رواية لا تترك يدي الفصل السادس عشر
تسمر خالد مكانه عندما سمع صوتها يناديه. التفت برأسه للوراء ليتأكد أنها هي من تناديه وليس وهم أو خيال في عقله. وجدها أمامه تقف على عتبة باب الشقة المقابله لشقته. لف بجسده كله وأقترب منها خطوة وسألها.
"أنت كنت فين؟"
أجابته مريم بنظرة طفولية بريئة في عينيها.
"أنا هنا."
سألها خالد بحدة وصوت مرتفع بعض شيء.
"هنا فين؟ أنا من الصبح بدور عليك."
أنتفضت مريم من نبرة صوته وعلامات الغضب على وجهه وعادت خطوتين للوراء. فتح باب الشقة الذي خلفها وظهرت سيدة في الخمسينات من عمرها تظهر الطيبة على ملامح وجهها.
"خالد في أيه يا أبني؟ بتزعق ليه؟"
تمالك خالد أعصابه وكظم غيظه وأجابها.
"لا مفيش يا طنط. أنا بس كنت قلقان على مريم."
"هي من الظهر قاعدة عندي. وهي مستنياك من بدري علشان مش معها مفتاح."
"حصل خير يا طنط. أسف أزعجناك. تعالي يا مريم أدخلي أنا تعبان من الصبح."
أجابته مريم بصوت خافت.
"حاضر." ثم التفتت للسيدة وقالت.
"تصبحي على خير يا طنط. وأسفة أني ازعجتك النهاردة."
"لا أبدا يا حبيبتي. وما تنسيش اللي قولته لك عليه. أي وقت بابي مفتوح لك."
نظر خالد لمريم بنظرات إستفهامية ووجد عينيها تهرب من عينيه وتنظر للأسفل في خوف وخجل. فتح خالد باب شقته بالمفتاح ودخل وترك الباب مفتوح لدخول مريم. تبعته مريم ودخلت الشقة وأغلقت الباب. وجدت مريم خالد جالس على أقرب كرسي ويظهر على وجهه التعب والارهاق ونظرات الغضب تشتعل في عينيه. أقتربت منه ووقفت أمامه وقالت.
"أنا أسفة خالص. أنا عارفة مش مفروض حد يحس بي أني عايشة معك. لكن والله غصب عني. أنا أسفة خالص. خرجت أطلع كيس الزبالة والباب أتقفل علي. وأنا مش معي مفتاح. فضلت قاعدة على السلم مستنية لما أنت ترجع من المدرسة. لكن طنط فريدة شافتني وأصرت أني أدخل أستناك جوا. أرجوك سامحني. علشان خاطري ما تزعلش مني."
"أنت عارفة أن رجلي ورمت من اللف عليك. من ساعة لما رجعت من المدرسة العصر وأنا بلف في الشوارع بدور عليك. أنا كنت هأتجنن من القلق عليك. وأنت هنا قاعدة ومرتاحة في الشقة اللي جنبي."
شعرت مريم بالغضب في لهجته فجلست على ركبها أمامه محاولة أن تراضيه.
"والله ما قصدي أني أقلقك ولا أتعبك. أنا دخلت عندها وفضلت أستناك لما ترجع من المدرسة. قعدت تتكلم معي ودخلت المطبخ معها نجهز الغدا. بعد كدة قولت أكيد أنت رجعت. جيت قعدت أخبط على الباب ما حدش فتح. قولت يمكن أتأخرت في المدرسة. دخلت تاني عندها. قعدنا نتكلم مع بعض لغاية لما سمعت صوت الأسانسير دلوقت وقولت أنت أكيد رجعت. أرجوك علشان خاطري ما تزعلش نفسك. بالله عليك ما تزعلش مني. أنا أسفة خالص."
زفر خالد بضيق ثم أستغفر ربه. ملس بيده على وجه مريم ومسح دموعها التي أنهمرت.
"خلاص يا ستي مش زعلان. أنا بس كنت قلقان عليك قوي. ما تتخيليش الافكار والظنون اللي مسكت دماغي."
أنتشقت مريم ومسحت دموعها وسألته.
"يعني مش زعلان مني؟"
أبتسم لها خالد وأجابها.
"لا يا ستي مش زعلان. ممكن بقى تجهزي لي أكل يحسن أنا واقع من طولي عقبال لما أخد دش."
"حاضر من عيني. عاملة لك شوية بامية باللحمة أنما أيه ما تقولش لعدوك عليهم."
"بامية باللحمة! طيب يا أختي مش هأقول لعدوي عليهم."
ابتسم خالد لبرائتها ونهض من كرسيه وتوجه للغرفته ليبدل ملابسه ويستحم. بعد نصف ساعة، نادته مريم.
"خالد الأكل جهز."
خرج خالد من الغرفة وجلس على مائدة الطعام.
"هاتي يا ستي البامية لما ندوق ونشوف."
