رواية بقايا عطر عتيق الفصل الرابع بقلم مريم نصار
دخلت صباح على زوجها عبد العزيز وهو نائم بسلام، شعرت بالضـ.يق من كونه يرمي كل شي خلفه ولا يهتم بكل ما يدور حوله، تمتمت بكلمات تعبر عن أنها غير راضيه، بدأت تهزّه لتوقظه وسحبت اللحاف عنه منادية بصوت عال:
ـ قوم ياعبعزيز قوم ياخويا انت راخر نايم في تكية العمده وحاطط على قلبك مية بارده.واللاه السنه الحلوه اخرتها نوم.
قام عبد العزيز مفز.وعًا من صوتها الذي صدح بجانب أذنه، وكاد أن يقف قلبه أثر الفز.عة ومد يده مسرعاً ليشرب من القُلّة الموضوعة بجانب الشباك.
والقُلّة تعني الإبريق أو الإناء المصنوع من الفخار، ويستخدم لحفظ وتبريد الماء.
نظر إليها وهو يعيد الإبريق مكانه ويشعر بالضيق منها. فتحدثت هي غا.ضبة:
ـ قوم ياسبع البر.ومبه انت نايم ولا على بالك ومتعرفش اللي حصل في الدار؟
تمتم وهو يستغفر ربه من تلك الزيجة السو.داء ولا منها مفر ورد عليها مجبر وهو متعب بنبره تحمل السخريه:
ـ إيه ياصباح؟ ايه يا عملي الأسو.د في الدنيا، إيه اللي جرا في الدار! يكونش عمدة الكفر جه واداكي نِشان على رغيف العيش المدور؟ ولا على بلاص المش أبو دودو؟
صر.ت على أسنانها بغيظ وقالت:
ـ بتتريق؟ بتمسخ عليا يا عبعزيز، واني عملك الاسو.د! إن كُت اني عملك الاسو.د فانت نصيبي المهـ.بب ياعبعزيز، اه ما هو كل الخلق مصـ.يبتها السبت والحد واني مصـ.يبتي لا وردت على حد.
نفخ بنفا.ذ صبر وضر.ب بيده على ركبتيه وهو يقول:
ـ آه ، ابتدينا، ابتدينا نو.اح وعو.يل ياصباح.
ثم نظر اليها وهو يقول:
ـ جيبي من الاخر وكبي اللي في بطـ.ـنك حاكم اني عارف الدخله دي مور.هاش خير أبدا.
ـ خير! وهيجي منين الخير يا عبعزيز ونت حاطط إيدك في الميه الباردة واني حطاها في النا.ر والشـ.ق منك ومن عمايلك.
اعتدل عبدالعزيز وجلس في حركة عصبية، طوى ساقيه بقوة تحت جسده، وكأنما يحاول حصار نفسه. يديه تشبثتا بركبتيه المتشا.بكتين، وعيناه تترقب إليها بحد.ة. كل حركة في جسده كانت تنبض با.نفعال مكتو.م من از.عاجها المستمر له، كأنما يحاول التحكم في طو.فان مشاعره المتأ.ججة بإنز.عاج وقال:
ـ ارغي وجيبي اللي في معا.ميعك يا صباح، اني عارف إنك مش هتتـ.بطي ولا تر.تاحي غير لما تملي نفو.خي بحكاوي الدار: سلفتك عملت، والتانية سوت، وكلام حريم وخلاص لا يودي ولا يجيب.
ضحكت صباح من غيـ.ظها وجلست أمامه قائلة:
ـ ياخويا خد منابك صبر ديهدي.هقولك اهو.
وبدأت تحكي له عن الحديث الذي سمعته بين صالح والجدة نعميه. وبعد ما سمع كل كلمة قالتها، فاجأها بردة فعل بارده وسحب الغطاء على نفسه مرة أخرى وقال:
ـ واني مالي؟
كادت صباح أن يخرج من عيناها نا.راً من غيـ.ظها وشدت الغطاء منه مرة ثانية، قائلة بغيظ:
ـ هو إيه أصله دي! إزاي انت مالك؟ مش لازمن نعرف هنعمل إيه؟ وكمان افرض رضيوا وخلوا الواد يكمل علامه.
