رواية بقايا عطر عتيق الفصل السابع عشر 17 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل السابع عشر بقلم مريم نصار 

مع أول خيوط الفجر، امتزج صوت أذان الفجر مع تكبيرات العيد التي علت من مآذن المساجد. استيقظت القرية على صوت "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"، لتبدأ طقوس يوم لا يشبه غيره. كانت النساء أول من نهض، كل واحدة منهن تعرف دورها بدقة في هذا اليوم المميز.
في البيت الكبير، بدأت سميرة بإشعال الكانون في الركن المخصص لطهي الشاي، بينما انشغلت صباح بترتيب الملابس الجديدة التي سيخرج بها الرجال للصلاة. إخلاص أحضرت إناء اللبن ووضعته على النار لتدفئته، بينما كانت شوق تقطع بعض الخبز الطازج لوضعه على الطبلية استعدادًا للإفطار بعد العودة من الصلاة.

في هذه الأثناء، كان الأطفال يركضون في الفناء، يرتدون الجلابيب الجديدة التي أعدتها الأمهات، يتحسسون جيوبهم بحثًا عن العيدية التي وعدهم بها الكبار. كان الضحك يملأ الأرجاء، والصياح يتردد في كل زاوية.

في غرفة النوم، كانت سميرة تساعد حسين في ارتداء جلبابه الجديد. أغلقت الأزرار بعناية، ناولته عكازه، ثم فتحت زجاجة العطر، ورشت قليلاً على يديه وكتفيه، وهي تقول بابتسامة:
ـ كل سنة وانت طيب يابو صالح، ربنا يجعله عيد سعيد عليك وعلينا يارب.
نظر إليها بحنو، وقال: 
ـ وأنتِ طيبة ياست الناس.
ثم خرج إلى الصالة الكبيرة، حيث كان إخوته ينتظرونه. صافحهم واحدًا تلو الآخر، قائلاً:
ـ صباح الخير يا رجاله. كل سنة وانتوا طيبين.
رد عليه عبد العزيز بابتسامة: 
ـ وانت طيب يابا الحج. والسنة الجاية إن شاء الله تكون على جبل عرفات.
أمن الجميع عليه ثم أضاف اسماعيل وهو يمسك بيد طفله الصغير وقال:
ـ يلا بينا يارجاله قبل ما الجامع يمتلي.

خرج الرجال مع الأطفال، يسيرون في صفوف نحو المسجد، حيث امتلأ الطريق بالتكبيرات والتهاني. كانوا يخطون بخطوات سريعة، بينما الأطفال يقفزون حولهم بفرحة لا تخفى.

في المسجد، اصطف الجميع في صفوف الصلاة. بعد الخطبة، كان الرجال يتبادلون الأحضان ويصافحون بعضهم بعضًا، ثم يعودون سريعًا إلى البيت لاستكمال طقوس العيد.

عند العودة، كان كل رجل يدخل بيته، يحيي زوجته وأطفاله. حسين، بابتسامة كبيرة، وضع يده على كتف صالح، قائلاً:
"كل سنة وانت طيب ياصالح."
قبّل صالح يد والده وتقدم عبد الرحيم أيضاً ليقبّل يد والده، وكل أفراد العائلة منشغلون في تبادل التهاني.
بينما عبد العزيز، رغم ابتسامته لأولاده، ألقى سلامًا باردًا على صباح، فابتلعت الأخيرة ألمها، مكتفية بنظرة قصيرة وهمسة في قلبها: باين إن قلبك جمد عليا ياعبد العزيز، معقوله! معقوله يكون مبقاش طايقني صُح؟

في فناء البيت، اجتمع الرجال مرة أخرى. أحضر عبد العزيز وحسان البقرة التي جهزوها منذ أيام خصيصًا لهذا اليوم. إسماعيل كان يسن السـ.ـكين بعناية، بينما حسين نادى على صالح:
ـ جمع العيلة كلها يا صالح. خليهم يحضروا الاضحيه. وخلي العيال قبل منيهم تحضر.

وقف الجميع حول البقرة. أخذ سعد السكـ.ـين، بينما كان الرجال يرددون التكبيرات بصوت واحد:
"الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.

بيدٍ ثابتة، قام سعد بالنـ.ـحر مع التسمية، بينما النساء وقفن خلف الرجال يراقبن المشهد. كانت الد.ماء تسيل على الأرض وسط دعوات الجميع بقبول الأضحية.

بعد الانتهاء، اجتمع الرجال وعلى رأسهم حسين لتقسيم اللحم. وضعوا نصيبًا كبيرًا للفقراء، وآخر للجيران، بينما أُبقي الباقي داخل البيت الكبير. كانت وفاء تقول لجميعهن:
ـ احلا حاجه في العيد الكبير ده. إن كل فقير ربنا بيجبر بخاطره ويعيد كيفه كيف اللي معاه وعنده بالملي.

جلس الرجال في الساحة يوزعون اللحم ويتحدثون. قال حسان:
ـ بردك تحس العيد ده فرحته مش زي كل سنه، ابويا الحج وأمي الحجه بيخلوا للدار طعم تاني.

