رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثامن عشر 18 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثامن عشر 

كانت الشمس تسطع برفق، تنعكس على الأرصفة أمام بوابة الجامعة، بينما كانت نوال تقف منتظرة بجانب شجرة كبيرة تمد ظلها على المكان. بدت أنيقة كعادتها، ترتدي تنورة رمادية بسيطة وقميصًا أبيضًا بأكمام طويلة، وحقيبتها الصغيرة متدلية على كتفها. كان الهواء يحمل عبق زهور الأشجار القريبة، وصوت الطلاب يتناثر حولها.

فجأة، قُطع هذا الهدوء بصوت ينادي:
ــ آنسة نوال! آنسة نوال!

التفتت نوال ببطء، وعيناها متسعتان في دهشة. رأت صالح يركض نحوها، وأنفاسه متسارعة، وهو يرفع يده محاولًا جذب انتباهها. شعرت بارتباك عارم وحرج غمر وجهها، فأخفضت بصرها سريعًا. حاولت التظاهر بأنها لا تعرفه، وردت بصوت مرتبك:
ــ نعم حضرتك؟ بتنادي عليَّ؟ وعارف اسمي كمان؟ إنت تعرفني؟

ابتسم صالح، وقد بدا عليه الحرج من رد فعلها، لكنه قال بنبرة ودودة:
ــ الظاهر إنك نسيتيني. أنا. أنا صالح. اللي كنت موجود في التروماي من أسبوعين تقريبًا.

أخذت نوال نفسًا عميقًا، وكأنها تحاول أن تتذكر، ثم ردت وهي تمثل الحيرة:
ــ أيوه... أيوه، افتكرت. أفندم، يلزم أي خدمة؟

تلعثم صالح للحظة، ثم حاول أن يبرر وجوده قائلاً:
ــ أبدًا... أنا بصراحة كنت خارج من بوابة الجامعة ولمحت حضرتك. فقلت يمكن هتركبي التروماي وهتحتاجي لمساعدة ولا حاجة.

تبدلت ملامح نوال بين الحرج والارتباك، فقالت وهي تخفض صوتها:
ــ لا، ميرسي لحضرتك، مش هحتاج لأي مساعدة. ولو سمحت، يا ريت ما تندهش عليَّ تاني بالطريقة دي. صحابي والناس لو شافوني واقفة معاك هيقولوا عليَّ إيه دلوقتي؟

شعر صالح بانزعاج من نفسه، وكأنه أدرك أنه ربما تجاوز حدوده، فقال معتذرًا بصدق:
ــ أنا آسف، حقيقي. ما أقصدش أضايقك، وسامحيني على جرأتي. لكن والله غصب عني، لقيت نفسي بنادي عليكي. ممكن ما تزعليش مني؟

في داخلها، شعرت نوال بسعادة خفية، لكنها لم ترد أن تظهرها. خشيت أن يتوقف عن الحديث معها، لكنها ردت ببرود مصطنع:
ــ مافيش داعي إنك تعتذر. وأنا مش زعلانة. وأحب أقولك إن التروماي كانت مرة بالصدفة وخلاص. السواق هيوصلني.

ثم أضافت وهي تشير إلى مكان قريب:
ــ بعد إذنك، أنا لازم أمشي. ما يصحش أقف معاك أكتر من كده. أورفوار.

أومأ صالح برأسه، وقد بدا عليه الأسف، وقال بصوت خافت:
ــ مع السلامه.

راقبها وهي تمشي مبتعدة بخطواتها الرشيقة حتى وصلت سيارة فاخرة سوداء اللون، حيث كان السائق ينتظرها. صعدت نوال السيارة، وألقت نظرة أخيرة عليه من نافذة السيارة، ثم غادرت المكان.

أما صالح، فقد ظل واقفًا مكانه، يشعر بمزيج من الإعجاب والحزن. عيناه تابعتا السيارة حتى اختفت عن الأنظار، ثم تمتم لنفسه بابتسامة خفيفة:
ــ يا ترى هقابلها تاني؟

وعندما وصلت نوال إلى البيت بعد يومٍ طويل، واستأذنت والدها سريعًا الذي كان يجلس في مكتبة الخاص ليتابع عمله،لتصعد إلى غرفتها. كانت خطواتها متثاقلة بعض الشيء، لكن قلبها ينبض بسرعة وكأنه يريد أن يقفز من مكانه. دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها بحذر، ثم أخرجت وشاحها ووضعته على الكرسي القريب، وجلست على السرير. راحت تفك ضفيرتها ببطء، وذهنها مشغول بما حدث في الجامعة.

كانت تستعيد كل لحظة، كل كلمة قالها صالح، وكل نظرة حملت معها إحساسًا جديدًا أربكها وأسعدها في آنٍ واحد. ابتسمت بخجل وهي تهمس لنفسها:
ــ صالح. وبعدين بقى. هو مش هيسبني في حالي؟

ترددت في صوتها نغمة خافتة من السعادة الممزوجة بالارتباك، ووضعت يدها على قلبها محاولة تهدئة نبضاته المتسارعة.

فجأة، فتح الباب بهدوء، ودخلت أختاها، كريمة التي تبلغ من العمر احدى عشر عامًا، ونادية، الأكبر من نوال بعامين. نظرت كريمة إلى نوال الجالسة على السرير، وهمست بخفة لنادية:
ــ إيه مالها أبلة نوال؟ شكلها مش طبيعي من وقت ما جت وهى سرحانه كده.

