![]() |
رواية لعنة الخطيئة الفصل الثالث والاربعون 43 بقلم فاطمة أحمد
________________
تمر الحياة بتقلبات عديدة
هل تعلم لماذا سُمِّي القلب قلبا ؟
ذلك لأنه معروف بكثرة تقلبه وحتى أسرع من تقلب الماء في القدر.
فمن يزرع فيه حبا اليوم قادر على تحويله إلى بغض غدا.
ومن زرع فيه الكره اليوم، يزرع فيه الحب
في الغد، فتتقلب أحواله، ويتقلب نسق دقاته، ويصبح العدو صديقا، وربما أَخًا.
بعد شجار دام حوالي نصف ساعة تم فيها قتال باللكمات والركلات وضرب بالعصي استطاع آدم إضعاف معظم قطاع الطرق بيديه اللتان استمدتا صلابتا من العمل في البساتين وحمل الصناديق الثقيلة كل يوم.
ومراد كانت لديه استراتيجية أكثر تحكما في إيجاد نقاط الضعف التي يهاجمها ليشرع بمجابهة كل شخص برتابة لكنه لم يحسب حساب ذاك الذي جاءه من الخلف وأوقعه بضربة منه فاِلتفَّ له آدم الذي كان يشرف على أحدهم ويلكمه وصرخ :
- حاسب !
ابتعد مراد في اللحظة الأخيرة قبل نزول العصا على ظهره وتكوَّر بعيدا عنه لينهض آدم ويضرب الرجل الموشك على التهجم عليه ثانية، اشتبك معه مجددا وتساعد الإثنان لكن كما يقال الكثرة تغلب الشجاعة حيث أن طاقة الاثنان استنزفت وهما يحاولان التصدي لكل ضربة وظهر هذا على وجهيهما بوضوح لكنهما لم يشتكيا إلا أن أحد المهاجمين أطلق ضحكة ساخرة وهمهم :
- ايه يا آدم باشا تعبت خلاص ومش قادر تكمل.
تبسم بوجهه المتعرق وشعره الملتصق بجبينه إثر العراك، وأجابه :
- جربني بنفسك عشان تعرف.
أنهى آدم كلامه وهو يركل بطنه بعنف أخرج الدماء من فمه وكاد يكمل عليه لولا أن أحدهم مرر يده على عنق هذا الاخير قاصدا ثنيه عما يقوم به إلا أن قاطع الطريق أشار لرفيقه بالتوقف متمتما بألم مكتوم :
- خلاص خلصت مهمتنا.
هز رأسه بموافقة وفي ثواني كان الجميع ينسحب مغادرا مع أغراضهم، تفاجأ الاثنان وركضا خلفهما حتى أوشك آدم على الإمساك بواحد منهم لولا أنه سمع صوت تأوه صادر من مراد الذي تعرض لضربة على رأسه فعاد إليه مبرطما بينما يفحصه:
- انت كويس استنى اشوف.
رغم أنه أخرج أنينا يدل على تألمه لكنه أشاح يده مرددا :
- مفيش وقت خلينا نروح وراهم.
- خلاص مفيش فايدة هما روحو.
- خلاص ايه دول كانو عاوزين يقتلوك.
- مش قتل اللي بعتهم كان عايز منهم يعلمو عليا ع أساس يخوفوني علشان كده هربو لما مهمتهم خلصت.
غمغم آدم بجدية محللا الأحداث كما يجب وتابع مستطردا حينما رأى مراد يتحسس جانب رأسه :
- شكل الضربة قوية عليك يلا عشان اوديك لمستوصف قريب من هنا.
همهم نافيا بكلمات مفادها أن الإصابة خفيفة واستطرد هو الآخر مشيرا للكدمات الواضحة على وجهه :
- لازم تقلق على نفسك شوف وشك عامل ازاي.
رفع آدم يده متحسسا الجروح التي تلقاها وهو يتقاتل مع ثلاثة في وقت واحد ولن يكذب لو قال أنه يشعر بأن عظامه شبه منكسرة، لكنه عاند نفسه وقال :
- ديه جروح بسيطة أنا كويس.
