رواية بقايا عطر عتيق الفصل التاسع بقلم مريم نصار
في عصر ذلك اليوم، جلس حسين على حافة القناية يتأمل الأرض أمامه. أفكاره كانت تتصا.رع في رأسه بشأن ما قاله والده عن صبري وفاطمة. وبينما كان مستغرقًا في تفكيره، لاحظ إسماعيل يقترب منه بهدوء. وقف إسماعيل أمامه، نظراته تملؤها الجدية والاندفاع.
سأله إسماعيل مباشرة:
ــ أنت صحيح يا با الحاج حسين هتوافق على الحج صبري يتجوز أختك العيلة الصغيرة ؟
تجمد حسين لثوانٍ، ولكن سرعان ما ا.نفعل لأنه علم بالأمر وصاح بغـ.ـءفلضب:
ــ إيه التخبيص اللي بتقوله ده ياض يا إسماعيل؟ ومين اللي قالك الحديت ديه؟
رد إسماعيل بهدوء، رغم قـ.ـلقه:
ــ اني عرفت بالصدفة، ومش ده المهم يا با الحاج حسين، المهم اني كمان اتوكدت إنك وابويا الحج موافقين، بس إزاي ؟
ازداد ضـ.ـيقه مردفا بحد.ة:
ــ انطق ياواد وقول مين اللي قالك وإلا يمين عظيم أعيد ربايتك من تاني!
تنهد إسماعيل وأجاب:
ــ واني راجع على الدار بعد ما وديت حمولة القطن لدار أبو عشري، سمعتك وانت بتحدت ويا أبويا الحج في المضيفة. هو ديه اللي حُصل.
تفهم حسين سريعاً ما حدث واردف ببرود:
ــ واديك سمعت لكل حاجة، جاي ليه بقى تعمل أبو فصادة وتسأل إن كنا هنوافق ولا لأ؟
أجابه إسماعيل بنبرة أكثر جد.ية:
ــ بص يا با الحاج، اني طول عمري عايش في حالي، مبدخلش في أمور حد. تقولي روح يمين، أقولك حاضر، روح شمال، برضو حاضر. لكن فاطمة أختي، ومن حقي أخا.ف عليها وكمان أقول إلا فيه الصالح ليها. و اني مش موافق على صبري.
ضحك حسين بسخر.ية وقال:
ــ إيه ياخويا؟ سمعني تاني أكده، قولت إيه؟
كرر إسماعيل بثبات:
ــ اني قولت اني مش موافق على صبري. هو اني بردك مش أخو فاطمة؟ ويهمني الصالح ليها.
كظم حسين غيـ.ـظه وأمسك بمعصم إسماعيل وهو يقول بحد.ة:
ــ تعرف يا واد! إنت لو مغورتش من قدامي دلوقتي هعلـ.ـقك على السجرة دي لحد ما يبانلك صاحب! ولا الفلـ.ـكه وحشتك! قال مش موافق قال! العيال طلعت من البيضة إياك،وبقت تتكلم.
إسماعيل، رغم غـ.ـضبه، تمسك بموقفه وقال:
ــ اني مش عيل، يا با الحاج! اني خلاص رايح الجهادية، وانت بذات نفسك بتقول عليا اني راجل، وراجل قوي كمان.
صاح حسين:
ــ يا مصبر الجحش على الو.حش! متدخلش في حاجات متخصكش يا إسماعيل!
أجابه إسماعيل بحز.ن:
ــ اني كنت فاكر لما منعت أختك فاطمة العيلة الصغيرة من مرواح بيت عمك عبد اللطيف، إنك أكده بردت نا.ري وقلت خلاص ياض ياسماعيل، أبوك الحج حسين عارف كل حاجة، واللي وكدلي حديتي دِه إنك كمان مخلتهاش تروح دخلة بنت أبو سويلم ولا ظهرت في سابع ابن سالم قدام الرجالة عَشيه، أقوم دلوقتي بعدت مابردت نا.ري.قلبي يو.جعني على أختي، هتسلمها لصبري بيدك يا با الحاج. بقى ده كلام يُعقل ياناس!
تنهد حسين لأنه يعلم كل ما يدور في خاطر أخيه وقال بصوت مفعم بالحز.ن:
ــ إنت فكرك إياك اني مش واخد بالي؟ داني أخوكوا الكبير، اني اللي مربيكوا، وانت بالذات يا بغل. إنت اللي ليك غلاوة عندي أكتر منيهم. يوم ما اتولدت على الرشاح، وأمك معاودة الدار، كنت حتة لحمة حمرا وقلبي اتخـ.ـلع عليك لَتطيح على الأرض وتنجر.ح. قلـ.ـعت جلابيتي ولفيتك فيها وخدتك في حضني وجريت بيك على الدار، وسميتك. أول حد أسميه في الدار. أنت! وأول حد اشيله بين درعاتي.انت.