اقتربتا على أطراف أصابعهما وجلستا خلفها دون أن تشعر بهما. بدأت كريمة تهمس بخبث، ثم قالت بصوت واضح فجأة:
ــ الله! مالك يا أبلة نوال؟ اللي واخد عقلك كده؟

فزعت نوال وانتفضت من مكانها، ملتفتة نحوهما بسرعة. كانتا تضحكان على ارتباكها، فقالت بلهجة منزعجة:
ــ ايه ده يا بنات، ما يصحش كده! إنتوا دخلتوا إمتى؟ وإزاي ما حسيتش بيكم؟

ابتسمت نادية بمكر واقتربت منها قائلة:
ــ الكلام ده تقوليه لنفسك يا ست نوال! إحنا فتحنا الباب ودخلنا وعملنا دوشة وقعدنا جنبك، بس إنتِ عقلك كان في مكان تاني. يا ترى بقى، بتفكري في إيه؟ ويا ريت من غير كذب. اتفقنا؟

احمر وجه نوال وقالت مرتبكة:
ــ أبدًا! ما فيش حاجة! هفكر في إيه يعني؟ أنا، أنا بس راجعه وحاسه اني تعبانه شوية.

نظرت كريمة إليها بدهاء، وقالت:
ــ أها. تعبانه! مع أنه مش باين يعني! والله شكلك كده يا أبلة نوال بيقول إنك ركبتي التروماي تاني، صح؟

شهقت نوال، وشعرت بالحرج. تدخلت نادية بسرعة وقالت بجديّة:
ــ كريمة! وبعدين معاكي! هو ده اللي اتفقنا عليه! مش قلنا تخلي بالك من كلامك مع اللي أكبر منك؟ يلا أتفضلي روحي على أوضتك، وحسابك معايا بعدين.

تأففت كريمة، وقالت وهي تمشي نحو الباب:
ــ يوه بقى! دايمًا كلمة الحق بتزعل. ما هو لو ما كانتش ركبت التروماي، هترجع مسهمه كده ليه! اقطـ.ـع دراعي من هنا! إن مكانش الواد الحليوة أبو شعر مسبسب ساعدها تاني!

أنهت كلامها وأسرعت بالخروج قبل أن تتمكن نوال من توبيخها، تاركة نوال ونادية في حالة من الإحراج والضحك في آنٍ واحد.

جلست نوال على طرف السرير، وحاولت نادية ملاطفتها بأن لا تنزعج من حديث الصغيرة، فهي المدلله لديهم، ولهذا اخذت كل هذه المساحه بينهم،وقد ارتسمت على ملامح نوال الحزن، وقالت بصوت خافت:
ــ أنا مش زعلانة منها يا نادية. أنا فعلاً عقلي مشغول بالشاب ده. و واثقه اللي أنا بعمله غلط.

جلست نادية بجانبها، وضعت يدها على كتفها بلطف وسألتها:
ــ إيه اللي حصل يا نوال؟ انتي فعلاً زي ما كريمه قالت! ركبتِ التروماي تاني علشانه؟

هزّت نوال رأسها نفيًا وقالت:
ــ لا، صدقيني. من يوم ما بابا طلب مني ما أعملش كده تاني، وأنا سمعت كلامه. إنتِ عارفة بابا دايمًا بيعاملنا كأصحاب، وعمرنا ما هانخيب ظنه فينا أبدا. بس.. في الحقيقة من يومها وأنا مش قادرة أنسى الشاب ده. واللي حصل النهارده أكدلي إحساسي.

ثم بدأت تسرد لها كل ما حدث اليوم، وكيف التقى بها صالح أمام الجامعة، وحديثه معها. أصغت نادية بحرص، ثم قالت بعد تفكير:
ــ وبعدين معاكِ يا نوال؟ أنتي كده هتقلقيني عليكِ. من امتى وانتي بتردي على حد، ومن امتى بنتكلم مع حد غريب منعرفهوش؟ومش جايز الشاب ده يكون بيلعب بيكي؟

ردت نوال باندفاع:
ــ لا يا نادية، مش معقول. صالح باين عليه شاب محترم جدًا. وبصراحة، فضولي خلاني أسأل عنه. كل اللي في الجامعة بيشهدوا له بأخلاقه، وإنه في حاله تمامًا.

ابتسمت نادية وسألتها ممازحة:
ــ أفهم من كده إنك حبيتِه؟

شعرت نوال بارتباك شديد، وقالت بصوت مرتعش:
ــ مخبيش عليكي.مش عارفة.. مش عارفة يا نادية. وخايفة من بكرة، وخايفة أتعلق بحبال دايبة. أنا مش عايزة أحب ولا أتحب. إنتِ شايفة بابا.. كان بيحب ماما بجنون، وبعد ما ما.تت وفات على فراقها 12 سنة، مش قادر ينساها. كل يوم بشوفه وهو ماسك صورتها وبيتكلم معاها كأنها لسه عايشة معاه.

ابتسمت نادية، وربتت على يدها، وقالت بعقلانية:
ــ وده معقول يخليكي تخافي؟ المفروض إن حب بابا لماما يخليكِ تطمني. مش كل الناس اللي بتحب بتنسى بسرعة. وحب بابا كان وفيّ، وده شيء نادر وفريد. وعندك أحمد خطيبي مثال للحب الحقيقي.

