رواية بقايا عطر عتيق الفصل السادس بقلم مريم نصار
مع بزوغ الفجر، دخل نور الشمس من خلال النوافذ، ليعلن بداية يوم جديد في الدار. الجدة نعيمة، التي لم تكن في أفضل حالاتها بسبب الأحداث التي شهدتها العائلة في الأيام الأخيرة، توجهت إلى غرفة صباح بكل جد.ية فهى منز.عجه منها ومن أفعالها التي تضع العائلة في حاله من الفو.ضى.
عندما طرقت الجدة نعيمة على باب الغرفة، جاءت صباح لتفتح وهى تضع الشال على كتفها وتتثائب ولكنها عندما رأت أنها الجدة، وقفت منتبه وتلجـ.ـمت مكانها:
ـ ص، صباح الخير يما الحاجه.
ردت الجده بصر.امه:ولكن كان هناك حز.ن طفيف في عينيها:
ـ صباح النور ياصباح.
ثم أضافت إليها:
ـ وراكي طحين القمح، قومي واشطفي وشك وروحي اطحنيه وترجعي الدار قبل الشمس ما تحمى.
كانت صباح تشعر أنها متعبه من أحداث الأمس وسألت بترقب:
ـ طحين! واني هروح لحالي؟
أجابت الجدة بصوت حا.زم:
ـ أيوه، الحريم مش فاضية، كل واحدة عندها شغلها. إيه عايزاني افضيلك حريم الدار تاخديهم وياكي؟
رغم أن الجدة كانت تحاول أن تكون عملية، إلا أن مشاعرها كانت مختلطة. من داخلها، كانت تشعر بالضيـ.ُق من المشا.كل التي تسببت فيها صباح. كان الغضـ.ـب والضـ.ـيق يتخللانها أيضاً من أجل ابنها الكبير، قد قضى الليلة في الأرض بسبب تصرفات تلك الحمقا.ء.
فهمت صباح الأمر، لم تعتر.ض وتوجهت للقيام بما طلب منها. وهى تهمهم بكلمات دلالية عن ضجر.ها،وكانت تدرك أن اليوم سيكون مليئًا بالدراما، وتتمنى أن الأمور تسير كما كانت تأمل.
بينما صباح تستعد وتغادر الدار وهى تتأ.فف، كانت الجدة نعيمة تتمنى أن تعود الأمور إلى طبيعتها، وأن يتمكن الجميع من تخطي الصعو.بات التي واجهتهم.
بينما كانت زينب تتنقل في أرجاء الدار، لاحظت أن أمها، تبدو مشغولة ومضطر.بة. اقتربت منها وسألت بفضول:
ـ إيه يما الحاجه، ليه خليتي صباح تروح تطحن الطحين وحدها؟ ده القمح كتير ياما!
الجدة نعيمة، التي كانت تعبر عن استيا.ئها من الأحداث الأخيرة، ردت بحد.ة:
ـ كده أحسن يازينب. خليها لروحها، صباح دي! مفسد.ة لأي حد يمشي جارها.
ثم أضافت لتسألها عن سميره:
ـ مرت اخوكي التانيه مشت ولا لسه!
اجابتها زينب:
ـ من بدري يما. خدت الفطور لاخويا الحج وراحت الغيط من بدري.
جلست الجده على اريكه خشبيه وسمعت زينب وهى تقول بإستياء:
ـ كبدي عليك يا صالح يابن أخوي من فجر الله وانت في الغيط مع عمك. هاتها جمايل يارب.
ردت عليها بنبره صار.مه:
ـ بكفياكي عو.يل يابت يا زينب، صالح راح الغيط كيف ما قال جده عبد الرحيم ،ولازمن يشتد عوده وينشف، لازمن يبقى راجل وايدية تخشنّ و تعرف معنى الشقى،ومن دلوقت مش عاوزه حرمه في الدار تتحدت في حكاية صالح، خلاص خُلصنا.