ثم أكمل حسين بحز.ن أعمق:
ــ وفاطمة، فاطمة دي آخر العنقود، بتي اللي مربيها قدام عينيا مع عيالي. إنت خابر إياك أني مش عارف باللي بيعمله صبري وعينه الزايغة يمين وشمال على واحدة من حريم دارنا. واللي وكدلي ظني كلامك ويا أخوك عبد العزيز تحت السجرة ديه، كل كلمة انت قولتها خر.مت قلبي قبل ودني وغلي الد.م في عروقي. بس حبستها جواي، وقلت بيدك ايه يا حسين تعملوا! لو اتكلمت كلمة في حق صبري؟ مرت عمك مش بعيد تلسن على فاطمة، وتعمل جُرسه كبيرة في البلد وانت خابر سمعة بناتنا زي الجنيه الدهب. ولو اتنطورت كلمه أكده ولا أكده مش هنسلم من لت الحريم في الكفر كله، وبرضو قلت لحد دلوقتي صبري معملش حاجة قدام عيني. عشان لو فكر بس يبص لأختي ولمحته، كنت د.فنته تحت رجلي.
تنهّد ثم أضاف:
ــ عملت اللي أقدر اعمله،وحبست أختك، وبعدتها خالص عن عينيه. بس دلوقتي فرقت يا ابن أبوي. صبري اتكلم رسمي على أختك، ورايدها بالحلال وأبوك الحج قال كلمته خلاص.
تقدم إسماعيل بخطوات ثقـ.ـيلة نحو حسين، الذي كان ما يزال غا.ضبًا ومتو.ترًا. أمسك إسماعيل بيد أخيه الكبيرة، وقبّلها بحنان ورجاء، وتحدث بتوسل:
ــ انى عارف كل ده واكتر كمان، بس وحياة غلاوتي عندك يا با الحاج، تقنع أبوك وتقوله إنك قلبتها في راسك ومش موافق.
وكزه حسين بقو.ة وشد يد.ه من قبضة إسماعيل صار.خًا:
ــ إنت اتجـ.ـننت ولا حُصل لنفوخك حاجة؟ صبري ابن عمنا! وهو أولى بيها من الغريب.
لم يتراجع إسماعيل، بل رد موضحاً:
ــ بس كبير عليها.
أخذ إسماعيل نفسًا عميقًا قبل أن يكمل بجد.ية:
ــ بص يا با الحاج، اني هقولك كلمتين وانت حر تعمل اللي أنت رايده. أختك فاطمة لسه صغيرة، لسه بتلعب نط الحبل مع العيال اللي في سنها. مع بناتك، ولو بنتك عيشة، اللي في سن فاطمة دي؟ لو صبري دِه مش خالها وجاها يطلبها للجواز... هتوافق؟
التقت أعينهما، وبدت الدهشة واضحة على وجه حسين، لكنه لم يرد. واصل إسماعيل قائلاً بنبرة أكثر قوة:
ــ بلاش دي.. فكرت في أختك هتدخل دار مين؟ مين هو صبري أبو قاسم؟ اللي مسابش مولد ولا غازية غير لما يرمح وراها كيف الكلـ.ـب الصعر.ان!
وكمان حداه كام عيل؟ دي بته فوزية أكبر من أختك، يعني أختي اني! تتجوز واحد أكبر منيها تلات مرات واكتر كمان؟ وتدخل تربي عيال أكبر منيها! وتشيل بلا.وي صبري كلها فوق راسها؟ وتشيل الهم وتكبر وتشيخ قبل أوانها؟ لأ ومش بس أكده، دي كمان هتبقى زاهية حماتها اللي مطـ.ـفشة الكل من حواليها، ومطلـ.ـقة حريم صبري عشان هو الكبير وكلامها يمشي على الكبير قبل الصغير.
ظل حسين ناظرًا إلى إسماعيل في صمت، يشعر بغـ.ـضب متصاعد، لكن إسماعيل لم يتوقف عن الكلام:
ــ سامحني على قلة أد.بي وجر.أتي يا با الحاج، بس إنت قولت إن فاطمة بنتك مش أختك. فاني باستحلفك بجلال الله، تشوف إيه الصالح لبتك العيلة الصغيرة دي وساويه ليها.
ثم نظر إسماعيل إلى حسين بتو.جس، وتابع بجرأة متز.ايدة:
ــ فاطمة لا هي مترملة ولا معيوبة علشان تبلوها وترموها في قلب النا.ر إنت وأبوك.