نظرت نوال أمامها بشرود، وقالت:
ــ أنا متأكدة إن أحمد بيحبك فعلاً، لكن أعمل إيه يا نادية؟ انصحيني. أنا خايفة.

ردت نادية بجدية:
ــ خليكِ زي ما إنتِ. لكن أوعي تتكلمي معاه تاني. ولو هو فعلاً بيحبك بجد وعايزك، يجي يطلب ايدك رسمي. إحنا بنات من عيلة محترمة، وبابا ليه مركزه. وما ينفعش نحط بابا في موقف محرج مع أي حد. حافظي على الثقة اللي بابا أداها يانوال.

تنهدت نوال بعمق، وأغمضت عينيها، وكأنها تحاول أن تجد إجابة لكل ما يدور بداخلها.

كان الحاج عبد الرحيم جالسًا في صدر المندرة، مرتديًا جلبابه الأبيض وعمامته المرتبة بإتقان. بجانبه جلس حسين، وعبد العزيز. كان الجو هادئًا، لكن ملامح الفرحة ارتسمت على الوجوه، وخصوصًا عبد العزيز الذي كان يتحرك في مكانه بحماس.

تحدث حسين بنبرة جادة وهو ينظر إلى الحاج عبد الرحيم:
ــ إن شاء الله، في الإجازة الكبيرة، نكتب كتاب صالح على أمينة. كده نبقى ضمنا الخير للعيال وربطنا العيلة ببعض أكتر. وده بعد موافقتك يابا الحاج.

وافق الحاج عبد الرحيم على الفور، وارتسمت على وجه عبد العزيز بسمة واسعة، وقام فجأة ليحتضن حسين بحماس، قائلاً بصوت مختلط بالفرحة:
ــ والله يابا الحج حسين، إني ما مصدق نفسي! أمينة بنتي هتبقى مرات ابنك الدكتور. حد يقرصني ياناس.

ضحك حسين بخفة وربت على كتف عبد العزيز، وقال بفخر:
ــ متقولش كده، بنتنا أمينة تتاقل بالدهب يا عبد العزيز. ده كفاية إنها بنتك يا راجل، وبنت ناس طيبين. العيلة كلها تتمنى ضافرها.

كان الحاج عبد الرحيم صامتًا، يستمع للحديث بعينين مليئتين بالرضا، ثم رفع يديه المرتجفتين بالدعاء وقال بصوت خافت مليء بالخشوع:
ــ خلاص على خيرة الله نقرا الفاتحة ياولاد.. وإن شاء الله صالح لأمينة، وأمينة لصالح.

أخذ الثلاثة يرددون الفاتحة بصوت واحد، بينما عيون عبد العزيز امتلأت بالدموع من شدة فرحته. بعد أن انتهوا، قال عبد العزيز بامتنان:
ــ ربنا يخليك لينا يابا، ويبارك في العيلة دي. وتفرح باحفاد أحفادك، و والله الليلة دي ما تتنسيش، دي بكل الليالي. 

ابتسم الحاج عبد الرحيم وقال بحنان:
ــ الخير في لمّة العيلة ياعبد العزيز ياولدي، وربنا يديم المحبة بيناتكم دايمًا. وتفضلوا سند لبعض على طول ، ويكمل فرحة العيال على خير.

عاد الجميع للحديث عن تفاصيل الفرح والتجهيزات، بينما ظل الحاج عبد الرحيم ينظر إلى أبنائه بحب وفخر، داعيًا الله أن يديم الترابط بينهم.

كانت سميرة وصباح في ساحة الخبيز، حيث النا.ر مشتعلة في الفرن الطيني، والدخان يتصاعد بخفة ليملأ الجو برائحة الرقاق الطازج. جلست سميرة أمام اللقان تعجن بيديها بحركة آلية، وعلامات الضيق واضحة على وجهها، بينما صباح بجانبها تمد الرقاق على الطاولة وتضعه في الفرن، تبتسم بفخر وسعادة.

قالت صباح بلهجة مليئة بالفرحة والتفاخر:
ــ سمعتِ ودرّيتي باللي حصل يام صالح؟ الحج حسين وعبد العزيز جوزي قروا فاتحة أمينة بتي على ابنك صالح.

رفعت سميرة رأسها فجأة، وظفرت شعرها وهي ترد بحنق واضح:
ــ لاه ماسمعتش ياصباح، وانتِ عرفتِ منين الكلام ده؟

ضحكت صباح بخفة، لكنها شعرت أن سميرة ليست سعيدة بالخبر، فقالت:
ــ هو إيه ده أصله ده؟ إزاي ما عندِكش خبر؟ ده سي عبد العزيز جوزي جالي في المَقعد وقالي إن الرجالة اتكلموا مع بعضيهم في المندرة وقروا فاتحة الواد على البت.

ضغطت سميرة العجين بقوة، وكأنها تُفرغ غضبها فيه، وقالت بنبرة غاضبة:
ــ وإزاي عملوا كده من غير ما يسألوا ابني صالح؟ هو يعني كان صغير ولا صغير!

نظرت إليها صباح بتعجب وقالت مدافعة:
ــ وهي مالها بنتي يا سميرة؟ فيها عيب ولا حاجة كفى الله الشر علشان ابنك ممكن مايرضاش بيها!

