رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم مريم نصار


 رواية بقايا عطر عتيق الفصل الثاني والعشرون 

كانت أشعة الشمس الحارقة قد بدأت تخفت تدريجيًا، معلنة وقت القيلولة في البيت الكبير. جلس عبد العزيز في غرفته، يخلع جلبابه الملطخ بعرق العمل والغبار، محاولاً التخلص من إرهاق الساعات الطويلة في الحقل.

فجأة، اقتحمت صباح الغرفة وهي تلهث، كأنها تحمل حملاً ثقيلاً من الغضب والقلق. قالت بانفعال:
ـ "شفت يا عبد العزيز، شفت ياخويا! سميرة وصالح عاملينها ربطيّة علينا، بيقعدوا في ركن الدار يتودودوا لحالهم. والله العظيم، انى متوكده إنهم بيتكلموا علينا! وتصدق بالله؟كل ماشوفهم كده، قلبي يو.لع نا.ر. ببقى عاوزة أروح أقوله: إخص عليك يا صالح! بقى عايز تكسر بخاطر بت عمك وتخلي سيرتها على كل لسان! بس أفتكر كلامك وأسكت. آه يا نا.ري! قلبي جا.يد نار! أخ لو تسيبني عليهم بس؟ كنت عرفتهم مقامهم.

رفع عبد العزيز الجلباب، ينفضه بقوة كمن يحاول طرد الأفكار الثقيلة عن رأسه، وقال بحزم:

ـ اوعي يا صباح تعملي حاجه من الهبل اللي في راسك ده! ما تجيبيش سيرتهم بأي كلمة. لحد دلوقتي، ما حدش قالنا حاجة، ولا حد فتح الموضوع ويانا رسمي. يعني، لسه الأمور ماشية في السليم. وبعدين، احنا هنروح بعيد ليه؟ أبويا الحج حسين تلاقيه ما وافقش على كلام صالح من أصله. اللي اتفقنا عليه هيمشي. فاهمه؟ إياكِ ثم إياكِ تتكلمي مع أي حد، مهما كان. واستهدي بالله!

ثم جلس على طرف السرير بتعب ظاهر، يمرر يده على وجهه المرهق، وقال بنبرة يائسة:
ـ اني مبقاش فيا حيل،كفاية الفزعة اللي خدتها الصُبحية في الأرض. أنا جتتي من ساعتها مش خالصة.

نظرت إليه صباح بدهشة وجلست بجواره قائلة:
ـ فزعة إيه يا عبد العزيز؟ كفى الله الشر؟إيه اللي حصل وانت في الأرض؟

رد عليها وهو يحاول كتم انفعالاته:
ـ  أبويا حسين نده عليا واني بعبي الحمولة. قلت بس.! جه الوقت اللي هيقولي فيه إن صالح مش رايد أمينة، وساعتها كنت هدس راسي في الأرض من العا.ر. بس الحمد لله، طلع عايزني في حاجة تانية خالص.

تأملت صباح كلماته بتمعن، وكأنها تربط الأحداث ببعضها، ثم سألت بتوجس:
ـ معقول اخوك الحج حسين مش هيسمع لابنه؟ يعني تفتكر هيتمم الجوازة على أمينة بنتي؟

تنهد عبد العزيز وقال:
ـ والله اللي شايفه لحد دلوقتي إن الأمن مستتب، وما حدش جابلي سيرة اي حاجة من اللي أنتي قولتي عليه."

ازدادت دهشتها وقالت بحيره:
ـ طيب معقول سميرة هتسكت؟ دي مهما كان، المخفية اللي رايدها صالح تبقى بنت أخوها! تعرف وتعدي الموضوع بالسهل كده؟ لاه بستاهيألي مش هتسكت. وهتزن على ولدها أنه يبوظ الجوازه عشان بت أخوها.

انفجر عبد العزيز فيها بغضب:
ـ جرى إيه يا وليّة! إنتِي معانا ولا معاهم؟ ولا مع مين بالضبط؟ خلّي بالك من كلامك وغيري السيرة اللي بتعكنن الواحد دي! وطيّرت النوم من عيني واني طالع عيني وراجع مهدود من الأرض! قومي، قومي،اعمليلي كباية شاي حبر، دماغي هتفرقع!

تنفست صباح بحدة وتنفست بعمق كمن يُطفئ نيران غضبه، ثم غادرت الغرفة لتلبي طلبه، وهي تتمتم بكلمات غاضبة غير مفهومة.

خرج حسين وصالح من المسجد بعد صلاة العصر، يسيران جنبًا إلى جنب وسط طريق القرية الترابي. الصمت كان يلفهما، وكل منهما غارق في أفكاره، إلا أن خطواتهما كانت متزامنة كأنها تعكس ترابطًا خفيًا رغم التوتر الذي يخيّم عليهما.

صالح، الذي بدا عليه القلق والتردد، حاول كسر الصمت أخيرًا. توقف لوهلة وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يقول بصوت متردد:
ـ "بابا... أنا عايز أتكلم مع حضرتك.بخصوص..."

