رواية لا تترك يدي الفصل الثالث والعشرون
مريم وفريدة كانا يتحدثان مع ابنتها هاجر عبر الانترنت مكالمة فيديو. فقد توطدت علاقة مريم بهم وكانت هاجر ممتنة لمريم واعتنائها بوالدتها وهي وحيدة وبعيدة عنها. أيضا مريم وبسملة ابنة هاجر وحفيدة فريدة تجمعهما علاقة صداقة عن بعد فهما يتحدثان معا شبه يومي للساعات. قطع حديثهما طرق على الباب. أحكمت مريم حجابها وجرت على الباب تفتحه ووجدت جاسر سألته بقلق.
"خير يا أستاذ جاسر. خالد جرى له حاجة؟"
"لا أبدا مفيش حاجة. هو بس طلب مني وأنا ماشي اخبط عليكم وأقول لك علشان تروحي له."
اندهشت مريم مما سمعت وسألته.
"نعم!"
أبتسم جاسر إبتسامة خفيفة وقال لها.
"صح نسيت أبارك لك يا مدام. ألف مبروك."
توردت وجنتي مريم ونظرت للأرض بخجل وأجابته.
"الله يبارك فيك."
"نمرتي مع خالد لو أحتجتوا أي حاجة خليه يتصل بي وما يترددش. السلام عليكم."
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته."
غادر جاسر واستأذنت مريم من فريدة وذهبت لزوجها. وجدته يصلي المغرب فجلست بجواره وانتظرته.
"تقبل الله."
"منا ومنكم إن شاء الله."
"عامل أيه دلوقت؟ لسة رجلك وجعاك؟"
"الحمد لله أحسن بكتير من إمبارح. الالم محتمل."
"الحمد لله. إن شاء الله هتخف بسرعة ومش هتوجعك تاني."
"إن شاء الله."
"صح يا خالد. أنت قولت لصاحبك إننا متجوزين؟"
"أيوة. شاف هدومك اللي في الحمام. وما كانش نافع أنكر وجودك هنا معي في الشقة. كمان جاسر ده أكتر من الاخ بالنسبة لي وكنت مضايق أصلا أني مخبي عليه."
"طيب هو مش هيعمل مشاكل؟"
"لا يا مريم بقول لك زي أخويا. ده أحنا متربيين مع بعض من وأحنا صغيرين."
"غرببة لكن أنا ما شوفتهوش زارك قبل كدة."
"ما تنسيش أنا ما كنتش عاوز حد فيهم يجي يزورني. كمان جاسر مش بيحب أبدا يجي العمارة هنا. على طول لما نحب نتقابل يكون في أي مكان برا أو اروح له أنا البيت لكن هو مش بيجي هنا أبدا. لولا رجلي ما كانش جه برضه."
"غرببة إشمعنى مش بيحب يجي العمارة؟"
"ده حكاية طويلة. قومي جهزي لي اكل علشان ميعاد الدواء."
"حاضر. تحب أعمل لك أيه؟ أحمر لك بطاطس واعمل لك هامبرجر. ولا أعمل لك مكرونة؟"
"لا ايه كل ده. أنا مش جعان أصلا بس علشان ميعاد الدواء. اعملي سندوتش جبنة وبس."
"حاضر يا سيدي دقيقة واجيبه لك."
"ماشي لكن صلي المغرب الاول يحسن تضيع عليك."
"الحمد لله صليتها عند ماما فريدة."
"الحمد لله."
تركته مريم في غرفته ودخلت المطبخ اعدت شطائر الجبن وسخنت كوب لبن واحضرته لخالد في غرفته.
"خد السندويشات اهه وبعدها كوباية اللبن ده."
"أنا هأكل السندوتشات بس. مش بحب اللبن وأنت عارفة."
"يا خالد ما ينفعش. لازم تشرب لبن. عرفت من على النت أن اللبن حلو للعظم. علشان تخف بسرعة."
"يا دي النت اللي كل يوم تجيبي لي وصفة جديدة ونصيحة جديدة من عليه."
"يعني ايه الكلام ده مش صح؟"
"لا يا ستي صح. لكن مش كل حاجة على النت صح."
"خلاص مدام الكلام صح يبقى تشرب اللبن وأنت ساكت."
"حاضر يا ماما."
ناولته مريم كوب اللبن وشربه مع شطائر الجبن بعدما أنتهى من عشائه أعطته مريم دواءه.
"تحب نتفرج على فيلم ولا هتنام؟"
"مش هينفع خالص عندي إمتحان بكرة وعاوز أذاكر. ما ذاكرتش حاجة من أمبارح بسبب اللي حصل."
"خلاص أقعد أنت ذاكر."
"اتفرجي أنت على أي حاجة برا أو لو عاوزة تتفرجي من على اللاب اختاري الفيلم اللي أنت عاوزاه."
"لا بلاش علشان ما اشوشرش عليك. ذاكر أنت وأنا هخلص المفرش اللي شغالة فيه بقالي أسبوع."