تنهدت سميرة وأردفت ببرود:
ــ أنا ماقلتش كده يا صباح، واسم الله على بنتك، بنتك زينة وزي القمر. بس برضه الأصول بتقول العريس يبقى عنده علم، وكمان بنتك المفروض تاخدي رأيها، مش يمكن ما توافقش.

شهقت صباح ووضعت يديها على خاصرتها، وقالت باندهاش:
ــ يوه! يوه! يوه! هو إيه الكلام ده؟ أمينة ما توافقش على صالح؟ زينة شباب الكفر كله؟ طب يا بختها ويا هناها. والنبي ده أنا داعيالها ليلة القدر، وربنا كده استجابلي. وبرضو صالح إبنك بيضاله في القفص. هياخد بت فرسه مفيهاش غلطه. جمالها رباني وزي العسل. 

ثم توقفت للحظة، ونظرت إلى سميرة بريبة قبل أن تضيف بنبرة شك:

ــ واني بقولك أهو، اني بنتي موافقة يا أم صالح، بس شكلك إنتِ اللي مالكيش مزاج، زي ما قلتِ. وعموماً، الرجالة قالت كلمتها وانفضينا خلاص.

حاولت سميرة أن تبتلع غصتها بمرارة، وملأت عينيها دموع كادت أن تسقط، لكنها تماسكت بصعوبة. شعرت بقلبها يعتب على حسين، زوجها، لأنه تسرّع في اتخاذ القرار دون أن يأخذ رأي ابنهما.

قالت في نفسها وهي تواصل العجن بعنف:
ــ "صالح لازم يعرف، مش ممكن أسمح بحياة يتجبر عليها، زي ما حصل مع أهالينا زمان. حسين كان لازم يستنى، ويسمع رأي الواد الأول. مش كل حاجة تتم كده من غير تفاهم.

بينما كانت صباح تراقبها بنظرة مختلطة بين السعادة والقلق، شعرت أن هناك شيئًا يثقل على قلب سميرة، لكنها اختارت الصمت، وواصلت مدّ الرقاق، مرددة في سرها دعاءً بأن يتم هذا الزواج على خير.

كانت أمينة ذات السبعة عشر عامًا تقف أمام المرآة في غرفتها الصغيرة، حيث الضوء الخافت يتسلل من نافذة مزينة بستارة قطنية مطرزة. كانت تبدو كلوحة من البراءة والجمال، بعيونها العسلية الفاتحة التي تشبه قطرات الشهد في وهج الشمس، وشعرها البني الطويل المنسدل على كتفيها كخيوط الحرير. خدّاها متوردان بلون الزهر، وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة خجولة لا تفارقها.

كانت ترتدي جلابية بيضاء بسيطة مزينة بخيوط ذهبية عند الأطراف، تظهر أناقتها الريفية الطبيعية، وتغطي رأسها بطرحة حريرية بلون الزهر الباهت، لكنها كانت تسقط على كتفيها مع كل حركة منها.

عندما أخبرتها والدتها صباح بأنها ستصبح زوجة لصالح، لم تصدق أذنيها في البداية، فشهقت بخفة وهي تغطي فمها بيدها، بينما تطاير قلبها كعصفور خرج لتوه من قفصه. بدأت دقات قلبها تتسارع حتى شعرت أن كل خلية في جسدها تهتف فرحًا.

وقفت للحظة مشدوهة، ثم انطلقت تدور في غرفتها كفراشة تتنقل بين زهور السعادة، وهمست لنفسها بصوت مرتعش:
ــ "يا رب، اني مش مصدقه اللي سمعته من امي،بجد أنا هبقى مرات صالح؟ صالح اللي الكل بيحكي عن أخلاقه وعلمه؟ يا بختك يابختك يا أمينة! هتبقي مرات الدكتور.

وضعت يديها على قلبها وكأنها تحاول تهدئته، ثم اتجهت إلى المرآة مرة أخرى، ونظرت إلى نفسها بخجل، وكأنها تحاول تخيل نفسها وهي عروس ترتدي الفستان الأبيض. لم تستطع كتم ابتسامتها، وهمست بصوت مسموع:
ــ طول عمري بحلم باليوم ده يسي صالح، اه لو تعرف اني قلبي متعلق بيك قد ايه؟ هتقول عليا مجنونه.

كانت الغرفة الصغيرة تضج بسعادتها، وكأن كل ركن فيها يشاركها الفرحة، حتى انعكاس صورتها في المرآة بدا وكأنه يبتسم لها.

في المساء في غرفة نوم بسيطة، حيث تتناثر بعض الأثاثات الريفية القديمة، جلست سميرة بجانب زوجها، تتكئ على السرير وتبدو على ملامحها علامات القلق. كانت تلعب بأطراف طرحتها وهي تقول بتردد:

ــ متأخذنيش يابو صالح، أنا مش بعدّل على حكمك ولا كلمتك، بس الأصول زينة يا واد عمي. كان المفروض تدي لصالح خبر إنه هيتجوز من بنت عمه. مش ياجي في الاجازة ياحبة عيني ويلاقي الخبر في وشه كيف البومب يفر.قع في وشه.

نظر حسين إليها بصمت للحظات، ثم ابتسم بثقة وقال:

ــ ارتاحي يام صالح. ما تشغليش بالك. صالح ولدك راجل وكبير وعارف مصلحته، وعمره ما هيقصر معايا ولا يكسرلي كلمة.