أومأ إسماعيل برأسه، قائلاً:
ـ على قولك ياحسان ياخويا، كانت الدار ليها هيبه كده وفرحه وهما وسطينا، ربنا يرجعهم لينا بالسلامه.

عاد البيت الكبير ليملأه الصخب والضحك، لكن اشتياقهم للجد والجدة بقيت عالقة في قلوب الجميع. كانت أجواء العيد تحمل الفرح، لكنها لم تخلو من الشجن.

بعد انتهاء الرجال من تقسيم الأضحية، تحركت النساء كخلية نحل، لا تعرف السكون. في غضون دقائق، كانت الأواني ممتلئة بقطع اللحم الطازجة، تنقلها النساء من المطبخ إلى الحوش الكبير. سميرة قامت بإعداد الفتة برائحة تفوح في الأرجاء، صباح تولت تحمير اللحم، وعزيزة بدأت بتقطيع الخبز الساخن. وفاء وإخلاص كن يضعن الأطباق على الطبلية الكبيرة، بينما شوق ونعمة ينقلن الصحون الصغيرة التي ستوضع حول الطبلية.

مع اجتماع العائلة الكبيرة، كانت الأجواء مليئة بالفرحة والضحكات. الرجال جلسوا في المقدمة، الأطفال تحلقوا حول الطبلية، بينما وقفت النساء يتابعن التقديم ويتبادلن النظرات المليئة بالحب والاعتزاز بما أعددنه. حسين، الذي جلس في منتصف الطبلية، ألقى نظرة على الجميع وقال بابتسامة:
- الكل يمد ايده وياكل، ويدعي لابويا الحج وامي الحجه، لولاهم بعد ربنا مكنتش الجمعه الحلوه دي موجوده.

اتفق الجميع على حديثه وبدأوا بتناول الطعام، ثم بعد أن انتهى الجميع من تناول الفطور، قامت عزيزة بإحضار الشاي. وضعت الكاسات على صينية نحاسية قديمة مزينة بزخارف، وبدأت في توزيعها. جلس الرجال في الصالة الكبيرة، بينما النساء تجمعن بالقرب منهم يتهامسن ويضحكن.

كان حسين يحتسي الشاي بصمت، ينظر إلى الأفق وكأنه يفكر في شيء مهم. قطع صالح الصمت قائلاً:

ـ يابا، هنودي المواسم لعماتي امتى؟ أول يوم ولا تاني يوم؟ اني بقول بكره أحسن علشان محدش فاضي دلوقتي ، كله مشغول بالد.بح أول يوم.

ابتسم حسين ورد عليه بهدوء:

ـ زي كل سنة يا صالح، وزي ما اتعودنا، لازمن نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا يا بني. النهارده بعون الله.

تدخل إسماعيل متسائلاً:
ـ ايوه بس متأخذنيش يابا الحاج حسين ، كل سنة أبويا الحج، هو اللي كان يروح بنفسه لعماتي الكبار يودي العيد. السنة دي إيه اللي هيتم؟

تنهد حسين قليلاً، ثم قال بحزم:
ـ بمشيئة الرحمن، اني اللي هودي الأعياد لعماتي كن أبويا الحج موجود بالظبط.مفيش حاجه هتتغير ياسماعيل.

نظر إلى إخوته وأكمل:
ـ والمواسم الباقيه هتتقسم عليكم، وكل واحد هيلتزم باللي هيتقال.

توجهت الأنظار إليه باهتمام، وانصت الجميع. قال حسين وهو يشير اليهم:

ـ  موسم الحاجة فتحية أختي الكبيره، على عبد العزيز ومرته وهيسافروا في قطر الساعة 12. وياخدوا عيالهم معاهم كمان.

عبد العزيز قَلَب وجهه، وصباح شعرت بمزيج من الصدمة والفرحة، فقد كانت تحلم بالسفر ولو مرة واحدة مع زوجها.
أكمل حسين:
ـ وسعد ومرته ياخدوا العيد ويروحوا لزينب، وسالم ومرته عليهم عيشة، وإسماعيل ومرته هيروحوا لفاطمة. أما حسان، هياجي معايا لعماته.

تدخل صالح متعجبًا:

ـ طب وأنا يا با؟ أنت نسيتي ولا إيه؟ لازم يبقى ليا دور في صلة الرحم. دي وصية جدتي وكده تزعل مني. لو عرفت بحاجة زي كده. 

ضحك حسين وقال:
ـ ابلع ريقك وخد منابك صبر ياولدي. وبعدين انت ناسي إنك ليك إخوات بنات متجوزين،ولا إيه يا صالح؟ أنت وأخوك عبد الرحيم هتاخدوا العيدين، تروحوا الأول لأختكم عيشة، وبعدها تروحوا لأختكم زينب. وخدوا نعمة معاكم، أهي تفرح شوية مع عيال اخواتها.

ابتسم الجميع وأومأوا بالموافقة، وبدأ كل منهم يخطط ليومه، مستعدين للحفاظ على إرث العائلة وأجواء المحبة التي كانت تجمعهم دائمًا.

