رواية لا تترك يدي الفصل السادس والعشرون
بعد أذان العصر شعر خالد بمريم تتململ بين ذراعه. نظر لها وجدها تفتح عينيها ببطئ وتثاقل. رسم إبتسامة على شفتيه بالرغم من القلق والغضب الذي يتملكه وسألها.
"عاملة أيه؟"
رفعت مريم عينيها ونظرت له بعيون حمراء كالجمر من كثرة البكاء وأجابته بصوت خافت مبحوح.
"الحمد لله."
سالها خالد بهدوء يعاكس البركان الثائر في قلبه.
"ممكن تحكي لي أيه اللي حصل؟"
خرجت مريم من حضنه وجلست على السرير. جلس خالد مقابلها وأخذ يدها في يده. وبدأت مريم تقص عليه ما حدث لها.
"تاني يوم بعد ما انت سافرت روحت أفطر مع ماما فريدة. لاقت دواها خلص وعم علي كان في مشوار. اخدت منها اسم الدوا ونزلت الصيدلية اللي تحتنا أسأل عليه. الصيدلي قال لي ان الدوا مش موجود ووصف لي صيدلية في الميدان اللي بعدنا بشارعين. روحت للميدان ودخلت الصيدلية أشتري الدوا. بعد ما أشتريته أول لما خرجت لاقيت أتنين من رجالة عم أسماعيل جنبي واحد من اليمين والتاني من الشمال. وحسيت بحاجة في جنبي. واحد فيهم قال لي امشي وأنا ساكتة وإلا هيغزوني بالمطواه. خوفت منهم ومشيت معهم. خدوني في تاكسي لعم إسماعيل."
"ودول عرفوا مكانك منين؟"
"مش عارفة. قالوا لعم إسماعيل أنهم شافوني بالصدفة وأنا داخلة الصيدلية وقرروا يرجعوني له علشان هو كان متنرفز قوي لما أنا هربت منه من ست شهور."
"وبعدين أيه اللي حصل عند عم زفت؟"
"أول لما شافني قعد يزعق في ويشتمني شتايم فظيعة. وبعدين خلع حزامه وقعد يضربني على ظهري به. وبعدين رماني في غرفة ورا الورشة بتاعته وقال انه لولا أني غالية كان قتلني بأيده الاتنين. فضلت أعيط وانا لوحدي هناك وكان كل همي وقلقي عليك. كنت متأكدة أنك هتقلق علي وما كنتش عارفة أوصل لك أزاي. فضلت طول الليل أعيط وأدعي ربنا ينجيني منه. لغاية لما أذن الفجر وأنا بصلي وأقرأ قرآن من اللي أنت حفظته لي. بعد الفجر بساعة ولا أتنين مش عارفة لكن الدنيا كانت نور. الباب اتفتح ولاقيت محمود."
"مين محمود ده؟"
"صبي عم إسماعيل اللي كنت حكيت لك ان ايده اتقطعت."
"كملي عمل ايه محمود ده كمان."
"دخل جاب لي أكل."
فلاش باك
كانت مريم جالسة في غرفة صغيرة مظلمة مكورة على نفسها وتبكي على حالها وفتح الباب وظهر طفل بذراع مبتور أقترب منها وهو يحمل طبق بذراعه السليمة عليه شطيرة طعمية.
"مريم خدي كلي الساندوتش ده."
أزاحت مريم الطبق بعيد عنها وقالت له.
"مش عاوزة أكل أنا عاوزة أروح."
"كلي بس وأستهدي بالله. هتروحي فين يعني هو أحنا لينا مكان غير هنا."
علت شهقات مريم وقالت له.
"أنا مش عاوزة أقعد هنا. أنا عاوزة أروح بيتي."
جلس محمود بجوارها وسألها.
"بيتك ده فين؟ أنت عرفت أهلك مين ولا فين؟"
هزت مريم رأسها نفياً
"طيب يعني كنت فين الفترة اللي فاتت. وباين كمان من لبسك كأنك بنت ناس."
خشيت مريم على خالد إن ذكرت أسمه أو صلتها به ففضلت أن تخبر محمود بنصف الحقيقة. لعله يشفق على حالها ويساعدها على الهرب من إسماعيل وجحيمه.
