رواية بقايا عطر عتيق الفصل الخامس 5 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل الخامس بقلم مريم نصار 

مع اقتراب آذان العشاء، نهض الجد عبد الرحيم من مكانه، فنهض حسين والجميع خلفه،مودعين جميع الحضور وذهبوا عائدين إلى البيت للاستعداد للنوم بعد يوم طويل.
و قبل أن يتوجه الجد عبد الرحيم والجدة نعيمة إلى غرفتيهما، اقترب الجميع منهما وقبّلوا أيديهما بتقدير واحترام. ثم توجه كل منهم إلى غرفته ليتبادلوا الحديث ويستعدوا للنوم.

عند حسين وسميره في غرفة نومهم، كان يجلس على اريكه خشبيه وسميره جالسه امامه أرضا و تغسل قدماه في صحن كبير يحتوي على الماء الدافئ ويشعر بالاسترخاء، وراءَها ما زالت صامته منذ أن رجعوا من الخارج فسألها مستفسرا:

ـ مالك يام صالح، ساكته ليه مش عوايدك يعني؟

ابتسمت له وقالت: 

ـ ابدا ياخويا اني بس ساكته عشان مو.جعش راسك بالكلام هو إحنا الحريم ورانا إيه غير اللت والعجن و و.جع النفوخ.

كشر عينيه وتعجب من ردها فهي دائما تكون في لهفة واشتياق للتحدث معه عن تفاصيل اليوم وتظل تتحدث إلى أن يغفو قبلها، فسألها مجددا:

ـ في حد من حريم الدار ز.علتك ولا واحده قالتلك كلمه ملهاش عازه في غيابي؟ 

حركت رأسها بنفي وقالت:

ـ ابدا يخويا، وهو حد يستجرا من حريم الدار ترفع عينها فيا، داني مرت الكبير والكل هنا بيعملي ألف حساب.

أبتسم وقال مؤكداً:

ـ اومال ايه دانتي من عيلة أبو قاسم يام صالح. بس برضو اني عارف ومتوكد إن عقلك شارد وبتفكري في حاجه.

ابتلعت ريقها واتت بمحرمه قماش وضعتها في حجرها لتجفف قدم زوجها وهي تقول بصوت خا.فت:

ايوه ياسي حسين في حاجه كده، عاوزه اطلبها منك، ونفسي ومنى عيني متكـ.ـسرش بخاطري.

ـ قولي ياست الدار طلباتك، لا عاش ولا كان اللي يكـ.ـسر بخاطر مرت حسين ابو قاسم.

ابتسمت بحنان، فقد كان رغم جمو.ده الظاهر أمام الجميع، يبدو شخصًا مختلفًا تمامًا عندما يكون في غرفته. كان مزيجًا من الحنان ورجلًا يجبر خاطرها، ولهذا تحبه سميرة كثيرًا ولا تطـ.ـيق فكرة خسا.رته يومًا. ورغم أن قلبها يتمنى أن يكمل أبنها صالح تعليمه، إلا أنها تدرك أن ذلك قد يعني فر.اقها عن الرجل الذي أحبته. 
قامت لتجلس بجانبه وهى تقول:

ـ عاوزه منك تاخد الواد صالح معاك بعد كده من النجمه الأرض، وتعلمه شغل الفلاحة وعلى أصولها كمان.

رد حسين مبتسمًا: 

ـ ياسلام! ومن إمتى بقى!  هو انتي مش  كل شويه تقولي لسه بدري عليه يابو صالح، متكـ.ـسرش نفسه، وتشغله زي الفواعليه؟ 

أجابت سميرة بجدية: 

ـ ايوه حُصل، معلش يخويا، محقو.قالك، اني كنت مش فاهمه ايوتها حاجه ودمن دلوقتي اهه بقولك خده معاك.

حسين بدأ يشك عن الحاحها وتغير قرارها المفاجيء وسألها عن السبب، لكن سميرة تهربت من الإجابة.وقالت:

ـ ورحمة سيدي أبو قاسم مافي ايوتها حاجه.

ثم أضافت بحز.ن:

ـ صالح جه بعد شوقه يا بو صالح وبناتك كبرم، خلفت في الأول زينب وعيشه،وتقدر الواحده منهم تفتح دار، ودعيت وقولت يارب، يارب انت عارف وعالم بجوزي وتاج راسي تعب وشقي قد ايه! ده حابى عليا وعلى خواته وكبرهم تحت جناحه متحر.مش عينه وقلبه من خلفة الصبيان ولا تقـ.ـهر قلبي وقلب سيدي وراجلي، يارب اسمع من قلبي وسُر يارب، لحد ما ربنا جبر بخاطري وفرجها عليا من وسع وخلفت صالح وبعد منيه عبدالرحيم وختمت بالبت نعمه، عشان كده قولت نعمه وفضل من ربنا وحمداه شكراه، ودلوقتي اني شايفاك تعبان ليل ونهار وبتشقى عشانا والواد صالح عوده لازمن ينشف أكتر من كده ويبقى في ضهرك، ولا انت قولك ايه يا بو صالح! 