- أنا مش فاهم ايه الراجل ده معقوله بيقدر يدخل ويخرج ويعمل ما بداله من غير ما حد يقدر عليه فين العمدة بتاعكم من كل ده وانت كمان مش ع أساس خليفة العمدة و عندك خبرة وصلاحيات اومال مش عارف تلاقيه ليه ده بيظهر كل فترة يتهجم عليك ويرجع يتخبى من تاني وانت مش عارف تمسكه.
- قولتها بنفسك هو بيتخبى وأنا لأني مجربتش قبل كده أعادي حد من غير ما اظهر نفسي فتلاقيني معنديش خبرة كفاية بالموضوع ده.
تلميح آدم كان كالرصاص المتدفق على ضمير مراد !!
تشقق وجهه بحرج مختلط بالذنب متذكرا أنه تعاون مع صفوان خفية في الماضي حتى يؤذيه دون أن يملك الشجاعة ليعاديه مباشرة !
فاِهتزت مقلتاه كمن تلقى صفعة للتو وأشاح وجهه المكدوم ليدرك آدم أنه قسى على -شقيقه- الذي تعرض للضرب دفاعا عنه منذ قليل فاِستطرد مغيرا دفة الحديث :
- على كل حال أنا مش فاشل ولا مخليه يطلع ويدخل براحته وأصلا كنت عامل حسابي لحركته ديه.
رمقه بحيرة أوضحها الآخر وهو يتابع :
- من يومين اتصل بيا وانا مع صفوان عشان يستفزنا بس حصل العكس وانا قصدت استفزه وأهينه علشان يتهور ويعمل اي ردة فعل تقربني منه.
- يعني دلوقتي انت ...
استفسر مراد بترقب وقبل ان يتلقى الإجابة رن هاتف آدم بمكالمة من فاروق الذي قال بجدية :
- الرجالة اللي حطيتهم حضرتك عشان يحرسو حدود المنطقة مسكو كام واحد غرب يا آدم بيه كانو شايلين عصايات واسلحة وهما بيهربو ... دول نفسهم اللي كنت بتدور عليهم مش كده ؟
ابتسم باِنتصار من نجاح خطته وردَّ عليه :
- ايوة هما يا فاروق شكل المعلم بتاعهم مطلعش ذكي زي ما كنا فاكرين.
- طيب انت كويس تأذيت منهم قولي انت فين دلوقتي عشان اجيلك.
برطم فاروق بقلق متخيلا نتيجة تهجم مجموعة من قطاع الطرق على رجل واحد فهدأه آدم متريثا :
- متقلقش أنا بخير بس انتو مسكتوهم كلهم ؟
- مع الأسف يدوب اتنين منهم والبقية قدرو يهربو مننا.
- مفيش مشكلة دول بيكفونا وبيوفو ... انت وديهم للمجلس لعند العمدة وأنا شويا وجاي تمام.
- أمرك.
أغلق الخط ونظر لمراد مغمغما بنبرة هادئة :
- أنا همشي عندي شغل مهم مع الـ**** دول وانت ارجع لبيتك عشان ترتاح.
وأضاف مستدركا بقوله :
- بالنسبة لوقفتك جمبي النهارده فأنا مش هنسهالك ولو عايز ...
قاطعه الآخر بصلابة :
- أنا مش مستني منك أي مقابل.
طالعه آدم برهة تبادلا فيها الكثير من الكلمات الصامتة وانتهت بهزة من رأسه قبل أن يرحل تاركا مراد يحدق في أثره ... ولأول مرة يجرب هذا الشعور ... أن يقف الأخ بجانب أخيه !!
_________________
تم تكبيل الرَّجُلين بجوار بعضهما البعض على الأرض بعدما أدخلوا بالقوة رغم مقاومتهم ومحاولتهم الفرار فقرفص فاروق أمام أحدهما وقال بسخرية :
- أخيرا وقعتو بين ايدينا انتو كنتو فاكرين ايه هتقدرو تاخدونا ع خوانة زي أول مرة وتنفذو بجلودكم بعد ما تتهجمو على آدم بيه فاكرين الدنيا سايبة يا شوية عرر.
لم ينطق الآخر حرفا واحدا وظل ملتزما الصمت حتى دخل العمدة بشموخ وبسالة هاتفا :
- هما واللي وراهم متهجموش على آدم بس دول اعلنوا العداوة للقرية كلها وهيدفعو التمن غالي فأحسنلك يابني تقر باللي عندك انت وصاحبك عشان تفضلو عايشين ع الاقل.