لم يكمل جملته، فقد قطع حسين كلامه بنظرة حادة، كأنها تقول الكثير من دون أن ينطق بشيء. تلك النظرة كانت تحمل مزيجًا من الغضب، الإحباط، وربما الندم. لم يقل حسين كلمة، لكنه استدار ومشى بخطوات ثابتة بعيدًا عن ابنه، تاركًا صالح واقفًا في مكانه.

ظل صالح يحدّق في ظهر والده وهو يبتعد، يشعر بخليط من الخجل والأسف. كان يعلم أنه أخطأ عندما واجه والده بتلك الطريقة الحادة في المرة الماضية، عندما رفض الزواج من أمينة بشكل قاطع دون أن يترك مساحة للنقاش. لكنه في داخله كان يشعر بأنه لم يكن أمامه خيار آخر، فزواجه من أمينة لم يكن عادلاً في نظره، ولا في حقها ولا حق شقيقة.

في المقابل، كان حسين غارقًا في معركة داخلية. كان يعلم أنه ارتكب أخطاءً كبيرة بحق ابنيه عبد الرحيم وصالح. أخطاء بدأت منذ زمن، عندما اعتقد أن قراراته التي يمليها لمصلحة الجميع كانت دومًا الصواب. لكنه الآن يرى بوضوح أن نظرته كانت قاصرة، وأنه فشل في رؤية الأمور بعمق.
همس حسين لنفسه وهو يسير وحده:
ـ آه يا حسين، اللي كنت فاكر إنك بتعملة لصالح العيلة صح زمان... طلع دلوقتي أكبر غلط. شوفت حب أمينة لصالح، بس عشق ولدك عبد الرحيم ليها غفلت عنه، أو يمكن ما كنتش عاوز تشوفه. والمصيبة إنك مش هينفع تجبر إبنك صالح يتجوزها، وقتها هكون بحط النا.ر جمب ألجا.ز والاخوات يعادوا بعض في الأخير. ده غير أخويا عبد العزيز اللي قلبه هيبقى شايل مني، طول عمرهم بيقولولي يابا. وعشمهم فيا كبير قوي قوي. إزاي هايهون عليا اقهر أخويا. ومش عارف كيف أصدق مرتي سميرة، قالتلي صالح هيحلها بطريقتة، كيف وازاي معرفش. آه يا الله حلها من عندك يارب. 

كان حسين يشعر بثقل الذنب يجثم على صدره. كان يحاول إيجاد حل لا يكسر أحدًا، لكنه يعلم أن كل الأطراف مجروحة بالفعل. في داخله، لم يكن يريد أن يثور على صالح أو يلومه، لأنه كان يعلم أن المذنب الوحيد في هذه القصة هو.

ظل صالح واقف في مكانه لبعض الوقت، ينظر إلى والده الذي يبتعد، وعيناه تلمعان بمزيج من الأسى والتصميم. همس لنفسه:
ـ آسف يا بابا. أنا مش هقدر أرجع في قراري، ومستحيل أخلي عبد الرحيم يتقهر بسببي، ده أخويا الصغير، وحضرتك علمتني أشيل مسؤولية الصغير قبل الكبير. ومش عايز أظلم أمينة كمان. الجوازه دي لو تمت، في تلات أطراف هيدفعوا التمن طول عمرهم. وأنا لازم ألاقي حل النهارده قبل بكره.

وفي الأفق، كان كل منهما يمشي في اتجاه مختلف، لكن فكرة البحث عن حل كانت تلوح في ذهن كل منهما، كأنها أمل ضعيف في إنهاء هذه الأزمة التي باتت تخنق الجميع.

بينما أمينة تقف عند القناية، تمسك الجرّة بيدها بينما المياه تندفع برفق، تملأ الجرّة، ولكن عقلها كان بعيدًا تمامًا عن المشهد أمامها. عيناها انسحبتا نحو عبد الرحيم، الذي كان يقف تحت ظل الشجرة، يلقن فيها بحدة، وكأنما كان ينتقم من الشجر ذاته.

كانت حركاته عنيفة وغير معتادة، يضرب الأغصان اليابسة بقوة ويزيح الأوراق المتساقطة وكأنها تحمل ثقلاً يزعجه. نظراته كانت مركزة على عمله، لكنه بدا وكأنه يريد الهروب من شيء، شيء لا يمكنه مواجهته.

أمينة، وهي تتابعه من بعيد، لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في كلماته القليلة التي قالها في لحظة سابقة، تلك اللحظة التي أوحى فيها بشيء لم تفهمه حتى الآن. لم تكن قادرة على نسيانها، وصدى تلك الكلمات لا يزال يتردد في قلبها، يثير ألف سؤال وسؤال:
ـ معقول. معقول أكون شاغله بال عبد الرحيم؟ لا لا. إيه العبط اللي بتقوليه ده يا أمينة. هو طريقته وتجاهلة ليكي هيخليكي تخبصي في الكلام؟ وبعدين انتي ناسية إنك مقري فاتحتك على صالح ولا اي؟ 

ثم نظرت إليه بإمعان، تحاول أن تجد إجابة في تصرفاته، في حركاته. لكنها لم تجد إلا الجفاء، لم يعد ينظر إليها حتى نظرة عابرة كما كان يفعل في الماضي. ولم يعد يتحدث كما كان، حتى مع أخيه صالح. كل شيء فيه تغير، وكأنما حمل أثقل الجبال على عاتقه.