 صمت قليلاً وهز رأسه وهو يحمد الله على ذريتة ولكنه لم يريح قلبها وقال: 

ـ نشوف الكلام ده بعدين يا ام صالح. وربك يعدلها.

ثم أضاف وهو يصعد على الفراش وقال:

ـ اطفي اللمبة الجاز، وبينا ننام، ورانا سوق من الفجر.

أطفأت سميرة اللمبة وتوجهت إلى السرير، وبدأت تفكر في صالح ومستقبله، فلكم تمنت أن يكمل دراسته ويصبح فخراً لعائلته ولكنها خائفه من أن يتكرر الماضي وينزع صالح عندما يكبر ثوبه ويرتدي ثوب المدينه ويصبح غريب عنهم لا يشبههم، مثلما سردت الجده نعيمه، ولكن تعب اليوم كان أقوى، فغفت سريعًا وسقـ.ـطت في نوم عميق.

كان الصباح يتكرر في منزل الجد عبد الرحيم كطقس يومي ثابت لا يتغير. مع بزوغ أول خيوط الفجر، يبدأ اليوم بصوت المؤذن قادمًا من بعيد. الجد عبد الرحيم يستيقظ على صوت الآذان، يفتح عينيه بهدوء ويقوم من فراشه، يردد دعاء الاستيقاظ ثم يلف عمامته حول رأسه بحركة معتادة. يتوجه للفناء الخلفي ذاهبا إلى المرحاض القديم ثم يخرج ليجد فاطمه تنتظره ممسكه بصحن كبير وابريق كي تصب عليه ليغسل وجهه بالماء البارد، يستنشق نسيم الصباح النقي، ويشعر بالهدوء الذي يسبق الحركة في أرجاء البيت.

في الداخل، تبدأ الجدة نعيمة يومها بعد عبد الرحيم بفترة وجيزة. تقوم بإيقاظ النساء، اللواتي ينهضن بسرعة ليقمن بتجهيز الإفطار. الرائحة الأولى التي تملأ البيت هي رائحة الشاي المغلي على نار الحطب، التي تضفي دفئًا على جو المنزل والتي تعده إخلاص بوجه بشوش. وسميره تبدأ بتحضير الفطير على الطبلية، وأيديها المعتادة على العمل تبدأ في دلك العجين بحركات رشيقة ومتقنة. وتقوم صباح بتسويته في الفرن البلدي.

حسين وإسماعيل وجميع الاخوه، يستيقظون باكراً. حسين يرتدي جلبابه متأهبا لذهابه للسوق مع بعض اخوته لبيع محصول الفراوله، وخرج ليلقي نظرة على الجنينه وما يحتويها، يتأكد أن كل شيء على ما يرام قبل أن يعود للإفطار. أما إسماعيل فينشغل بتهيئة الحمير والدواب، استعدادًا للخروج إلى الأرض.

عند الطبلية، يجتمع الجميع لتناول الإفطار. الجد عبد الرحيم يجلس في صدر الطبلية، الجميع يتناولون الطعام في هدوء مع حركات بسيطة ولكنها مليئة بالتفاصيل التي تروي قصة ريفية أصيلة. الخبز الساخن يُكـ.ـسر بأيدٍ قاسية من العمل، والشاي يتم تناوله بتأنٍ بين اللقمة والأخرى. الجد يتحدث أحيانًا بحديث قصير عن الأرض أو الزرع، بينما الجدة تدير الحديث مع النساء عن الأعمال التي تنتظرهن في اليوم.

وهكذا، يبدأ كل صباح في منزل الجد عبد الرحيم بتكرار نفس الطقوس التي تشعرك أن الزمان لا يتغير، لكنه مع كل يوم يحمل بين طياته مشاعر من الطمأنينة والرضا بما قُسم لهم.

