلمت عليها هي وابوها وجت معاي.
نظرت سميرة إليه بعينيها اللامعتين وكأنها لا تصدق ما قاله، ولكن حسين أكمل بحزم:
ـ ربك يهدي من يشاء يام صالح، ويلا نامي بكره عندنا عيد ياولية. كل عام وانتي بخير.
تنهدت سميرة بحب وقالت بصوت حنون:
ـ وانت بخير وينعاد عليك بالصحه والستر ويخليك لينا يا بو صالح.
ظلت صباح واقفة بجانب سرير عبد العزيز، تتردد في أن تبدأ بالكلام. كانت مشاعرها متشابكة، قلبها يعتصره الحزن، وعقلها مليء بالتساؤلات. كانت ترغب في البدء من جديد، ولكن كيف؟ كان زوجها على سريره، ظهره إليها، وكأنه غارق في نومه العميق، لا يكترث لما يدور حوله.
ابتلعت صباح لعابها، ومدت يدها بحذر ووضعَتْها على كتفه. كان جسده باردًا، كأنما يحاول أن يهرب من حديثها قبل أن يبدأ. ثم نطقت أخيرًا بصوت ملؤه العتاب:
ـ عبد العزيز، انت نمت؟
لم يرد عليها، وظل مُتثاقلًا في نومه، غارقًا في صمته. لكنها لم تيأس، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم تابعت بلهجة مفعمة بالألم:
ـ كنت مفكراك هتفرح بشوفتي، بس أظاهر طلع عكس كده.
تافف عبد العزيز في سكون، وكأنها لم تكن موجودة، إلا أنه لم يرد.
أحست صباح بمرارة في قلبها، وتابعَت بصوتٍ منخفض، ولكنه كان مليئًا بالعتاب:
ـ هونت عليك تسيبني كل الأيام دي ومتجيش تشوفني؟
تُرك عبد العزيز السرير فجأة، وألقى بالغطاء جانبًا بحركة حادة، وكأن الكلمات التي احتبسها طويلاً انفجرت في لحظة واحدة. نظر إلى صباح مباشرة، ونبرته كانت مشبعة بالغضب المكبوت الذي لم يعد يقوى على إخفائه.
قال بنبرة حادة:
ـ آه هونتي يا صباح، بعد كل اللي عملتيه معايا ومع أهل الدار تهوني وتهوني قوي كمان.
نظرت إليه صباح باندهاش وشيء من التوجس، وسألته بصوت خافت:
ـ ليه كل ده؟ اني يعني عملت إيه علشان تكرهني بالطريقة دي؟
لم يتردد في الرد، وكأنه ينتظر هذا السؤال ليطلق كل ما بداخله:
ـ لساكي بتسالي ليه يا صباح؟ بعد ما صغرتيني وقللتي من وجودي؟ وكل ده اني عارف سببه.
بسبب اني طيب معاكي وبسمع وبفوت، طلعت قليل في مرجلتي. إخواتي الرجالة اللي أصغر مني كل واحد فيهم عارف يحكم مرته، وهما طوع كلمتهم. عارفة ليه يا صباح؟ عشان بيحبوا رجالتهم. الست اللي تحب راجلها صح؟ متحبش أنه يبقى قليل في نظر حد. كل زنبي اني حبيتك قوي ومش قادر أزعلك مني. بس مكدبش عليكي، معزتك في قلبي بتقل يوم عن يوم، لحد ما خلاص. اختفت. مانتي ردمتي عليها بظلمك وجبروتك ليا.
