رواية لا تترك يدي الفصل الخامس والعشرون
شحب وجه خالد وسألها.
"خرجت راحت فين؟"
"خرجت من الصبح تشتري الدوا بتاعي من الصيدلية ولغاية دلوقت ما رجعتش. بعت عم علي يدور عليها في كل حتة مش لاقينها."
"أزاي ده؟ وأزاي تبعتيها يا طنط وأنت عارفة أنها ما تعرفش المنطقة؟"
"أنا أسفة والله يا ابني. هي اللي أصرت تنزل تشتري الدوا لما ما لاقيتش عم علي. أنا أسفة يا ابني سامحني."
"طيب أقفلي دلوقت وأنا هأتصل بها أشوفها فين."
"ما هي سابت تليفونها هنا لما خرجت."
صاح فيها خالد.
"نعم. يعني أيه سابت التليفون؟"
"ما هي أول لما أتأخرت أتصلت عليها. فضل التليفون يرن ومفيش رد. بعد شوية سمعت صوت رنة التليفون جي من شقتك."
"طيب سلام دلوقت يا طنط. أنا هأرجع دلوقت حالا."
"تيجي بالسلامة يا ابني أرجوك سامحني."
"إن شاء الله خير."
نزل خالد لعمه وأخبره بسفره العاجل بسبب تعب مريم المفاجئ. لم يرد خالد أن يقلق عمه ويخبره أن مريم مختفية منذ الصباح. توجه خالد لمحطة القطار وسافر للقاهرة. كان في قلق قاتل طوال الطريق ويتصل بالسيدة فريدة كل عشر دقائق يسألها عن مريم. وصل خالد للمنزل الواحدة بعد منتصف الليل وتوجه لشقة فريدة على الفور وسألها عما حدث فور فتحها الباب.
"مفيش أخبار عنها؟"
أجابته فريدة باكية.
"لا يا ابني. لغاية دلوقت ما رجعتش."
"هتروح فين بس يعني؟"
"مش عارفة يا ابني. ادخل اشرب ماية بل ريقك."
"أنا هأنزل أدور عليها."
توجه خالد للمصعد وصاحت فريدة ليسمعها.
"ريح بس شوية يا خالد."
أجابها وهو يغلق باب المصعد.
"مش هينفع. أنا لازم أنزل أدور عليها."
نزل خالد ليبحث عن مريم في الشوارع والطرقات وتوجهت فريدة لمصحفها تقرأ القرآن وتدعوا الله أن يحفظ مريم ويجمعهم عليها. طاف خالد في الشوارع يبحث عنها في كل مكان ظن وجودها فيه. بحث عنها في منطقتهم وبحث عنها بجوار مستشفى الأورام ثم وصلت به قدماه لمحطة القطار مكان لقائهما من شهور عدة. دخل المحطة وبحث عنها وسط الحشود ولم يجدها. ظل يبحث ويدور في كل مكان ولم يجدها حتى سمع آذان الفجر. توجه لمسجد الفتح وصلى وناجى ربه وتذكر ما حدث من شهور عندما ظن انه فقدها. ظل يبكي ويدعو ربه ويتذلل له أن يحفظها من أي سوء. شعر بقلق شديد عليها وقبض قلبه من الهواجس التي تملأ عقله وشلت تفكيره.
ذهب إلى محطة القطار ثانية وتوجه للرصيف الذي أحضرها إليه عندما أنقذها من عصابة إسماعيل. جلس على المقعد الرخام. دفن وجهه بين كفيه وظل يبكي في صمت. غفلت عينياه من الإرهاق والبكاء لا يدري كم مر عليه من الوقت. رأى في المنام مريم تصرخ وتستنجد به وهناك من يكتفها ويمنعها عنه. أستيقظ فزعا مما رأى وتلفت حوله في هلع. كانت الشمس توسطت السماء والمكان مزدحم بالمغادرين والعائدين كل منهم يهتم بحاله وبهمومه. لا أحد يعبأ بأحد ولا أحد يلتفت لغيره. تلفت خالد حوله وقام يلف المكان مرة آخرى يبحث عنها. مسح الرصيف مرة وثانية وثالثة ذهابا وايابا يبحث عنها. تملكه التعب وتأكد أن بحثه بلا جدوى. قرر العودة لمنزله ليفكر ما سيفعل.
عاد خالد لمنزله واستقبلته السيدة فريدة ووجها شاحب من كثرة البكاء والإرهاق.
"ما لاقيتهاش برضه يا خالد؟"
هز خالد رأسه نافياً. أدخلته فريدة لشقتها وأحضرت له كوب ماء.