همست لنفسها وهي تعصر الجرّة بين يديها:
ـ طيب ليه بيعاملني كده؟ هو اني كنت عملت إيه؟ ده مكانش بيبطل كلام وياي لحد ما راسي توجعني منه، ليه دلوقتي مبقاش حتى يرمي السلام؟

عبد الرحيم، في الناحية الأخرى، كان غارقًا في صمته وألمه. كان يعرف أن أمينة تراقبه، لكنه لم يكن قادرًا على رفع عينيه لمواجهتها. كان يشعر أن كل ما يحدث حوله أقوى من قدرته على تغييره.

كان يعلم أن زواجها من صالح لم يكن اختيارها، ولم يكن اختياره أيضًا. كان قرارًا من كبار العائلة، قرارًا لم يكن له صوت فيه. لكنه رغم ذلك، كان يشعر بجرح عميق، جرح منعه من الحديث، من اللوم أو العتاب، حتى مع صالح.

حمل غصنًا يابسًا وألقاه بقوة على الأرض، كما لو كان يخرج غضبه المكتوم، ثم جلس تحت ظل الشجرة، يمسح جبينه من العرق، لكنه لم يستطع أن يمسح الحزن الذي أثقل صدره.

أما أمينة، فبقيت هناك للحظات، ممسكة بجرتها الممتلئة، لكن قلبها ظل فارغًا، يبحث عن إجابات لم تجدها في صمت عبد الرحيم، ولا في صخب أفكارها

في الحظيرة، كان صالح واقفًا كأنه منتظر شخصًا ما، وهو يربت على الحصان الخاص بعبد الرحيم أخيه.
جاءت مَن ينتظرها؛ أمينة، واضعة الوشاح على طرف وجهها استحياءً. قالت بتوتر:
ــ سي صالح، إنت بعت ورايا وقلت إنك عاوزني؟ ولا عيال الدار بيضحكوا عليا؟

ابتسم صالح واستدار لها، قائلاً بهدوء:
ــ "لا يا أمينة، أنا فعلاً بعتلك علشان عايزك في حاجة مهمة.

ارتفعت نبضات قلبها من التوتر، لأنها تقف أمام الشخص الذي تحبه. ردّت برجفة:
ــ "خير يا سي صالح، إيه هي الحاجة المهمة اللي إنت عاوزني فيها؟

صالح أخذ نفسًا عميقًا وحاول ترتيب كلماته. قرر أن الحل الوحيد في يد أمينة، لأنها المفتاح لحل المشاكل التي ستقع قريبًا. زفر ببطء وقال بحذر:
ــ "والله يا أمينة، أنا مش عارف أبدأ منين، بس الموضوع اللي عايز أتكلم معاكي فيه حساس جدًا..وسري جدًا. يعني مش عايز حد يعرفه.

ردّت بقلق:
ــ "إنت قلقتني يا سي صالح، بس قول خير... في إيه؟ وسرك في بير، اني عمري ما هروح أقول لحد أبداً.

حرك رأسه مؤكدًا على كلامها وقال:
ــ "أنا عارف إنك مش هتقولي لحد يا أمينة، عشان واثق في بنت عمي كويس. وبصراحة، أنا طلبتك تيجي هنا لأن البيت زحمة، والجنينة كمان ممكن حد يسمعنا. فقلت هنا أنسب مكان أتكلم معاكي براحتي،

حركت رأسها منتظرة أن يبدأ الحديث، لكنه تردد. وبعد لحظة، نوى العزم وقال:
ــ "أمينة، اللي هقوله ده مش عايزك تفهميني غلط فيه، ولا تسيئي الظن بيا. لكن أنا...

سكت للحظات، محاولًا أن يجمع شجاعته، لكن أمينة قاطعته بقلق:
ــ "ما تقول يا سي صالح... قلبي أتوغوش! مالك؟ فيه إيه؟ عايز تقول إيه؟

تنهد وقال بهدوء:
ــ حاضر يا أمينة، هتكلم. أحم. إنتِ عارفة طبعًا إن أنا كنت في الجامعة وقت ما بابا وجدي اتفقوا على خطوبتي أنا وإنتِ...

ابتسمت بخجل وقالت ببراءة:
ــ "أيوة، أنا عارفة. وكمان عارفة إنك ما كانش عندك خبر. وأبويا قالي إنك هتفرح قوي لما ترجع من البندر وتعرف بحاجة زي دي. 

حاول أن يبتسم لكنه فشل أمام طيبتها الزائدة، ثم أكمل بهدوء:
ــ "هي فعلاً كانت مفاجأة كبيرة قوي يا أمينة.. لكن.. لكن مفاجأة صعبة جدًا.