في تلك اللحظة، احتـ.ـقن وجه حسين بالغـ.ـضب وانفـ.ـجر غا.ضبًا، وصفـ.ـع إسماعيل بقو.ة على وجهه، وكلماته الأخيرة أشعـ.ـلت النير.ان في قلبه. ثم أمسك حسين بتلابيب جلباب إسماعيل، وصاح بنبرة صار.مة، وقد اشتـ.ـعلت عيناه بالجنو.ن:
ــ كلمة زيادة. تلاتة بالله العظيم ما هخلي فيك نَفس يا إسماعيل يابو قاسم! وهطلع رو.حك دي بيدي واسيبك تفر.فر كيف البهـ.ـيمه الشا.رده.
ثم دفعه حسين بقو.ة حتى سقط إسماعيل أرضًا، وتركه غا.ضبًا، بخطوات سريعة، وعيناه تشـ.ـتعلان بالغضـ.ـب الذي كان يجتا.ح قلبه.
بعد أن اختفى أثر حسين في الأفق، ركض سالم وحسان مسرعين نحو إسماعيل، الذي كان ما يزال جالسًا على الأرض ويمسك بوجنته المتورمة من صفـ.ـعة أخيه. اقتربا منه بقـ.ـلق، وبعد أن اطمأنوا عليه، قال سالم معا.تبًا بنبرة قـ.ـلق:
ــ زودتها ياسماعيل مع أبوك الحج ، ده مهمن كان هو كبيرنا.
أيد حسان كلام سالم وأكمل معاتبًا بلهجة تحذ.يرية:
ــ طول ما لسانك مش صاينه جوا حنكك، هتجيب لنفسك النصا.يب ياسماعيل. ليه تدخل روحك في حاجه هتجيبلك الكلام.
تنهد إسماعيل وهو يضع يده على وجنته المتورمة، وقال بصوت متحشر.ج بعض الشيء:
ــ اني مقولتش حاجة عفشه. اني بعرفه إننا برضو رجاله ونعرف فين الزين والشين.
ثم نظر إليهم بشد.ة واند.فاع، وأكمل بإصرار:
ــ وبعدين هي فاطمة دي مش أختنا؟ ولا هي واحدة من الشارع عشان نرميها لصبري!
رد حسان وهو يعقد حاجبيه:
ــ يا خوفي لا أبوك حسين يعاند وياك ويجوزها للمحر.وق صبري دِه النهارده قبل بكرة.
تنهد سالم، وهو ينظر بعيدًا بتفكير، وقال بحذ.ر:
ــ الله يستر على الأيام الجايه، هاتها جمايل يا رب.
نظر الثلاثة نحو الأفق بصمت مشحو.ن، يدركون أن موقفهم صعـ.ـب وأن المواجهة مع والدهم واخيهم الأكبر قد تز.داد تعقـ.ـيدًا.
طرق بكري وهو أحد الجيران باب بيت العائلة بقو.ة ليسأل عن حسين. من خلف الباب، ردت سميرة بنبرة هادئة:
ــ ابو صالح لسه مجاش من بره يا حاج بكري.
ثم سمعوا صوت صالح يردد من داخل البيت:
ــ أبويا في الجامع من المغربيه يما.
أخبرته سميرة انه لم يعد بعد، فانصرف بكري بهدوء. بعد ذلك، دخلت سميرة غرفة الجدة وهي تحمل زجاجة صغيرة بها زيوت طبيعية تستخدم لتخفيف ألم العظام. ناولتها لنعيمة بلطف قائلة:
ــ خدي يما، جبتلك الزيت اللي قولتي عليه،ادهني وبالشفا يارب.
ردت نعيمة بحنان:
ــ يسمع منك يا بتي.
ثم رفعت الجدة عينيها وسألت بقلـ.ـق عن حسين:
ــ مال حسين ليه متأخر أكده؟ كل خواته عاودت على الدار وهو لسه بره؟
ردت سميرة بحير.ة:
ــ وانبي ماني عارفه يما، الواد صالح بيقول إنه في الجامع من المغربيه. مش يمكن يكون بيصلح حد على حد من رجالة الكفر؟
أومأت نعيمة برأسها:
ــ يمكن يابتي، ويمكن كمان قال لنفسه يصلي العشا ويعاود على الدار بالمرة طوالي.
أيدتها سميرة قائلة:
ــ اني بقول أكده بردك.
بينما كانت الجدة نعيمة تدلك الزيوت على ساعدها المتعب، قالت:
ــ لما يعاود حطيله الوكل يابتي، هو متغداش زين.
أجابت سميرة بلطف:
ــ حاضر يما.
أضافت الجدة:
ــ حطيله لبن رايب وحتة قشطه، وشربيه كوباية حليب. ده بيشقى كتير ياكبد أمه.