بينما كان حسين يتحدث عن توزيع المواسم، تدخلت عزيزة بابتسامة خفيفة ومحاولة بريئة، قائلة:

ـ ابا الحج حسين، اشمعنا صباح هي اللي تروح لعمتي فتحية؟ ماني كمان نفسي اروح وعاوزه أركب القطر.

لم ينتظر إسماعيل طويلًا قبل أن يرد بعفوية واضحة:
ـ سكت مرتك يا حسان، مش ناقصين تسكت واحدة تطلع التانية. ولا هى الدار دي مكتوب عليها لازمن تاجي واحده ترازي فينا؟

لكن فجأة، أدرك إسماعيل أنه قد قال ما قد يُزعج عبد العزيز، وكاد أن يضيف كلمة للتبرير، إلا أن حسان قاطعه بسرعة قائلاً بلهجة صارمة:
ـ اسكتي ساكته يا عزيزة، مدام أبويا الحج حسين قال كلمته يبقى انتهينا.

ردت عزيزة بتبرير سريع وهي تضحك خجلًا:

ـ يوه مالك ياسي حسان اتزرظرت عليا ليه؟ والله مقصدي حاجة يابا اسماعيل، وحقك عليا يابا الحاج حسين إني بس نفسي قوي قوي أركب القطر وأجيب منه عسليّة بسمسم. سي صالح بيجيبها لنا وهو راجع من البندر وطعمها حلو قوي.

لم يرد حسين وظل يراقب المشهد وابتسمت وفاء بدورها وقالت بموافقة:

ـ معاكي حق والله يا عزيزة، ده صالح موكلنا الحلو كله، ولا لما جاب لنا المشبك قبل كده.يسلام، طعمه كان زي الشهد.

ضحك صالح وهو ينظر لهن بمودة، وقال ممازحًا:

ـ بس كده؟ من عينيّا، يا مرات عمي، وليكوا عليّا إن شاء الله الإجازة الجاية أجيب لكم عسليّة ومشبك زي ما أنتم عايزين. كل واحده ليها كيس لروحها كمان.

ثم أضاف بابتسامة واسعة وهو ينظر للجميع:

ـ وكمان في مفاجأة حلوه قوي، انا ناوي إن شاء الله، قبل ما جدي وجدتي يرجعوا من الحج، أجيب التليفزيون اللي وصّينا عليه ياجي من مصر. وده بعد ما أخدت الأذن من ابويا الحج طبعاً.

ساد المكان جو من الفرح والضحكات، حيث كانت النساء يتحدثن على هذا الجهاز الغير معروف ومنهم من يعرفه ومنهم لا يعلم عنه شيئا، بينما بدأ الرجال يتبادلون الأحاديث عن التليفزيون المنتظر، وكيف سيجمع العائلة في ليالي الشتاء القادمة.

مع اقتراب نهاية جلسة السمر التي جمعت العائلة في أجواء مفعمة بالود والفرح، وقف حسين في وسط الدار، محاطًا بأفراد أسرته. كان المشهد يفيض بالمسؤولية المعتادة في الأعياد، حيث اعتاد الأبناء على تنفيذ أوامره بدقة واحترام. أمر حسين نساء الدار بتجهيز السلال، التي ستُحمل باللحم والفتة والحلويات، لتُهدى إلى الأقارب والجيران كجزء من طقوس صلة الرحم التي توارثتها العائلة جيلًا بعد جيل.

تحركت النساء بسرعة ودأب، وكأنهن في سباق مع الزمن. كانت عزيزة منهمكة في وضع قطع اللحم بعناية في السلال الكبيرة، تضيف إليها العيش والفاكهة، بينما انشغلت شوق بتغليف الحلويات التي أعدتها منذ أيام، ملفوفة في ورق شفاف ومربوطة بشرائط ملونة. وفاء وإخلاص تعاونتا في نقل أطباق الرقاق والفتة، وسميرة بدت مشرفة على العمل، تتأكد من اكتمال كل التفاصيل بدقة تعكس حرصها على إرضاء الجميع.

بعد تجهيز السلال، بدأ الرجال في التحرك. ارتدى حسين جلبابه الجديد، الذي ساعدته سميرة على ارتدائه بلمسة من الرعاية والاعتناء، قبل أن يناولها ابتسامة خفيفة وهو يمسك بعصاه. خرج حسين برفقة حسان، يحملان السلال الثقيلة، وضعوها على العربة الكارو واتجها بخطوات واثقة نحو وجهتهما الأولى، حيث تقطن عماتهما الكبار في القرية المجاورة. تبعهم سالم وسعد وإسماعيل، كل منهم يسير على دربه المخصص وزوجته خلفه تحمل السله، يحيي المارة بابتسامات عيدية تعكس روح المناسبة.

