رواية لا تترك يدي الفصل الحادي عشر
كان منزل إبراهيم مثل خلية النحل. فاليوم زفاف خالد ومريم. توافد أهل البلد ليساعدوا في الوليمة للفرح. عادت سعاد وهشام من منزل أخيها وأشرفت بنفسها على أعمال الطبخ والتحضيرات للزفاف. حضرت بعض فتايات القرية وقاموا بتزيين العروس الجديدة. حتى هشام ساعد خالد التجهيز للفرح ولف العمة. فخالد لم يرتدي عمة من قبل ولم يتعلم لفها.
في الليل توافد أعيان المركز المأمور وطبيب الصحة وعمد القرى المجاورة ليشاركوا إبراهيم في فرحته بإبن أخيه. حضر شيخ الجامع وكتب الكتاب وأتفق على تأجيل تسجيل الزفاف لعامين حتى يبلغ خالد ومريم السن القانونية.
كانت مريم كالأميرة في فستان الزفاف. ظهرت أكبر من سنها وكأمرأة صغيرة بفضل الزينة. جلست وسط فتايات وسيدات القرية في المكان المخصص للحريم على سطح المنزل. تشاهد رقص الفتايات وتصفق لهم بفرحة غامرة أنستها كل قلقها السابق.
فهي الفتاة التي عاشت في الشوارع ليس لها مكان ولا عائلة الآن تتزوج وأصبح لها منزل وزوج تنتمي إليه. هناك إنسان في هذه الدنيا هي مسئولة منه. شخص يعوضها عما رأت من قسوة الحياة في سنوات عمرها القليلة.
فرحت جدا بزفافها وشاركت الفتايات الرقص والغناء وحاولت تتمايل مثلهن وتتعلم منهن حركات الرقص. تعالت الضحكات والزغاريط وأمتلأ قلبها بالسعادة. لاحظت بعض الفتايات تجري لسور سطح المنزل ليشاهدن شيئا بالاسفل. فأقتربت هي أيضا معهم تشاهد إلى ما ينظرن. وجدت ساحة كبيرة أمام المنزل أفترشت بصوان كبير ويجلس فيه رجال أهل البلد. ورأت هشام وخالد يرقصان بالعصاة على المسرح. كانت أول مرة لها ترى خالد باللبس الصعيدي. لأول مرة لفت إنتباهها وسامته وهيبته بالجلباب الصعيدي البني. جسمه الممشوق الطويل وإبتسامته الساحرة، شعره الأسود الناعم كسبائك الليل المتحرر تحت عمته البيضاء التي تزين رأسه وتحاوط جبته الخمرية. عيناه السوداوين التي ترقص من السعادة ونظرت لها نظرة غامضة لم تفهمها مريم عندما وقعت عليها. أنفه المستقيم الشامخ الحاد الذي يظهر ملامحه المصرية الصارمة.
تعجبت مريم من نفسها فهي رأت خالد كثيرا ويعيشون في نفس المنزل لثلاثة شهور الآن ولكنها لأول مرة تلاحظ ملامحه وتنتبه لوسامته. تسائلت هل زواجها من خالد غير نظرتها له. وهل نظرته لها تغيرت أيضا مثلها. ولماذا بدأت تشعر بشيء خفي تولد في قلبها له. ما هذه المشاعر وما هذا الإرتباك فهي لم تشعر به من قبل.
أقتربت منها أحدى الفتايات وتعالت ضحكاتها. نظرت لها مريم متعجبة من تصرفها وتسائلت باقي الفتايات. فسألتها مريم.
"في أيه؟ بتضحكي قوي كدة ليه؟"
ضحكت الفتاة وأجابتها
"وشك بقى أحمر قوي. أنت بتتكسفي من خالد ولا أيه."
نظرت مريم للأسفل بخجل.
"لا طبعا أتكسف من أيه. ده بس المكياج."
ردت أمرأة جالسة بجوار مريم.
"مكياج أيه اللي أنت فيه أكتر من أي مكياج."
تعالت الضحكات وخجلت مريم أكثر وأكثر وجرت جلست على كرسيها وابتعدت عن السور.