انصاعت لها زينب وهربت من أمامها مسرعة تاركه الجده في بحر من الفكر ولا تدري ماذا سيحدث بعد!
وصلت سميرة إلى الأرض، حاملة الفطور على رأسها لزوجها،و عندما اقتربت منه، وجدته جالسًا على حجر بجانب الترعه، صامتًا وبدا عليه الإر.هاق والتعـ.ـب. وضعت الطعام جانبًا واقتربت لتجلس بجانبه في هدوء، محاوِلة تهدئة الأجواء. وعندما رآها لم يبدى اي ردة فعل، فقالت مبتسمه:
ـ يسعد صباحك يا بو صالح.
هز رأسه بعمليه ورد عليها قائلاً:
ـ يسعد صباحك يا ام صالح.
رمت كل ما جرا بالأمس خلفها وامسكت قطعة خبز وقالت بوجه بشوش:
ـ اني بقى جبتلك فطور إنما إيه! هيعجبك قوي، اني اللي عملاه بيدي، واني اللي خبزتلك الفطير ومغر.قاه قشطه فلاحي، وقولت لأمي الحاجه يمين عظيم لازمن أكل وياك تحت سجرة التوت زي زمان، واللاه قول للزمان ارجع يا زمان.
." قالت سميرة هذا وسط ابتسامة عريضة. وعندما رأته على نفس الحال تركت الخبز مكانه ثم تابعت بلطف:
ـ ابو صالح، اني عارفه إنك ز.علان من ليلة امبارح وحقك تز.عل اومال إيه! بس حن عليك تسمعني، اني عاوزه أقولك حاجة. صالح ولدك ميقصدش يعـ.ـكر مزاجك ولا يكـ.ـسر كلامك معاش ولا كان، بس دِه لسه عيل صغير ،واني شد.يت عليه جا.مد ونبهت عليه ميفتحش حنكه بالحديت العـ.ـكر دي تاني، ومش هيتحدت نوهائي ولا هيجيب سيرة العلام ولا هيتحدت فيه واصل، إيه قولك بقى؟ بس عاوزاك توحد الله كده وتصلي على النبي وتروق حالك.
تنهد وهو يقول:
ـ لا إله إلا الله. محمد رسول الله.
ثم نظر إليها، وسأل بمرا.رة:
ـ كنتي عارفه ومداريه عليا وعشان كده كنتي عايزاني أخده الأرض؟
ثم أخذ نفسًا عميقًا وتنهّد وهو يبوح بو.جعه:
ـ اني اللي اشقيت وطلع حب عيني من صغري من لما كانت الأرض دي بور والشق فيه بالمتر يام صالح، أبويا الحج كان يعلقـ.ـني من هدمتي عشان اتعلم الفلاحه، ولو قلت لاه! اتعـ.ـلق في أكبرها سجره لحد ما يبنالي صاحب، وكل دي ليه! عشان ابقى راجل وقد المسؤوليه ايديا الخشنه دي شـ.ـقى عمر بحاله ،كان يقولي دايما ياحسين، أنت كبيري وضهري وعكازي اللي بتسند عليه ياولدي،انت ابوهم، فرحت، كت فاكر اني كده بقيت الكل في الكل. ويسلام اني الكبير وهبقى مستريح بس كل ديه طلع مش حقيقي، لقيت المسؤلية بتزيد على كتافي اكتر واكتر، شقيت وطفـ.ـحت الد.م عما ربيت خواتي كنت شايلهم تحت جناحي، ربيتهم وكبرتهم وراعيتهم. بما يرضي ربنا، وبقيت بشقا ايديا دول كبيرهم وابوهم التاني اللي مايقدر حد فيهم يكـ.ـسرلي كلمه، ولا يرفع عينه في عيني، واني اللي اقول دِه يتعمل ودِه ميتعملش، حتى امي الحاجه! تاخد مشورتي في الصغيرة قبل الكبيره،ودلوقتي،ياجي اليوم اللي معرفش أربي فيه ولدي، ولا أقدر أحابي عليه.