قدمت مريم له الطعام ووقفت مترقبة لتسمع رأيه في أكلها. أخذ خالد قطعة خبز وغمسها في الطعام ووضعها في فمه. راقبته مريم بصمت وبعدما بلع طعامه سألته.
"أيه رأيك؟"
"حلو."
"يبقى مش عجباك."
"مش كدة. هي طعمها المفترض أنه حلو. لكن المشكلة أني مش بحب البامية."
جلست مريم على الكرسي المجاور له وقالت.
"طيب قول لي أعمل لك أكل أيه وأعمله لك بسرعة."
"ولا يهمك. أنا النهاردة فعلا جعاااااااااان جدا ومش قادر. ولو حطيت قصادي زلط هأكله. وفعلا أنت عاملة البامية حلوة."
"خلاص أنا مش هأعمل بامية تاني خالص."
"لا عادي يا بنتي أعمليها مدام أنت بتحبيها. لكن أبقي أعملي حاجة تانية لي أكلها."
"لا أنا مش هأعملها تاني."
"براحتك أنا مش فاضي أرغي. أنا عاوز أكل. سيبني أكل براحتي."
أبتسمت مريم لرده وراقبته وهو منهمك في الطعام. بعد دقيقة نظر لها خالد فسألته.
"أيه عاوز حاجة؟"
"أنت مش بتأكلي ليه؟"
"أصل بصراحة أتغديت عن طنط فريدة."
"آه طيب."
شعرت مريم بضيقه فقالت.
"والله هي اللي أصرت أني أكل معها. أنا ما كنتش عاوزة أكل عندها. أنا أسفة خالص. ما تزعلش مني."
"مش حكاية زعلان. لكن أنا مش بحب أكل لوحدي. ده كل الحكاية. أنت طبعا كنت عندها طول النهار ومش معقول هتقعدي جعانة."
"خلاص هأكل معك حاجة خفيفة. أهه أعتبرها عشاء."
"قولي لي بقى قولت لها أيه على وجودك هنا؟"
"قولت لها أني ضيفة. زي ما قولنا لعم علي البواب."
"طيب كدة كويس. ربنا ييسر إن شاء الله وأول لما نسجل جوازنا رسمي هأقول للناس كلها أنك مراتي علشان نخلص من الموضوع ده."
"إن شاء الله."
"وأيه بقى اللي قالت لك عليه؟"
"نعم؟"
"قبل ما تسيبيها وتدخلي هنا قالت لك ما تنسيش اللي قولت لك عليه. أيه هو ده بقى؟"
"أبدا. هي لما عرفت أني ضيفة عندك وأننا قاعدين لوحدنا وكدة قلقت. فقعدت تسألني شوية أسئلة."
التفت إليها خالد ورفع حاجبه وسألها.
"أسئلة أيه بقى إن شاء الله؟"
خجلت مريم ونظرت لطعامها وأحمرت وجنتيها.
"أبدا سألتني بنام فين وأنت بتنام فين. وطلبت مني أقفل على نفسي بالمفتاح وأنا نايمة. وقالت لي لو ضايقتني في أي وقت أجري عليها حتى لو في الفجر."
ضحك خالد وأستأنف طعامه.
"الست ده طيبة قوي. خايفة عليك مني."
"فعلا هي شكلها طيبة خالص. رفضت خالص أني أساعدها في المطبخ إلا لما صممت."
"هي فعلا ست كويسة جدا. كانت صاحبة أمي الله يرحمها. وأمي كانت بتحبها جدا."
"بس هي قاعدة لوحدها خالص كدة؟"
"أه، زوجها متوفي من سبع سنين. وبنتها مسافرة مع جوزها إنجلترا. وهي عايشة لوحدها من يوم ما زوجها توفى."
"لا حول ولا قوة إلا بالله. ينفع أبقى أروح أقعد معها شوية وأنت في المدرسة. أصلي حسيتها فرحت قوي لما قعدت معها النهاردة ورغيت معها شوية. بدل ما ببقى قاعدة لوحدي طول النهار عقبال لما أنت ترجع."
"ماشي يا ستي أبقي أقعدي معها. لكن ما تنسيش اللي أتفقنا عليه ماشي؟"
"أكيد."
"الحمد لله. أنا كدة أتمليت."
"بألف هنا وشفا. أعمل لك حاجة تشربها؟"
نهضت مريم وبدأت في لم الأطباق وما تبقى من الطعام.
"لا أنا مش قادر أخد نفسي. كنت جعان قوي وما صدقت لما لاقيت أكل قصادي."
أنتهت مريم من تنظيف المكان بعد تناولهم الطعام. ووجدت خالد يجلس في الصالة أمام التلفاز.
"شكلك تعبان ما تدخل تريح شوية."
"أنا فعلا هموت وأنام لكن المشكلة في الأكل اللي أكلته دلوقت. مش هأقدر أنام خالص دلوقت. تعالى جنبي هنا أتفرجي على الفيلم ده. أنابيل فيلم رعب جامد."
جلست مريم بجواره ونظرت للشاشة ولم تفهم شيئا مما يحدث. بعد عدة دقائق لاحظ خالد حيرتها.