في الأسفل كانت تُفرَش الموائد للطعام وكاسات العصائر والشربات تلف على المعازيم. خالد كان في قمة فرحته يتنقل بين المعازيم ليحيهم ويرحب بهم مع عمه. دعاه هشام لمبارة تحطيب وبالرغم من أنها كانت أول مرة يشارك فيها إلا إنه وافق وتفوق فيها بفضل جسده الرياضي وحركته الخفيفة وأيضا كان يلاحظ هذه الرياضة في الأفراح السابقة التي حضرها في البلد. صد برشاقته ومهارته كل هجمات ابن عمه وأيضا بدأ يستعرض ببعض الحركات الراقصة بالعصاة. وهو يتلفت بعينيه ويتحرك بخفة على المسرح وقعت عينيه على عروسه تراقبه من فوق سطح منزل عمه. غمز لها بعينيه وابتسم قلبه عندما رآها.
فهي كانت مختلفة تماما عما اعتاد عليه منها. زينة وجهها تظهرها أكبر من سنها بقليل. ظهرت كأنسة عروس متهيئة لعريسها. فهو لم يرى الفتاة الصغيرة الضعيفة التي رآها من قبل. فأول مرة رآها عندما كان يصطحب أمه للمستشفى لم يلتفت لملامحها. كانت طفلة من أطفال الشارع مثل أي طفلة يقابلها في الشارع. ملامحها مخفية تحت طبقات من الأتربة والأوساخ وشعرها ثائر هائج متمرد على ظروف حياتها. علامات الحزن والهم تعتلي وجهها. عينيها مطفية من قسوة الدنيا عليها. لم يرى فيها جمال أو أي شيء مميز فهي كانت وجه مبهم بلا ملامح من مئات الوجوه التي نقابلها في الطريق ولا نلقي لها بالا.
حتى بعدما جائت معه لمنزل عمه ولبست ملابس نظيفة وزال عنها أثار الشارع ظهرت ملامح طفلة بريئة صغيرة قاست هموم تفوق عمرها أضعافا مضاعفة. وجهها الذي ترتسم عليه علامات الحزن والذل والقهر عينيها الزرقاوتان الدامعتان أغلب الوقت. فمها الصغير الصامت الكاتم لأسرارها ولألامها. أنفها الصغير الذي يتوسط وجهها الدائري البريء. أما شعرها فكان مستتر دائما بإسدال الصلاة الذي أهداه لها وحرصت أن ترتديه تقريبا كل الوقت تستر به جسدها الهزيل الضعيف الصغير.
أما الآن من يراها أمامه جالسة في الغرفة معه بعدما غادر الجميع هي أنسة. ظهرت على وجهها معالم الأنوثة المبكرة. حتى جسدها ظهرت منه أشياء لم يلحظها من قبل. نظر لها خالد نظرة مطولة متفحصة متعجبا لحالها ولعينيه التي تراها لأول مرة بصورة مختلفة. لاحظت مريم نظراته وسألته بتعجب.
"في حاجة يا خالد؟"
فك خالد ذراعيه المعقودين أمام صدره وأعتدل في وقفته بعدما كان مستندا على حرف باب غرفة الضيوف. أقترب خطوة داخل الغرفة وقال لها.
"لا مفيش. بس حاسس أنك متغيرة."
وقفت مريم وسألته.
"متغيرة أزاي؟"
نظرت مريم لفستانها ولجسدها وقالت له.
"مفيش حاجة أنا زي ما أنا."
خطى خالد خطوة أخرى داخل الغرفة وأغلق الباب وقال لها.
"مش عارف شكلك غريب."
"يمكن قصدك علشان المكياج. لو مش عاجبك أنا هأدخل أغسله أصلا دلوقت."
"مش حكاية عاجبني. ومش المكياج وبس. أنت حتى جسمك أتغير."
نظرت مريم لخالد ولاحظت عينيه تحملق في صدرها. فعقدت ذراعيها على صدرها مسرعة وقالت له وهي مرتبكة.
"أنا هاروح أغير هدومي. هم اللي خلوني ألبس الحاجات ده. أنا عمري ما لبستها أصلا."