"خد بل ريقك زمانك ما شربتش ولا كلت حاجة من إمبارح."
أخذ خالد منها الكوب وأرتشف منه رشفة واحدة.
"ومين له أي نفس ياكل ولا يشرب يا طنط. أنا دورت في كل حتة ممكن تكون فيها. مش عارف أروح فين ولا أعمل أيه."
"طيب ما نبلغ البوليس. يحسن يكون الرجل اللي كان مسرحهم خطفها."
نظر خالد لها بتعجب. جلست فريدة على الكرسي المقابل له وأجابت سؤاله الصامت.
"مريم حكت لي على كل حاجة. حكت لي أنتم أتقابلتوا أزاي وأتجوزتوا أزاي."
"طيب يا طنط مدام انت عارفة الظروف. أكيد عارفة أني مش هأقدر أروح أبلغ البوليس. هأقول لهم هي مين وتقرب لنا أيه؟"
"صحيح مش هنقدر نقول لهم أنك متجوزها."
وضع خالد رأسه بين كفيه وقال.
"أنا دماغي هتنفجر من التفكير. مش عارف هي تاهت ولا اتخطفت ولا جرى لها حاجة. ومش قادر حتى أبلغ البوليس عن إختفاءها."
أقتربت فريدة منه وجلست بجواره على الكنبة وربتت على ظهره وقالت له.
"إن شاء الله هنلاقيها. ما تقلقش. ربنا يحفظها من أي سوء."
رفع خالد رأسه للأعلى دعا خالد ربه والدموع تنهمر من عينيه.
"يا رب. يا رب أحفظها من أي سوء. يا رب طمني عليها. يا رب أجمعني عليها."
"أهدأ يا خالد. أنا أول مرة أشوفك كدة. أنت عمرك ما بكيت حتى في جنازة أمك ولا أبوك الله يرحمهم."
نظر لها خالد بعيون دامعة.
"أمي وأوبويا ماتوا وأدفنوا. لكن مريم أنا ما أعرفش هي ماتت ولا حصل لها أيه. ممكن قوي تكون اللي هي فيه أسوأ من الموت بكتير. الله أعلم الرجل اللي كان عاوز يقتلها ده خطفها ولا حد تاني هو اللي خطفها. ممكن يكونوا خدوها لحاجة أستغفر الله العظيم ولا لتجارة أعضاء ولا أيه. أنا ما كنتش قادر أصدق اللي سمعته من مريم على اللي بيحصل في الشارع. أحنا هنا عايشين في بيوتنا مرتاحين ولا نعرف اللي بيحصل لهم أيه. اللي يقطعوا رجولهم وذراعاتهم علشان يشحتوا بيهم. واللي يبيعوهم تجارة أعضاء ويقتلوهم. أو اللي يشغلوهم في الحرام. أنا هأتجنن."
"أكيد في حاجة نقدر نقولها للبوليس علشان يدوروا عليها."
لف خالد بجسده مواجها لها.
"قولي لي هنقول لهم أيه؟ هي مين بالنسبة لنا؟"
"لو ينفع مثلا أقول أنها بتشتغل عندي وما جتش النهاردة."
"تفتكري هينفع؟"
"نجرب لكن مش هنقعد كدة حاطين ايدينا على خدنا والله أعلم هي فين ولا بيحصل لها أيه."
"ماشي نقوم نجرب."
نهضت فريدة وذهبت مع خالد لقسم الشرطة. قدما بلاغ لإختفاء مريم بالأخص أنه مر على إختفاءها أكثر من أربعة وعشرون ساعة. سأل الضابط فريدة عن صلتها بمريم. أخبرتها أنها تعمل لديها في شقتها. طلب منها عنوان أهل مريم ليسألهم عن إبنتهم. تلجلجت فريدة ولم تستطع الإجابة. مع إلحاح الضابط أضطرت فريدة على مصارحته أن مريم من أطفال الشوارع وليس لها أهل ولا منزل. ضحك الضابط ضحكة سخرية وأخبر فريدة أنها أكيد عادت لأصلها. فهي فتاة من الشارع وعادت للشارع. فلا داعي للقلق والسؤال عليها.
غضب خالد كثيرا عندما سمع ذلك على زوجته ولكن فريدة شعرت به ومسكت بذراعه حتى لا يتهور داخل قسم الشرطة. نظر الضابط لخالد نظرة سخرية وطلب من فريدة أن تعود لمنزلها وألا تهتم بهؤلاء الملاعيين فهم أولاد حرام وأغلبهم سارقين أو منفلتين. وطلب منها أن تحافظ على بيتها وأولادها منهم وأشار لها على خالد. غلي الدم في عروق خالد وأحتاج إلى كل ذرة في كيانه لكظم غيظه أمام الضابط. خرج خالد والسيدة فريدة من قسم الشرطة وهم على يقين أنهم الوحيدين من يهتم بمريم ومصيرها.