نظر إلى الأفق، وعيناه تملؤهما الحز.ن واضاف:
ـ عايز يروح البندر ليه! عشان يتلف ويتعلم على طريقتهم، ويرجع يتكلم زييهم ويعوج لسانه علينا. وبعد كده يستجرا ويرفع عينه في عينيا، عاوز يعمل زي ما خالو عبد الحميد عمل!
ويعالم ياصالح إن كت هترجع وتعاود دارك. وترجع لأصلك تاني ولا لاه.
شعرت الحز.ن يلامس قلب زوجها حقا فالأمر ليس بهين فهذا ولده من صلبه ولا يستطيع الاستغناء عنه، لم تكن تعرف كيف ترد، فقد شعرت الحز.ن والأسى عليه. حاولت أن تهدئه، وقالت:
ـ ليه بس تفكر في حاجه مش هتُحصل واصل، ده عيل صغير ومش عارف حاجه. واهه الواد هيتعدل حاله غصب عنه واهو راح من النجمه في الأرض القبيله مع عمه سالم. بس حن عليك يا بو صالح تروق إحنا ملناش غيرك اني والعيال، و ابنك عرف غلطه وهياجي يحب على ايديك وراسك ويقولك حقي بر.قبتي يابا، بس حن عليك متعمل في نفسك كده.
ظل ينظر للافق في صمت، وكانت الكلمات تلك غير كافية لتخفيف الأ.لم الذي يشعر به حسين. سميره تدرك أن الأمور ليست بسيطة، وأن التحديات التي يواجهونها تتطلب الكثير من الصبر والتفهم.
شمس النهار كانت قد أشرقت تمامًا، وانتشر الضوء على الأرض الزراعية. كان صالح يقف بجانب عمه سالم، ممسكًا بفأس صغير،وعينيه على التربة الرطبة. العرق يتصبب من جبينه، والشمس الحارقة تضرب وجهه.
نظر إليه عمه سالم عندما اعتدل بظهره وهو يضر.ب بفأسه أرضا واقترب منه وقال:
ـ واد يا صالح، انت لسه واقف مكانك معلمتش ايوتها حاجه!
رد صالح بتذ.مر:
ـ الدنيا حر قوي يابا سالم.
ضحك سالم وقال:
ـ اومال انت فاكر ايه ياصالح مفيش حاجه بتيجي بالساهل، بس بعد كده هتتعود وجتتك هتاخد على الحر، يلا كده شد حيلك وامسك الفاس زين. وحط رجلك هنا على أول الخط، وإدي ضهرك للقنايه دي، واضر.ب الفاس في الخط؛ ما تبقاش خرع اومال.
تنهد صالح بإستياء ولم يجد مخرجا وحاول أن يفعل مثلما شرح له عمه، وقام بإقتلاع بعض الثمار، لكنه كان متعبًا وملامحه تعكس الضـ.ـيق. ولأنه لم يحب هذا الأمر فشل فيه، وقال بنبرة متذ.مرة:
ـ اني مش عاوز ازرع واقلع، اني مبحبش شغل الفلاحه، الشمس حاميه ومش قادر اشتغل ولا أقعد في الطـ.ـين ده.
ضحك سالم، فهو يتسم برحابة الصدر ولا يغـ.ـضب سريعاً وقال:
ـ لو ابوك الحج حسين كان هنا وسمعك وانت بتقول العفاشه دي من حنكك كان علـ.قك في النخله ولا ر.بطك على الفلـ.ـكة ومسما.ش عليك، اعرف ياصالح إن شغل الأرض دِه! اللي بيوكل الناس، انت اكده بردو ليك دور كبير في البلد. وجدك عبد الرحيم مش هيقول غير اللي فيه الخير ليك.
لكن صالح، بعنا.د الطفل الذي يرغب في شيء آخر، رد بتنهيدة:
ـ بس اني نفسي أتعلم، مش عايز أعيش حياتي كلها في الطـ.ـين. ودوري في البلد عاوز ابنيه بنفسي يابا سالم، هنتقدم ازاي واحنا عايشين جهله بالطريقه دي.