نظرت سميرة إليه بغيظ واضح وقالت باعتراض:
ــ يا حج حسين، أنت راجل حاجيت بيت الله وعارف إن كل شيء بالخناق إلا الجواز بالاتفاق. الدنيا اتغيرت عن زمان، ودلوقت العريس هو اللي بيشاور على البنت اللي رايدها، والبنت كمان ليها الحق تقول موافقة ولا لا. زي ما عملنا مع بناتنا!

ثم أكملت بسخرية واضحة:

ــ "ولا هو إحنا هنخير البنات وناخد رأيهم، ونجبر الرجاله على الجواز بالغصبانية؟ ده إيه الغلب ده؟

نظر حسين إليها نظرة صارمة وصاح بصوت غاضب:
ــ أوزني كلامك يا ولية! بدل يمين عظيم ما أخليها ليلة مغفّلة عليكي. مالك؟ كلامك ماسخ زي وشك على المسا!

تفوه حسين بضيق وهو ينفض جلبابه بعصبية، ثم قال بنبرة حادة:
ــ عجيبة والله! وأنا يعني كنت هرميه في النا.ر؟ دي البت أمينة كيف شق القمر، أخلاق وجمال،واني يعني هختارله حاجة عفشة؟! البت غلبانة وفي حالها وهتبقى طوع ابنك. ومن الآخر كده، البنت عينها عليه من زمان وريداة. يبقى أكـ.ـسر قلبها وأنا في إيدي أحافظ عليها وعلى العيلة ليه؟

احمرّ وجه سميرة من الغيظ، ورفعت حاجبيها بغضب وهي تقول:
ــ "يعني أنت مش عايز تكـ.ـسر قلب بنت أخوك وتكسر قلب ابني؟ هو ابني مكتوب عليه يعاني في كل مشاوير حياته ليه؟! 
وبعدين يابو صالح، أنا ما قلتش البنت عفشة. البنت زينة وزي الفل، وألف واحد يريدها. بس ابني؟ لنفترض إنه مش رايدها؟ ليه تغصبه على حاجة مش عايزها؟ المفروض الأول كنت قعدته واتكلمت معاه وعرفت إيه اللي في قلبه. مش ياجي يا كبد أمه ويعرف بالخبر زيه زي الغريب! ده ما يرضيش ربنا ولا يرضي حد.

وقف حسين بانفعال، واقترب منها بخطوات ثقيلة. تراجعت سميرة للخلف بخوف، وابتلعت لعابها بصعوبة، ثم قالت بنبرة هادئة متوسلة:

ــ خصيمك النبي لو زعقتلي ولا اتزرظرت عليا. اني أم قلبها قا.يد نا.ر على ولدها. من حقي أفرح بابني، واشوفه فرحان،سايق عليك النبي لما يرجع صالح مالبندر خده بالهداوة واتكلم معاه. لو قال موافق خير وبركة، يبقى زين ما عملت ياخويا. وإن كان قلبه مش رايدها، أحب على يدك ما توجع قلبي ولا تجبره عليها. ابنك غلبان، والجواز مش بالغصبانية.

تبدل وجه حسين إلى الجدية، ونظر إليها بريبة وقال:

ــ كأنك عارفة حاجة اني مش عارفها يا سميرة. هو ابنك قالك حاجة؟ وبعدين، تعالي هنا! أنتِ قلتيلي قبل كده عندك العروسة؟ مين بقى اللي كان عليها العين والنني؟

ارتبكت سميرة وبلعت ريقها بخوف، ثم قالت متلعثمة:

ــ اني. اني كنت يعني عايزة أقوله على بنت أختك زينب. عيالها متعلمين وكل واحده فيهم معاها دبلون قد الدنيا.

كشر حسين عن وجهه وقال بغضب:
ــ ودي بقى؟ أنتِ اللي مختاراها ولا ابنك اللي رايدها وعينه عليها؟

أجابته بسرعة لتجنب غضبه:

ــ لا، وكتاب الله المجيد! صالح ما يعرف حاجة. داني اللي قولت أكده لما قلتلي إنه آن الأوان نجوزه، قلت لما ينزل هاتحدت وياه بيني وبينه. لو وافق يبقى نتكلم عليها، ولو ما وافقش خلاص. وبرضه ده رأيي مع أمينة بنت أخوك. ناخد رأيه، اني مش معترضه على البت مع إن أمها مش راكزه وقويه، اني بس بتكلم إن اي راجل من حقه يختار، ولو إبنك وافق نعمله أحلى فرح وأحلى ليلة، وأنا يعني هكره الفرح لابني؟

أشاح حسين بوجهه عنها، ونظر أمامه بضيق وقال بانفعال:
ــ روحي شوفي وراكي إيه يا سميرة. قبل ما أفقد صبري عليكي وهتشوفي ساعتها ليله بليالي عمرك كله،وموضوع صالح ده يتقفل نهائي. صالح لأمينة، وأمينة لصالح، وفضّيناها!

مرت الأيام وصالح لا يستطيع أن يبعد عينيه عن نوال، حتى أصبحت حركاتها وكلماتها تعيش في عقله وقلبه دون أن يشعر. كان دائمًا ما يحاول أن يقترب منها بطرق غير مباشرة، يختلق الصدف ليراها، ولم يكن يخفى عليها مراقبته. نوال بدورها كانت تحاول التظاهر بعدم الانتباه، لكن قلبها كان يخفق كلما شعرت بنظراته تلاحقها.