قطّبت حاجبيها بانزعاج وسألت:
ــ "إزاي يعني؟ مفاجأة صعبة؟ هو أنت مش عاجبك اللي حصل؟

فرك صالح يديه وقال محاولًا التوضيح:
ــ بصي يا أمينة، أنا هحاول اشرحلك وافهمك اللي جوايا، ومن الآخر أنا مش عايزك تظلميني، ولا أنا كمان أظلمك. أنا... أنا محدش قالي أي حاجة بخصوص قراية الفاتحة. والمفروض يا أمينة إنتِ واعية كفاية إنهم كانوا لازم ياخدوا رأيي في حاجة زي دي قبل ما تّم. مش طبيعي أبقى مسافر وبتعلم ومركز في مستقبلي، وأرجع ألاقيهم خاطبينلي بنت عمي. ده ما يرضيش حد، وأكيد في طرف هيتظلم في الموضوع.

ردت عليه بحدة:
ــ "أنا مش فاهمة حاجة. إنت عايز تقول إيه من الآخر يا سي صالح؟ كلامك عايم، وأنا مش قادره أفهم حاجه منه. 

ابتلع لعابه وقال ببطء:
ــ "اللي عايز أقوله يا أمينة... إنك ما تفهمينيش غلط. أنا هحكيلك اللي حصل معايا، وإنتِ احكمي عليّا: هل أنا إنسان أناني ولا لأ.

نظرت إليه في انتظار كلماته، وقلبها بدأ يخفق بسرعة من القلق. أكمل صالح كلامه ببطء:
ــ "أنا في الجامعة قابلت بنت هناك... وأُعجبت بيها جدًا. حبيتها واتعلقت بيها. ولما عرفتها أكتر، يا أمينة، القدر جمعني بعيلتها... واللي هو كان خالي عبد الحميد.

اتسعت عيناها بدهشة لكنها ظلت صامتة،صالح وقف أمامها بحذر، عيناه مليئتان بالتردد والأسف، لكنه كان يعلم أن ما سيقوله هو السبيل الوحيد للخروج من هذه الورطة. قال بصوت منخفض ومحسوب:

ــ وكنت فرحان يا أمينة، لأني رسمت حياتي معاها وكنت مبسوط لحد ما جيت هنا وحكيت لبابا، ولقيته بيفاجئني أني خاطب وأنا ما أعرفش! طيب أنا ذنبي إيه وذنب البنت التانية إيه اللي وعدتها؟ غير كده، خالي عبد الحميد اللي ما صدقنا إنه يرجعلنا تاني وفتحناله باب أمل كان مقفول، تخيلي لما يجي ويرجع للعيلة وعنده أمل فيّا إني راجل كلمته واتفقت معاه إني ارتبط ببنته، بعدها يلاقيني خاطب بنت عمي. يبقى أنا كده كنت بلعب ببنته؟ بتسلى بيها؟ باللي من لحمي ودمي؟ وده أنا مش هرضاه على نفسي... ولا انتي ترضيها على ابن عمك يا أمينة... ولا إنت شايفة إيه؟

كانت كلماته قاسية رغم محاولته اختيارها بعناية. أمينة لم تستطع السيطرة على دموعها التي بدأت تتساقط بغزارة. حاولت التماسك، لكن صوت بكائها خرج واضحًا. صالح، الذي تألم لبكائها، أكمل بصوت خافت وكأنه يحاول أن يخفف عنها:

ــ مالوش داعي البكا يا أمينة. انتي اي حد يتمناكي، بس هو حصل سوء تفاهم. والحاجة المهمة التانية اللي عايزك تتأكدي منها... إني حتى لوما كنتش حبيت أو قابلت أي بنت في حياتي، جوازي منك برضو ما كانش هينفع يكمل.

رفعت رأسها إليه بحزن ودهشة، شعرت أن كلماته تعني كرهه لها. ظلت تحدق فيه، والدموع تملأ عينيها. لكنه استدرك بسرعة ليشرح قبل أن تفهمه خطأ:

ــ لأ لأ متفهميش كلامي غلط، اللي أقصده إن ما كانش هينفع نتجوز... عشان أخويا عبد الرحيم بيحبك. عبد الرحيم مش بس بيحبك، ده متعلق بيكي جدًا يا أمينه. حكالي عنك حاجات كتير... حاجات بتبين قد إيه انتي ليكي مكانة كبيرة في قلبه. فما كانش ينفع أكـ.ـسر قلب أخويا بيكي. 

شعرت أمينة وكأن قلبها قد تحطم. أدارت له ظهرها محاولة الهروب من هذا الموقف الذي بات يزداد ألمًا. لكنها توقفت فجأة عندما سمعته يقول بنبرة مليئة بالرجاء:

ــ فكري في كلامي يا أمينة... عبد الرحيم بيحبك. ده مش بس بيحبك، ده مش شايف حد غيرك. وبجوازي منك هخسر أخويا، وهخسر خالي عبد الحميد، وممكن خالي يسيب البلد ويرجع تاني للغربة. ولو بابا اتكلم مع عمي عبد العزيز، ممكن يخسره هو كمان، وبابا مش هيقدر على خسران أخ ليه لأنه متعلق بالكل جدًا.