ضحك ذاك المقصود بالكلام وحرك شفتاه النازفتان وهو يتمتم بتهكم :
- ولو متكلمناش هتعملنا ايه يا عمدة هتقتلنا أعلى ما فخيلك اركبو.
أطلق صرخة متألمة بغتة عندما شده فاروق من شعر رأسه بعنف حتى كاد يقتلع خصلاته وهدر باصقا تهديداته الحادة :
- اتكلم باِحترام عشان مدفنكش وأنت حي يا حيلتها.
في هذه الأثناء وصل آدم لحيث يحتجزون الأوغاد وولج للداخل فاِنتبه له العمدة وبرطم باِهتمام :
- انت كويس يابني.
نظر له فاروق وزاد الشعور بالغضب داخله وهو يرى سيده ورفيقه مصابا بعدة كدمات وبهيأة تنم عن دخوله في مشاجرة كبيرة فكتم زفرته الحانقة وقال :
- محدش هيتكلم بالأسلوب المسالم ده أنا بقول اننا نخلي الرجالة يروقوهم شويا عشان لما نجي نستجوبهم مياخدوش في ايدينا غلوة.
تقدم آدم بخطوات رصينة ذات وقع عالٍ بعثت فيهما التوتر بشكل خالص وهما يناظران الرجل الذي تهجما عليه منذ سويعات فقط، انحنى أمام من كان يتواقح ويدّعي القوة وابتسم متشدقا :
- أنا على فكرة بحب فقرة التعذيب اوي بحس بمتعة وأنا بسحب الكلام من بوق اللي قدامي غصب عنه، قولي يا بطل عندك اقتراح ع الطريقة اللي عاوزني اعذبك بيها.
تشنج جسده وارتعدت فصائله بتلبك عجز عن مقاومته، كان هذا الشي واضحا لآدم الذي رفع قدمه وركل معدة الرجل بقسوة جعلت أنفاسه تنقطع لثوانٍ وهو ينحني للأمام قبل أن يسقط على جانبه وقد مازال مكبلا.
طالعه آدم بنظرات مظلمة منعدمة الرحمة ونزعة سادية انتشت برؤية الوغد وهو يتلوى مكانه ثم قبض عليه من خصلات شعره ورفعه هامسا :
- انتو لو اتعاونتو معانا مش هنطول يدوب ساعة ولا ساعتين بيكفوني على ما تعترفو بس واضح انك انت وصاحبك حابين نعمل سهرة صباحي ... عادي مفيش مشكلة.
انتفض رفيقه بذعر وقد كان أقل قوة وتحملا فطفق يردد بصوت مهزوز على أمل أن ينجو بجلده :
- احنا مخططناش نقتلك يا بيه كان القصد اننا نخوفك بس.
- أنا مش عاوز اعرف تخطيطك ولا نيتك اتجاهي يا بني ادم كل اللي عاوز اعرفه هو حاجة واحدة بس ... مين وراكو ؟
صدعت نبرته الحادة في الأجواء لكنه لم يلقَ إجابة فأضاف بلهجة أشد :
- اسمه ايه وقاعد فين وانتو من انهي قرية ؟!
ردَّ الأول بهوان بدأ يتسلل إليه بسبب الضربة التي تلقاها وشعر بها وقد كسرت أظلاعه :
- احنا معندناش معلومة تفيدك حضرتك قاعد بتضيع وقتك بس.
كز آدم على أسنانه ببغض وكاد يضربه فأردف الآخر مؤكدا :
- صدقني محدش مننا بيعرفه احنا يدوب بناخد الأوامر وبننفذها عمرنا ما شفونا الراجل اللي بيديلنا التعليمات ديه.
- اومال هو تواصل معاكو ازاي مادامكم مشوفتهوش قبل كده !
سعل عدة مرات ثم أخبره بأنهم مجموعة من "البلطجية" ليس لديهم رئيس محدد فهم يُستأجرون من حين لآخر من أجل القيام بعمليات تخريب لصالح لمن يدفع أكثر.