ابتسمت سميرة بحنان وقالت:
ــ حاضر يما، من عينيا، ربنا يخليكي لينا يارب.
ثم تذكرت نعيمه شيئاً وسألتها:
ـ الواد اسماعيل لسه قاعد على السطح ولا نزل هو روخر؟
اجابتها سميره:
ـ من ساعة ما عاود الدار وهو زي ما هو قاعد في المقعد على السطح ولما شيعتله البت عيشه قالها مش رايد ياكل.وأنه مش نازل وهايبيت الليلادي فوق على الدكه في ضي القمر.
تنهد.ت نعيمه وقالت:
ـ تلاقيه ز.علان أنه رايح الجهادية، بس مش مهم يتفـ.ـلق. المهم أنه يبقى راجل ويعرف واجبه ناحية بلده.
ردت سميره:
ـ زين ماقولتي يما ويارب أكده تشوفيه زين رجالة الكفر كله.
ـ آمين يارب.
بعد ذلك، ذهبت سميرة لتجهز العشاء لزوجها. وما إن عاد حسين للمنزل، كان الصمت يلفه بشكل غريب، وكأنه يحمل على كتفيه حملاً ثقيلاً من الغضـ.ـب المكبو.ت. اتجه مباشرة إلى غرفة والديه، قبّل أيديهما باحترام واعتذر منهم قائلاً إنه يشعر بالتعب ويريد الذهاب للنوم. ربتت أمه على صدره بحنان وسمح له والده بالذهاب، فقد كان الجميع يعتزم الاستيقاظ مبكرًا لصلاة الفجر.
ذهب حسين إلى غرفته، وبعد أن خلـ.ـع جلبابه، دخلت عليه سميرة وهي تحمل صينية الطعام. وضعتها على الأرض وساعدته في تبديل ملابسه. لاحظت صمته العميق وتعجبت. بتردد قالت:
ــ الوكل هيبرد يا بو صالح.
لم يرد حسين، بل تحرك ليجلس أمام الطعام وبدأ يأكل بصمت مستمر. ازدادت حيرة سميرة وجلست أمامه وهي تضع أمامه الخبز، ثم سألته بنبرة مستفسرة:
ــ فيك حاجه يا سيد الناس؟
توقف حسين عن مضغ الطعام، وتذكر كلمات إسماعيل التي أشعـ.ـلت بداخله نا.راً لم يستطع إخمادها. أخذ نفساً عميقاً وردد بصوت منخفض:
ــ مفيش حاجه يا سميره، قومي انعسي انتي.
تجعدت عينا سميرة بالقلق، وتأكدت أن هناك شيئاً ما يز.عجه. حاولت أن تحسن مزاجه بابتسامة دافئة وقالت:
ــ لاه. ودي تاجي؟ هى عيني تعرف تغفل ولا تغمض وانت مش جاري؟ أبدا متحصلش. اني هقوم اعملك كوباية شاي بالحليب وهاجي اغسلك رجليك بشوية مية وملح يخلوك رايق وزين.
تنهد حسين بنفا.ذ صبر ونظر إليها قائلاً:
ــ سميرة، اني قولتلك قومي انعسي. اني مصد.ع وهاكل اللقمة وأقوم أنام اني التاني.
ازداد تو.ترها وسألته بتو.جس:
ــ مالك صحيح يا بو صالح؟ يكونش زعلان عشان إسماعيل رايح الجهادية بكره؟
عند تلك الكلمات، ازدادت غيـ.ـظة وترك اللقمة من يده وشرب الماء بغـ.ـضب. ثم قام واتجه نحو الفراش وقال بصوت صا.رم:
ــ طفي اللمبة وتعالي نامي، ومش عايز كلمة زيادة في المقعد. وإلا هخلي الليله دي مش فا.يته. اتحركي ياوليه
انصاعت سميرة في الحال، فهي لا تريد تعكير صفوه أكثر من ذلك. كان واضحًا أنه منز.عج بشد.ة من شيء ما، ربما الأمر يتعلق حقًا بإسماعيل وذهابه للجيش.
إسماعيل ظل شاردًا على سطح المنزل، ينظر إلى السماء حيث القمر يضيء بصمته الهادئ. الهواء البارد يلفح وجهه، لكنه لم يشعر بشيء سوى الثقل الذي يجثم على صدره. لم يكن يفكر فيما فعله به أخوه حسين، فالصفعة أو الكلمات الجارحة لم تعد تهمه.