وفي أحد الأيام، وقف صالح أمام محطة التروماي منتظرًا نوال كالعادة، وعندما رآها قادمة، تحرك بخطوات ثابتة لكنه مضطربة داخليًا. لم يتمكن من كبح نفسه هذه المرة، وعندما اقترب منها قال بنبرة مزيج من التردد والإصرار:

ــ آنسه نوال، ممكن أطلب منك طلب؟

رفعت نوال عينيها إليه بخجل واضح وهمست:

ــ خير يا أستاذ صالح؟

أشار إلى التروماي الذي كان يقترب وقال:
ــ ممكن تركبي التروماي؟ لو لمرة اخيره ارجوكي، أنا محتاج أتكلم معاكي. في حاجه مصيريه، أتوسل اليكي مترفضيش.

كانت نوال تشعر بتردد داخلي، لكنها وجدت نفسها توافق دون أن تنبس بكلمة، وكأن قلبها سبق عقلها في القرار. ركبا التروماي معًا، وجلس صالح بجانبها، يحاول أن يجمع شتات أفكاره. بعد لحظات من الصمت، بدأ صالح بالكلام:

ــ "بصراحة، أنا مش عارف أبدأ إزاي، بس كل مرة بشوفك بحس إن في حاجة بتشدني ليكي..حسيت إنك مختلفة، طموحة، و... مش قادرة أوصف أكتر. بعتذر على جرأتي، لكن مش قادر اتحكم في تصرفاتي الفتره الاخيره من وقت ما شوفتك.

احمرت وجنتا نوال وهي تستمع إليه، لكنها لم تقاطعه، بل اكتفت بالصمت، تسمع كلماته التي تطرق أبواب قلبها واحدة تلو الأخرى. تابع صالح:

ــ صدقيني والله العظيم أنا مش عايز أزعجك، ولا أضغط عليكي، بس حبيت أقولك إني.. إني معجب بيكي.. ومعجب بطريقتك في كل حاجة. أخلاقك وجمالك واختلافك من بين كل البنات اللي في الجامعه، انا مش حاسس بل متأكد إنك تختلفي عنهم في كل حاجه.وأوعدك إني هشجعك دايمًا علشان تحققي كل اللي بتحلمي بيه.

شيئًا فشيئًا، تسلل الحب إلى قلب نوال، وبدأت تشعر بسعادة لم تختبرها من قبل. أصبح صالح مصدر أمان وتشجيع لها، دائمًا ما يحثها على التركيز في دراستها ويذكرها بأحلامها الكبيرة. ومع مرور الأيام، أصبحت علاقتهما أقوى، وتعلقت به أكثر من أي وقت مضى.

كانت نوال تعود إلى بيتها يوميًا بوجه مشرق وعينين مليئتين بالبهجة. وفي كل مرة، كانت تجلس مع أختها نادية وتحكي لها كل شيء بحماس، من كلمات صالح إلى وعوده التي أشعلت الأمل في قلبها. قالت لها ذات مرة:
ــ "صالح وعدني إنه لما ينزل الإجازة هيجيب عيلته ويجي يطلب ايدي رسمي من بابا. مش مصدقة يا نادية، بس قلبي بيقولي إنه صادق! ومش هيخذلني أبدا. أنتي لازم تقابليه وتقعدي معاه يا نادية. هتستلطفيه خالص.

ابتسمت نادية وهي ترى أختها غارقة في السعادة، وربتت على يدها بحنان قائلة:
ــ إن شاء الله يا نوال، لو هو بيحبك بجد زي ما بيقول، هيعمل كل حاجة علشانك. وأكيد لازم أعرفه لما ينزل، عايزة أطمن بنفسي إنه يستاهلك.

في هذه الأثناء، كانت كريمة تقف خلف الباب تتنصت عليهما كعادتها، وعندما سمعت كل ما قالته نوال، فتحت عينيها بدهشة طفولية وحركت رأسها بطريقة عفوية وهي تتمتم بخفوت:
ــ يا سلام.. يعني هى الحكاية كده بقى؟ وأنا آخر من يعلم! طيب ياست نوال انتي ونادية هانم.

ركضت بعدها إلى غرفتها وهي تضحك بخفة، تخطط كيف ستتظاهر بمعرفة القصة أمام نوال ونادية لتثير إعجابهما بشطارتها في اكتشاف الأسرار.

في غرفة السكن الطلابي المزدحمة ببعض الكتب والأوراق المتناثرة، كان صالح جالسًا على مكتبه البسيط، ممسكًا بقلمه، وعيناه مركزة على ورقة أمامه. كان يكتب رسالة لنوال، يسكب فيها مشاعره التي لم يستطع البوح بها بشكل كامل. الكلمات تنساب من قلمه كأنها حديث مباشر لقلبها.

بينما كان منغمسًا في الكتابة، تسلل خلفه رمزي بخفة، وقف يقرأ بعض الكلمات المكتوبة. فجأة، أطلق صافرة إعجاب طويلة وقال بمرح:
ــ يا سيدي يا سيدي، ده إيه الكلام الحلو ده؟ يا بختك يا عم صالح!