واليوم جاءهم رجل لا يعرفونه وأعطاهم صور آدم ومعلومات عنه مع مبلغ مالي معتبر مقابل التعدي عليه بالضرب ثم الهروب من القرية إلا أنهم وقعوا في فخ لم يكن في الحسبان !!
استمع له بوجوم ثم نظر لرفيقه الذي أكد سريعا :
- ديه الحقيقة يا باشا احنا معندناش معلومات تانية.
تحدث العمدة بإقتضاب :
- طيب الراجل اللي جالكم اسمه ايه ومن فين ولا ده كمان مبتعرفوهش.
ازدرد لعابه بصعوبة وأجاب :
- مبنعرفهوش ... زي ما قولت لحضرتك احنا بنشتغل مقابل الفلوس ومبنهتمش بحاجة غيرها.
استدار آدم للعمدة الذي هز رأسه مشيرا له بشيء محدد فتنهد واستقام واقفا بينما يبرطم :
- ماشي طالما انتو مبتعرفوهش ولا بتهتمو بمين هو فـ احنا هنخليكم عندنا الليلة ديه ونتكلم في شوية مواضيع كده لعل وعسى تبقو مهتمين فجأة وتفيدونا ... وبالمناسبة احنا ضيافتنا مشرفة اوي وبتليق بمكانة الضيف.
كلامه كان يحمل معنى واحدا "ستعيشان ليلة صعبة مع الاستجواب والتعنيف حتى تعترفا بكل شيء" ثم طالع فاروق هامسا :
- شوفو شغلكم كويس.
رفع هذا الأخير كمي قميصه لساعديه هاتفا بتوعد :
- بأمر حضرتك.
غادر الغرفة رفقة العمدة ووقف في الخارج مستمعا لكلمات المتسائلة :
- انت كويس البلطجية دول أذوك.
تجاهل آدم الألم الذي انتابه عند لمس كتفه وردَّ عليه بروية :
- أنا بخير مجرد ضربات خفيفة ومكنتش لوحدي عشان كده قدرت اقاومهم.
- مين كان معاك ؟
- مراد.
ردد بعمق اسم الشخص الذي ساعده ورفض تركه بمفرده أثناء التهجم عليه فرفع العمدة حاجباه مؤكدا على الاسم المذكور :
- مراد ... أخوك !!
عض شفته بتنعت وهز رأسه بإيجاب مردفا :
- التقينا ببعض ووقفنا نتكلم وفجأة لقينا البلطجية نازلين علينا وبيهددوني .. أنا طلبت منه يمشي بس رفض وقالي مش هسيبك لوحدك.
لم ينتبه آدم للبسمة الخفيفة على وجهه بينما يتحدث عن أخيه الذي أظهر شهامة كبيرة اليوم إلا أن العمدة لاحظها وأدرك أن الحواجز الجليدية بين الاثنين ربما بدأت في الذوبان فقال بنبرة جادة :
- لما جيت لعندي من فترة وحكيتلي عن مراد انا انصدمت لأني كنت سامع بموضوع جواز والدك بواحدة ست من المدينة بس مكنتش بعرف انها خلفت منه.
وساعتها قولتلك انه مهما كانت المشاكل بينكم انتو الاتنين بس هتفضلو أخوة والدم عمره ما يبقى مايه ... قولتلك كمان ان عمايل مراد جاية من قهره على نفسه وعلى والدته بس مستحيل توصل لأنه يحاول يقتلك و اهو اتأكدت من كلامي ... اللي وقف جمبك النهارده مستحيل يكون خطط لقتلك في الماضي.
- انا اتأكدت فعلا ان ملوش دعوة بمحاولة قتلي مرتين من قبل بس لسه منستش غضبي ناحيتي كل لما افتكر انه اتعاون مع عدوي عشان يوقعني بدل ما يجي يواجهني ببقى حاسس بخنقة كبيرة.
ومن جهة تانية بقعد ابرر لمراد واقول ان أي حد مكانه كان هيعمل نفس الشي حتى أنا.
همهم برفض وربت على كتفه بتشجيع قائلا :
- انت مكنتش هتعمل كده تعرف ليه ؟ عشان معدنك نظيف ومبتقبلش تهاجم من ورا مهما كنت بتكره عدوك و ده اللي مخليك تليق لمنصب العمدة محدش بيستحقها غيرك يابن الصاوي.