تسللت إلى ذهنه صورة تلك الفتاة التي لمحها في السوق مع أمها، وهي تختار الثمار بخجل وابتسامة رقيقة، لم يعرف حتى اسمها، لكن نظراتها لم تفارقه منذ ذلك اليوم. كلما حاول أن يبعدها عن تفكيره، عادت لتملأ قلبه بنبض جديد ومشاعر غامضة لم يعرفها من قبل.
ولكن سرعان ما عادت همومه الثقيـ.ـلة لتخـ.ـطفه من هذا الحلم، فتذكر حال أخته فاطمة المسكـ.ـينة. قلبه يتأ.لم عندما يفكر في أن والده وشقيقه الأكبر يريدون تزويجها لرجل لا يثق فيه أحد، رجل غير مؤتمن، ورغم ذلك، يصرون على إتمام الزواج وكأنه لا خيار أمامهم. كان يشعر بالعجز، كيف يواجه أخيه الأكبر الذي يتخذ القرارات دون أن ينظر إلى مصلحة أحد، وكيف يحمي فاطمة من مصير لا تعرف نهايته.
كان همه الوحيد هو مستقبل شقيقته الصغرى . يشعر بالعجز وهو يرى الأمور تنجر.ف نحو اتجاه لا يتمناه لها. لا يريد لها أن تقضي حياتها مع رجل لا يعرف سوى اللهو والعبث، ويكبرها بسنوات كثيرة. وهو يعلم أن الزواج من صبري سيكون بمثابة حكم مدى الحياة على فاطمة، حكم بلا أمل أو خلاص.
تنهد بعمق، وأخذ ينظر إلى القمر، وكأنما يبحث عن إجابة في ضيائه البعيد. فاطمة صغيرة، ما زالت تلهو مع الأطفال في القرية، لا تعرف شيئًا عن قسو.ة الحياة أو عن الرجال ومثل صبري. كيف يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي ويشاهد حياتها تُختـ.ـطف منها؟
مع شروق الشمس، كان إسماعيل يرتدي ملابسه العسكرية بمساعدة أخيه الأصغر حسان، فيما جلست أمه في ساحة الدار تسبّح بهدوء، ووالده جلس تحت تكعيبة العنب في الجنينه أمام المنزل. أما حسين، فكان واقفاً عند باب الدار، ينتظر إسماعيل لينهي استعداداته ليقوم بتوصيله إلى محطة القطار. كان الصمت يلف حسين، فهو ما زال متأثراً بما دار بينه وبين إسماعيل في الليلة السابقة.
خرج إسماعيل من غرفته، جثى على ركبتيه أمام والدته، وقبّل يديها قائلاً:
ـ اني ماشي يما الحاجه، مش عاوزك تبطلي دعواتك ليا.
ربتت على صدره بحنان، وقالت:
ـ قلبي داعيلك قبل لساني، ياضنايا. تروح وترجع منصور، مجبور الخاطر ياسماعيل، يا بن بطني.
في تلك اللحظة، خرجت فاطمة وهي تحمل كيساً به طعام لإسماعيل، وعيناها تفيض بالدموع. احتضنته وقالت بصوت متهدج:
ـ الدار هتبقى وحشة وعفشه قوي من غيرك، ياسماعيل.
نظر إليها إسماعيل بحنان، ثم قال:
ـ خلي بالك على روحك يا فاطنة، اني مش زعلان من ايوتها حاجه غير إني مش هشوفك ولا هتصبح بيكي ولا بوشك الزين دِه.
ردت فاطمة وهي تحاول كتم بكائها:
ـ تروح وترجعلي بالسلامة، وساعتها هتزهق مني. خلي بالك على روحك انت كمان.
ابتسم إسماعيل لها، حمل حقيبته، وودّع الجميع. ثم خرج ليلتقي بأبيه، وأخذ طريقه مع حسين في صمت، كل منهما غارق في أفكاره، يحمل همو.مه الخاصة.
بعد عودة حسين إلى المنزل مساءًا ، توجه مباشرة إلى غرفة والدته، وجلس بجوارها على الفراش. كانت والدته تحمل حفيدها وتربت على صدره بهدوء حتى يغفو، لكنها لم تستطع أن تتجاهل ملامحه الصامتة، والتي لم تكن على عادتها. نظرت إليه بتمعن ولاحظت أن شيئاً ما يشغل باله، فبادرته بسؤال حنون، بصوت دافئ يحمل في طياته قـ.ـلق الأم:
ـ مالك يا حسين يا ولدي؟ من عَشيه وانت مش عاجبني، إيه اللي مغيرك أكده؟
تردد حسين للحظة، كما لو كانت الكلمات تخو.نه، ثم رد بصوت منخفض ومتو.تر:
ـ مفيش يما حاجه مغيراني. بس اني كت عاوز اتحدتت وياكي في حاجه أكده.