أخذت مريم لبسها وإسدال الصلاة وجرت على الحمام لتبدل ملابسها. ضحك خالد على خجلها وبرائتها وأخرج من حقيبته بنطال جينز وتيشيرت بدل ملابسه. بعد عدة دقائق، عادت مريم مرتدية إسدال الصلاة ودخلت الغرفة.
"أيوة كدة مريم اللي أعرفك. الحاجات التانية ده مش بتاعتك خالص."
خجلت مريم ونظرت للأرض وقالت بصوت منخفض.
"والله أنا ما أعرفش بقى. هم اللي لبسوني. أنا ماليش دعوة."
"خلاص أنسي. تعالي علشان نصلي ركعتين الزواج."
"يعني أيه هو فيه صلاة للزواج؟."
"ده يا ستي ركعتين بعض السلف صلوها وقت الزواج. لتزيد الألفة بين الزوجين."
"حاضر."
أخذت مريم سجادة الصلاة الموضوعة في ركن من الغرفة وفرشتها أمام خالد. صلى ركعتين وهي خلفه. بعدما أنهى صلاته وضع يده على رأسها وقال دعاء الزواج. نظرت له مريم للأعلى وسألته.
"دلوقت نعمل أيه؟"
"ولا حاجة ننام بقى علشان بكرة إن شاء الله هنسافر بدري."
نهضت مريم وسألت خالد وهي تطوي سجادة الصلاة.
"حاضر. إن شاء الله هنمشي أمتى؟"
"بإذن الله أرجع من صلاة الفجر أخدك ونتكل على الله. يا دوب نسافر بكرة الجمعة ونريح السبت وأروح المدرسة يوم الحد."
"بإذن الله."
نظرت مريم لخالد وابتسمت فسألها خالد.
"في أيه؟"
"مفيش."
"لا قولي في ايه؟"
"أنت شكلك حلو قوي في اللبس الصعيدي."
"بجد يعني عجبتك بالجلابية والعمة."
"قوي. أنت كنت قمر."
"خلاص يبقى هالبس على طول صعيدي."
فرحت مريم وسألته.
"بجد!"
ضحك عليها خالد وقال لها.
"لا طبعا. أنا مش بعرف أتحرك بالجلابية خالص. أنا ما صدقت الفرح خلص وقلعتها. قال ألبس صعيدي قال."
عبس وجه مريم منه وضحكه على سذاجتها فقال لها خالد.
"زعلت ليه؟"
"لا ما زعلتش ولا حاجة."
"خلاص يا ستي ولا تزعلي. هأبقى أخد الجلابية ده معي في مصر. مع أني كنت ناوي أسيبها هنا علشان مش طايقها. أبقى ألبسها لك يوم كدة كل فترة ولا تزعلي."
"لا أبدا مفيش أي زعل. أنت خليك على اللي يريحك."
"عادي يا ستي مافيهاش حاجة. خدي الجلابية اهه حطيها بنفسك في الشنطة."
أخذت منه مريم الجلباب وطوته بحرص ووضعته في حقيبة السفر.
"تعالي بقى نامي علشان نلحق نخطف لنا ساعتين قبل السفر."
"حاضر نام أنت على السرير وأنا هأفرش على الأرض وأنام."
"نعم؟ تفرشي على الأرض ليه؟"
"مش عاوزة أضايقك على السرير. أنت متعود تنام لوحدك"
"يا ستي هي ليلة ولا أكتر. لما نسافر يبقى يحلها ألف حلال. دلوقت تعالي نامي هنا على السرير."
"حاضر."
فسح خالد ليترك لها فراغ على السرير ورقد هو وتدثر بالغطاء. صعدت مريم على السرير وأعطت ظهرها لخالد واضجعت. قبل أن ترقد تماما على السرير سمعت صوت زوجها.
"هو أنت هتنامي بالإسدال؟"
اعتدلت مريم في جلستها على السرير والتفتت له وسألته.
"أمال هنام أزاي؟"
"نعم؟ أخلعي الطرحة ده لا تلف عليك وأنت نايمة تخنقك."
"حاضر."