وبالنسبة لمراد فأنا مستني يوم تتصالحو فيه وترجع الأمور لمجاريها انت سند لأخوك وهو سند ليك مهما غلطتو وتخانقتو اوعى تنسى الحقيقة ديه.
- ان شاء الله. شكرا لحضرتك كلامك فادني وخفف عليا بس لازم امشي دلوقتي عشان مقلقش العيلة عليا و اه انا اتصلت بصفوان قبل ما اوصل وحكيتله ع اللي حصل فممكن يجي في أي لحظة.
- ماشي يابني في أمان الله.
ثم غادر آدم بعدما أوصى فاروق بتلقين المهاجمين درسا لن ينسوه ريثما يرضون الاعتراف بأي كان ما يخفيانه ...
________________
رمى كوب الماء على الجدار وهدر بعصبية :
- انتو شوية اغبيا محدش قادر يعتمد عليكم ازاي متاخدوش بالكم من الفخ بتاعه ازاي !!
اصطف الأربعة الماثلين أمامه بصمت فاِنقض على أحدهم يشده من ياقته ويصرخ :
- أنا بعتكم عشان تعلموه الأدب وترجعو مش عشان يتقبض عليكم.
أخرج هذا الأخير كلمات متقطعة من فمه محاولا الدفاع عن نفسه :
- يا باشا احنا تفاجأنا بيهم وهما بيقطعو طريقنا مكناش متوقعين يطلعولنا حضرتك بتعرف ان شغلنا نظيف وعمرنا ما كسفناك في حاجة.
- انت لسه قاعد تبرر يا غبي اخرس ومتسمعنيش صوتك.
بصق سليمان كلماته باِزدراء وهو يلقيه بعيدا عنه وظل يحوم حول نفسه وداخله يتآكل من الغضب بسبب فشل خطته والارتباك خشية أن تُكشف هويته، اللعنة لا يزال الوقت مبكرا على ظهوره مازال بجعبته الكثير كي يلعب بأعصاب حكمت !!
زفر واستدار اليهم مجددا هاتفا بحدة :
- وطالما اتقبض على اتنين منكو جيتو انتو لعندي ليه يا اغبيا مبتعرفوش انهم هيلحقوكم ؟
- لا يا معلم احنا قدرنا نضيعهم واتأكدنا انهم ملحقوناش بس ...
لم يكن يملك الشجاعة الكافية لإكمال جملته لكن سليمان أكملها بدلا عنه وهو ينظر من النافذة بعينين حمراوتين ونبرة مظلمة :
- بس اللي اتقبض عليهم ممكن يدلو آدم سلطان على مكاني.
تدخل مساعده ويده اليمنى في الحديث متحدثا بلهجة حاول جعلها مطمئنة قدر الإمكان :
- انا بعرف الشابين دول كويس يا معلم صعب يسحبو منهم كلمة طالما مش في صالحنا وبعتقد ان العمدة وآدم سلطان اخرهم يزهقو منهم ويسيبوهم.
بس مع ذلك الاحتياط واجب وأنا بقول اننا لازم نغير المكان بتاعنا عشان لو حصل ظرف غير متوقع.
ارتطمت قبضته في الجدار الصلب بعنف لاعنا الوضع الذي يمر به ومدركا بأن كلام مساعده صحيح ويجب عليه مغادرة منزله وربما القرية أيضا لكن لن يكون سليمان إذا لم يرحل ويترك أثرا يجعل آدم الصاوي يتوسله من أجل العودة فحادت شفته في ابتسامة ماكرة هادرا :
- مش هسمحله يقول اني هربت بعد ما كشفني بذكائه مادام كده كده بايظة واحتمال يوصل لإسمي فأنا اللي هقلب حياته الأول.
ثم مرر بصره على جميع الموجودين بجمود لا يعبر عن أي شيء وتقدم بضع خطوات من مساعده هاتفا :
- اعملو التجهيزات الازمة احنا هنمشي الليلة ديه.
هز الآخر رأسه بإيجاب ووجه هادئ تزعزع لحظيا عندما همس سليمان في أذنه بقسوة :
- و اتخلص من الحمولة الزايدة اللي عندنا من غير ما تسيب أثر.