"براحتك خالص. ناوليني الكتاب الأخضر اللي على المكتب."
"حاضر."
ناولته مريم الكتاب وجلست بجواره تطرز في صمت وهو يذاكر.
في اليوم التالي مر عليهما جاسر وأخذ خالد للإمتحان وعندما عاد خالد من إمتحانه كانت مريم ملاصقة له تهتم به وبكل شئونه بدواءه وبطعامه كأنه ليس زوجها فقط بل أم تعتني بطفلها. مرت الايام على نفس المنوال بالرغم من تحسن حالة خالد وإعتماده على نفسه فالالم تدريجيا اختفى ولا يعيقه إلا الجبيرة التي تحاوط قدمه. حاول رفض مساعدة جاسر ولكن الاخير لم يقبل أبدا وظل يصاحبه لإمتحاناته وأيضا زيارات الطبيب. أنتهت الإمتحانات على خير وتخلص خالد من الجبيرة وعاد لمنزله بمفرده أخيرا. أستقبلته مريم مرحبة به بإبتسماتها تفترش وجهها بأكمله وذراعيها مفرودان ليقابل حضنها أول شيء عندما فتح الباب. أحتضنته مريم بسعادة غامرة ولفت ذراعه حول كتفها لمعاونته لأول كرسي.
"ألف حمد الله على سلامتك يا خالد."
رفع خالد ذراعه من على كتفها ومشى بمفرده.
"الله يسلمك يا مريم. يا حبيبتي أنا أقدر أمشي لوحدي."
أخذت مريم يدها في يده وجلست بجواره على الكنبة.
"عامل ايه دلوقت؟ لسة رجلك بتوجعك؟"
"لا الحمد لله. ألم بسيط بس لما أدوس عليها. لكن الدكتور قال إن شاء الله أسبوع بالكتير وأتحرك عادي."
"الحمد لله. ربنا يتمم شفاءك بخير يا رب ويبعد عنك كل مكروه ويجعله في ميزان حسناتك يا رب."
ابتسم خالد لها وقال.
"آمين يا رب."
"جعان؟ أجهز لك الأكل؟"
"لا يا قمر. مش جعان الحمد لله."
"هو جاسر روح ولا أيه؟ أنا كنت فاكرة هيجي معك زي كل مرة."
"بالعافية خليته يروح. ما كانش عاوز يسيبني أبدا. لكن عنده امتحان بعد بكرة وما ينفعش كدة أبدا."
"كتر ألف خيره. ما سابكش يوم واحد تخرج فيه لوحدك. فعلا صاحبك ده طيب قوي وبيحبك قوي."
"هو فعلا بيحبني جدا. زي ما قولت لك احنا متربيين مع بعض. هو كان ساكن هنا في العمارة زمان لكن الله يجازيها بقى اللي كانت السبب ساب العمارة من أربع سنين."
"مين ده؟ وازاي خليته يسيب العمارة."
"بصي يا ستي. هو كان ساكن في الدور الخامس تحتنا. هو أبوه وأمه. وزي ما بقول لك كنا متربيين مع بعض. هو أكبر مني بثلاث سنين وبابا الله يرحمه كان بيحبه جدا. وكان يسبني اقعد عندهم أو هو يقعد عندنا عادي جدا."
"أمال ايه اللي حصل؟"
"في يوم أبوه اتجوز على أمه. بنت صغيرة يا دوب اوئل العشرينات. ضحكت على ابوه واجبرته يطلق مراته ويطردهم من البيت."
"لا حول ولا قوة إلا بالله. وأبوه أزاي يوافق كدة."
"مش بيقولوا الحب أعمى. المهم جاسر وأمه راحوا قعدوا عند أهل أمه في الزاوية. وكان جاسر بيجي يزور أبوه كل فترة بالاخص أن أبوه تعب بعد ما طرد مراته وطلقها. نفسيته بقت في الحضيض لكن الكبر والعناد منعوه أنه يرجع في قراره. مراته الجديدة أتهمت جاسر أنه بيبص لها بطريقة مش كويسة. وخلت أبوه يمنعه يجي يزوره تاني أو يشوفه خالص."
"الرجل ده أتجنن خالص. يطرد أبنه علشان مراته."
"الكبر عبر. المهم بعد ما قطعت الرجل من مراته وابنه. مضته على توكيل عام بحجة تعبه وانه مش قادر يباشر أشغاله. وراحت بيعته كل اللي وراه وقدامه وطردته هو كمان من الشقة وهو تعبان. فضل يومين قاعد عند عم علي البواب في غرفته تحت. لما بابا عرف اللي حصل طلع الرجل وقعده هنا واتصل بجاسر وقال له. جاسر جه علشان ياخد أبوه والرجل بقى يبكي بدل الدموع دم ندم على اللي عمله في مراته وابنه. أتجوز مراته الاولى تاني وراح قعد مع جاسر وأمه عند أهلها لغاية لما مات. علشان كدة جاسر بيكره يجي العمارة هنا. كل ما يعدي على الشقة القديمة بتاعتهم يفتكر اللي حصل ويتحرق دمه."