مع مرور الأيام، شعرت سميرة بالراحة تتسلل إلى قلبها شيئًا فشيئًا، فقد ظل سر صالح ورغبته في إكمال تعليمه طي الكتمان. لم يكتشف أحد الأمر، وهذا أراحها كثيرًا، خاصةً أنها كانت تخشى أن يتسبب ذلك في انشقاق في العائلة أو مشاكل مع حسين. رغم أن قلبها كان لا يزال يتمنى لصالح فرصة أفضل، إلا أن سعادتها بأن الأمور استقرت دون أن تتفجـ.ـر أسرارها كانت كافية لها في تلك اللحظات.

كانت صباح تقطف ثمار البرتقال من الجنينه بهدوء، يديها تتنقل بين الأغصان بحرفية. بجانبها كان صالح يجمع البرتقال الذي تسقـ.ـطه في حجره، ويرصه بعناية في القفص الخشبي. رفعت عينيها نحوه وهي تبتسم بمكر وقالت: 

ـ ايهي مالك يا واد يا صالح، ساكت ولونك مخطو.ف كده ليه!

صالح توقف للحظة، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة، لكنه لم يرد. شعرت صباح أنه يحاول تفادي الحديث معها، فألقت ببرتقالة في القفص، وقالت بنبرة أخف: 

ـ إيه ياولا؟إنت خا.يف تفتح حنكك معايا ولا يكونش حد موصيك متتحدتش معايا! داني مرت عمك وبحبك زي عيالي واكتر.

كانت تلقي الكلام بحذر، تختبره، علها تنتزع منه الحقيقة. رفع صالح رأسه وأخذ نفسًا عميقًا، وكأن الحديث هز شيئًا داخله، فهو لن ينسى تلك الليلة التي حذرته أمه بعدم الحديث في اي أمر دون الرجوع إليها، تنهد وانخفض بجزعه ليمسك بالثمار وقال بهدوء:

ـ اني زي ما ني يامرت عمي. مفيش حاجة. ولا حد قالي حاجه.

بينما كانت صباح تحاول أن تُخرج الكلمات من صالح، رأت من طرف عينها حسين على الجانب الآخر من الجنينة، مشغولًا بتقليم أشجار المانجو. نظرت له بتركيز ملئ بالمكر، ثم ابتسمت وعادت إلى صالح تزداد إلحاحًا، وكأنها تريد استغلال الفرصة وتتمنى ان ينتبه حسين لوجودهما. 

ـ اني مصدقاك يصالح وانت هتكدب ليه يعني، بس قولي يا صالح، اني مرت عمك مش غريبة عليك، وز.علانه عليك وقلبي بيقولي إنك يكبدي مهمو.م وحزين وفي حاجه شغلاك وانت لسه صغير، ياترى إيه اللي جواك يكبد مرت عمك؟ 

ضغـ.ـطت صباح بنبرة ناعمة ولكنها واضحة. أخيرًا، لم يستطع صالح أن يحتمل أكثر، فتنهد وأخفض رأسه وقال بصوت متردد: 

ـ كان نفسي حد يسمعلي يامرت عمي.

نفضت الغبار عن ثيابها وانحنت بجزعها لمستواه كنوع من الاهتمام وقالت بحنان مزيف:

ـ واني روحت فين ياصالح ياحبيبي، شوفت بقى قلبي عرف إزاي من غير ما حد يقوله إنك حز.نان، احكيلي وقولي مالك واني ورحمة امي ماجيب سيرة لحد واصل.

نظر اليها مترددًا لكنه ما زال صغير لم يتمكن من كشف مكر.ها بسهوله وكان يحتاج الي الحديث ويشعر بالاحتياج الشديد الي أن يسمعه أحد فنطق قائلاً: 

 ـ اني نفسي أكمل علامي واروح البندر واخد البكالوريا، ولما قلت لأمي ضر.بتني... وستّي كمان نبهت عليا مفيش علام، هما ليه بيعملوا معايا كده يامرت عمي.؟

شهقت صباح بتمثيل الدهشه وقالت: 

ـ ياسنه سو.خه ياولاه! عايز تسيب الكفر وتنزل البندر ياصالح! ده كان جدك وستك راحوا فيها، ولا أمك كبدي عليها مش بعيد تطـ.ـب ساكته، ولا الكوم الكبير! أبوك ياصالح، ابوك اللي عمل اللي ما يُعمل مع عمامك وقف جارهم وكبرهم ورباهم وفضلوا جاره العمر كله لما يعرف بقى إن إبنه اللي جاي على شوقه! عايز يهـ.ـج زي ما خالو هج قبل ما حُصل سابق.

ثم اكملت بامتثال الحنان والخوف عليه: 

ـ زين إن ابوك معرفش لحد دلوقت، اسمع مني ياصالح اني خا.يفه عليك وبقولك اهه انسى مرواحك البندر دِه عشان ابوك مايتبراش منك! 