وطبعا من كان يقصدهم بـ - الحمولة الزائدة - هم هؤلاء الحمقى الأربعة الذين أرسلهم لأذية عدوه فأسقطوا الضرر على رأسه هو !
_________________
بعد مرور وقت طويل على غروب الشمس ونشر الليل لستاره في السماء.
دخل إلى السرايا بتجهم وصعد لغرفته مباشرة فلمحته نيجار التي كانت تقف في الشرفة تتصل به ولحقته للداخل مرددة :
- انت اتأخرت اوي كده ليه يا آدم قلقتني عليك.
تجاهل الرد عليها وهو يفتح الخزانة ليغير ملابسه لكنها استمرت في التحدث معاتبة إياه بغضب طفيف :
- قولتلي مش هتجي تتغدا وقولت ماشي ممكن مشغول بس وعدتني انك هترجع بدري واهو بقالي ساعتين بتصل بيك وانت ولا هنا.
- سيبيني يا نيجار دلوقتي انا مصدع ومش حمل أي زن منك. .
هتف بجفاء وبلادة نازعا قميصه فاِشتعلت عيناها بالحنق وكادت تهاجمه إلا أنها شهقت وقد أبصرت كدمات على كتفه العاري فركضت إليه وجلجلت بهلع :
- ايه اللي حصل مين عمل فيك كده.
تأفف وفكر جديا في المغادرة إلا أن نيجار منعته متسائلة بخوف حقيقي :
-آدم لو سمحت متتجاهلنيش انت مش شايف حالتي رد عليا العلامات ديه من ايه.
في هذه اللحظة أحس آدم بأنه يقسو عليها رغم قلقها البائن فحمحم وأخبرها بأن ذلك الوغد الذي لا يعرف هويته بعث رجاله كي يتهجموا عليه بالضرب في محاولة بائسة منه لإثبات قوته، وهذا ما جعل نيجار تنتفض بصدمة ثم تمالكت نفسها وسألته :
- معقوله كل ده حصل طيب هما قدرو يدخلو للقرية بتاعتنا ازاي ومنين عرفو الطريق اللي بتمشي منه وانت راجع.
- أنا قولت من قبل ان العدو ده بيعرفنا كويس والظاهر انه دور ورانا كتير عشان يعرف كل تحركاتنا بس اللي بستغرب منه كل مرة هو الهوس اللي مخليه يطاردنا بدل ما يظهر قدامي وش لوش.
يعني انا من كام يوم استفزيته وقللت منه فـ جه النهارده عشان يردهالي ويعلم عليا، ويثبتلي انه في مرتبة عالية عكس ما كنت متخيل، ومش قادر اتوقع السبب اللي مخليه يحقد على العيلتين وعليا أنا بالذات للدرجة ديه.
ركزت نيجار في حديثه ووصلت لذات التساؤل الذي تطرحه على نفسها كل يوم من هذا العدو المجهول القادم من العدم ومالذي يجعله مصمما على أذيتهم هكذا.
أحيانا تصل إلى مرحلة التأكد من أن السيدة حكمت هي وراء كل شيء فـ امرأة بأنانيتها من الممكن أن تكون قد أذت الكثير في الماضي طمعا في السلطة - وأقرب مثال هما حليمة ومراد -
ولوهلة كادت تصارح آدم بما يدور في خلدها لكنها تراجعت فورا مفكرة بأنها لا تملك الصلاحية الكافية حاليا حتى تتهمها كما أن زوجها يثق بجدته ويحترمها كثيرا لذا سيغضب إذا أدرك بأن نيجار وضعت حكمت في دائرة الإتهام.
- بتفكري في ايه ؟
أيقظها سؤاله من غفلتها فاِستفاقت وادّعت الابتسام بينما تجيبه :
- بفكر في الموضوع ده شاغلي بالي وكمان قلقت شويا لأنهم تهجموا عليك وانت لوحدك.
رفع حاجبه ممازحا إياها حتى يخفف من وطأة الموقف :
- الله انتي مستهينة بيا ولا ايه أنا بقدر اتغلب عليهم من غير ما يرفلي جفن ... يعني ع الاكتر هطلع من الخناقة بضلعين مكسورين.