وقف لحظة ليأخذ نفسًا، ثم أكمل بنبرة أكثر وجعًا:
ـ على طول مش راضية عن أي حاجة، معندكيش قناعة بأي حال، ولا بتحمدي ربنا على اللي انتي فيه. عندك راجل وعيال ودار سترّاكي، ولقمة حلوة مشبعاكي، وهدمة زينة زيناكي. عاوزة إيه تاني؟ عوزاني أروح أمسك في خناق أخويا الكبير وأقوله وزّع الورثة على حياة عين أبونا عشان أريح مرتي وأجبّلها دار؟ ولا أمسك البند.قيه وافرغ كل البارود اللي فيها في أهل الدار واخلصك منيهم عشان ترتاحي؟ ده اللي انتي عاوزاه يا صباح؟
حركت رأسها بالرفض وتريد أن تدافع عن نفسها. ولكن رفع هو صوته قليلاً مع تصاعد مشاعره:
ـ نستيني الضحكة كيف تكون، نسيت كيف البال يبقى رايق. شايف سواد مالوش آخر ، قلبي وجعني قوي جواه نا.ر بتحر.قني ومحدش حاسس بيا، كان نفسي تحسي شوية بيا بدل مانتي كل همك الفلوس والاطيان ، كل حياتي بقت هم بهم. وصلتيني بأني بقيت وأنا داخل الدار بحس كني داخل قبر، وهلاقي فيها حساب الملكين منك ومن عمايلك.
طهقت من الزن والظلم وقلة رضاكي بأي حاجة تحصل. انتي طماعة يا صباح، طماعة، والعين الطماعة ما يملهاش غير التراب.
قبضت يداه بقوة وكأنه يحاول أن يكبح غضبه، لكن عروقه البارزة على يديه ورجفة صوته كشفتا عن غليانه الداخلي. أخذ نفسًا عميقًا، وكأن الهواء في الغرفة أصبح ثقيلاً، ثم أدار وجهه بعيدًا عنها، ناظراً إلى زاوية مظلمة في الغرفة. وهو يقول مهدداً:
ـ لو فضل الحال بينا أكده، مش هتلاقي مني غير اني رامي عليكي اليمين بالتلاتة، وساعتها هقول بعلو صوتي: تحرمي عليا ليوم الدين. وبكفاياكي بقى يا صباح. كفاياكي وخليكي في حالك، وأنا في حالي.
كانت الكلمات كالسكاكين، مزقت كل أمل كانت صباح تظنه موجودًا. لم ترد عليه، كانت عيناهما تلتقيان لكنها لم تجد أي مفر. عبد العزيز أدار ظهره لها فجأة، واستلقى مجددًا وكأن النقاش انتهى بالنسبة له.
جلست صباح مكانها بصمت مطبق، كأن الصدمة شلّت لسانها. أمعنت النظر في الجدران، كأنها تبحث عن تفسير لما حدث، أو عن مخرج من ألمها. شعرت أن الغرفة تخنقها، فنهضت بتثاقل، وسارت نحو السطح. هناك، جلست وحدها تحت سماء حالكة، والدموع تهطل من عينيها بلا توقف، تحكي عن انكسار لا أحد يراه.
كان صالح عائدًا من ترتيب بعض الأمور في فناء الدار، عندما لمح حركة خفيفة فوق السطح. توقّف لحظة يتأمل، ثم صعد بخطوات حذرة، متسائلًا عن سبب وجود أحدهم هناك في هذه الساعة. ما إن وصل حتى وجد صباح جالسة تحت السماء المظلمة، عيناها تلمعان بالدموع كأنها تحمل عبئًا ثقيلًا فوق كتفيها. اقترب منها بهدوء، مراعياً ألا يُفزعها، وقال بصوت يحمل شيئًا من التعجب:
ـ خير يامرات عمي، قاعدة في الضلمة لوحدك ليه؟
انتفضت صباح قليلاً عند سماع صوته، كمن ضبط متلبسًا، ثم التفتت إليه سريعًا، تمسح دموعها بيد مرتجفة وتحاول تمالك نفسها. لم تقل شيئًا، لكن عينيها الباكيتين كانتا أبلغ من أي كلام. جلس صالح بجوارها، ناظرًا إليها باهتمام ممزوج بالشفقة، وأكمل بصوت هادئ ومطمئن:
ـ طيب ليه البكا ده كله؟ دي الدنيا عيد يا مرات عمي، مالك بس؟ المفروض انتي لسه راجعه دارك يعني تنوريها مش تغمقيها بدموعك.