أما عبد العزيز، مازال أمامه متسع من الوقت فقد اختار البقاء في الجنينه، يجلس على كرسي خشبي قديم، يراقب الأطفال وهم يلعبون ويلهثون بين أشجار الحديقة. كان يحدق في الأفق البعيد، غارقًا في أفكاره، يدرك جيدًا أن حسين أراد من هذا الترتيب أن يمنحه فرصة لقضاء وقت أطول مع صباح وأولاده، ربما لإعادة بناء جسور مهدمة بينه وبين زوجته.

لم يكن عبد العزيز على عجل؛ كانت فكرة السفر بالقطار إلى البلدة الأخرى ترهقه، لكنه لم يكن ليعصي أمر حسين في يوم العيد. جلس هناك، محاطًا بسكون الجنينه وأصوات الطبيعة، بينما استعدت صباح داخليًا للخروج. ارتدت عباءة سوداء مطرزة بخيوط فضية وشالًا أبيض يغطي رأسها، ثم خرجت لتجلس أمامه في صمت.

كانت الجلسة في الجنينه مشبعة بالهدوء الثقيل، حيث الهواء يتماوج ببطء حول الأشجار، وحفيف الأوراق يكسر الصمت بين عبد العزيز وصباح. نظرت إليه بعينين مشبعتين بالحزن، وكأنها تحمل على كاهلها كلمات ثقيلة أرادت أن تبوح بها منذ زمن بعيد. ترددت قليلاً قبل أن تبدأ، ثم قالت بصوت واهن يحمل صدقًا غير مزيف:

ـ عبد العزيز، اني عارفة إنك مبقتش طايقني، ولا عايز تشوف وشي تاني قدامك. بس اني عاوزه أقولك انت ظالمني ومش قادر تفهمني.

لم يرفع رأسه في البداية، لكنه تنفس بعمق وكأنه يستجمع غضبه قبل أن يرد بحدة: 
ـ مش قادر أفهمك؟ هو انتي خليتي فيا عقل يا صباح عشان أفهم من أساسه؟

لم يثنها كلامه عن متابعة حديثها. قالت وهي تحاول السيطرة على نبرة صوتها: 
ـ اني مش وحشه يا عبد العزيز، لو فكرت زين هتلاقي إني معايا حق ومش غلطانة في إني.....!

قاطعها عبد العزيز فجأة، وقد تصاعد غضبه كالنار: 
ـ تاني يا صباح؟ هنرجع للمواويل السودة دي تاني؟ إنتي مبتزهقيش؟ نقول طور يقولوا احلبوه؟

رفعت يديها بإشارة تدعو للهدوء وقالت بتوسل: 

ـ اصبر عليا وخليني أكمل كلامي. اني مش بتكلم في دلوقتي، إني بتكلم عن اللي فات.من سنين طويله.

نظرت إليه بعينين تحملان عمقًا وألمًا، ثم أوضحت: 

ـ اني مجتش على حد، ولا ظلمت حد، مظلمتش غير نفسي اللي معرفتش مصلحتها، وبعدين اني أم، وأي أم في الدنيا هتفكر في مصلحة عيالها زي ما عملت. واي واحده في مكاني كانت هتعمل كده وأكتر، زمان لما اتكلمت على علام صالح! طلعتني وقتها غلطانة؟ بس لا، اني مش غلطانة، ومش شايفه نفسي عملت حاجه اتجازى عليها، لأن من حق عيالي يتعلموا زيهم زي باقي العيال. مقولتش حاجة عفشة أُتجازى عليها بكلامك التقيل معايا. ودلوقتي لما طلبت دار جديدة، اني مقصدش إنك وأخواتك تتفرقوا عن بعض، يمين بالله مقصدي ولا في نيتي حاجة زي كده.

صمتت لحظة، ثم أكملت بصوت يملؤه الحزن: 

ـ كنت دايمًا أحلم اني وإنت والعيال يجمعنا بيت واحد. سقف واحد، أقوم فيه برحتي، وألبس اللي على كيفي، وأتدلع على  جوزي وأبو عيالي كيف ما أحب وفي أي وقت. أشوف خدمتك، وعلى قلبي هتبقى زي العسل. وأخد بالي من العيال. أفتح داري للضيف وأروح للقرايب والأحباب واني شايلة ومحملة من خير الدار. نفسي أكون زي أمي الحجة نعيمة، وإنت تبقى زي أبويا الحاج عبد الرحيم. عايزة أعمل دار كبيرة وأطلع من تحتها رجالة كيفك إنت وأخواتك. اني أبدًا مش عايزة مشاكل. عيبي إني مش بعرف أرتب حديتي، لكن إنت أكتر واحد عارف إن قلبي مش بيشيل، ولا بعوز الاذيه لحد،ولو كنت غير كده مكنتش اتحملتني العمر ده كله، يا أبو راضي.

أغمض عبد العزيز عينيه، وكأنه يحاول أن يهرب من ثقل كلامها. فتح عينيه وقال بصوت منخفض لكنه مليء بالعتاب: 
ـ هو لازم نخسر الناس اللي ربونا وتعبوا عشانا! عشان تدلعي في دار لروحك؟ ماهي كل الحريم اهى، زيك تحت سقف بيت العيله، مهنيين رجالتهم وبيخافوا على زعلهم، وكمان إيه مشكلتك؟ ماهو صالح وعبد الرحيم ولاد أخويا، اتربوا وكبروا في نفس الدار، وقدامك اهم رجالة تشيل المسؤلية شطارة وعلام ومفهومية.