رد عبد العزيز بتململ وهو يجذب الغطاء مرة أخرى:
ـ واني مالي؟ وانتي مالك؟ إحنا مالنا؟ سيبيني في حالي يابنت ابو زاكي وخليني الحق اتخـ.مد حبه قبل العصر. عندي جمع فرواله ومش فاضي.
ران عليها صمت خفيف ورفعت حاجبيها وهى تفكر كيف تجعل زوجها يستمع لها ويفهم ما تريده فجلست بجانبه وأخذت تتحدث بعقلانية:
ـ جرالك إيه يابو راضي، هو انت ياخويا مش عايز عيالك يبقوا صلاة النبي عليهم كده متعلمين ومتنورين، عيالنا راضي وعبد القادر وأمينة بتك هما يعني عيال سميره أحسن منهم!عشان دول يبقوا متنورين وعيالي ميعرفوش يفكوا الخط! اشمعنا بقى، اني بقولك أهو لازمن اللي يجرى على عيال سميرة يجرى على عيالي كمان.
تأ.فف وصك على أسنانه ثم حاول أن يهدأ ورد متثاقلاً:
ـ صباح! الكلام دِه سابق لأوانه، العيال لسه صغيره ومين يعرف إيه اللي هيجرا ويكون؟ ده مش بعيد لو ابويا الحج حسين لما يعرف ويشم خبر بس! ، تقـ.يد الدنيا نا.ر.
ثم أضاف:
ـ سبيني أنام لله يا شيخة، وروحي اتسايري مع حريم الدار.مش وراكي شغلانه غيري!
صباح ردت بانكسار:
ـ أنى عارفة إن ما فيش فايدة منك، اتخـ.مد يا عبد العزيز، نا.م يا خويا، وسيب سميرة وعيالها يكو.شوا على كل حاجة.
لم يرد عليها وجذ.ب الغطاء أكثر حتى غطى جسده بالكامل معلنا عن إنتهاء الحديث بينهم، بينما صباح تنظر أمامها بمكر وشـ.ر وهى تقول بنبرة تحمل التو.عد:
ـ النا.ر اللي انت خا.يف منها! هتـ.ـقيد بس على أيدي اني ياعبد العزيز.
بعد أن استراح الرجال قليلاً وأخذوا قيلولة، ايقظتهم نسائهم بأمر من الجد عبد الرحيم واستعدوا للذهاب إلى المسجد لأداء صلاة العصر. بينما النساء تجهز للرجال حين العودة اطباق الفاكهه مثل العنب الذي قطفته إخلاص توها من الجنينه وحبات الجوافه الطازجه، واحضرت وفاء التسالي في إناء دائري الشكل ملئ بالفول السوداني المحمص في فرن الدار ليضعوهم بالخارج وبعد الصلاة، عادوا إلى البيت وتوجه الجد عبد الرحيم ليجلس في ظل الجنينه، وكانت الجدة نعيمة في انتظارهم، تصب أكواب الشاي المضاف إليها النعناع الأخضر، جلس الجميع وتناولوا حبات الفاكهه وسألت نعميه ولدها حسين بلهجة مليئة بالاهتمام وهى تضع امامه كوب الشاي:
ـ حسين ياولدي.
أخذ منها الكوب وهو يقول برحابة صدر:
ـ نعمين يا حاجه.
ـ ينعم الله عليك، أنت وخواتك بعد جمع الفرواله هتروحوا تباركوا لحجازي إبن عمك على ما جاله! الليله ليلة قيادة الشمع وبكره السبوع، وبعتنالهم الهَنا.
أجاب حسين وهو يأكل حبات الفول السوداني:
ـ أيوه اومال لازم نعمل الواجب مع دار عمي عبداللطيف، هنروح بمشيئة الله بعد المغرب.
أومأت الجدة نعيمة برأسها وقالت:
ـ زين كلامك ياولدي، وبالمرة خدوا معاكم حريم الدار كمان. أهو، يهوا عن نفسهم شوية. ولا إيه قولك ياحج عبد الرحيم؟
أجابها وهو يسبح بالمسبحه وقال:
ـ وماله ياحاجه دِه واجب بس قبل العشا الحريم كلها تكون في الدار.