فجأة، التفت حسين وتوقف عن تقليم الشجر بعد أن سمع جزءًا كبيرًا من الحديث.وحدّق في صالح وصباح بعينين غا.ضبتين. ترك حسين مقـ.ـص التقليم وسار نحوهم بخطوات سريعة وعيناه تقد.حان بالغـ.ـضب. رأته صباح يقترب ونجحت خطتها كما أرادت ولكنها سرعان ما فكرت في ردة فعل تظهر خو.فها له،واتسعت عيناها من الد.هشه ورجعت للخلف وهى تقول مر.تجفه: 

ـ يادي الطـ.ـين على را.سك ياصالح. ابويا الحج حسين جاي وباينه سمعنا ولا إيه استر يا اللي بتستر.

التفت صالح برأسه فتجـ.ـمد في مكانه، وقد أقترب منهما حسين وصاح بصوت جا.ف ينادي عليه: 

ـ واد يا صالح تعالالي هنا!

جـ.ـف حلقه وربتت صباح على كتفه مشيره إليه بالذهاب، ولم يكن أمامه خيار سوى أن يقترب من والده. حسين أمسك بكتفه بشد.ة وسأله بعنـ.ـف:

ـ ايه اللي سمعته ده يا واد! سمعني كده كنت بتقول إيه؟ عاوز تروح البندر؟ جبت الكلام ده منين ياصالح! 

رغم ار.تجاف جسده من هيبة أبيه ولكن عليه أيضاً أن يفسر له ما سمعه فبكل جرأة ولكن بخو.ف مكتوم، رد صالح بصوت ثابت: 

ـ أيوه يابا، اني رايد أروح البندر، بس عشان أكمل علامي.

في لحظة واحدة تذكر حسين ما فعله من أجل إخوته وجعلهم بجانبه ولم يستطع أحد أن يرد له كلمة. فلم يقدر على صبي صغير؟ انفـ.ـجر غا.ضبًا وأخرج الخرز.انة التي كانت بجواره وبدأ يضر،ب صالح بقسو.ة. لطـ.ـمت صباح على وجهها وركضت للفناء الخلفي حتى لا يراها أحد وهر.عت النساء من الدار، صر.خاتهن تملأ الأجواء، بينما سميرة اند.فعت بجنو.ن لتأخذ هى الضر.ب مكان ابنها وهى تقول: 
  
ـ كفاية يابو صالح! دا ابنك! الواد هير.وح في إيدك. هو عمل ايه بس! 

صر.خت النساء لشد.ة العقا.ب، وركضت وفاء لتوقظ زوجها سالم، لكن حسين لم يتوقف حتى خرج عبد العزيز من غرفته بالسروال الداخلي، ليتفاجيء بما رأه وجري نحوهم، مسرعاً فأمسك بيد حسين بقوة محاولا انتز.اع العصا منه قائلاً: 

ـ استهدى بالله يابا الحاج، وسيب الواد من ايدك هير.وح فيها. ايه اللي جرا بس! 

خرج سالم مسرعاً وانز.عج لشكل إبن أخيه يبكي ووقف بجانب أخيه ويقول: 

ـ وحد الله يابا الحاج حسين مش كده اومال.

في هذه اللحظة، خرج الجد عبد الرحيم من الدار بوجه صارم، ضر.ب عكازه أرضا فانتبهوا جميعهم ،نظر حوله والجميع صمتوا فجأة. ألقى بنظرة حا.دة على حسين قبل أن ينفعل، امتلأ قلب عبد العزيز بالقلق وجـ.ـف حلقه واقترب من أبيه محاولا أن يهدأ من غـ.ـضبه وقبل أن ينطق بحرف واحد رد الجد عبد الرحيم قائلاً بصر.امه: 

ـ مش عايز أسمع ولا كلمة! 

ثم أدار ظهره ودخل إلى غرفته. قبل أن ينغلق الباب، قال بحز.م وأمر: 

ـ ابعتولي صالح على مقعدي.

الدار خيم عليها الصمت بعد كلام كبيرهم. الكل يشعر بأن الأمور على وشك أن تأخذ منحنى آخر، فلا أحد يتجر.أ على مخا.لفة أوامره. حسين، الذي كان واقفاً مثل الصـ.ـخر لا يزال غا.ضبًا وعينيه تقد.ح شـ.ررًا، لم يستطع الرد. اكتفى بالنظر نحو الباب الذي دخله والده، وكأن الكلمات تعجز عن الخروج.  