تنهد بحسرة وأكمل: 
ـ والحريم؟ الحريم أهم، قدامك مدلعين رجالتهم ومخلينهم مش ناقصهم حاجة زي ما قولت قبل سابق. انتي وصلتيني لحاله عفشه قوي يا صباح، خليتي عيني تبص على حريم الدار واساويهم بيكي واشوف ايه الفرق بينهم وبينك، لقيت الفرق كبير قوي قوي، الفرق إن كل ست هنا في الدار حطه جوزها تاج فوق راسه بتتزين بيه قدام الكل، تشوف راحته فين وتعمله، تشوف رأيه ايه وتسمع كلمته، تقابله بالضحكه بعد شقى النهار كله، تطبطب عليه لما يقولها اني تعبان، ويشوف في عينيها خوف وقلق حقيقي من انه يروح منيها في أي وقت ؛ ساعتها يهون عليه كل تعب الدنيا بحالها، يغور الشقى ياصباح لو هنقابل قصاده طبطبه تجبر قلوبنا. 

صُدمت صباح عندما استمعت إلى حديث زوجها المؤلم، وكأنها أدركت للمرة الأولى أن خسارته قد تكون وشيكة، ومعها ستفقد الزوج الذي أحبها بصدق طوال حياتها. لأول مرة، رأت بوضوح الألم المستقر في عينيه، وكأنه كان يكتم وجعًا دفينًا طوال هذا الوقت. بينما هي غارقة في صدمتها، استرسل عبد العزيز في حديثه، وحزن صوته كان يعكس ثقل الكلمات التي أطلقها: 

 ـ الراحة مش إنك تقعدي في دار لروحك. الراحة بتيجي من القناعة والرضا يا صباح. وإني بقولك، ارضي، هتلاقي ربنا رضي عنك وعنّا.

تأملت صباح كلماته طويلاً، وكأنها تستجمع قواها لتقبل الواقع. تنهدت باستسلام، وقالت بصوت خافت: 
ـ هارضى يا عبد العزيز، لأن مفيش في إيدي حاجة أعملها غير إني أرضى وأسلم أمري لله.

نظر إليها عبد العزيز نظرة طويلة، وكأن قلبه يريد أن يبوح بشيء لكنه آثر الصمت. في تلك اللحظة، كان الهواء يحمل بينهما شعورًا بالهدوء، شعورًا مختلطًا بالقبول والمصالحة، ولو كان مؤقتًا.

مرّ العيد الكبير بسلام وأمان على أهل القرية، حيث عاش الجميع أجواء من الاستقرار والمحبة. وبعد انتهاء الاحتفالات، أعلن حسين قرارًا واضحًا: لن ينتقل أحد إلى البيت الجديد إلا بعد عودة أبيه وأمه من الأراضي المقدسة.

مرّت الأيام، وعاد الجد عبد الرحيم والجدة نعيمة من الحج، ليُضيئوا أرجاء البيت الكبير من جديد. أقيمت احتفالات عارمة بعودتهم، شارك فيها الجيران والأقارب، الذين جاؤوا للترحيب بهم وتقديم التهاني. لم يكن الاحتفال يقتصر على الطعام والضحكات فحسب، بل جاءت الجدة نعيمة محمّلة بالهدايا التي أسعدت الجميع. وزّعت على كنتها وفاء غوايش مغطاه باللون الذهبي، ولصباح خاتمًا فضيًا مزينًا بفص أخضر، أما إخلاص فقد حصلت على مسبحة مطعّمة بالفضه، وشوق تسلمت شالًا حريريًا مرصعًا بالخيوط الذهبية.وسميره مثلها أيضاً قدمت الجدة كذلك جلاليب بيضاء للرجال، ومصليات بألوان زاهية، بالإضافة إلى عبوات صغيرة من ماء زمزم والعطر القادم من مكة.

كانت فرحة الجميع بعودتهم غامرة، امتزجت فيها الضحكات والدموع. حتى صباح، التي كانت تشعر دائمًا بأنّها غريبة عن أجواء البيت الكبير، قدرت الآن الفرق الشاسع بين وجود الجد والجدة وغيابهما. رأت في حضورهما معنى الاستقرار والسكينة، فبدأت في محاولة جادة للرضا بنصيبها، كي تحافظ على أسرتها وزوجها.

وبينما انشغل الجميع في حياتهم، كانت إنجازات العائلة تبعث السرور والفخر. نجح أولاد عبد العزيز والتحقوا بالجامعة، بينما حصل صالح على درجات مرضية في دراسته، وواصل مسيرته التعليمية حتى أصبح في السنة الخامسة بكلية الطب.