أقترب منه سالم واستنبط أنه يخبء شي بداخله ، شئ أكبر بكثير مما سمعه من قبل وحدث، فجلس على حافة الارض وجعله يجلس بجانبه وسأله:
ـ ومالها الطريقة دي ياصالح؟وليه قولت علينا جـ.ـهله مش عيب تقول كده؟
ـ اني مش قصدي اقول كده عليكوا يابا سالم.
ـ قصدك ايه اومال؟
ـ إحنا يابا سالم لازمن نتعلم ونتنور، الناس من حوالينا اتغيروا وبقوا بيعرفوا يقروا ويكتبوا زين قوي، الواد فتحي إبن أبو عواد ابو بكري قالي كده.
عقد سالم مابين حاجبيه مستفسرا:
ـ قالك ايه ولد الر.فدي ديه!
أجابه قائلاً:
ـ قالي "ربيع" اخوه بقى حاجه كبيره قوي في البندر باشكاتب وافندي قد الدنيا وهياجي البلد عشان يشتغل في الكفر بتاعنا وكل الفلاحين هنا مش هيقدروا يستغنوا عنه عشان متعلم ومتنور، وكمان ضحك عليا واتمسخر لما قالي عيلة ابو قاسم اخرها الابتدائية وكُتاب الشيخ عيسى.
هز سالم رأسه يفكر في حديث الصغير وقال:
ـ والله ما عارف أقولك ايه ياواد يا صالح، العلام حلو مقولناش حاجه، بس الخو.ف من بلد البندر دي، دي بيقولوا الناس فيها غيرنا في كل حاجه.
تنهد صالح بحز.ن شد.يد وقال:
ـ خلاص خلي الناس كلها من حوالينا تتعلم وتتنور واحنا خلينا خا.يفين من اللي عمله فينا خالي عبد الحميد. شكلي هدفع تمن غلطهُ في العيله كُلتها.
تنهد سالم وهو ينظر اليه مرتبا على كتفه وقال مواسيا:
ـ سيبها لله ياصالح ومتعكر.ش د.مك.قوم قوم خلينا نخلص عزيق الأرض خلينا نخلص ونروح قبل الشمس ما تحمي فوق راسنا.
عادت سميرة إلى الدار بعد أن تركت زوجها مازال في الأرض، وتوجهت مباشرة إلى المندرة حيث تجلس الجدة نعيمة. كانت الجدة تجلس على الكرسي الخشبي العتيق، تحيطها السكينة، لكنها كانت شا.ردة الفكر، تتأمل من النافذة البعيدة التي تطل على ساحة الدار. سميرة تعرف جيدًا أن الجدة دائماً مشغولة بالهمو.م العائلية، فحاولت الدخول بلطف وبدون إثارة أي قـ.ـلق.
ابتسمت سميرة وهي تقترب، وقالت بنبرة خفيفة:
ـ العواف عليكي يما الحاجه.
رفعت الجدة نعيمة عينيها ببطء، وحد.قت في سميرة بابتسامة صغيرة لكنها لم تخفِ قـ.ـلقها:
ـ يعافيكي ياسميره يابتي، حسين عامل إيه؟ قلبي واكلني عليه من ليلة امبارح.
سميرة جلست بهدوء بالقرب من الجدة، محاولة أن تخفف الأجواء:
ـ طمني بالك يما. سي حسين زي الفل، هو كان شويه مضا.يق، بس الحمد لله اني اتحدت وياه وراق باله. ومسبتوش إلا لما كَل معايا تحت سجرة التوت كمان.
ابتسمت الجدة نعيمة بخفة، لكنها قالت:
ـ كبدي عليه تلقاه شايل جواه وساكت، ولدي وعرفاه،حسين شال كتير من صغره، وهو كده دايماً لما يزعل من حاجه ياخد نفسه ويقعد في الغيط. لا بيعوز يتحدت ويا حد ولا حد يتحدت وياه
وانتي عارفه زين ياسميرة العيلة دي أهم حاجة عندي. مش عاوزه أشوف حد منهم زعلان.