ترددت صباح للحظة وهي تحاول إخفاء ارتجاف صوتها، لكن المشاعر غلبتها، وقالت بصوت مخنوق بالكاد يخرج من حلقها:
ـ ويفيد بأيه رجوعي لمن عمك مش رايدني كيف الأول، أبوك عبد العزيز جرحني أوي بحديته وياي، وقالي كلام سمم بدني بيه، وحاسه اني مش قادره أتنفس منه، حاجه كبيره طابقة على على قلبي.وبرضو مش عارفة أعمل إيه عشان اخليه يسامحني ويرضى عني.
ظل صالح صامتًا للحظات، ينظر إلى الأرض وكأنه يفكر بعمق. ثم رفع عينيه نحوها وقال بحكمة تحملها نبرته الهادئة:
ـ بصي يا مرات عمي، الزعل ده وارد بين أي اتنين. يمكن عمي لسه واخد على خاطره شوية منك، وعايزك تتأكدي إن ورا كل باب في البيت ده! مداري حجات ياما ومشاكل كتير اوي. محدش عايش في فرح دايم ،لأن دي سنة الحياة. لكن الأجمل بقى إننا نغير من نفسنا ونحاول نعيش حياتنا بطريقه أبسط من كده بكتير ونبعد عننا اي حاجه تعكنن علينا وتخلي حبايبنا يزعلوا مننا؛ بس أرجع واقولك الأيام كفيله تنسي أي زعل حصل بينكم، لكن الأهم من كل ده، بما إنك مضايقه وزعلانه على زعل عمي؟ لازم تتغيري يامرات عمي، ولازم إنك تثبتي لنفسك قبل ما تثبتي لعمي إنك اتغيرتي. مش علشانه بس، لكن عشانك. صدقيني كل اللي حوالينا شايفين إنك طيبة بس من جواكي، وداخلك فيه جوهر جميل لكن بتحاولي تتداريه، و يمكن الغلاف اللي بتستخبي وراه ده؟ هو اللي بيخلي بعض الناس يشوفوا عكس كده. وبيحكموا عليكي من خلاله.
تسللت كلماته إلى قلب صباح كنسيم بارد في ليلة خانقة، لكنها لم تستطع منع نفسها من التساؤل. نظرت إليه بتردد وسألت بصوت خافت:
ـ قصدك اتغير؟ اتغير إزاي يعني؟ يعني أعمل إيه وكيف؟
ابتسم صالح برفق، وكأن كلماته القادمة تحمل وعدًا بالأمل، وقال:
ـ ابدئي من نفسك، بيني طيبتك وحنيتك لكل اللي حواليكي. الحياة اقصر من إننا نحارب بعض علشانها. ومش عيب نبين إننا بنحب وحنينين مع اللي بنحبهم، وده عمره ما هيبان ضعف. العكس، هيبان قوة. صدقيني لو حاولتي، هتلاقي الكل في البيت فرح بيكي، وأولهم عمي. وهترجع المية لمجاريها. عمي عبد العزيز أكتر واحد متسامح وقلبه أبيض صافي وصدقيني بيحبك زي الأول واكتر.بس انتي قربيه منك تاني. وهتشوفي النتيجة.
ظلت صباح تنظر إليه بصمت، تشعر أن كلامه لامس شيئًا عميقًا داخلها، شيئًا نسيته منذ زمن. أومأت برأسها ببطء وكأنها تعاهد نفسها بالتغيير. وقبل أن يقوم صالح، نظر إليها بابتسامة مشجعة وقال:
ـ دلوقتي قومي نامي، علشان تصحي فايقة ومصحصحة. بكره عيد، ومحتاجينك معانا.
وقفت صباح بتثاقل، لكن قبل أن تخطو نحو السلم، التفتت إليه وقالت بصوت خافت يحمل امتنانًا:
ـ كل سنة وانت طيب يا صالح.
رد صالح عليها بابتسامة دافئة، مفعمة بالإخلاص:
"وإنتِ طيبة يا مرات عمي. واحلا عيد بيكي ومعاكي.
ظلّت كلمات صالح عالقة في ذهن صباح وهي تنزل ببطء، كأنها شعاع أمل صغير وسط ظلام كبير، شعرت للمرة الأولى أن لديها فرصة حقيقية لتعيد بناء ما تحطّم حولها.