ذات يوم، وبعد انتهاء محاضراته الطويلة، توجه صالح إلى محطة الترام مع أصدقائه. كان التعب بادياً على وجهه، لكنه شعر ببعض الراحة مع نسيم المساء وهو يركب الترام. وبينما كان الترام يتحرك ببطء، لفت انتباهه من خلف الزجاج فتاة تركض بخفة محاولة اللحاق به. بدت خطواتها مترددة ومجهدة، وكأنها بين خيارين: اللحاق أو الاستسلام.

دون تردد، مد صالح يده من عند باب الترام، ممسكًا بيدها ليساعدها في الصعود. استجابت سريعًا، ممسكة بيده بثقة امتزجت بالخجل. لم يكن هناك مكان شاغر للجلوس، لكن صالح تصرف بسرعة وطلب من أحد أصدقائه أن يترك لها مقعده، فجلس صديقه بجوارهما بينما استقرت هي على المقعد.

جلست الفتاة، وعيناها تشعان امتنانًا خالصًا. قالت بصوت رقيق ملؤه الخجل:
ــ متشكرة لحضرتك.

رد صالح، مرتبكًا بعض الشيء، وبنبرة هادئة:
ــ لا شكر على واجب.

أضاف، معرفًا بنفسه كنوع من كسر الجليد:
ــ أنا اسمي صالح، طالب في سنة خامسة في كلية الطب. أنتي معانا في نفس التخصص؟ لأن أول مرة أشوفك.

ابتسمت الفتاة على استحياء، وبدت كأنها تختار كلماتها بعناية قبل أن ترد:

ــ لا، أنا في تانية هندسة.

ثم اكتفت بالصمت، تاركة خلف كلماتها مساحة غامضة جذبت صالح أكثر.

أما صالح، فبين الحين والآخر كان يتأملها بفضول صامت. كانت فتاة جامعية تمثل صورة حقيقية لجمال الستينيات البسيط. ملامحها رقيقة، ذات وجه بيضاوي مشرق وبشرة سمراء نقية تكاد تشبه لمعان الحرير تحت ضوء الشمس. عيناها واسعتان بلون بني دافئ، تحملان في نظراتهما مزيجًا من الحياء والثقة. كانت تضع شريطًا أسود بسيطًا على شعرها الطويل المجدول، والذي انسدل بجمال على كتفيها.

ترتدي قميصًا أبيض بسيطًا ذا أكمام طويلة مغلقًا بأزرار ذهبية صغيرة، وتنورة رمادية تصل إلى منتصف ساقيها، مع جوارب شفافة وحذاء أسود أنيق ذي كعب منخفض. حقيبتها الجلدية البنية معلقة على كتفها، تكمل مظهرها الجامعي المتزن.

شعر صالح بشيء غريب يعتري قلبه، إحساس لم يكن يتوقعه. لحظة بسيطة كهذه، مد فيها يده للمساعدة، تحولت إلى بداية لقصة ربما لم يكن يدرك إلى أين ستأخذه. ظل يتأملها بخجل متقطع، وكأن عينيه تحاولان قراءة شيء أعمق مما يظهر على وجهها.

نزلت الفتاة في منطقة راقية، لم تخطُ سوى خطوات قليلة حتى بدأت تركض بخفة نحو بناية شاهقة مكسوة بالرخام، تظهر كأنها تعكس أناقة المكان الذي تنتمي إليه. ظل صالح يراقبها من خلف الزجاج، يتابعها بعينيه بينما الترام يواصل سيره البطيء. لم تستطع عيناه أن تفارق صورتها، حتى اختفت داخل البناية واختفى أثرها تمامًا.

تنهد بعمق، وكأن الهواء يحمل معه حيرة وإعجابًا لم يستطع تفسيرهما. ولكن سرعان ما انتبه إلى أصوات ضحكات أصدقائه الساخرة التي ملأت الترام، وهو ما جعله يستدير إليهم متسائلًا بتردد:

ــ إيه؟ بتضحك على إيه انت وهو؟

رد أحدهم وهو يغمز بعينه ساخرًا:
ــ إيه يا عم صالح؟ السنارة غمزت ولا إيه؟

وأضاف الآخر ممازحًا:
ــ شفتوه يا جماعة وهو بيقولها: اتفضلي حضرتك استريحي؟كان هيمان خالص.

ضاق صدر صالح ورد متذمرًا:
ــ جرى إيه يابني آدم أنت وهو؟ ما جراش حاجة يعني، بنت محتاجة مساعدة وساعدتها، جر.يمة هي؟ عمركم ما شفتوا حد بيعمل خير؟

تعالت ضحكاتهم أكثر، بينما جلس بجانبه صديقه المقرب رمزي وربت على كتفه مبتسمًا، ثم قال بنبرة جادة ممزوجة بالتحذير:
ــ نصيحة مني ليك يا صالح، البنت دي بالتحديد، ابعد عنها.أنت مش قدها.

رفع صالح حاجبيه بدهشة وسأله بفضول:
ــ أنت تعرفها يا رمزي؟

أجاب رمزي بثقة لا تخلو من تفاخر:
ــ عيب عليك يا ابني، دانا رمزي، اللي مجنن بنات الجامعة.