انزعج صالح وأغلق دفتره بسرعة، وهو ينظر إلى رمزي بحدة وقال:
ــ رمزي! ما يصحش كده، المفروض دي خصوصيات! إيه اللي خلاك تقف ورايا وتتجسس عليا بالشكل ده؟

ضحك رمزي وجلس أمامه بلامبالاة، وألقى بجسده على الكرسي بطريقة مسترخية وهو يقول بشقاوة:

ــ إيه الكلام الكبير ده! اتجسس عليك حتة واحده؟وخصوصيات إيه يابني اللي أنت بتقول عليها دي؟ عندك أهو أنا مثلاً ، حياتي كلها قدامك على المكشوف! أي بنت بكلمها بحكيلك عنها بالتفصيل، المفروض بقى إنك تيجي تحكيلي أنت كمان. وياترى هتفضل كده تكتب جوابات لحد إمتى؟ معقول حبيت نوال وناوي تكمل معاها؟

نظر إليه صالح بنظرة حادة وقال بجدية:
ــ "يعني إيه تفضل تكتب لحد إمتى واكمل معاها؟ انت فاكر إن أنا بكلم نوال كنوع من التسلية؟

أجاب رمزي بنبرة مازحة، لكنه يحمل بعض الجد:
ــ أيوه طبعًا يابني! إحنا مش بتوع جواز ولا حب، إحنا لازم نعيش حياتنا الأول. والبنات على قفا من يشيل.

تنهد صالح وأجاب بابتسامة خفيفة:
ــ دي مشكلتك أنت يا رمزي، مش مشكلتي أنا.لكن أنا مختلف. أنا بحب نوال حب حقيقي. حب طاهر ونقي، ونويت أرتبط بيها.

رفع رمزي حاجبيه بدهشة وقال بسخرية خفيفة:
ــ أنت بتتكلم جد؟ معقول يعني هتتجوز نوال؟

اعتدل صالح في جلسته، ثم نهض وبدأ يتمشى في الغرفة بتوتر ظاهر، وقال بنبرة حازمة:
ــ أيوه يا رمزي. نوال إنسانة رقيقة وجميلة ومؤدبة جدًا. وبما إني تكلمت معاها ووعدتها، لازم أكون قد وعدي وأرتبط بيها. وإلا وقتها مش هكون راجل، لا في نظري ولا في نظر أي حد. أنا اتعلمت من عيلتي، إن الكلمه شرف ولازم ابقى قدها واتمسك بيها حتى لو لآخر نفس في حياتي.

نظر إليه رمزي بجدية نادرة وقال:
ــ بس يا صالح اللي أنا أعرفه إنك من الريف، وبيتهيألي العادات والتقاليد عندكم مش هتقبل بحاجة زي دي.

توقف صالح عن المشي، نظر إلى الأرض للحظة بتوتر ثم رفع عينيه وقال بنبرة قلق واضحة:
ــ وده اللي أنا خايف منه، يا رمزي. بس مهما يحصل، أنا عمري ما هخلف وعدي مع نوال. أنا شايف راحتي وسعادتي معاها، ومش هتنازل عنها أبدًا.

اقترب رمزي وربت على كتفه بابتسامة ساخرة وقال:
ــ "الظاهر إنك فعلاً طبيت يا صديقي العزيز. ومن مكاني ده، بقولك: الله يرحمك مقدّمًا!

ضحك الاثنان بصوت عالٍ، وأخذ رمزي مكانه وعاد كل واحد إلى عمله، لكن ابتسامة صغيرة بقيت على وجه صالح وهو يفكر في وعوده لنوال.

تحت أشعة شمس هادئة في حديقة واسعة مزينة بأشجار عالية وأزهار ملونة تفوح منها رائحة الياسمين، جلست نوال وصالح على طاولة خشبية صغيرة محاطة بالكراسي المعدنية الأنيقة. النسيم العليل يحرك الأطراف المزهرة للأشجار، وصوت زقزقة العصافير ينساب في الخلفية، مضيفًا هدوءًا للمكان.

أمسك صالح بقائمة الطلبات وقال وهو ينظر إليها بابتسامة:
ــ تحبي تشربي إيه يا نوال؟

ابتسمت نوال، وهي تنظر إلى الأزهار المتناثرة حولها:
ــ عصير برتقال، وأكون ممنونه جداً.

رفع صالح يده لينادي النادل، ثم طلب لنفسه قهوة. جلسا يتبادلان أطراف الحديث وسط أجواء مليئة بالألفة، لكن صالح بدا متوترًا قليلًا وهو يحاول ترتيب الكلمات في ذهنه.

أثناء حديثهما، انزلقت يد صالح دون قصد لتصطدم بالكوب، ليسكب عصير البرتقال على فستان نوال الأبيض الناصع. شهقت نوال وهي تقف مسرعة، تنظر إلى الفستان المبلل:
ــ  أوه، يا خبر العصير بهدل الفستان! 
 أعتذر منها صالح كثيراً، تفهمت نوال ما جرى واكملت بابتسامة جميلة: 

ـ مافيش داعي تعتذر يا صالح، عادي بتحصل، لكن بعد إذنك، هروح الحمام أنضفه وراجعة. مش هتأخر.