صمت للحظة، ثم أكمل وهو يحاول أن يبدو أكثر صلابة رغم أنه يعلم أن كلامه ثقيل عليها:

ــ "إحنا في مشكلة حقيقية يا أمينة... والحل في إيدك انتي. أنا عارف إنه صعب عليكي، لكن صدقيني... لو واثق واحد في المية إنك هتكوني مبسوطة معايا، كنت وافقت. لكن قلبي مش ليكي.. ولا قلب عبد الرحيم هيكون للبنت اللي هيتجوزها.

كانت أمينة تستمع إليه وهي تبكي في صمت، لكنها فجأة استدارت إليه ونظرت له نظرة لوم عميقة. لم تتحدث، لكن عينيها كانت تقول بوضوح: "وهل أنا وحدي من يجب أن تضحي؟ وهل أنا لا أُظلم؟ لكنها فضلت أن تتركه، وتحركت بعيدًا عنه دون أن تنطق بكلمة.

صالح شعر بألم عميق وهو يشاهدها تبتعد. قبض بيديه على القش من شدة إحساسه بالعجز. نظر إلى السماء وظل في مكانه، غارقًا في أفكاره، بينما أمينة اختفت عن أنظاره، حاملة ألمها الذي لم تستطع التعبير عنه بالكلمات.

عادت أمينة إلى غرفتها بخطوات مثقلة، وكأن العالم قد أثقل كاهلها. أغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم جلست على طرف السرير، وهي تشعر بأن قلبها قد انهار تمامًا. لم تستطع السيطرة على دموعها التي بدأت تسيل بلا توقف، وكأنها متنفس لكل الألم والضيق الذي كتمته طوال الحديث مع صالح. وضعت رأسها بين كفيها وبكت بحرقة، محاوِلة كتم صوتها حتى لا يسمعها أحد.

بعد دقائق، دق الباب بخفة، ودخلت والدتها صباح بخطوات حذرة، فوجدتها في هذه الحالة. نظرت صباح إليها بقلق ووقفت للحظة تراقبها قبل أن تقول بنبرة حنونة، مشوبة بالقلق:
ــ "إيه يابت؟ مالك بتبكي ليه؟ في حد قالك حاجه؟

رفعت أمينة رأسها بسرعة ومسحت دموعها بكُمّ جلبابها، محاولة أن تبدو طبيعية. ردت بارتباك وهي تجاهد لتثبيت صوتها:
ــ لاه، لاه ما فيش حاجة، يمه. صدقيني... ده بس عيني دخلت فيها حاجه يمكن من الهوا ولا العيال اللي كانت بتلعب قدام الدار. 

صباح لم تصدقها، كانت عيناها تقرآن أوجاع ابنتها التي تحاول أن تخفيها. تقدمت منها ببطء وأمسكت بذراعها بلطف، وهي تقول بإصرار:
ــ وحياة أمك؟ صدقت اني الهبل اللي قولتيه ده! بتضحكي على مين يابت، داني أمك اللي عجناكي وخبزاكي،في إيه يا أمينة؟ بتبكي ليه؟ وما تكذبيش عليا.

تململت أمينة تحت نظرات والدتها، وحاولت التملص من يدها قائلة بتوتر أكبر:
ــ "يمه، صدقيني ما فيش حاجة...هو لازمن يكون في حاجه يعني عشان تصدقي؟اني كنت قاعده قدام الدار بتفرج على العيال وهى بتلعب. وحسيت بحاجة دخلت في عيني.وبعدين مين هنا هيزعلني واني قاعده في حالي؟

تنهدت صباح وهي تنظر إلى ابنتها التي تحاول التظاهر بالقوة، ثم قالت بهدوء أقرب إلى الاستسلام:
ــ "طيب يختي، قومي اشطفي وشّك بشوية ميّه وتعالي معايا. هنروح دار جدك نزوره.

هزت أمينة رأسها بسرعة، وكأنها وجدت مهربًا من مواجهة أخرى. قالت بصوت خافت، مليء بالإرهاق:
ــ السموحة منك المرة دي، يمه... أنا عايزة أنام. تعبانة ونعسانة على نفسي. خليها لبكرة الله يخليكِ.

صباح شعرت بالضيق، لكنها لم تُرِد الضغط على ابنتها أكثر. رفعت حاجبيها وقالت بنبرة غاضبة قليلاً، تحاول أن تُخفي بها قلقها:
ــ "أمري لله، نخليها بكره وماله،ما اني خلاص بقيت باخد كلامي منك..امتى نروح وامتى منروحش، عيال هم. 

خرجت صباح من الغرفة وأغلقت الباب خلفها، تاركة أمينة وحدها مع أحزانها.

أمينة، بمجرد أن غادرت والدتها، ألقت بنفسها على الفراش ودفنت وجهها في الوسادة. انفجرت في بكاء مكتوم، تهتز معها كتفاها من شدة الألم. شعرت وكأن العالم كله تآمر عليها، وكأن كل أحلامها تُنتزع منها قسرًا. ظلت تبكي حتى أرهقها البكاء، وغرقت في حالة من التعب الجسدي والنفسي، لا تدري ماذا تفعل لتتخلص من هذا الحمل الثقيل الذي بات يحيط بقلبها.