وضعت الأم الطفل بجوارها على الفراش، ووجهت نظرها كاملاً نحو حسين، وهي تسأله بهدوء:
ـ خير يا ضنايا.
أخذ حسين نفساً عميقاً ثم قال بصوت هادئ:
ـ خير يا حاجه إن شاء الله. أبويا الحج كلمني ليلة امبارح وشار عليا في جوازة فاطمه على صبري.
تغيرت ملامح والدته على الفور، وظهر الصمت على وجهها، وعندما لاحظ حسين ذلك، سارع بسؤالها:
ـ إيه يا حاجه؟ مالك وشك غير أكده ليه انتي التانيه؟ تكونيش مش رضيانه انتي كمان على الجوازه دي؟
نظرت إليه والدته بنظرة حا.دة ولكنها مختلطة بالحير.ة، ثم قالت بصوت يحمل نبرة الاستفهام:
ـ معناته إنك كمان مش موافق يا ولدي؟
ـ مين قالك أكده بس ياحاجه؟
ـ اهه كلامك اللي لسه قايله بلسانك يا ولدي. قولت إني كمان مش رضيانه، معنى كلامك انك مش موافق، عشان مفيش حد غيري اني وأنت وابوك اللي يعرفوا بالحديت ديه، وابوك موافق، يبقى مفيش غيرك!
حمحم حسين ليتجنب الرد المباشر، ثم قال بلهجة هادئة:
ـ طيب سيبك مني. اني عايز أعرف إذا كنتي ليكي شوق للجوازه دي ولا لاه؟
نظرت إليه والدته بتمعن، ثم قالت بنبرة تسترجع ذكريات الماضي المؤ.لم:
ـ ومن ميتى الحريم ليها حق ترفض ولا توافق؟ وحتى لو قولت لاه، مش لادد عليا الجوازه دي؟ حد فيكم هيقولي كلامك يمشي ياحاجه؟
ثم استرسلت بتنهيد.ة عميقة وأضافت:
ـ الحُرمه منينا اتعودت على قولة "اللي تشوفوه زين يمشي"، واللي تشوفوه عفش ما يمشيش، حتى لو قلبها ميال للعفش ولا الزين، مجبو.رة تسكت وتقول كلامك سـ.ـيف يمشي وقت ما بدك غير أكده! تبقى عا.صية وقليلة الر.باية.
كان لهذه الكلمات وقعٌ عميق في قلب حسين، فهو يعرف تماماً الآن أن والدته غير راضية عن هذه الزيجة، لكنها لا تستطيع البوح بمشاعرها. أمسك بكفها المجعد وقبّله بحنان وقال:
ـ مين قال أكده بس يا ست الناس؟ دانتي كلامك يمشي على الكبير هنا قبل الصغير. دانتي بركة الدار وأمي وحبيبتي وجدة العيال. ببركة دعاكي كل حاجه معانا متسهله يام حسين.
ابتسمت والدته ابتسامة حز.ينة وهى تربت على يده وقالت:
ـ تعيش يا ولدي.
ثم تابع حسين بسؤال ملحّ:
ـ بس كلامك بيقول إنك مش موافقة، صُح كده يا يما؟
نظرت إليه بحز.م وقالت:
ـ يعني لو قولتلك اللي رايداه، كلامي هيمشي عليك يا ولدي؟
أجابها مؤكداً:
ـ كلمتك سـ.ـيف على رقبتي يام حسين، ولا انتي عندك شك فيا؟
ردت بسرعة:
ـ لا عشت ولا كنت. دانت راجل وسيد الرجاله، وكلمتك زي الجنيه الدهب، تلمع، عمرها ما تنطفي وتضوي ضي أكده.
ثم تنهدت واضافت بقلـ.ـق واضح:
ـ أني اللي شاغل راسي كيف صبري دِه يفكر في فاطنه بتي؟ ده مطلق مرتين، ومخلف عيال قدها وأكبر. واللي و.اجع قلبي عليها إنها هتشيل شيلة كبيرة قوي عليها يا ولدي. فاطنه لسه بَت امبارح، تقوم بين يوم وليلة تبقى مرت أب لعيلة؟ بدل ما يتقال لها "يما" من أول عيل تشيله، يتقاللها "يامرت أبويا"، ومن عيال أكبر منيها كمان؟
ثم تابعت حديثها بنبرة قـ.ـهر:
ـ واللي قهر.ني إن حماتها هتبقى زاهيه، واني متوكدة إنها هتحرم بتي اللقمة وتنشفها عليها. وتكـ.ـسر نِفسها في الروحه والجايه،بتي فاطنه قلبها أبيض، كيف الجُمار، ما يعرف الخبص ولا اللؤم، ودِه كله كوم، وصبري دِه كوم لروحه. راجل فات الأربعين، والشعر الأبيض بان في راسه. يقوم ياخد صبية كيف الوردة الصابحة ويمرمطها معاه؟ لحد ما يدبلها؟ وتبقى مين؟ بتي اني، فاطمة بنت الحج عبد الرحيم، وأخت الحج حسين كبير الحته، اللي الكل بيحلف بمرجلته! واللي بيصلح بين الناس ويرجع الحقوق الضايعه؟
ثم نظرت إليه بحز.ن وقالت بمغزى:
ـ ويا خوفي لبكره الناس تقول رميتوا البت العيلة الصغيرة ورا ضهركم ومسألتوش.