أومأت سميرة برفق، وحاولت أن تُطمئن الجدة:
ـ روقي بالك يما الحاجه حن عليكي انتي التانيه، تلاته بالله العظيم سي حسين زي الفل وقالي هياجي على الدار الليلادي، وكمان اتحدت وياه وقولتلّو إن صالح ولده لسه صغير ولسه ياما الدنيا هتعلمه. وبعون الله كل حاجه هترجع قبل سابق واحسن.
هزت الجدة رأسها ببطء، وكأنها تتفهم ما تقوله سميرة، ثم قالت بنبرة هادئة:
ـ ربنا يصلح ويسلم يابتي. وتفضل عيلة أبو قاسم شاده حِيلها و واقفة على رجليها. ولا يفرق بين ولادي أبدا قادر ياكريم.
قبل الغروب، عاد إسماعيل إلى الدار، راكبًا على حماره. عندما وصل، قام بالنداء على نساء الدار وهتف فرحًا:
ـ أبويا الحاج حسين جاي ورايا!
الجدة نعيمة، التي كانت تتطلع إلى الأفق، ارتاحت لسماع الخبر. اتجهت بسرعة إلى الداخل، وكانت جميع النساء في الدار يشعرن بالارتياح بعد هذا الخبر.
ولكن عبد الرحيم، الذي كان يجلس في ساحة الدار يتأمل في الهدوء، لم يُبدِ أي رد فعل. ظل ساكتًا، يستمر في تسبيحه، كأنما يحاول أن يهرب من المشهد الحاضر.
عندما وصل حسين إلى الدار، أول من رآه هو والده وكأنه يعلم أنه ينتظره بصمت. حاول حسين أن يظهر تقديره واحترامه، فتوجه نحوه وقبّل رأسه بصدق. طالبا الصفح وقال:
ـ السموحه منك يابا الحاج. ور.حمة الغوالي متزعل مني، اني ليلة امبارح كُت مضا.يق حبه.
عبد الرحيم نظر إليه ولم يريحه في الحديث ولكنه أردف بجد.ية، وقال:
ـ خش غير هد.متك وكلك لقمة، وبعدها نتكلم كلام رجاله في المندرة.
ابتلعت سميره ريقها بتو.جس وهى تحبس الطيور في أعشاشها وقالت بترقب:
ـ استرها يارب، وحياة حبيبك المصطفى ، هاتها جمايل يارب.
أومأ حسين برأسه، ثم قبّل يد والدته ودعت له ثم ذهب إلى داخل غرفته لتغيير ملابسه وتناول الطعام. كان يعلم أن الأمور تحتاج إلى نقاش جا.د، ولكن في الوقت نفسه، كان يأمل أن يساعد ذلك في تهدئة الأوضاع بينه وبين والده. فهو يعلم أن أحفاده أغلى شئ عنده.
في المندرة، كان الجو مشحو.نًا بين الأب عبد الرحيم وابنه حسين. جلس عبد الرحيم بصر.امة، بينما حسين كان يبدو على وجهه علامات الحيره.
قال عبد الرحيم بلهجة حا.زمة:
ـ حسين يا ولدي، لازم تعرف إنك لما تضر.ب ولدك في وجودي، ديه أكبر غلط، وكمان في وسط الشارع قدام اللي رايح واللي جاي! بتزيد الطـ.ـين بلة.
تنهد حسين وقال معترفاً:
ـ سامحني يابا الحاج اني غلـ.ـطت، ولا عشت ولا كنت لو كت قاصدها في وجودك، بس الواد لما اتحدت الحديت اللي مالوش عازه دي! انا د.مي فار ومدرتش بحالي.
ابني يابا، ابني اللي من صلبي، عايز يروح البندر، على آخر الزمن، عاوز يقلد خاله ويهرب كيف ما هرب.