جلس صالح في جنينة الدار، وقد ألقى بجسده على أحد الكراسي الخشبية المتآكلة بفعل الزمن. كانت السماء صافية، والقمر يتوسطها بإضاءة خافتة تلقي بظل باهت على الأشجار والزهور حوله. أراح رأسه على ظهر الكرسي ونظر إلى القمر بشرود. كان عقله غارقًا في دوامة من الأفكار المتشابكة، تائهًا بين الشعور بالذنب والحيرة.
حدث نفسه بصوت بالكاد يسمع:
ــ "يا رب، أنا عملت اللي شايفه صح، ولو كنت وافقت على قرار بابا كانت أمينة هتبقى ضحية... ضحية كلام الكبار وعاداتهم. وأنا عارف إني جرحتها، بس لو اتجوزنا، هنظلم عبد الرحيم، وهظلم حب عمره... وأنا متأكد أنه لو اتجوز البنت اللي حبها هيحافظ عليها أكتر مني، و ده أكيد. أنا مش عايز أكون سبب ألم لحد. 

أغمض عينيه للحظة، محاولًا تهدئة أفكاره، لكنه وجد صورة نوال تتسلل إلى ذهنه، وتعيد إحياء مشاعره التي طالما حاول كتمانها. تذكر وعوده لها، لقاءاتهما، والأمل الذي كان يشع في عينيها عندما تحدث عن مستقبلهما معًا. كان يعلم أن الوقت يمر ببطء عليها، مثلما يمر عليه، لكنها تنتظره بثقة وصبر. زفر بضيق وعاد إلى النظر للقمر، وكأنه يبحث عن إجابة من السماء لكل هذا الصراع.

وقفت نوال عند نافذة غرفتها. كانت أنوار المدينة تخفت شيئًا فشيئًا مع حلول الليل، لكن قلبها ظل مشتعلاً بشوق يزداد مع كل يوم يمر. أراحت رأسها على الإطار الخشبي للنافذة، ونظرت إلى القمر بشغف وكأنها ترى فيه انعكاسًا لحلمها المنتظر.

حدثت نفسها بصوت خافت، ممتزج بالحنين:
ــ كلها تلات ايام وأكون قدام عيونك يا صالح. يا ترى الدنيا هناك عاملة إيه دلوقتي؟ البيت، الشجر، الناس، الجنينة. بابا قالي الحياة هناك جنة مش حياة عادية أبدا. من تخليي للمنظر اشتقت ليه كتير. والأكتر... صالح. لسه فاكرة كلامه وضحكته، ولسه عيني بتدور عليه في كل مكان حتى وأنا هنا.

أخذت شهيقًا عميقًا، ثم زفرت وكأنها تحاول إخراج كل القلق الذي يسكن قلبها. أمسكت بخصلات شعرها الطويل وهي تلعب بها بتوتر، ثم عادت تتأمل السماء. وعندما تذكرت وعود صالح لها.ابتسمت لنفسها رغم كل شيء. كان قلبها يملؤه الأمل بأن اللقاء القادم سيعيد إليها شعور الأمان، وأن وجودها بالقرب من صالح سيجعل كل شيء يبدو أسهل وأجمل.

أما عبد الرحيم، فقد تسلل إلى سطح المنزل، هاربًا من العائلة وضجيجها. تمدد على ظهره فوق حصيرة قديمة، متظاهرًا بالنوم. كانت النجوم تتلألأ فوقه، لكنه لم يكن ينظر إليها، بل كان غارقًا في أفكاره.

تمتم لنفسه بحزن:
ــ "ليه الدنيا معقدة معايا كده؟ ليه ما أقدرش أعيش زي باقي الناس؟ أمينة... هي الوحيدة اللي قلبي دق ليها، وكتمت حبها جوه قلبي سنين بحالها لكن هل ينفع كنت أقول لابويا حاجه زي دي؟ ولا هينفع أقول لحد في الدار دي.لا، مين هايسمعني؟ مين هايفهمني؟ كنت هبقى مسخرة الدار وخلاص. وفي الأخير بقيت وحيد ومش طايق حد ولا طايق نفسي. 

أغمض عينيه وكأنما يحاول الهروب من واقعه، لكنه لم يستطع. كل صوت في البيت وكل نظرة تُذكره بصالح وأمينة وبالوضع الذي بات يثقل كاهله.

في الغرفة المغلقة، كانت أمينة مستلقية على فراشها. الوسادة تحت رأسها كانت مشبعة بدموعها التي لم تتوقف حتى غلبها التعب. غفت عيناها في النهاية، لكن حتى في نومها، كانت ملامحها تعكس الحزن العميق الذي يعتصر قلبها.

كان وجهها شاحبًا، وجسدها منهكًا، وكأنها فقدت كل طاقتها في محاولة مواجهة كل هذه الضغوط وحدها. حلمت، أو ربما تخيلت، أنها في مكان بعيد عن كل هذا الألم. لكن الحلم كان قصيرًا، فقد استيقظت فجأة على صوت الريح يتسلل من النافذة، لتجد نفسها في نفس الدوامة التي تركتها قبل النوم.