اجابته:
ـ ومالوا كلامك ياحج قبل العشا يكونوا في مقاعدهم. ماشي ياحسين يا ولدي!
رد حسين دون النظر لأحد وهو يحتسي الشاي:
ـ وما له يا حاجه، كل الحريم تاجي، بس فاطنة لا، تفضل معاكي هنا تونسك، ومتخطيش من عتبه باب الدار.
تعجب الجميع وهذا الخبر أسعد اسماعيل كثيراً وسأل سعد أخيه مستغربًا:
ـ طب ليه، كده يابا الحاج يا حسين؟ متخليها تاجي دي لسه عيلة صغيره.
قاطعه الجد عبد الرحيم بنبرة حاسمة:
ـ كمل شايك وقوم شوف وراك ايه ياسعد انت وخواتك، ومدام أخوك الكبير عايز كده، يبقى كلامه يمشي من غير ولا كلمة.
صمت الجميع، و وافقته الحاجه نعميه على قراره حتى وإن كانت لا تعلم السبب، وأظهر عبد الرحيم دعمه لقرار حسين، مما جعل الجميع يلتزم بما قيل. في هذه الأثناء، كانت المشاعر تتفاعل بشكل هادئ بين الاخوه ومليء بالتوتر غير المعلن،حيث كان حسين يتعامل مع الموقف، كأنه لم يحدث شئ، مما أثار هذا فضول اسماعيل وأصبح مدركًا أن هناك تفاصيل لم تُفصح بعد.
بعد ذلك خرجوا الاخوه إلى الأرض وهم يتبادلون الأحاديث الخفيفة والضحكات المتفرقة. السماء كانت صافية، والشمس تميل نحو الغروب، مما منح المكان دفئًا لطيفًا. وصلوا إلى الأرض الزراعية، حيث تنتشر شجيرات الفراولة المزروعة بعناية. المحصول كان جاهزًا للجمع، والفراولة الحمراء اللامعة تنتظر أن تُقطف بأيدٍ خبيرة.
بدأ الاخوه في العمل بسرعة، أيديهم الخشنة معتادة على العمل الشاق. كانوا ينحنون لقطف الفراولة بحرص، يجمعونها في سلالهم، ثم يضعونها في صناديق خشبية مخصصة للنقل. صوت قطف الثمار كان يختلط مع الهمسات والحوارات بينهم عن أحوال الزراعة وأخبار البلدة. إسماعيل وحسان وسعد كانوا يمزحون بين الحين والآخر، في حين كان الأكبر سنًا منهم يتحدثون بجدية عن جودة المحصول هذا العام.
صناديق الفراولة كانت تُملأ وتُصفّف بعناية، بحيث لا تتهشم الثمار أثناء النقل. الصناديق الخشبية، التي حملت آثار الزمن، كانت توضع بعناية على ظهر عربة الكارو التي تنتظر على طرف الحقل. الحمار المربوط بالعربة كان يبدو هادئًا، كما لو أنه اعتاد على هذا الروتين السنوي. اقتربت الشمس على المغيب وبعد أن انتهوا من جمع المحصول، بدأوا بتحميل الصناديق على عربة الكارو، يرفعونها بحذر واحدًا تلو الآخر.
بعد أن امتلأت العربة بالصناديق المكدسة، ارتفعت بعض السحابات الخفيفة من التراب مع تحرك عجلات الكارو على الطريق الترابي. انطلق الاخوه مع العربة سيرا على الأقدام نحو بيت العائلة القديم، "دار أبو قاسم"، وهو البيت الذي يختزن فيه المحصول قبل توزيعه لسوق البلدة. كان البيت عبارة عن مبنى قديم مصنوع من الطين والحجارة، يقع في قلب القرية، وله ساحة واسعة يتجمع فيها أهل البلدة في المناسبات.
وصلت العربة إلى الساحة، حيث قام الرجال بتفريغ الصناديق ووضعها في مكانها المخصص، استعدادًا لتفريغ المحصول وفرزه. انتهى يوم العمل الشاق، لكن وجوه الرجال كانت مليئة بالرضا، فالمحصول هذا العام كان جيدًا، وكانوا يعلمون أن هذا العمل الشاق سيؤمن قوت عائلاتهم.