ضر.ب بعكا.زه أرضا وفاجأه بكلمات غير متوقعة:
ـ طب إيه قولك بقى! إن صالح هيكمل علامه!
صُد.م حسين وقام مزهولا وردد بدهشة:
ـ كلام إيه ده يا با الحاج؟ أنت عاوز ولدي يروح البندر!
أجاب بصر.امة:
ـ زي ما سمعت، صالح هيكمل علامه وهيبقى متعلم ومتنور كيف الخلق.
حسين كان في حالة من الذهول، وسأل:
ـ ليه يا با؟ فهمني ليه غيرت فكرك كده مرة واحدة؟
أجاب بجد.ية:
ـ انا قلت كلمتي وخلاص.
حسين، وهو يشعر بالارتباك، قال:
ـ بس عايز أعرف ليه غيرت رأيك وليه وافقت على حاجة زي دي؟ انت كنت معارض حتى علام إسماعيل اخوي وحسان ياخدوا الابتدائيه، واني اللي اترجيتك عشان يتعلموا، إيه اللي حُصل دلوقت!
رد بنبرة قوية:
ـ اني حر وكل وقت وله أدان، ولا انت، هترد كلامي يا حسين؟
حسين، مترددًا، أجاب:
ـ العفو يابا، لا عاش ولا كان اللي يرد كلمتك . اني بس عايز أفهم، أقل حاجة أفهم. مخي اتبرجل مني. داني كنت فاكر إنك هتقف في صفي ومعاي لو أمي الحاجه حنت و وافقت كيف ما حصل قبل سابق مع دار عمي عبداللطيف.
عبد الرحيم رفع عكا.زه وضرب به الأرض لينهي النقاش، وقال بصر.امة:
ـ بكرة هتفهم ليه قلت كده، يابن أبو قاسم. وخلص الحديت لحد هِنا.
بهذا، أغلق الجد عبد الرحيم الموضوع، وترك حسين في حالة من الصد.مة والد.هشة، بينما كان عبد الرحيم مصرًا على قراره، عازمًا على أن يأتي اليوم الذي يشرح فيه قرارته بشكل أوضح.
انتشر خبر موافقة عبد الرحيم على تعليم صالح في الدار، وسادت الأجواء حالة من الارتباك والفرح المتباين. الجدة نعيمة، التي لم تستطع فهم مقصد زوجها من هذا القرار، كانت في حالة من التعجب والحيره. لم يكن لها دور في اتخاذ القرارات الكبيرة، لذا شعرت بالتخبط تجاه هذا التغيير غير المتوقع.
أما سميرة، فكانت في قمة السعادة. فرحت بقرار الجد ورأت فيه فرصة ذهبية لمستقبل صالح. أما صباح، فقد كان قلبها كبر.كان ثا.ئر. لم تستطع تحمل رؤية السعادة التي غمرت سميرة وابنها الصغير، وشعرت بمر.ارة كبيرة.
بينما كانت تلك المشاعر تتصاعد في الدار، خرج صالح من غرفة جده بعدما قّبل يداه وشكره على موافقته، باحثًا عن والده. كان ير.كض بخطوات سريعة، عازمًا على البحث عنه من شدة فرحه، عندما عثر عليه، وجده جالسًا تحت شجرة الجميز بجوار الدار ، شاردًا في تفكيره.
وقف صالح أمام والده، ثم خفض رأسه في تواضع، وقال:
ـ أبا انت لسه زعلان مني! حقك عليا سامحني.
حسين نظر إلى ابنه بتمعن، بينما كان يفكر في قرار والده بتعليم صالح. كان حسين يخشى أن تتفكك العائلة مثلما حدث لعائلات كثيرة أخرى، وكان يأمل أن تبقى عائلته مترابطة دائمًا. ولكن الآن اختلف الأمر فوالده أصدر قراراً لا رجعة فيه ولم يجد سوى تقديم النصيحة لصالح، محاولًا أن يوازن بين أمانيه وخو.فه من تكرار ما حدث في أسر أخرى.