سميرة، التي كانت تحتضن ابنها صالح لحمايته من الضر.ب، نهضت ببطء وهي ما زالت متألمة من أثر العصا، وقالت بصوت خا.فت: 

ـ روح يا صالح، روح ومتخفش جدك مستنيك. 

صالح نظر إلى والدته بعينيه المليئتين بالخو.ف والد.موع، ثم استجمع جزء من شجاعته ونهض على قدميه، متوجهًا ببطء نحو غرفة الجد. 

عبد العزيز وقف بجوار حسين، محاولًا تهدئته، يريد أن يعرف ما الذ.نب الذي ارتكبه صالح حتى ينال هذا العقا.ب،لكنه كان يشعر بثقل اللحظة وقال: 

ـ روق يابا الحاج حسين، روق وكل حاجه هتنحل.

جلست سميره على المصطبه امام الدار متألمه وهى تعدل حجابها وتنظر إلى زوجها بلوم بنظرة معاتبة، ولا تعلم ماذا بدر من صغيرها حتى يلقى كل هذا الضر،ب المؤلم، جلسوا بجوارها النساء وخرجت صباح لتجلس بجانبها.

صالح وصل إلى باب الغرفه، وطرق الباب بخفة قبل أن يسمع صوت جده الصا.رم من الداخل: 

ـ تعال يا صالح.  

فتح الباب الكبير ببطء، ودخل ليجد جده جالسًا على مقعده المعتاد، مستنداً على عكازه، ملامحه جا.مدة، وعيناه تراقب كل حركة. وقف صالح أمامه، ورغم ار.تعاشه الخفيف، حاول أن يبدو ثابتًا.  

عبد الرحيم أشار له يقترب أكثر ليقف مباشرة  أمامه، وظل صامتًا للحظات، وكأن الزمن قد توقف. ثم بصوت عميق وحازم، قال: 

ـ أبوك ضر.بك ليه يا ولدي؟ 

ابتلع صالح ريقه بخو.ف ظاهر وجاهد أن يجيبه لكن جـ.ـف حلقه وتبخر الكلام منه، فأكمل الجد:

ـ أتكلم ياصالح وقول. عملت ايه عشان أبوك يمد يده عليك؟

اجابه بخو.ف وصوت مغمغم:

ـ اني معملتش حاجه والله يا جدي. 

ر.مقه وقال: 

ـ أنطق ياولد! 

فز.ع صالح واجاب على الفور:

ـ عشان، عشان عرف اني عايز اكمل علامي ياجدي.

صمت الجد لبرهه وقال: 

ـ عايز تكمل علامك؟

صالح، بصوت متردد لكن، أجاب: 

ـ أيوه يا جدي. نفسي أروح البندر وأتعلم زي البني آدمين.  

نظر عبد الرحيم إليه طويلًا، وكأن الكلمات تختمر في عقله قبل أن ينطق بها. وأخيرًا، قال بصوت هادئ ولكن مليء بالقوة: 

ـ من فجر الله تسرح على الأرض وَيّا ابوك وعمامك. ودلوقت روح من قدامي.

كان هذا الإذن مباشر لم يكن به حتى بصيص أمل، وصالح فهم أن الأمور قد تكون حُسمت وانتهت، أقترب بتردد وانحنى أمام جده ليقبل يده، ثم التفت وخرج من الغرفة بخطوات هادئة. 

في الخارج، كانت سميرة والنساء ينتظرن بقلق. عندما رأوا صالح يخرج دون بكا.ء أو غـ.ـضب، كان صامتاً فقط يشعر بالانكـ.ـسار يغـ.ـزو قلبه،شعرت سميره ببعض الارتياح.واقتربت منه وسألته بصوت خافت: 

ـ ايه ياصالح ،قالك إيه جدك؟

صالح نظر إليها وقال بحز.ن يملأ عيناه: 

ـ خلاص يما بينها مفيهاش علام،جدي قالي من الفجر اسرح على الأرض .  

كان في كلامه انكـ.ـسار لمسه الجميع، رغم عدم وضوحه، لكنهم جميعًا عرفوا أن قرار الجد عبد الرحيم سيكون له الكلمة الأخيرة في هذا الأمر.