لكن خالد، صديقهم الآخر، قاطعه ضاحكًا:
ــ يا شيخ اتلهي، مفكر جريك ورا البنات دي حاجة حلوة؟

رغم ابتسامة صالح التي بدت خافتة، شعر بخيبة أمل صغيرة عندما ظن للحظة أن تلك الفتاة قد تكون مثل باقي الفتيات اللاتي يتحدث إليهن رمزي. لكنه استمع بتركيز حين أكمل رمزي قائلاً:
ــ بصراحة، حاولت أكلمها مرة أو مرتين وصدتني كل مرة.

تعالى صوت خالد بالضحك مرة أخرى وهو يعلق:
ــ قصدك هزأتك وبعترت كرامتك! أنا مش ناسي اليوم ده أبدًا.

ارتبك رمزي قليلاً وحاول الدفاع عن نفسه قائلاً بتذمر:
ــ مهزأتنيش أوي يعني! كنت بحاول أتعرف عليها وهي رفضت. مافيهاش حاجه.

رد أحد الأصدقاء، محاولًا شرح الموقف بجدية:
ــ بص يا صالح، الأنسة نوال دي من أكتر البنات المحترمة في الجامعة، وأبوها مهندس كبير جدًا في شركة الكهرباء.

شعر صالح بلهفة واضحة وهو يسأل:
ــ أنت تعرفها؟ قصدي. تعرفهم؟

أجابه الصديق بابتسامة ودودة:
ــ أيوة، أختي كانت زميلتها في الثانوي، وأبوها كان دايمًا يوصلها المدرسة بعربيته. عمرها ما ركبت تروماي قبل كده، وده اللي مستغربه، إزاي بنت زي دي وبالجمال ده ركبت التروماي مع الغلابة اللي زينا؟

ظل الأصدقاء يتسامرون ويضحكون، أما صالح، فقد شرد قليلاً، مستعيدًا ملامحها وصوتها الرقيق. بدأ يردد اسمها في همس، وكأنه يحاول أن ينقش أحرفه في ذاكرته:
ــ نوال.نوال.

كان المصعد معطلاً، فاضطرت نوال إلى صعود السلم وهي تضغط على حقيبتها بيدها وتتأفف من التعب. وقفت أمام الباب وهي تلتقط أنفاسها، ورنت الجرس بصبر نفد. فتحت الدادة الباب بابتسامة، لكن نوال لم تستطع حتى أن ترد التحية، واتجهت مسرعة نحو غرفة الطعام حيث كان والدها يجلس بهدوء، يقرأ الجريدة على طاولة السفرة.

ركضت نحوه لتسلم عليه، فأنزل الجريدة ونظر إليها بابتسامة دافئة:
ــ أهلا يا نوال؟ حمدلله على السلامه.عاملة إيه النهارده؟

جلست نوال على الكرسي بجواره، وهي تحاول أن تستعيد أنفاسها، وقالت بتنهيدة ثقيلة:

ــ مش أحسن حاجة، يا بابا. أنا النهارده اتبهدلت آخر بهدلة.

ضحك الأب بخفة، وقال مازحًا:
ــ كل ده علشان العربية عطلانة من إمبارح؟

ردت نوال، واضعة يدها على جبهتها بتعب:
ــ آه يا بابا، لو تعرف بنتك اتبهدلت قد إيه! تخيل، ركبت التروماي.

ضحك والدها مجددًا بدهشة:
ــ معقول! جيتي في التروماي؟ مش قلتي إن والد صديقتك هيوصلك، أو على الأقل هتاخدي تاكسي؟

أجابته وهي تتذكر ما حدث:

ــ بصراحة يا بابا، والد نرجس صاحبتي ما جاش في المعاد، وكنت هتأخر جدًا. وفعلاً كنت هاخد تاكسي، لكن فجأة ظهر التروماي قدامي، وقلت وماله؟ أجرب زي البنات.

توقفت للحظة، وكأنها تحاول كبح خجلها، ثم أكملت بصوت منخفض:
ــ لكن بصراحة، يا بابا، حصلي موقف خلاني مكسوفة أوي وفي نص هدومي كمان.

نظر إليها والدها باهتمام، ووضع الجريدة جانبًا، وقال بهدوء:
ــ احكيلي، يا نوال، إيه اللي حصل ياحبيبتي؟

بدأت نوال تحكي له كل شيء عن ذلك الشاب الذي مد يده ليساعدها على الركوب، وكيف تصرف بأدب ليتيح لها مكانًا للجلوس. أنهت حديثها وهي تقول بابتسامة خجولة:

ــ الشاب ده كان مؤدب جدًا، بس الموقف كله كان محرج، يا بابا.

تفهم والدها ما حدث، وابتسم وهو يقول لها بحنان:
ــ الشباب الشجعان كتير، يا بنتي، وده تصرف نبيل منه. لكن أنا بتمنى إنك ما تعيديش التصرف ده مرة تانية. التروماي مش مناسب ليكِ، زحمة وبهدلة، خصوصًا للبنات اللي في سنك. بعد كده، يا تاخدي تاكسي، يا ترجعي مع والد صاحبتك. لحد ما العربيه تتصلح وابعتلك السواق.اتفقنا؟

ابتسمت نوال ونهضت لتحتضنه وهو جالس، وقالت بمرح:

ــ حاضر يا سي بابا! طول عمرك شايل همنا وبتخاف عليا أنا وأخواتي.