"يعني بنت الحرام ده أخدت الورث كله؟"
"آه. وجاسر مضطر دلوقت أنه يشتغل في مطعم بالليل والصبح في الكلية علشان يقدر يصرف على أمه. وخاله بيساعدهم ماديا."
"حسبنا الله ونعم الوكيل. ربنا على الظالم والمفتري."
"أيوة مفيش أحسن من حسبنا الله ونعم الوكيل."
"بس جاسر ده شكله طيب. وإن شاء الله ربنا هيعوضه خير على اللي حصل له."
"أكيد. أحنا هنقعد طول النهار نتكلم عن جاسر ولا أيه. النهاردة خلصت أمتحانات وكمان اتخلصت من التهمة اللي كانت على رجلي ده. لازم نحتفل. الليلة خمر ونساء."
"نعم؟ يعني هنعمل ايه يعني؟"
"أنا هانزل أجيب لب وسوداني وشبسي ونظبط القاعدة وانت قومي اعملي لنا فشار ونقضيها أفلام النهاردة للصبح."
"ماشي يا سيدي. هي ده الخمر والنساء بالنسبة لك."
"طبعا أمال أنت أفتكرت أيه؟"
ضحكت مريم وأجابته.
"ولا حاجة. هأقوم أظبط القاعدة وأنت أنزل جيب الحاجة."
بعد ثلاثين دقيقة جلسا الإثنان معا أمام شاشة التلفاز يشاهدان الأفلام التي أختراها وهم يتناولان التسالي. ظلا يضحكان ويتناقشان في أحداث الأفلام ومضيا وقتا مسليا معا.
* * *
في الصباح التالي رن هاتف خالد أثناء تناولهما وجبة الإفطار. قامت مريم وأحضرت المحمول من غرفته وناولته له.
"مين اللي بيتصل؟"
"عمي إبراهيم."
أخذ خالد منها المحمول وتلقى الإتصال.
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أزيك يا ولدي عامل أيه؟"
"الحمد لله يا عمي أنا كويس. أخبار حضرتك أيه؟ وصحتك عاملة أيه؟"
"الحمد لله على كل حال يا ولدي. أنت خلصت إمتحانات؟"
"أيوة يا عمي. خلصت أمبارح."
"وعملت أيه؟"
"الحمد لله. إن شاء الله خير."
"بإذن الله يا ولدي. ربنا هيكرمك أحسن كرم. كنت عاوزك في موضوع يا خالد."
"خير يا عمي؟"
"خير إن شاء الله. لكن مش هينفع في التليفون. عاوزك تيجي البلد في أسرع وقت."
"قلقتني يا عمي. في أيه؟ أنت بخير؟ حد جرى له حاجة؟"
"كله مليح يا ولدي. أنا بس عاوزك في موضوع مهم وما ينفعش يتأجل."
"حاضر يا عمي. هشوف حجز وأجي لك."
"عاوزك النهاردة هنا يا خالد. لو ما لاقيتش حجز اركب الاتوبيس وتعالى."
"حاضر يا عمي. إن شاء الله النهاردة أكون عندك."
"تيجي بالسلامة يا ولدي."
"الله يسلمك يا عمي."
"روح بقى جهز حالك للسفر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته."
أنهى خالد الإتصال ووضع المحمول على المنضدة أمامه ونظر لمريم الحائرة.
"في أيه يا خالد؟ سفر أيه اللي هتسافره بسرعة كدة؟"
"مش عارف يا مريم. عمي بيقول عاوزني النهاردة ضروري في البلد. ربنا يسترها. بصراحة مكالمته قلقتني."
"خلاص أقوم أجهز الشنط وأجهز."
"جهزي شنطتي أنا بس. لكن أنت هتفضلي هنا."
"نعم! أسيبك تسافر أزاي لوحدك يا خالد وانت رجلك لسة تعباك."
"أنا هسافر لوحدي وأنت هتفضلي هنا. أنا مش هاقعد كتير هناك. لو الموضوع هيطول هأجي وأخدك."
"يعني هتسيبني لوحدي هنا؟"
صاح فيها خالد.
"العفريت هياكلك يا مريم. أنا مش عاوزك تسافري معي البلد. أنت نسيت هشام واللي حصل منه. منعا للمشاكل هتفضلي أنت هنا. أقعدي مع طنط فريدة طول النهار. ولو عاوزة تباتي معها كمان ممكن تباتي معها مفيش مشاكل. لكن يا ريت تباتي هنا في الشقة. وأنا إن شاء الله مش هأتأخر."
نظرت مريم للأسفل وقالت له بصوت منكسر.
"اللي تشوفه يا خالد."
"قومي بسرعة جهزي الشنطة عقبال لما أجهز أنا علشان أنزل وألحق أوصل البلد قبل الليل."
"حاضر."