انزلقت ضحكة من نيجار فتنحنح مستعيدا جديته واستطرد :
- بس بصراحة أنا مكنتش وحدي المرة ديه، مراد كان معايا.
- مراد أخوك ازاي مش فاهمة.
سرد لها باِختصار عن رفض هذا الأخير الفرار والنجاة بنفسه بما أنه لم يكن المستهدف وقرر القتال معه غير مبالٍ لاِحتمال تعرضه إلى الأذى.
استطاعت نيجار لمح اللمعة في عينيه وهو يتحدث عن أخيه وشعرت بالعاطفة لأنه يملك من الشهامة ما يكفي حتى يتناسى أخطاء مراد في حقه ويشعر بالرضا لمجرد موقف جيد واحد منه.
ربما لأن آدم ذو حس كبير بقيمة العائلة أو ربما لأنه طوال هذه المدة كان يقدر حزن -شقيقه- وجرَّب اعطاءه الحق في كل ما ارتكبه ... تماما مثلما أعطى فرصة لها هي.
تسللت الدموع لعينيها فهرعت تدفن رأسها في صدره وتحيط خصره المتين بذراعيها هامشة بتحشرج :
- انت شخص كويس اوي يا آدم وبتستحق تلاقي الحب والاحترام وأنا متأكدة انه هيجي يوم تتصلح علاقتك بأخوك.
تفاجأ في البداية من فعلتها لكنه حينما استمع لكلماتها ابتسم وطفق يمرر يده على شعرها مهمهما :
- أنا مش مثالي بالشكل اللي انتي شايفاه يا نيجار مش ممكن تحصل حاجة في المستقبل تخليكي تغيري رأيك فيا ؟
حركت رأسها يمينا وشمالا علامة على النفي وأكدت :
- لا مش ممكن مهما حصل هفضل ابصلك بنفس النظرة.
ظلا يحتضنان بعضهما لبرهة حتى انسلخت عنه مردفة :
- تعال احطلك مرهم على جروحك شكلي هبقى ممرضة تشتغل بدوام منتظم الفترة ديه.
ذهبت تبحث عن المرهم فجلس آدم على السرير ينتظرها لكن رن هاتفه بغتة برقم مجهول ليقضب حاجبيه بشك ويرتدي القميص على عجالة ثم غادر الغرفة متجاهلا نداءات نيجار وفتح الخط :
- ألو.
وصله الصوت البغيض من الناحية الأخرى :
- بتمنى متكونش اتأذيت اوي من العلقة اللي خدتها.
تهكم وعلَّق ساخرا منه :
- متأكد اني أنا اللي خدت العلقة ... بتقدر تشوف شكل كلابك اللي بعتهملي ولا هما مرجعوش لعندك.
اشتدت قبضة سليمان الحانقة فغمغم :
- انت فاكر نفسك ذكي وعرفت توقعني صح.
- هتعرف الاجابة قريب اوي لما اسحب الكلام من لسان كلابك واكشف هويتك وافضحك قدام الكل.
- متبقاش واثق من نفسك كده مش ممكن انت اللي تتفضح لما تتكشف حقيقتي وسمعتك تبقى في الاراضي.
- خيالك واسع اوي.
- وليه ميكونش حقيقة هتقضي على اعتبارك انت الاول يا ولد سلطان الصاوي.
نضب صبره الذي لم يكن يملك منه الكثير فردد بسخط :
- قصدك ايه اتكلم وبلاش لف ودوران.
- أنا مش هنطق بكلمة كل اللي هقولهولك ان مصدر الضرر قريب منك بس انت مش قادر تشوفه ولو مش مصدقني روح اسأل الست حكمت هانم.
انصدم آدم مما يقوله ودقت نواقيس الخطر بداخله فاِنتفض بتشنج وغمغم مستجوبا إياه بحدة :
- ايه علاقة ستي بالموضوع ده انت بتعرفها منين.
- ده أنا اللي بعرفها كويس ... ابقى روح لحكمت هانم واسألها انتي عملتي ايه في الماضي يا ستي خلانا نوصل للوضع ده اسألها وهنشوف اذا هترد عليك ولا لأ يا ... حفيد العمدة السابق.