بعد لحظات من الصمت، قال حسين بصوت منخفض، ولكنه كان مليئًا بالحنان:
ـ تعال يا صالح اقعد جاري.
جلس الصغير ونظر إليه حسين بتمعن أكبر ليجد وجنتاه محمرتان أثر الشمس الحارقة صباحاً في الأرض ويداه بها بعد الخدوش حينها تذكر حسين نفسه في صغره عندما ذهب للأرض في أول مرة ومر.ض مر.ضًا شديداً كاد يقتـ.له أثر العمل الشاق، فقال بود:
ـ اني مش ضد إنك تكون متعلم ومتنور وافندي قد الدنيا، اني ضد اللي يروح وينسى أهله وناسه، وميحنش ولا يرجعش لجدره تاني. ياصالح.
بعد صلاة المغرب كانت الجده نعيمة جالسه تسبح في فراشها وتتأمل في قرار زوجها ، غير قادرة على فهم دوافعه.
أما صالح، فقد كان يسترجع تفاصيل يومه، لا يزال متحمسًا لتعليمه في البندر لكنه يشعر بالتعب من العمل الشاق وغط في نوم عميق في زاوية ساحة الدار. في حين كانت فاطمة تغطى الأواني الفخارية بقماش كانت تتأمل حديث صالح كانت تتمنى أن تكمل هى تعليمها أيضاً، متمنية أن يكون لها مستقبل أفضل.
بعد لحظات اجتمع الجميع لتناول العشاء، ثم تفرقوا إلى غرفهم. نام كل واحد منهم بقلوب مثقلة بالأفكار، وانتشرت أحلامهم بين الأمل والقلق.
في الصباح، استيقظت الشمس لتلقي أشعتها الذهبية على القرية. كان الجو منعشًا، وصوت الطيور يرن في الأفق. هرع الأطفال إلى خارج الدار للعب، بينما بدأ الرجال يتجهون إلى الأرض مرة أخرى. ومضى يومهم بسلام وقبل الغروب تغير الجو فاجأة حيث السحب غطت الشمس،و هطل المطر بغزارة، محدثًا جلبة في الهواء وملأ الأجواء برائحة الأرض المعطرة. كانت قطرات المطر تتساقط على أسطح البيوت الطينية، وتحدث صوتًا موسيقيًا عذبًا.
داخل الدار، بدأ الجميع يشعر بالراحة بعد يوم طويل من العمل. كانت الجدة نعيمة تجلس في المندرة، تتأمل المطر من خلال نافذة صغيرة خشبيه، وتدعو الله أن يبارك لهم في الأرض وخيراتها وتدعوا لعائلتها. بينما سميرة والنساء كن يجمعن الأواني والأدوات من الخارج، حتى لا تتعرض للتبلل.
في الأركان، بدأ الأطفال يضحكون ويلعبون بالماء، حيث كانوا يجمعون برك المياه الصغيرة التي تشكلت حول الدار. بينما حسين، وبحركة سريعة، أغلق الأبواب والشبابيك حتى لا يدخل الماء إلى الداخل.
وبينما كان المطر يزداد غزارة، اجتمعت العائلة في غرفة واحدة، ونير.ان الخشب تتراقص في المنقد، مشكّلةً ضوءًا دافئًا وهاديًا حيث يلتف الأطفال حول المنقد لينالوا بعض الدفء وحيث أعدت سميرة لعائلتها الشاي الساخن المضاف الية الحليب. واستمتعوا بصوت المطر وكأنهم في حضن الطبيعة.
أخذت الجدة تروي لهم حكايات عن الأيام التي كانت تأتي فيها الأمطار بكثافة، وكيف كان الناس يتعاملون مع الفيضانات في الماضي. كان الجميع ينصتون باهتمام، ينسون مشاغلهم اليومية في ظل الأجواء الجميلة.