نظر أمامه بشرود، وبدا في عينيه حزن دفين، ثم قال بصوت منخفض
ــ 12 سنة، من يوم ما والدتك فارقتني، وأنا وعدتها وأقسمت إني أخلي بالي منكم. أنتِ ونادية وكريمة. أنتوا في عيني وقلبي، وربنا يحفظكم يا بنتي.

ربتت نوال على كتفه بحنان، وقالت وهي تحاول تغيير الأجواء:
ــ وربنا يحفظك لينا، يا أحن أب في الدنيا. ثواني هدخل اغير هدومي واجي اتغدى معاك، اوعى تاكل من غيري.

نظر إليها والدها بابتسامة خفيفة، ثم عاد يمسك بالجريدة، مستعيدًا هدوءه وكأن شيئًا لم يكن، بينما نوال اتجهت إلى غرفتها بخطوات هادئة. أغلقت الباب خلفها برفق، وألقت حقيبتها على الكرسي بجانب المكتب. وقفت أمام مرآتها، تفك ضفيرتها التي كانت مشدودة بعناية منذ الصباح، تاركة خصلات شعرها تتدلى بحرية على كتفيها.

لم تستطع منع نفسها من التفكير في ذلك اليوم الطويل الذي بدا عاديًا في بدايته لكنه انتهى بذكرى غير متوقعة. صورتها في الترام، محاولتها اللحاق به، ثم يده التي امتدت لتساعدها، لم تفارق خيالها. كان هناك شيء ما في نظراته، في نبرته عندما قال: "اسمي صالح..."، جعلها تشعر بارتياح غريب رغم التوتر الذي صاحبها طوال الطريق.

توقفت عن فك شعرها، نظرت إلى انعكاسها في المرآة، وابتسامة خجولة ارتسمت على وجهها. بصوت ندي بالكاد يسمعه أحد غيرها، همست:
ــ صالح.

كررت اسمه مرة أخرى، وكأنها تحاول أن تحفظ نغمة صوته وهي تنطقها. شعرت بحرارة خفيفة تغزو وجنتيها، فأشاحت بوجهها سريعًا عن المرآة، كأنها تحاول أن تنسى، لكنها عرفت في قرارة نفسها أن هذه اللحظة لن تُنسى بسهولة.

جلست على طرف سريرها، تقلب الأمر في ذهنها، وتتساءل:
ــ تُرى، هل كان الأمر صدفة عابرة؟ أم أن القدر يخبئ شيئًا آخر؟

أغلقت عينيها، وعانقت الوسادة الصغيرة بجانبها، محاولة تهدئة أفكارها. لكنها، دون أن تدرك، وجدت نفسها تردد اسمه مرة أخرى، وكأنه مفتاح لشيء جديد لم تتعرف عليه بعد.

كان النهار في منتصفه، والشمس تلقي بأشعتها الساطعة على الحقول الممتدة بلا نهاية. صوت العصافير ينساب مع نسمات الهواء، بينما كانت الأرض تفوح برائحة التراب الممزوجة بنكهة المحصول. حسين جلس تحت شجرة جميز كبيرة في طرف الحقل، يحتمي بظلها الكثيف من حر الشمس. أمامه مفارش صغيرة من الخوص وضع عليها الطعام، بينما كانت سميرة تخرج الأكل من "السله بعناية، واضعة بعض العيش البلدي، الجبنة القديمة، طبق الفول المطبوخ، وقارورة من الشاي الدافئ.

رفع حسين رأسه بعد لقمة دسمة، ومسح فمه بطرف يده وقال بتروٍ:

ــ إني بقول يا سميرة، إن الأوان بقى نجوز صالح ولدنا.

توقفت يد سميرة عن ترتيب الطعام، ونظرت إليه بدهشة سعيدة، كأنما كانت تنتظر هذه الكلمة منذ سنوات. ابتسمت بخجل وهي تقول بحماس:
ــ ينهار نادي! ده يبقى يوم المنى ياخويا. أنا كنت مستنيه اللحظة دي من زمان. واني عندي العروسة كمان!

ضحك حسين قليلاً، ثم أخذ رشفة من الشاي قبل أن يرد بجدية، ووجهه يبدو كأنه يرسم قراراتٍ لا رجعة فيها:

ــ لاه يا سميرة، عروسة ابني محجوزة ليه من سنة فاتت.

كشرت سميرة حاجبيها في استغراب واضح، وبدت كأنها تحاول فهم حديثه، وقالت متسائلة:

ــ محجوزة؟ وتبقى مين دي إن شاء الله؟

وضع حسين كوب الشاي بجانبه وأجاب بهدوء، وعيناه تجولان في الأرض وكأنه يستعيد ذكرى قديمة:

ــ بنت عمه عبد العزيز. أمينه.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1