نزلت مريم من على السرير وخلعت الإسدال. كانت ترتدي جلباب تحته. اضجع خالد واستند على كوعه ونظر لها. رأي ضفيرتها الشقراء الواصلة لخصرها. غمز لها وقال.
"كدة أحلى بكتير. تعالي نامي بقى."
نظرت مريم للأسفل وقالت له بصوت منخفض.
"حاضر."
في الفجر، طرق إبراهيم باب غرفة الضيوف بخفة وخرج له خالد.
"جاهر للفجر يا خالد؟"
"أيوة يا عمي."
خرج خالد من غرفته واستدار ليغلق الباب وقال لزوجته.
"أجهزي عقبال لما أصلي علشان لما أرجع أخدك ونمشي على طول."
"حاضر."
أغلق خالد الباب وتوجه لباب المنزل مع عمه للخروج.
"مش كنت قعدت يومين ولا أسبوع معنا تاني يا خالد؟"
"يا عمي ما ينفعش. أنت عارف أني كنت ناوي على السفر من أسبوعين. موضوع الفرح ده بس اللي أخرني. المدرسة هتبدأ من يوم الحد. وانا مش بحب الغياب وأنت عارف."
"ربنا يوفقك يا ابني يا رب. خد بالك يا خالد. مريم مراتك شرعا لكن مش قانونا. جوازكم ما اتسجلش علشان أنتم الأتنين أصغر من 18 سنة. يعني بلاش ناس كتير تعرف أنك متجوز منعا للمشاكل. إن شاء الله لما تتم ال 18 الشيخ محمد هيسجل القسايم."
"ربنا يسترها يا عمي. أنا مش ناوي أصلا أقول لحد هناك أني أتجوزت. ده تعمل لي مشكلة في المدرسة وممكن يفصلوني. الإشهار شرط الجواز عملناه هنا وعملنا فرح كبير الكل حضره لكن في مصر مش لازم حد يعرف أني متجوز دلوقت منعا للمشاكل زي ما بتقول."
"ربنا ييسر لكم الحال يا ابني ويبارك لكم."
"يا رب يا عمي."
بعد الصلاة عاد خالد وإبراهيم للمنزل وجد زوجته مستعدة للسفر. سلم خالد و مريم على أهل المنزل. وخرج معهم إبراهيم ليوصلهم لمحطة القطار.
"خليك أنت يا عمي كفاية صالح معنا هيوصلنا. بلاش تتعب نفسك أنت."
"أنا مش هأطمن إلا لما أشوفك بنفسي ركبت القطر. لو كان ينفع أسيب الأرض دلوقت كنت جيت معكم لغاية مصر. بالكتير أسبوع وهأجي ازوركم وأجيب لكم معي زيارة معتبرة."
"مش كفاية اللي بعته معنا يا سيدي الحاج. ده أحنا هنقعد ناكل فيه شهر بحاله."
"بألف هنا وشفا على قلبك وقلب جوزك يا حبيبتي. وبعدين خلاص بقى تقولي لي يا عمي زي خالد بلاش سيدي الحاج ده."
"حاضر يا عمي."
"أشوف وشك بخير يا مرات عمي."
"تروح وترجع بالسلامة يا خالد."
"مع السلامة يا ستي الحاجة."
"سلام."
دخل صالح بعدما رص الحقائب في حقيبة السيارة وقال لهم.
"اشهلوا يا جماعة الطريق لسة طويل عقبال لما نوصل للمحطة. مش عاوزين نفوت القطر."
"خلاص أهه يا صالح. يا خالد هات مراتك وتعالى بسرعة."
ركبوا جميعا السيارة. صالح يقود السيارة وإبراهيم بجواره ومريم وزوجها بالخلف. أستمرت الرحلة في صمت حتى وصلوا لمحطة قطار أسيوط واطمئن إبراهيم عليهم وهم في القطار وودعهم وراقب القطار وهو يبتعد بهم.
بدأت رحلة خالد ومريم لحياة مشتركة مجهولة لا يعلم مداها ولا منزلها إلا الله. يتلوى بهم القطار في طرقات الحياة وإلتفاتها و وترجرجهم العقبات والصعوبات.