 كان الجو في الدار مشحونًا بالصمت. سميرة والنساء كنّ يراقبن من بعيد، والقلق يملأ عيونهن. حسين، الذي كان يراقب الموقف بصمت منذ أن دخل صالح إلى غرفة الجد، لم يقل شيئًا. نظر نظرة أخيرة إلى ابنه بغـ.ـضب واضح، ثم استدار بإ.نفعال، وخرج من الدار دون أن ينطق بكلمة.
بخُطى سريعة وحا.دة، اتجه حسين إلى الحظيرة، حيث كانت بغلته مقـ.ـيده و فك قيد.ها بسرعة، وقفز على ظهرها بإ.نفعال ظاهر، ثم جذ.ب اللجام بقوة وانطلق نحو الأرض. لم يلتفت لأحد ولم يوجه أي كلمة، حتى نظراته كانت مشحونة بالضغط والغـ.ـضب. كانت الأرض هي ملاذه الوحيد عندما تثو.ر في داخله هذه العو.اصف.

النساء في الدار تبادلن النظرات بصمت، بينما ظل الجميع يراقب ابتعاده. سميرة نظرت إلى ابنها صالح وعينيها مليئتين بالأ.سى، لكنها لم تستطع قول شيء.و لم تستطع أن تهدأ بعد ما رأت ابنها  بوجه جديد مليء بالحز.ن والخذ.لان. كانت تعلم أن حسين لم يكن ليسمح له بالذهاب للبندر، ولكن راودها سؤالا مهمًا كيف عرف حسين بالأمر؟ تساءلت بقلق، ثم قررت أن تواجه صالح وتسأله بنفسها.  

دخلت سميرة إلى حيث كان صالح يجلس في زاوية الدار، اقتربت منه بحنان ولكن بصوت جا.د:

 ـ قولي يا صالح، ابوك عرف إزاي؟ هو اني مش منبه عليك متفتحش حنكك ولا تجيب سيره لحد! تقوم تقول لابوك بذات نفسه عيني عينك كده؟ 

صالح نظر إليها بعينين مملوءتين بالذ.نب وقال بصوت خا.فت: 

ـ اني مقولتش لابويا حاجه يما هو سمعني واني بتحدت ويا مرت عمي صباح.

قطبت حاجبيها بعدم فهم وسألته ثانيه كيف! فأجابها معترفاً: 

ـ مرت عمي كانت شايفاني زعلان وحبت تتكلم معاي وكانت بتسألني كتير إيه اللي مزعلك اكده يصالح! ، حكيت معاها وكني مصدقت ومعرفتش أوقف حديت،و بعدين طلع أبويا كان سمعنا. وجاني وضر.بني.

لم تصدق سميرة ما سمعت. اشتعلت غضـ.ـبًا و وجهها تغير واحتقـ.ن. 

ـ صباح! 

صاحت بغـ.ضب، وتوجهت بخطى مسرعة تبحث عنها. فلم تجدها بالاسفل فصعدت إلى السطح وهي متأكدة أنها هناك، وبينما كانت تقترب، رأتها جالسة، تبدو غير مكتر.ثة.

ـ صباح!

صر.خت بها سميره وهي تقترب.

ـ لحد امتى يا صباح هتفضل نا.رك تلسـ.ـع الكل. دلوقتي عرفت بس وتوكدت إنك اللي عملتي المصيـ.ـبة دي وبكيفك! 

شهقت صباح وقالت: 

ـ يختي فز.عتيني مالك جايه عليا كده تقولي ياشـ.ر اشتر ليه! 

نهرتها سميره قائله: 

ـ ايوه يختي اعمليهم عليا يابت، انتي بقى ماصدقتي إن أما الحاجه نعيمه راحت لدار أبو بكري قومتي شعـ.ـللتيها، وانتي مالك ومال عيالي؟ ازاي تسـ.ـتجري وتو.قعي عيل صغير بالكلام وتخليه يقولك كل حاجة؟ هي دي مش حاجه بيني وبيناتهم؟ اني مبدخلش في اي حاجه تخصك لا انتي ولا عيالك،انتي بقى حر.بايه ليه؟ إنتي السبب في اللي حصل! هو اللي خد الضر.ب واني اللي شلت عنه، و كل مرة إنتي اللي يجي من وراكي البلا.وي اللي بتحصل في الدار!

صباح التفتت إلى سميرة ببرود، لكن الغـ.ـضب ظهر في عينيها فجأة. قامت واقفة وقالت بصوت حا.د:

 ـ يوه يوه! وإني مالي ياست سميره؟ هو إنتي يختي كل مرة مصيـ.ـبة تحصل تجيبيها فيا؟ أني ما عملتش غير إني كنت بسأل الواد شكله مكنش عاجبني، ويكبد أمه من ز.عله كنه مصدق ،وخر وقال اللي جواه!

شهقت سميره وقالت: 

ـ حوش حوش ، ومن امتى الحد.ايه بتحد.ف كتاكيت ياصباح! دانتي الود ودك تخليِ الدار كلها باللي فيها عشان تبرطعي فيها لروحك.