قبل أذان المغرب بقليل، عاد زوج زينب من البندر وأرسل لها ابن أخيه ليخبرها بمجيئة طالبا منها العوده إلي المنزل، وحين سمعت زينب لهذه الاخبار الساره هرعت إلى غرفتها في منزل ابيها. ارتدت ثيابها السوداء المعتادة التي ترتديها النساء في الريف وقتها، ثوب طويل فضفاض من القطن، مزين ببعض النقوش البسيطة على الأكمام والحواف. غطت رأسها بشال أسود من الكتان الناعم، وكانت ترتديه بطريقة تلفه حول رأسها وتغطي به كتفيها، تاركة طرفه يتدلى على صد.رها.
بخطوات سريعة، اتجهت نحو "المندرة"، وهي الغرفة الكبيرة التي تُستخدم لاستقبال الضيوف. المندرة كانت غرفة واسعة، مفروشة بسجاد بسيط من الصوف، وعلى جوانبها توضع الحُصر القديمة المصفوفة بعناية على الأرض. كان في وسط المندرة "الدكة" الخشبية التي يجلس عليها الرجال عادةً. الجدران طينية، وفيها نافذة كبيرة مفتوحة تطل على ساحة الدار، مما يسمح بدخول النسيم العليل قبل الغروب.
دخلت زينب المندرة، حيث كان والدها يجلس على الدكة، مرتديًا جلبابه الرمادي، وبجانبه الحاجه نعيمه التي كانت تجلس على الحصيرة، تشبك يديها، تضع شالها القطني على كتفيها، وتبسطه على ساقيها. والداها نظرا إليها بابتسامة عندما دخلت. وعلموا أنها ستذهب.
قامت زينب بالسلام على أبيها وأمها قائلة لهم:
ـ جوزي حسانين رجع من البندر وبعتلي، لازم أروح قبل ما الدنيا تليل، ءأذنلي يابا الحج.
والداها أومآ لها بالموافقة، فالأعراف في القرية كانت توجب أن تعود النساء إلى بيوتهن قبل حلول الظلام.
وانحنت لتقبل يديهما. كانت تحترم تقاليد العائلة وتعرف قدر الكبير. بعد تبادل السلام والكلمات القليلة، أسرعت زينب لتأخذ بناتها الصغيرات اللواتي كنّ يلعبن في الساحة أمام المندرة. مدت يدها لتمسك بأيديهن واحدة واحدة.
خرجت زينب مع بناتها من الدار واتجهت نحو بيتها بخطوات سريعة، تسابق الزمن قبل أن يغيب ضوء الشمس، حتى تصل إلى بيتها قبل أن يعم الليل.
اجتمع الإخوة جميعًا في الدار، وقد حان وقت الاستحمام. بعد عودتهم من الأرض، وكانت كل زوجة قد أعدت بعناية ملابس زوجها النظيفة، جاهزة ليرتديها بعد أن ينتهي الزوج من الاستحمام. بعد أن استعاد الجميع نشاطهم، وصلّوا فريضتهم،نهض الحاج عبد الرحيم بثبات، مستندًا إلى عكازه الخشبي الذي يصاحب خطواته الطويلة على مر السنين. و إلى جانبه سار حسين، يخطو بجوار والده بفخر، بينما تبعه باقي الإخوة في صف متماسك. وفي الخلف، كانت النساء يسيرن وراءهم، بأعينهن تتابع المشهد في صمت، وكأنهن يشهدن موكبًا من الهيبة والعراقة.