"أيه يا بنتي مالك. مش مركزة في الفيلم ليه. الفيلم ده جميل قوي."
"ما أنا مش فاهمة هم بيقولوا أيه."
"نعم. أه أفتكرت أنت مش بتعرفي تقرأي. طيب أنا هأفهمك."
شرح خالد لمريم أحداث الفيلم وفجاة قالت له.
"بس بس. كفاية قوي كدة. بلاش شغل العفاريت ده الله يكرمك. أنا بنام لوحدي وبخاف."
ضحك خالد على رد فعلها وسألها.
"أيه ده؟ أنت بتخافي من العفاريت؟"
"ومين ما بيخافش من العفاريت؟"
"يا بنتي يا حبيبتي، العفريت ده أضعف ما يكون. أنت لو ذكرت أسم الله أو قريت آية الكرسي هو هيختفي. اللي يتخاف منه فعلا هو الإنسان مش الشيطان أو العفريت. لأن شيطان الإنس مهما ذكرتيه بالله مش بيفرق معه بحاجة."
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بالله عليك بلاش السيرة ده. أنا هأقوم أحفظ اللي علي. ما حفظتش حاجة النهاردة."
"خلاص يا خوافة. قومي أحفظي اللي عليك أحسن 100 مرة من الفيلم. خلي بالك بكرة إن شاء الله هأسمع لك اللي حفظتيه."
"إن شاء الله."
تركته مريم ودخلت غرفتها لتحفظ وردها من القرآن. بعد ساعة، خرجت من غرفتها وذهبت لخالد وجدته نائم وهو جالس في مكانه. أخذت من يده جهاز التحكم وأغلقت التلفاز. وهزت كتفه برقة.
"خالد، خالد، قوم نام جوا."
فتح خالد عينيه ببطئ شديد ونظر لها متسائلاً.
"قوم نام جوا يا خالد. رقبتك وظهرك هيوجعوك كدة."
تمتم خالد بكلمات غير مفهومة وحاول النهوض ولكنه فشل لمدى إرهاقه وإستغراقه في النوم. ساعدته مريم على النهوض وتوجهت به لغرفته. رفعت الغطاء من على سريره وسندته حتى ينام على السرير ودثرته بالغطاء جيدا. أغلقت مريم الأنوار وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب وتركته ودخلت غرفتها لتنام.
بعدما أنتهت مريم من تنظيف المكان توجهت لغرفتها وتمددت على السرير. قرأت مريم بعض الآيات القرآنية وأغمضت عينيها تستحث النوم أن يزورها، لكنه أبى أن يلبي نداءها. ظلت تتقلب على السرير لساعات باحثة عن وضع يغري النوم ليغشاها ولو بسنة ولكن هيهات أن يسكن عقلها ويسلمها لعدوه. جلست مريم على السرير معلنة إستسلامها في هذه المعركة الخاسرة. فعقلها لم يستطيع أن يستوعب أبدا ما حدث في اليوم السابق.
فهي بنت الشوارع. لا تنتمي لأحد وليس لديها عائلة. كيف بين عشية وضحاها أصبح لها بيت وإنسان يقلق عليها ويبحث عنها في الشوارع. بعدما فارقها شقيقها عمر وغادر الحياة بأكملها لم تجد من يهتم بوجودها من عدمه. كيف الآن أمست ملك لإنسان ومسئولة منه. كيف يقلق عليها ويهتم بحالها ويبحث عنها هكذا. كيف ترك مسكنه واستقصى عنها في كل مكان.
تعجبت مريم لحال هذه الدنيا. من عدة أشهر فقط كانت تجوب الشوارع لقوت يومها. كانت تفترش الارض والسماء غطاؤها. لم يشعر بها أحد ولم يهتم بوجودها أحد. عانت الكثير والكثير في سنوات عمرها القليلة وتعلمت من الحياة أصعب درس. إنه لن يبالي أحد لمعاناتها أو يكترث لحالها. ثم في ليلة ليلاء بعث الله لها خالد لينقذها وينتشلها من ذلك البئر المظلم التي مكثت فيه منذ ما وعت لهذه الحياة.
بعث الله لها خالد فأنقذها من الموت على يد إسماعيل وعصابته. وأنتزعها من مصيرها المحتوم بالضياع في شوارع هذه المدينة المزدحمة. سحبها قبل أن يسحقها الزحام وتغيب بين راحايا البشر.
كان خالد درعها يقيها من أذى البشر، سترها في منزله وآواها في مسكنه، وأمنها من خطوب الزمن. فقد منحها أكثر مما كانت تحلم أن تتمناه في يوم من الأيام. وزاد عليه من إهتمامه بها وقلقه عليها الذي شعرت بدفئه ذلك اليوم.
لأول مرة شعرت مريم بالأمان والإستقرار. ولاحت لها صورة لمستقبل كان بالأمس القريب مستحيل.صورة فيها عائلة ومنزل وأسرة تحفها بالحب والإهتمام.
************