هز صالح رأسه موافقًا، بينما راقبها وهي تسير مبتعدة. عندما غابت عن ناظريه، وضع يده في جيب سترته، وأخرج رسالة صغيرة كان قد كتبها لها. أخرج دفترها الذي تركته على الطاولة، وفتح صفحاته ليضع الرسالة. لكن عينيه وقعتا على شيء أوقفه عن الحركة تمامًا.
اسمها الرباعي:
ـ نوال عبد الحميد عبد اللطيف قاسم.

ردد الاسم بهمس، وملامحه تتبدل إلى صدمة مروعة:
ــ عبد الحميد عبد اللطيف قاسم؟!

شعر وكأن الدنيا توقفت عن الدوران. استند بيديه إلى الطاولة ليمنع نفسه من السقوط، لكن أفكاره كانت تتدافع في رأسه كالأمواج العاتية.

ـ معقول يكون هو! يعني، خالي لسه عايش، ونوال، نوال تبقى بنت خالي؟ خالي اللي اختفى من حياتنا من 25 سنة؟ لسه عايش! 

حاول السيطرة على نفسه، لكن جسده كان يرتجف من الصدمة، وعينيه مثبتتين على اسمها المكتوب بخط واضح في الدفتر.

عادت نوال بعد دقائق، وجهها يشع بابتسامة رقيقة وهي تمسح يديها بفوطة صغيرة. توقفت فجأة، وقد لاحظت التغير الحاد في ملامح صالح الذي كان ينظر إليها بتركيز غريب، وكأنه يزن كل كلمة يقولها.

بادرها بالسؤال بصوت متردد لكنه حاد:
ــ إنتي اسمك نوال عبد الحميد عبد اللطيف قاسم؟

زادت دهشتها من سؤاله المفاجئ، وجلست أمامه بقلق وهي تعقد حاجبيها:
ــ أيوه، ده اسمي! أكيد فتحت الدفتر وشفت اسمي بالكامل.

ثم حاولت كسر حدة الموقف بابتسامة ومرح، وقالت وهي تشير إلى نفسها:
ــ "وأحب أقدملك نفسي وبكل فخر. معاك المهندسة نوال عبد الحميد عبد اللطيف قاسم."

لكن ملامح صالح لم تتغير، بل بدا كأنه غارق في دوامة من الأفكار، مما جعلها تستشعر جدية الأمر. حدقت فيه بقلق وقالت بتعجب:
ــ "مالك يا صالح؟ شكلك مش طبيعي خالص! هو اسمي في حاجة ضايقتك؟

ظل ينظر إليها لثوانٍ طويلة دون إجابة، ثم فجأة ابتعد بظهره قليلاً عن الطاولة، يمرر يده على وجهه، وكأنه يحاول استيعاب صدمة غامضة. ثم نظر إليها بصمت للحظة، وأخرج دفتره الخاص من حقيبته، وناوله إياها. أشار إليها أن تقرأ اسمه المكتوب على الصفحة الأولى. أخذت نوال الدفتر، وبدأت تقرأ بهمس:

ــ صالح حسين عبد الرحيم قاسم.

رفعت عينيها إليه، مبتسمة، وقالت دون أن تفهم:

ــ إيه الصدفة الحلوة دي؟ يعني جد جدك كمان اسمه قاسم، صدفه جميلة قوي، شكلنا كده بنشبه بعض في حجات كتير.

حرك صالح رأسه ببطء، وهو يشعر بأن قلبه سينفجر، ثم قال بصوت مبحوح:
ــ نوال. ممكن أقابل والدك حالًا؟

نظرت إليه بدهشة وقالت:
ــ حالا؟ إزاي يعني؟ مش فاهمة! صالح، أنا لسه ما مهدتش لبابا علاقتنا. بصراحة، بخاف يتنرفز عليا، لأني عمري ما خبيت عليه حاجة.

هز رأسه بعصبية وقال بسرعة:
ــ "لا، لا، لا! مش ده الموضوع اللي أنا عايزه فيه. ما تقلقيش، أنا عند كلامي معاكي، لكن لازم أقابله حالًا. أرجوكي قومي معايا، نوال. أنا لازم أقابله بجد.

تعجبت نوال من إصرار صالح، لكنها شعرت بصدق مشاعره وقلق عينيه الذي لم تستطع تفسيره. ظلت تحدق فيه للحظة، ثم قالت بخفوت وتردد:
ــ طيب، طيب، حاضر..بس ممكن أعرف في إيه؟

نظر إليها صالح بعينين غارقتين في القلق، وجهه مشدود وكلماته تخرج بصعوبة:
ــ في الطريق، يا نوال. هقولك على كل حاجة في الطريق، بس لازم أقابله وأعرف الحقيقة.

وقفت نوال ببطء وهي تنظر إليه بحيرة:
ــ حقيقة؟! انا مش فاهمه حاجه بجد، انت كده قلقني، يا صالح. 
ثم أضافت بشك.
ـ معقول يكون الموضوع له علاقه بإسمي واسمك؟

ـ صدقيني هشرحلك كل حاجه في الطريق.الموضوع أكبر مني ومنك، نوال ارجوكي. اصبري عليّ شوية، وهتفهمي كل حاجة لما نوصل.

ثم أومأ برأسه دون أن يضيف شيئًا مترجيا بنظرة لها كي تصدقة، ثم التقط معطفه من الكرسي، وأشار إليها بيده نحو مخرج الحديقة. تقدما بخطوات سريعة نحو سيارة الأجرة، وكل منهما غارق في أفكاره.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1