بينما كانت سميرة تسير بخطوات سريعة خلف الرجال، امسكت بيد ابنها صالح،. كانت النساء خلفهم يتحدثن بصوت خافت، لكن سميرة كانت صامتة ومهمو.مة. خا.ئفه من أن يعرف زوجها بأمر ما حدث في الصباح بشأن ابنه وقتها لن يحد.ث خيراً أبدا فهي أكثر من يعلم طباعه الجد.ية،اقتربت من صالح وهمست له بلهجة تهد.يد صار.مة، وهي تتأكد أن لا أحد يسمعها:
ـ عارف يا واد يا صالح؟ لو فتحت حنكك بكلمة واحدة من اللي نطقته قدام ستك نعيمة؟ أو حد شم خبر بس! اني، هقـ.طع خبر.ك. ومش بس كِده دِه لو أبوك عرف بالسو.اد اللي انت عاوزه! هيحلف ميـ.ت يمين ماهو موديك مدرسة البر التاني ولا هتكمل علامك ولا دياولو، واني بقى هخليك تشتغل في الأرض تزرع وتقـ.لع زي عيال الكفر. لحد ما تعرف إن الله حق فاهم يا ولا؟
صالح نكس رأسه بحز.ن شد.يد، وعيناه مليئتان بالهـ.م والقـ.لق. قال بصوت منخفض ومكـ.سور:
ـ فاهم يما، اني مش هتكلم تاني ولا هنطـ.ق بحاجه.
ردت عليه بحد.ة لكنها حاولت أن تخفف من وطأة كلامها:
ـ براوه عليك ياصالح، روح بقى اجري أمشي قصاد أبوك. انت راجل ولازمن تتعلم أصول المرجله، ماينفعش تمشي وسط الحريم كده. فاهم؟ صالح ابن حسين أبو قاسم راجل، من ضهر راجل.
أومأ صالح برأسه وقال بهدوء:
ـ ماشي يما.
ابتسمت سميرة قليلاً، وربتت على كتفه بحنان أم متو.جسة، وقالت بصوت أكثر لطفًا:
ـ روح يا قلب أمك، وربنا يهديك ياضنايا.
استدار صالح بهدوء وانطلق ليلحق بوالده، وعيناه ما زالتا تحملان أثر الكلمات الثقيلة التي سمعها، لكنه كان يعلم أن الرجولة التي تنتظر منه لا تقبل التراجع أو الضعف.
غرفة الجدة نعيمة كانت متواضعة وبسيطة، لكن لها هيبة الزمن القديم. السرير النحاسي الضخم يحتل زاوية من الغرفة، وعليه كانت تجلس نعيمه بعد صلاة المغرب، ممسكة بمسبحتها الطويلة وهي تسبّح. صوت المسبحة وهي تلامس بعضها البعض كان يملأ الغرفة الهادئة، فيما كان ضوء الفانوس الضعيف يعكس ظلالًا متراقصة على الجدران الطينية. وعلى الرغم من أنها لا تعرف القراءة، إلا أنها كانت تردد آيات القرآن التي تحفظها منذ الصغر، بصوت خافت ومليء بالخضوع لله، تحصن نفسها وأسرتها بما تحفظه من الفاتحة وآية الكرسي وغيرها من قصار السور.
في تلك اللحظة، دخلت فاطمة إلى الغرفة وهي تحمل مشطًا خشبيًا بيد، وفي اليد الأخرى قنينة صغيرة تحتوي على القليل من الجا.ز، الذي كانوا يستخدمونه آنذاك كبديل لزيت الشعر. اعتادت فاطمة أن تكون والدتها هي من تتولى تسريح شعرها. ما إن وقع بصر نعيمة على ابنتها، وضعت مسبحتها جانبًا بهدوء، ثم رفعت رأسها وقالت بصوت دافئ:
ـ تعالي يا ضنايا، اقعدي قدامي امشطلك شعرك.
جلست فاطمة أمامها على السرير، وبدأت نعيمة تسريحه ببطء مستخدمة الجاز لحماية شعر ابنتها وتقويته. وبينما كانت الأم تسرح لها شعرها الطويل جداً نطقت ببعض الآيات القرآنية لتحصنه، بينما كان وجه فاطمة مليئًا بالحيرة. وبعد لحظات، تنهدت وسألت والدتها بحيره:
ـ أمّا! هو ليه أبويا الحج حسين مرضيش يخليني أروح مع حريم الدار لدار ابويا عبد اللطيف؟ كان نفسي أروح معاهم وأشوف العيل الصغير وقيادة الشمع.