كانت كلماتها كالسيـ.ـف الذي اختر.ق قلب حسين. تذكر كلمات إسماعيل، وكيف أن الجميع يرون ما كان مخفياً عن عينيه، لكنه أدرك أن الوقت قد فات، وأن القرار قد صدر. وقف حسين فجأة، وكأن الخنـ.ـقة تزداد في صدره، وقال بصوت متهد.ج:
ـ إزاي يما تقولي أكده؟ هنر.ميها كيف يعني! وأني ميهمنيش كلام الناس. أهل الكفر من غير حاجة بيتكلموا على بعضيهم. و خلاص يما، الكلام دِه ملوش لازمة. أبويا الحج قال كلمته، وهو موافق، ودي بته، وهو أدرى بمصلحتها.
ثم قال بغضـ.ـب مكبو.ت:
ـ أني رايح القهوه. الواحد مش عارف هيلاقيها منين ولا منين. سلاموا عليكوا.
ثم غادر الغرفة مستا.ء.وترك حسين والدته جالسة على الفراش، تراقبه وهو يغادر بوجهه الملبد بالقـ.ـلق والحير.ة. كانت تشعر بثـ.ـقل القرار الذي تم اتخاذه، ولكنها لم تستطع أن تفعل شيئاً حيال ذلك. جلست بصمت، تتأمل في مستقبل ابنتها فاطمة وفي المصير الذي ينتظرها مع صبري. كان قلبها يخفق بالأ.لم والخو.ف على ابنتها الصغيرة، لكنها كما قالت، لم يكن لديها الخيار.
في الخارج، كان الليل قد أسدل ستاره على القرية. سار حسين بخطوات متثا.قلة نحو المقهى، حيث يجتمع الرجال كل ليلة. كان يشعر بثـ.ـقل العالم على كتفيه، بين ضغو.ط والده ومخا.وف والدته. عندما وصل إلى المقهى، كان الجو مشحونًا بالأحاديث المعتادة عن المحاصيل والمواشي وأخبار القرية، لكنه لم يكن حاضرًا معهم بروحه. جلس على كرسيه المعتاد، لكن عينيه ظلتا تحد.قان في الفراغ، غا.رقًا في أفكاره.
في تلك اللحظة، دخل صديق له ويدعى "سعفان، ورأى صديقه جالسًا في صمت. اقترب منه وجلس وسأله بهدوء:
ـ إيه يا يابو صالح، كيفك يا راجل، ومالك قاعد ساكت أكده؟ مش عوايدك النهارده.
نظر إليه حسين بنظرة عميـ.ـقة، ولم يقل شيئًا في البداية. ثم بعد لحظات من الصمت، تحدث بصوت خا.فت:
ـ مش عارف ياسعفان. بس ياخي حاسس إن الدنيا ز.حمت عليا قوي.
ولأنه يعلم أن سعفان بئر أسراره وصديقه المقرب فسرد عليه كل شئ حدث يريد أن يجلي ويريح ما يعتلي صدره ولو قليلاً. واصبح سعفان متفهما ما كان يقصده حسين من كلماته المحـ.ـبطه، واردف وقال:
ـ عندك حق تحتار بس الموضوع واعر قوي ياصاحبي بس عارف إيه الحل؟ إنك لازم تعرف توزن كل حاجه وتفكر صُح. الموضوع دِه بالذات المرادي كبير ياحسين، واني متوكد إن الحج والحاجة وكمان خواتك شايلين همّه.
هز حسين رأسه بتر.دد وقال:
ـ عارف، يا سعفان،عارف بس أبويا قال كلمته، ومش هينفع نرجع فيها.
تنهد سعفان وقال:
ـ بس أختك هي اللي في النص ياصاحبي. لازم تفكر فيها وف مصلحتها أكتر من أي حد تاني.
غمغم حسين بكلمات شبه مكتو.مة:
ـ أنا فكرت فيها، بس خلاص كلمة الحج اتقالت.