مر يومان على البيت الكبير، لكن شيئًا ما كان مفقودًا.
أمينة ظلت صامتة طوال الوقت، تتجنب الحديث أو التواجد في التجمعات العائلية، بينما عبد الرحيم كان غارقًا في عزلته، يقضي معظم وقته وحيدًا، هاربًا من أي مواجهة. أما صالح، فقد كان يعاني من صراع داخلي، يحاول إيجاد حل يُرضي الجميع دون أن يُجبر أحدًا على التضحية.

وفي اليوم الثالث، وصلت البلدة سيارة تحمل عبد الحميد وبناته. اجتمعت العائلة بأكملها لاستقبالهم استقبالًا حافلًا. كانت الابتسامات والفرحة واضحة على وجوه الجميع، باستثناء صبري، الذي لم يستطع إخفاء عدم رضاه. زاهية، رغم ترددها، تقبلت الأمر على مضض حتى لا تخسر ابنها. أما الجد عبد اللطيف، فكان سعيدًا برؤية شقيقه وعائلته، وامتلأت الدار بالبهجة.

الفتيات اللاتي جئن من البندر كن مذهولات بجمال الريف وهدوئه. رغم أنهن اعتدن على أجواء المدينة، إلا أنهن أحببن حياة الريف والبساطة التي تشع من كل مكان، حيث الحقول الممتدة والأجواء العائلية الدافئة جعلتهن يشعرن وكأنهن جزء من شيء أكبر وأكثر قربًا من الطبيعة.

بعد الغداء

أخذت أمينة نوال في جولة حول الأرض وسط الحقول الواسعة التي تُزيّنها أشعة الشمس المائلة نحو الغروب. الهواء يحمل معه عبق الأرض ونسائم خفيفة تداعب الأشجار المحيطة. كانت نوال مندهشة بجمال الطبيعة، تلتفت يمينًا ويسارًا بنظرات تفيض بالإعجاب:

ــ "سبحان الله! الطبيعة هنا حاجة تانية خالص يا أمينة. المكان يشرح القلب."

أمينة، التي كانت تسير بجوارها بنظرات ثابتة وصوت هادئ، ردت بابتسامة باهتة:

ــ طبعاً اومال إيه؟ حياة الريف مفيش زيها، هوا نضيف واكل صحي، وخير مالوش آخر كل حاجه هنا زينة. 

توقفت نوال فجأة ونظرت إلى أمينة قائلة بابتسامة مرحة:
ــ "قوليلي يا أمينة، عمرك حبيتي؟"

أمينة أخذت نفسًا عميقًا، وكأن السؤال أيقظ شيئًا كانت تحاول دفنه. تنهدت وقالت ببرود يكسوه شيء من الحزن:

ــ "أحب؟ الحب مش مكتوب للي زينا. إحنا فلاحين يا نوال، والبنت ما لهاش إلا بيت جوزها. بتحبه ولا لا مش مهم."

نوال توقفت ورفعت حاجبيها بتعجب:
ــ "إزاي الكلام ده؟ مش معقول! هو يعني إيه فلاحين؟ أنتم مش بشر زيكم زي أي حد؟ الحب ده نعمة من ربنا لكل الناس. لازم القلب يحب علشان يقدر يعيش."

أمينة، بابتسامة صغيرة لكنها مشحونة بالألم:
ــ "كلامك حلو يانوال، بس الحب بالنسبالنا حاجه في الاحلام كده. إحنا بنعيش علشان نرضي أهلنا وبعدين جوازنا بيبقى نصيب وخلاص.بنتعود عليه.

ثم توقفت قليلًا لتنظر إلى نوال وسألتها بفضول:
ــ "وإنتِ بقى؟ يعني على كده بتحبي؟

نوال، بابتسامة فخر:
ــ "طبعًا بحب! وهقولك سر. علشان أنا حبيتك زي أختي، نادية بالظبط.أنا وصالح بنحب بعض."

شعرت أمينة وكأن العالم توقف للحظة. قلبها انقبض لكنها أخفت ذلك بابتسامة متماسكة وقالت:
ــ وانبي صحيح؟ آه"ربنا يهنيكم يارب. 

ثم أضافت بصوت خافت، وكأنها تتحدث لنفسها:
ــ "الحب هنا بييجي بعد الجواز، مش قبله."

نوال ضحكت وهي تمزح:
ــ "وهو عريسك هيستنى لبعد الجواز عشان يحبك؟ صدقيني، أول ما يشوفك هيدوب في جمالك. هو هيلاقي قمر زيك فين بس؟

أمينة ابتسمت بتوتر وقالت:
ــ "وانتي عارفه منين إني جميلة؟ الجمال مش بيبني البيوت. قصدي أنه مش بالشكل يعني. 

نوال ردت بجدية:
ــ معاكي حق، ومش بس الجمال اللي بيبني، يا أمينة. القلب الطيب والأخلاق هما الأساس. بس أنا عاوزة أسألك، إنتِ فكرتِ لو مش حبيتي اللي هتتجوزيه؟ هتعيشي معاه إزاي؟"

أمينة، وهي ترفع عينيها نحو الأفق:
ــ "هعيش علشان أرضي عيلتي. الحب بالنسبالنا هنا مش فرض. لكن الخوف إني ماقدرش أتحمل أعيش وياه... ولو كان هو بيحبني هشيل همه وازعل عليه إني قلبي جافي من نواحيه. 