نعيمة لم تتوقف عن تسريح شعرها ورددت مجيبه بحز.م:
ـ مدام أخوكي الكبير شايف إنه ما فيش صالح من مرواحك هناك، يبقى خلاص يا فاطنة، مالوهش عازه الحديت دِه.
تأثرت فاطمة وقالت باعتراض مكبو.ت:
ـ واشمعنى اني؟ ما حريم الدار كلهم راحوا، والعيال كمان، هي جت عليا اني يعني؟
اردفت إليها بجدية وقالت:
ـ اسكتي سا.كته يابت، من إمتى بنرد كلام الرجّالة ونقا.وح معاهم؟ كلمة الراجل سـ.ـيف تمشي على ر.قبة الكبير قبل الصغير وأخوكي قال لا، يبقى هي لا.
فاطمة استسلمت وقالت:
ـ ماشي يما، اللي تشوفوه.
استمرت نعيمة في ضفر شعر ابنتها، ثم قالت لها بحنو:
ـ براوة عليكي يا ضنايا، البت المتربية زين ما تقولش لا ولا ليه ولا إشمعنى. البت تقول حاضر وبس. تقولي إيه يافاطمة؟
تنهدت فاطمة بخـ.يبة:
ـ حاضر وبس، هو إحنا بنقول غير حاضر وبس يما!
ابتسمت وهي تضفر آخر خصلة من شعر فاطمة وقالت:
ـ ربنا يكملك بعقلك يا بتي. واديني خلصتلك الضفاير الزينه دي،يحرصك الله من العين ياضنايا، قومي بقى روحي اقفلي باب الزريبة على البها.يم، وحطي مترد اللبن في النمليه عشان من الفجر مرت اخوكي سعد تصفيها في الحصيره وتكون الجبنه خلصانه عشان نشيعها لدار أبو سويلم ومعاه طبق قشطه زين، وتوكدي وشوفي نا.ر الكانون طـ.فت وبقت ر.ماد. لاحسن مرات أخوكي عبد العزيز عقلها مش في راسها.
ردت بتنهيدة وهي تنهض:
ـ حاضر يما.
في جلسة المندرة،في دار الحج عبد اللطيف جلسوا جميع الرجال من الأقارب والجيران والأصدقاء.و
كان صبري جالسًا، لكنه لم يكن حاضرًا تمامًا. عيناه كانت تجولان في ساحة الدار من حين لآخر، تبحثان عن شيء أو ربما عن شخص. التقط حسين نظراته المتكررة، فتوجه إليه بنظرة مختلفة وقال:
ـ مالك يصبري يابن عمي، عينك مش راسيه في راسك ليه؟ إنت بتدور على مين كده ومش لاقيه!
انتبه صبري على الفور محاولا إن يخبىء تو.ترة في ابتسامه وهز كتفيه بتردد، محاولًا إخفاء قلقه:
ـ واني هدور على مين يعني ياحج حسين! مفيش حاجه اني بس استعوقت الحريم اصل اني منبه عليهم يجيبوا فول سوداني وترمس للرجاله لزوم القعدة ومجابوش غير الشاي. داني هخلي سنتهم سو.خه.
قالها بعيون واسعه،ونجح في إخفاء تو.تره.لحظتها، تبادلت العيون بينه وبين إسماعيل نظرة ، لكنها كانت تحمل الكثير مما لم يُقال.
وضع حسين يده على ركبة صبري ونظر إليه قائلاً:
ـ طول عمرك صاحب واجب وبتفهم في الأصول يابن عمي.
من الجانب الآخر، كان إسماعيل يراقب كل حركة، جالسًا بصمت، لكنه لم يستطع إخفاء الضـ.يق الذي بدا على ملامحه. كان يعلم تمامًا ما يجول في خاطر صبري، وعيناه المليئتان بالكر.ه قالتا كل ما لم يُنطق.
في تلك اللحظة، همس إسماعيل إلى أخيه عبد العزيز بغـ.يظ، قائلاً:
ـ جالك كلامي يا عبدالعزيز ،شوفت صبري إبن عمك! داير بعينه اللي تد.ب فيهم بار.ود بيدور وسط الحريم على اختنا.