مع مرور الوقت، تضاءلت حدة المطر، ولكن الأجواء احتفظت برونقها. وكانت السماء قد تزينت بألوان الغيوم، مما أضفى سحرًا على المكان، مع تردد صوت المطر الخفيف الذي تبعثر هنا وهناك.
صباحاً في الطريق الهادئ بين الحقول، كانت فاطمة تسير بخفة، حاملة الفطور على رأسها، متجهة إلى الأرض حيث يعمل الرجال. نسيم الصباح الباكر يلامس وجنتيها، وكانت تحاول التركيز على خطواتها، لكن قلبها كان يسرع نبضاته مع كل خطوة. فجأة، ظهر صبري أمامها وكأنه خرج من بين الأشجار، بابتسامة ماكرة تعلو وجهه.
ـ صباح الخير يا بت عمي، رايحة فين كده؟
قالها وهو ينظر إليها بنظرة مخلوطة بين المزاح والجد.
ابتسمت فاطمة بخجل، وعيونها انخفضت للأرض كعادتها حينما تتحدث مع أحد، وقالت بهدوء:
ـ صباح النور ياحج صبري، اني رايحة الأرض أودي الفطور لاخواتي الرجاله.
صبري تقدم خطوة نحوها، ورفع حاجبيه بنبرة مرح:
ـ تعيشي وتودي ياست البنات، إلا قوليلي هتروحي فرح بت أبو سويلم الليلة؟
فاطمة نظرت إليه بسرعة، قلبها يرتجف قليلًا، من سؤاله وردت:
ـ اني مش عارفة، ومحدش قالي، بس بتسأل ليه؟
تراجع قليلًا، وكأنه يعد كلماته بعناية، ثم قال بابتسامة ذات مغزى:
ـ ولا حاجة. ولا حاجه ياست العرايس. بس يعني، اني بقول عقبال ما أشوفك في الهودج، متزينة زي العروسة، تلاته بالله العظيم هتبقي أحلا واحدة واحلا عروسه في الكفر كلياته..
صد.متها كلماته، وشعرت بالخجل يغمرها كالنا.ر، فارتبـ.ـكت وأخفضت رأسها أكثر، وكأنها تريد الاختفاء من أمامه.
وشعرت بحر.ارة تسري في وجهها، وكأن كلمات صبري أصابتها بسها.م من الخجل. ارتبـ.ـكت وهي تلتقط أنفا.سها، ثم قالت بصوت متر.دد:
ـ يوه. عيب الكلام دي انت بتقول ايه ياحج صبري.
ابتسم صبري بخـ.ـبث أكبر، وهو ينظر إليها نظرة مفعمة بالتحدي والجرأة:
ـ اللاه، هو اني قولت حاجه! وليه عيب يا بت عمي؟ أنا مش بقول حاجة عفشه لا سمح الله، ده إحنا أهل، واللي بينا معروف، فاني بقول يعني يوم ما تشوفي نفسك عروسة، هتبقي أحلى واحدة في الكفر كله.
فاطمة لم تعرف كيف ترد، فقط شدت على منديلها الذي يغطي رأسها وكأنها تستجمع قوتها. حاولت أن تمشي من جانبه، لكن صبري لم يترك الفرصة تفوت. استدار أمامها، وكأنه يعيق طريقها بحذر قائلاً بنبرة أكثر جدية:
ـ بقولك يا فاطمة، قريب قوي، كل حاجه هتتغير قريب، وإن شاء الله تشوفي اللي يسعد قلبك.ويخليكي ست الحسن والجمال.
نظرت إليه للحظة، تلك النظرة التي تجمع بين التساؤل والحذ.ر، والخو.ف الشد.يد، ابتلعت ريقها بخو.ف ثم قالت بهدوء:
ـ اني لازمن أمشي دلوقت. لاحسن الوكل هيبرد.وابويا الحج حسين هيز.عقلي.
تركها تمر، لكنه ظل ينظر إليها بعينين مليئتين بالأفكار، وكأنه يرسم في ذهنه ما يخطط له.