وضع يده على كتفه وقال بحكمه:
ـ اسمعني ياحسين. المثل بيقولك اني واخويا على إبن عمي. واني وابن عمي على الغريب، يعني الأخ في الدرجه الاولى يصاحبي، واختك قبلهم كلهم، فكر زين يابن الخال في مصلحة أختك وهتلاقي كلامي صُح.
كانت القهوة تغص بالأحاديث، ولكن في تلك الزاوية كان الصمت يلف الصديقين، كل واحد منهما غارق في همومه.
ترك سعفان حسين وذهب، وجلس حسين وحده في المقهى،. تحت ضوء القمر، كان الرجال يجلسون على الطاولات الخشبية القديمة، يتبادلون الحديث والضحكات، بينما يرافقهم صوت الآلات الذي يعلو ويتناغم مع صوت القمر الذي يراقبهم. الأجواء كانت تنبض بالحياة، مع رائحة القهوة والشيشة تملأ المكان، مما يزيد من متعة اللحظة.
بدأ أحد الرجال بالأغاني، مما جعل الجميع يتوقف عن الحديث ويستمعون بإصغاء. كان صوته ينقل مشاعر عميقة، وكل كلمة كانت تترك أثراً في نفوس الحاضرين، فتتسرب إليهم عبر الموسيقى.
.حيث بدأ الرجال الآخرون يعزفون على الربابة. والمزمار ، وصدح صوت الربابة مع نغماتها الحز.ينة، تُجسد مشاعر الفراق والحنين. من حولهم، كانت وجوه الرجال تتأمل في ذكرياتهم وآمالهم.
بدأ أحد الرجال يُلقي موالاً بصوت عذب وهو ينظر إلى السماء وكأنما يستمد إلهامه من النجوم. كان ينسج كلماته بعناية، ملقيةً أصداءً مؤثرة في قلوب الحاضرين واستمعوا له وهو يقول:
ـ آخر كلام أمي قالتلي: ياولدي أختك أمانة في رقبتك، شيلها بين ضلوعك وصونها في عنيك.
ـ مسكت إيدي وقالتلي: لو الأيام ضاقت عليها. انت تبقى ليها الستر والأمان.
ـ واكسر اللقمة نصين وياها، وازرع في قلبها الحنان.
واستمر في الغناء، وكأن صوته ينقل مشاعر الأهل والحنان:
ـ اقسم معاها اللقمة والهدمه، واسقيها حب وحنان، ـ وإن لقيتها حزينة يوم، افتح حضنك وخليها تغمض تنام.
ـ خبّيها من شر السنين. وصونها من قسوة الأيام،
إنت يا واد اللي ليها سند. وانت اللي تكمل مكان أبوك.
كان الرجال حوله يتفاعلون مع كلماته، وجوههم تنعكس عليها ملامح الفخر والحنين.
ـ خليك ليها بيت وأمان. وارمي همها برة البيبان، وما تخلي الليل يطولها، انت ليها عزوة اللي غاب.
ـ مهما الزمن يديها هم.. انت عوضها عن اللي راح،
البت يا ولدي مهما كانت. بتبقى روحها مكـ.ـسورة الجناح.
تتبعوا إيقاعه، وكأنهم يعيشون في عالم من الذكريات، يحمل كل منهم قصته الخاصة.
ـ أسمع نصيحتي ياولدي: الأخ لو كان حنين. أخته تعيش ست البنات.
تفرح بيه في الشد.ايد، وهو ليها عوض السنين اللي فاتت.
ـ ما تسيبهاش تضعف واصل. ولا تخلي د.معة ف عينها تبان.
ـ اللي عنده أخ قلبه مليان حنان. تعيش أخته ست البنات.
قلتلها: يا أمي، ما تخافيش..وصيتك دي جوه عنيا.
دي الحبيبة يما والغالية، من القلب للقلب دايمًا حنية.
ـ وفجأة راحت من غير كلام. لكن صوتها لسه بيرن جوايا.
وصيتني أمي ع البنات. وأنا على عهدها باقي وحافظ الوصية.
وانتشر صدى الأغنية في أرجاء القهوة، تتداخل الأصوات مع انسجام الرجال وضجيج الحكايات، مُجسدين الترابط والألفة بينهم.
كان حسين يجلس في زاوية القهوة، يتأمل ما يدور حوله، وكلمات الأغنية تتسلل إلى قلبه مثل ضوء خافت ينير داخله العتمه. شعر بو.جع داخلي، وكأن الكلمات تنبهه إلى مسؤولياته. كانت مشاعر متنا.قضة تتلاعب به؛ فبينما كان يستمع إلى صوت الربابة الرقيق، كان عقله مشغولاً بأحاديث والدته وخوفها على ابنتها الصغيرة.