عبد العزيز استمع إليه ونظر إلى صبري ليراه يتحدث مع أخيه حسين ونقل بنظرة الي اسماعيل مردفا ببرود:
ـ بالك انت ياواد ياسماعيل قريب هتمشي في الكفر وعيال الحتة يحد.فوك بالطوب ويقولوا العبيط اهه لاهبل اهه، أنت ياواد قاعد بتتخيل. ماهو الراجل قاعد في حاله هناك اها وبيتحدت ويا أخوك، مش قاعد يدور على حد يعني.
لم يكن عبد العزيز يرى أي شيء غير عادي في تصرفات صبري، مما جعل إسماعيل يشعر بالضـ.يق. فقد كان يتمنى أن يدعمه أخوه في قـ.لقه، لكنه وجد نفسه وحده في مواجهة شعور الغـ.ضب تجاه صبري، يشعر بالقـ.لق تجاه شقيقته الصغيره. وراودة التفكير في ماذا لو تقدم صبري رسميًا للزواج من فاطمه!
في زاوية المندره كان يجلس الحج عبد الرحيم وأخوه الأصغر، الحج عبد اللطيف، بجانب بعضهما البعض. كانا يتحدثان بصوت هادئ، يحتسيان الشاي الساخن من أكواب نحاسية، بينما نير.ان الخشب تتراقص في المنقد، مشكّلةً ضوءًا دافئًا وهادئًا. واردف عبد اللطيف مرحبًا:
ـ يامرحب يامرحب يابا الحج عبد الرحيم، داحنا زارنا النبي النهارده.
رد عليه قائلاً:
ـ ألفين صلاه عليك يانبي، مرحب بيك ياحج عبداللطيف، مبروك ماجالكوا.
ـ الله يباركلنا فيك يابا الحج، بس لامؤخذه في دي الكلمة الحاجه نعميه مجتش ليه! يكونش عيا.نه كفالله الشر!
ـ الحاجه بعافيه شوية انت عارف الوليا صحتها مبقتش زي الأول والدنيا ساقعه سلـ.ـهوب وبتنام بدري.
ـ لا بعد الشر عنها، طيب والبت فاطمه مش باينه يعني مع الحريم ، مش كانت تيجي تقيدلها شمعه ولا حاجه واهي تفرح مع الحريم.
رد الحج مجيبا:
ـ مرة تانيه ياحج عبد اللطيف البت قاعده جار امها لاتعوز حاجه.
ـ ومالوا زين ما عملت يا حج.
بينما هما غارقين في حديثهما، جاء حجازي، وسلم على الجميع وجلس بهدوء إلى جانبهم. استقبلهم بابتسامة ودودة، واستمروا في حديثهم، مما أضفى على المكان جوًا من الألفة والراحة.
في ساحة الدار، كانت النساء جالسات مع أزهار، وتحمل صغيرها، وكانت حماتها زاهية تشعر بالقلق الشديد من أن تصاب بالعين من نساء البلدة واقتربت منها لتحذ.رها بحيلة وخـ.ـبث:
ـ انتي يابت يا ازهار مالك فتحه حنكك على اخروا ليه كده! عايزه تر.قدي فيها يالي يجيكي خا.بط!
ردت أزهار بضـ.جر:
ـ واني عملت إيه بس يما ماني قاعده زي الحـ.ـجر في مكاني اهه ولا قومت من مكاني ولا اتحركت.
اردفت إليها بحز.م:
ـ وتقومي ليه من مكانك أصلهُ، اني منبهَ عليكي تتو.جعي وكل حتة في جتتك بتو.جعك ياما، واللي يسألك تقولي عيا.نه من ساعة مولدت والواد تا.عبني، واوعي تشربي ولا تتطـ.ـفحي حاجه من إيد حد.
والواد كمان! مالك كا.شفه وشه ليه للي رايح والي جاي، غطي وشه متخيلهوش فُر.جه لحريم الحته، واقر.صيه، خليه على صر.خة واحدة، أوعي ينام لينشو.ه عين يخسـ.فوه، وساعتها يقولوا خلفك هادي و مبنسمعلوش حس.
اجابتها أزهار:
ـ حاضر يما هعمل كل حاجه قولتي عليها.