عوجت صباح فمها وعلقت سا.خره:

ـ يوه يوه ، قال على رأي المثل ،يا عامل نفسه مـ.ـيت وهي بتبكي عليه.واللي ميعرفش يقول عدس يا سميره.

رفعت سميره حاجبها وهي تقول:

ـ اللي في القلب في القلب، وانتي قلبك طـ.فح على وشك من كتر الغـ.ل اللي جواه، ياساتر عليكي حرمه. 

 اشتعلت المشا.جرة بينهما، صو.ت الصر.اخ بينهم كان يسمع في أرجاء الدار، وكل النساء خرجن بسرعة يحاولن التهد.ئة. الحريم اند.فعن ليمسكن بسميرة ويبعد.نها، بينما صباح تظل واقفة، عينها مليئة بتحدٍ.
وفجأة، ظهرت زينب بعد أن سمعت كل ما جرى. نظرت إلى صباح بحد.ة، ثم اقتربت منها وقالت بصوت هادئ لكنه مليء بالاحتقا.ر: 

ـ عمرك ما هتتغيري يا صباح.هتفضلي النا.ر اللي هتحر.ق الحبل المربوط وتفكي الدار بالي فيها.

صمت كل في المكان بعد كلمات زينب، كل العيون كانت موجهة نحو صباح التي شعرت بثقل الكلمات عليها. ورغم تحديها الواضح، إلا أن كلمات زينب أصابت شيء ما بداخلها، لكن لم يظهر ذلك على ملامحها.

قبل المغرب بقليل، عادت الجده نعيمه وعلمت بكل ما حدث واصا.بها شئ من الحزن على ولدها حسين الذي مازال غائبًا عن الدار، وكانت سميرة مشغولة بأمور المنزل بينما كل أفراد العائلة كانوا يشعرون بالقلـ.ق. كان إسماعيل، الذي شعر بقـ.لق عميق على أخيه، قد قرر أن يذهب إلى الأرض ليتحقق من حال حسين.

وصل إسماعيل إلى الأرض، ووجد حسين مشغولًا بالعمل وجلس بجانب البغل ليستريح قليلاً، يبدو أنه في حالة مزاجية سـ.يئة، وكأن العمل الشا.ق لم يخفف عنه شيئًا. توجه إسماعيل نحو حسين وجلس بجانبه وسأله:

ـ أبا الحاج حسين، مش هترجع على الدار؟ الحريم كُلّاتهم قلقـ.ـانين عليك، وخصوصي أمي الحاجه.

حسين رفع رأسه وأجابه بجمو.د: 

ـ سبني يا اسماعيل وعاود على الدار، اني هبيت هنا لحد الصبح. 

حاول اسماعيل أن يعترض ولكنه لم يتجر.ا من صر.امة أخيه وأنه قد أخذ القرار ومحال التراجع فيه.
عاد إسماعيل إلى الدار، وكان الجميع في انتظار أي خبر عن حسين. عندما وصل، دخل إلى الدار وقال بصوت واضح ومليء بالجد.يه: 

ـ أبا الحج حسين مش جاي الليلة. قال هيبات في الغيط تحت تعريشة سيدي ابو قاسم الكبيرة لحد الصبح.

تبادل أفراد العائلة نظرات قـ.لق، وكانوا يدركون أن غياب حسين قد يضيف مزيدًا من التو.تر إلى الوضع الذي يمرون به. سميرة شعرت بالمر.ارة، لكن لم يكن أمامهم سوى انتظار حلول الصباح وإيجاد سبيل للتعامل مع التحديات التي تواجههم.

دخلت الجده نعيمه غرفتها لتجد زوجها جالساً في فراشه يسبح ببطء ويبدوا أنه يفكر في أمر جـ.ـلل، كانت تريد أن تتحدث معه لكنها تعلم إن تحدثت الآن فلا جدوى من كلامها، فاختارت أن الغد هو الوقت المناسب للتحدث إليه. 

في الغرفة الصغيرة التي تجمع عبد العزيز وصباح، كان الضوء الخافت من مصباح الزيت يخلق أجواءً متو.ترة. عبد العزيز جلس على طرف السرير، وجهه عا.بس وعيناه تملؤهما الغضـ.ـب. كان يتحدث بصوت حا.د، بينما صباح واقفة أمامه، تبدو متو.ترة ومكتـ.ـئبة.

ـ شعـ.ـللتيها يا صباح!

ثم أضاف عبد العزيز بصوت مملوء بالاستنكار:

ـ ارتاحتي يا بو.ز الأخص لما الدار قا.دت نا.ر؟ شوفتي؟ شوفتي الحر.يقة اللي عملتيها يابنت ابو زاكي!