نوال:
 "بصي يا أمينة، الراجل اللي بيحب الست بيعمل المستحيل عشان يخليها مبسوطة. مش بس كده، ده كمان بيبقى وفي ليها لآخر يوم في عمره، لأنه بيعيش على أمل إنها تحبه وترضى عنه."

أمينة (بتردد): 
ـ طب، ولو كان العكس؟ يعني لو الست هي اللي بتحبه أكتر؟"

نوال (بحماس): 
"لو هي اللي بتحبه أكتر، هتلاقيه بمرور الوقت بيهملها. مش لأنه وحش، بس لأنه عارف إنها مش هتشتكي مهما عمل. هيبقى ضامن حبها ومسامحتها. إنما الراجل اللي بيحب بجد بيحسب حساب لكل كلمة وتصرف، بيخاف يجرحها وبيحافظ عليها بكل الطرق."

أمينة (بتفكير): 
"يعني قصدك إن الجواز لازم الراجل يكون هو اللي بيحب الأول؟"

نوال (بثقة): 
"أنا رأيي، يا إما الاتنين يحبوا بعض قبل أو بعد الجواز، يا إما الراجل هو اللي يحب الأول. لو ده حصل، الست هتضمن إنها عايشة مع حد هي أولويته، حد هيخاف على مشاعرها ويحقق أحلامها. الراجل اللي بيحب الست فعلاً، هيعيش طول عمره بيحاول يسعدها.

أمينة لم ترد، لكنها شعرت بثقل الحديث في قلبها، وكأن كلمات نوال فتحت أمامها أبوابًا كانت مغلقة.

بعد انتهاء العشاء، صعدت أمينة إلى سطح الدار، متكئة على سور الطوب الطيني المتآكل. كانت تتحرك إيابا وذهابًا بقلق واضح، وكأن الأفكار تتصارع في رأسها. نظراتها تتنقل بين السماء التي زينتها نجوم متفرقة، وبين الجنينه التي بدت وكأنها لوحة مضيئة بضوء العمود الكهربائي الوحيد.

توقف خطواتها فجأة عندما أبصرت نادية ونوال تجلسان وسط حلقة عائلية. الشباب والبنات من العائلة يتبادلون الضحكات والحديث، وصالح كان جالسًا بجوار نوال، يتحدث إليها باهتمام واضح. كان وجهه يلمع بحماس، وكلماته التي لا تسمعها أمينة بدت وكأنها موجهة فقط لنوال. أما عبد الرحيم، فقد كان يجلس بعيدًا قليلًا، يتحدث بنبرة رسمية توحي بالجدية.

شعرت أمينة بقبضة في قلبها. ازدادت نبضاتها وهي تتابع المشهد أمامها، وكأن شيئًا ما يُثقل أنفاسها. فجأة توقفت عن التفكير، أخذت نفسًا عميقًا، وأخذت أيضاً قرارها المصيري. نزلت عن السطح بخطوات سريعة وثابتة، تخطو على درجات السلم الطيني المتعرج دون تردد، وكأنها تسابق الوقت لتحقيق ما عزمته.

عندما وصلت إلى الطابق السفلي، توقفت أمام باب غرفة عمها حسين. جمعت شجاعتها، طرقت الباب بخفة، وسمعت صوته من الداخل يقول بصوته المميز:
ــ خش ياللي على الباب.

دفعت الباب ببطء، وظهرت برأسها، ثم تقدمت للداخل. كان حسين جالسًا على كرسي خشبي، يُشعل غليونه ويتطلع إلى أمينة بنظرة ودودة.
 والغليون (هو أداة تقليدية للتدخين تُشبه الأنابيب الصغيرة). يُستخدم الغليون عادةً في الأرياف أو بين كبار السن، وكان من العادات الشائعة قديمًا. الشخص يشعل التبغ الموجود فيه باستخدام عود ثقاب أو ولاعة، ثم ينفخ ليحافظ على استمرارية الاشتعال أثناء التدخين.
 رفع حاجبيه متسائلًا وقال بابتسامة هادئة:
ــ "تعالي يا أمينة، خير يا بنتي؟ عاوزه حاجه؟"

أمينة تقدمت بخطوات متثاقلة، وكأن أقدامها مثقلة بالحجارة. وقفت أمامه، تشابكت أصابعها بتوتر، وحاولت أن تستجمع كلماتها.
ــ "عمي... اني... اني جايه وعايزة أقولك حاجة مهمه قوي."

تبدلت ملامح حسين إلى الجدية. وضع غليونه جانبًا، وأسند مرفقيه على ركبتيه ليقترب منها، وقال بصوت حنون ومشجع:
ــ "خير يا بنت الغالي؟ قولي اللي في قلبك، اني سامعك."

رفعت أمينة عينيها إليه للحظة ثم أعادت النظر إلى الأرض، وابتسامة شاحبة ارتسمت على وجهها. بصوت متردد وخافت كادت كلماته تضيع، قالت:
ــ "أنا... أنا مش عايزة أتجوز صالح.

سكتت الغرفة للحظة، حتى شعرت أمينة وكأن الجدران تسمع اعترافها.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1