كانت صباح تراقب المشهد من بعيد، وعلامات الضحك تظهر على وجهها.
ثم اقتربت زاهية بسخر.ية وسألت إخلاص عن زينب:
ـ إلا زينب وفاطنه مجوش ليه يا إخلاص!
أجابت إخلاص:
ـ عمه زينب، جوزها سي حسانين رجع من البندر بالسلامه، وفاطمه قاعده مع امي الحاجه تونسها في الدار وزينب هتيجي بكرة في السبوع، يا خاله زاهية.
ردت زاهية بحنق:
ـ تونس الحاجه؟ أمم ومالوا يختي، وتيجي زينب تأنس وتنور.
سميرة كانت تجلس على كرسي خشبي منخفض أمام "الطبلية" الموضوعة في فناء البيت الطيني، وجانبها الفانوس حيث تتمكن من الرؤية.واضعه العجين في طست نحاسي كبير أمامها، ويديها تغوصان في الدقيق والماء. وتعجن بإستمرار دون كلل أو ملل.
ولجت إليها أمها زاهيه لتقف بجوارها، تراقبها بعين حا.دة وتقول بنبرة لا تخلو من الحد.ة:
ـ خفي إيدك حبه يا سميره.
ردت سميره دون أن تنظر إليها:
ـ ماني بعـ.جن أهو يما، انتي اللي حاطه دقيق ياما دول أكتر من كيلتين ونص دقيق.
شهـ.قت زاهيه وهى تقول:
ـ يخيـ.بك بت، انتي هتعدي علينا اللقمه ولا ناويه تطفـ.ـحيها لينا.
ـ يما هو اني اتكلمت ولا اقصد حاجه من دي! بس خلاص اني قربت اخلص وهروح على داري.
اضافت زاهيه سا.خره:
ـ واللاه داري ياداري، وعلى رأي المثل،على بال ما أقول آه، تكون السلفة شالت الحلة ومشت.
أوعى تكوني فاكرة إنك لما تجوّزتي خلاص مش هتمدي إيدك في حاجه ولا تساعدينا هنا في الدار! لا يا عين أمك، زي ما هناك شغاله زي اللمرابعه ومر.بوطه في سا.قيه وكا.تمه حنكك! هنا كما في بيت أمك، الشغل ما بيخلصش! ولا تكونيش فاكره هناك بس الدار مفتوحه والشغل فيها ليل ونهار؟
توقفت سميره عن العجن وظلت تتنـ.هد بصمت، وهي تعلم أن والدتها لن تسمح لها بالراحة، حتى لو كانت مجرد زيارة. اخذ.ت نفساً عميقاً وقالت:
ـ حاضر يما اني كمان هاجي هنا في كل مرة شغليني وطلعي عيني زي البهـ.يمه في السا.قيه وحنكي هفضل قفلاه ولا هنـ.طق بكلمه. ارتاحتي يما!
امسكت زاهيه بكون من النحاس لتضيف الماء فوق العجين وهى تقول:
ـ انتى بتساعدي امك ياسميره مش حد غريب، وبعدين انتي شايفه حريم الدار متململين وبختي ز.فت معاهم،اني اللي هصحى وهخبز من النجمه ولا كمان عايزاني اني اللي اعجن العجين وبتي تتساير مع الحريم في الساحه! واللاه على رأي المثل كل واحده بتخاف على بصلها؟
سميرة تعرف أن أمها ستستيقظ لتو.قد النا.ر في الفرن الطيني وتبدأ في خبز الفطير والخبز الذي سيُقدم للأسرة مع شروق الشمس. ولهذا لم تعترض على مساعدتها لكنها دائماً حا.دة الطباع معها ولهذا السبب لم تحب سميره أن تأتي كثيرا لدار ابيها من سو.ء معاملة أمها لها فهي تفضل الصبيه عن الإناث وتفر.ق بينهم.
في ساحة الدار كانت أزهار تفعل مثلما طلبت منها والدة زوجها أن تقوم به، واستمرت الحوارات بين النساء، حيث جلست كل واحدة بجانب أخرى، وتبادلوا الحديث في همسات خافتة، مما جعل أجواء الساحة مفعمة بالنميمة والتعليقات الخفيفة.