صباح نظرت إليه ببرود، ثم ردت بهدوء: 

ـ يوه يوه، حيلك يا عبعزيز، إني معملتش حاجة، اني كنت  بتساير مع الواد صالح. أبوه هو اللي سمع، وأنا مالي.

عبد العزيز انفـ.ـجر غضـ.ـبًا من برودها، وصر.خ: 

ـ مالك! الهي تتململ ودانك، روحي ياشيخة، ربنا يهد المفتر.ي. انتي مش هتسكتي، ولاهتنبطي إلا ماهتجيبي دورَفها يا صباح! الله يخر.ب بيت أبوكي، زاكي، عشان خلف حرمة مصعو.رة زي النبا.ش زيك.

صباح شعرت بالمرارة من كلماته، ولكنها حاولت أن تتحكم في أعصا.بها: 

ـ اللاه، هو إيه اصله ديه! بتدعي عليا ليه ياعبعزيز! و آنتوا ياخويا هتجيبوا كل مصا.يبكوا فيا اني؟ واني مش مسؤولة عن كل حاجة بتحصل هنا في الدار.

ثم أضافت: 

ـ وفيها إيه يعني،كُت بتحدت اني والواد ايش عرفني إن ابوه هيتسمع على حديتنا؟ 

عبد العزيز لم يتوقف، وزاد في غـ.ضبه: 

ـ وانتي عمرك هتطلعي روحك غلطا.نه؟ هو كان جديد عليكي يعني! عليا الحلال ظلـ.ـمنا أم أربعه وأربعين وخدناكي بدالها.

شهقت صباح وضر.بت يدها على قلبها وقالت: 

ـ ياسنه سو.خه ياولاد؟ اني أم أربعه وأربعين! 

ثم صر.ت على أسنانها مهد.ده وقالت:

ـ أسمع ياراجل انت، لو مش لميت الدور اني هلم هدمتيني واغو.ر من الدار دي.

اشاح لها بيده وهو يسحب الغطاء عليه وقال:

ـ مش هتلاقي حد يقف في سكتك وانتي طالعه ياصباح، وتصبحي على خير يمكن تلاقيه في وشك ولا حاجه؟

ـ هيه هو إيه دِه يا عبعزيز؟

ـ الخير، الخير اللي انتي متعرفهوش يابنت ابو زاكي.

في هذه الليلة، كان الهدوء يخيّم على الدار، ولكن الحز.ن والق.لق كانا يسيطران على سميرة وصالح. صالح كان يجلس بجانب والدته على فراشها، وجهه متجعد بالبكا.ء وعينيه مملوءتين بالد.موع. بعد أن أخبر إسماعيل العائلة بأن حسين لن يعود إلى الدار هذه الليلة، أصبح الهـ.ـمّ يضغط على سميرة أكثر.

سميرة لم تستطع إلا أن تتأ.ثر برؤية ابنها في حالة من الضعـ.ف والحز.ن. اقتربت منه ببطء وجلست بجانبه على الفراش. حاولت أن تكون هادئة، على الرغم من القلـ.ق الذي كانت تشعر به. 

ـ خلاص بكفياك بُكا يصالح، تبات نا.ر تصبح رما.د ياضنايا.

 قالت سميرة تلك الكلمات بصوت دافئ وهي تربت على ظهره.

صالح، الذي كان منهكًا من البكا.ء، وضع رأسه على وسادة صغيرة وبدأت دمو.عه تنساب بغز.ارة. سميرة احتضنته بلطف، وأخذت تتحدث إليه برفق، تحاول أن تطمئنه وتخفف عنه.

ـ وبعدهالك بقى اني كل شوية هتدني اقولك مفيش راجل بيـ.ُبكي؟ البكا ده للحريم مش للرجاله ياولدي. روق حالك وكل حاجه هتتعدل بإذن ربك.

بدأ التعـ.ب يأخذ مجراه على صالح، وعيونه بدأت تثقل، وأصبح النوم يقترب منه ببطء. سميرة، التي كانت تربت على ظهره بهدوء، شعرت بتلك اللحظة كم هي حاسمة بالنسبة لابنها، وقررت أن تبقى بجانبه حتى يهدأ تمامًا.
 كانت تلك اللحظات من الهدوء الدافئ تعني لها الكثير، فقد شعرت أنها تقوم بدورها كأم، وأنه مهما كان الوضع صعـ.ـبًا، فإن حبها واهتمامها سيخففان من آلام ابنها.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1