وصل خالد السيدة فريدة لمنزلها. حاولت فريدة إقناعه أن يستريح لبضع ساعات أو حتى الأكل ولكنه رفض تماما. أخذ منها شطيرة بعد محاولات مستميتة وخرج ثانيا ليستأنف بحثه عن مريم. أستمر حال خالد هكذا لمدة ثلاث أيام يقضي يومه كله في الشوارع يبحث عن مريم ويعود لمنزله قبل الفجر بسويعات قليلة ليريح جسده حتى يستأنف بحثه في اليوم التالي. كان يبدأ بحثه وينهيه بمحطة القطار لسبب مجهول له ولكنه كان يشعر بقرب مريم في هذا المكان الذي شهد بداية رحلتهما. في صباح اليوم الرابع توجه لمحطة القطار كعادته وبدأ بالبحث عنها وسط الحشود المتزاحمة. بعدما مشط خالد أرصفة المحطة أكثر من مرة بحثا على مريم وعندما قرر الخروج من المحطة حزينا يائسا لمحها بطرف عينه وهي مكومة على طرف الرصيف تبكي. جرى إليها خالد ونادها.
"مريم."
نهضت مريم من جلستها واحتضنته بشدة وبكت في حضنه كثيرا. علت شهقاتها حاوطها خالد بذراعيه وحاول تهدئتها. دفنت رأسها في صدره واهتز جسدها من شدة بكاءها. ربت خالد على ظهرها.
"ششششششش. بس يا مريم. أهدي يا حبيبتي."
أستمرت مريم في البكاء. سحبها خالد بهدوء من حضنه ومسح دموعها وسألها بحنان.
"كنت فين؟"
أجابته مريم وسط شهقاتها.
"عم... إسماعيل... خطفني."
أحمر وجه خالد من الغضب وسألها.
"أيه؟ بتقولي خطفك؟ أزاي؟ وهو فين؟"
علا بكاءها وقرر خالد أخذها للمنزل لإلتفات بعض المارة لهم بسبب بكاء مريم. حاوط خالد مريم بذراعه وقادها لخارج المحطة وأخذ تاكسي للمنزل. تشبثت مريم بخالد طوال الطريق ولم تترك ذراعه أبدا. حاول خالد بكل إستطاعته تهدئتها فهي كانت تبكي على صدره وذراعه يحاوطها ويملس على ظهرها. نظر لهم السائق في المرآة وسأله.
"خير يا كابتن. في حاجة؟"
"لا أبدا يا اسطى. أصلها سمعت خبر مش كويس بس."
وصل خالد لمنزله واستقبلته السيدة فريدة على السلم جرت مريم لحضنها وبكت بشدة. سألتها فريدة أين كانت وماذا حدث لها ولكن مريم لم تجيبها بأي شيء. أستأذن خالد وأخذ مريم من حضن فريدة وأخبرها أنهما مرهقان ويحتاجان للراحة. تركتهما السيدة فريدة ليدخلا شقتهما ودخلت هي شقتها. دخل خالد بمريم لشقته وتوجه بها لغرفتها. أجلسها على السرير وجلس أمامها. سألها بكل هدوء عما حدث لها.
"مريم قولي لي حصل أيه؟ وخطفك أزاي المصيبة ده؟ وهربت منه أزاي؟"
لم تجبه مريم واستمرت في بكاءها.
"طيب طمنيني حد أذاك؟ عمل فيك حاجة؟"
هزت مريم رأسها بالنفي وأستمرت في البكاء.
أنحنى خالد وخلع عنها حذاءها. رفع رجلها على السرير وخلع حجابها. توجه للحمام وأحضر فوطة مبللة ومسح بها على وجهها. ومريم لم تتوقف عن البكاء. أحضر عباءة من عباءتها وبدل ملابسها المتسخة. فحص جسدها بعينه ليتأكد من عدم أصابتها بأي جرح. غلت الدماء في عروقه عندما لاحظ بعض الكدمات على ظهرها ولكنه قرر ألا يسألها عن شيء فحالتها لا تسمح بالكلام. بعدما بدل ملابسها رقد بجوارها على السرير وأخذها في حضنه. سمع بكاءها لدقائق قليلة ثم سكن بكائها ونامت في حضن زوجها. مكث خالد على وضعه لساعات دون أن يغمض له جفن ولكنه لم يتحرك خوفا من أني يقلقها في نومها.