"كنت عند ناس صعبت عليهم وشغلوني عندهم."
"يعني كل العياط ده والبهدلة اللي أنت فيها ده علشان عاوزة ترجعي تشتغلي خدامة."
أستادرت مريم بجسدها لمحمود وحاولت أن تستميله في صفها.
"الناس ده مش بتعاملني كأني خدامة. الست فريدة بتعتبرني بنتها. هي اللي جابت لي الهدوم ده. وكمان طلبت مني أقول لها يا ماما. الناس دول طيبين قوي وأنا عاوزة أرجع أعيش عندهم. أنا مش هأستحمل أرجع أشحت تاني ولا أبيع مناديل في الشوارع."
رق محمود لما أخبرته به مريم وقال لها.
"بس يا مريم يعني هنعمل أيه. أنت عارفة عم إسماعيل لما يتنرفز بيبقى حاله عامل أزاي. هو أتغاظ منك قوي لما أنت هربت منه المرة اللي فاتت. أصبري بس وأسمعي الكلام ولما ينزلك الشغل أبقي روحي للست فريدة ده ولا أي حتة. لكن دلوقت مش هينفع تهربي من هنا خالص. ده مشدد عليك أنك ما تخرجيش من هنا أبدا دلوقت."
"لكن أنا مش هأستحمل أقعد هنا تاني. أنا عاوزة أروح."
أستأنفت مريم بكاءها.
"مريم ما تعمليش مشاكل الله يكرمك. الأكل عندك أهه عاوزة تاكلي كلي مش عاوزة تأكلي براحتك."
خرج محمود وأغلق الباب وترك مريم في الغرفة المظلمة تبكي حالها وحال زوجها في بعدها. في الليل فتح إسماعيل الباب ودخل لمريم المكومة في ركن الغرفة على أرض العارية. نكزها بقدمه وأيقظها.
"بت يا مريم. قومي فزي."
فزت مريم من نومها وأعتدلت في جلستها وسترت قدمها بملابسها. أخذ إسماعيل كرسي خشب من طرف من أطراف الغرفة ووضعه أمام مريم وجلس عليه بالمقلوب وسند ذراعيه على ظهر الكرسي وسأل مريم.
"مش هتقولي يا بت كنت فين واللبس اللي لبساه ده جبتيه منين؟"
صمت مريم أستفز إسماعيل فوقف وأقترب منها وأنحنى وصاح في وجهها.
"لما أكلمك تردي علي يا بت. كنت فين وجيبت الهدوم ده منين؟"
لم تجبه مريم فمسكها إسماعيل من ملابسها وهزها بعنف وصفعها على وجهها. وقعت مريم على الأرض من أثر الصفعة وسال الدم من فمها وأنخلع عنها حجابها. أعتدلت مريم سريعاً ومدت يدها تحكم حجابها فوق رأسها وأنهمرت الدموع من عينيها في صمت.
"مش هتقولي يا بت كنت فين؟"
لم تنطق مريم وظلت صامتة. توجه إسماعيل لباب الغرفة وقال لها وهو مغادرها.
"مش هتخرجي من هنا غير لما تقولي لي كنت فين وعايشة عند مين؟"
خرج إسماعيل وعلت شهقات بكاء مريم التي كانت تكتمها أمامه. خرت على الأرض ساجدة لله وتدعوه أن يرحمها ويعيدها لزوجها وأمها فريدة مرة أخرى. أستمر حالها هكذا ليومين يأتيها محمود بالطعام وإسماعيل يستجوبها ويضربها عندما لا تجيبه على أسئلته. في اليوم الثالث أتى محمود بالفطار كالمعتاد وجلس مع مريم وأخبرها بما لم تتوقعه أبدا.
"مريم لو عاوزة تعرفي أهلك فين هم في الأسكندرية."
أتسعت عينين مريم من الدهشة وسألته.
"نعم أهلي؟ أنت عرفت منين؟"
"بعد ما أنت هربت فضل إسماعيل يدور عليك كتير قوي. وبعدين سمعته بيقول لواحد من رجالته يسافر أسكندرية يدور عليك هناك. لما سأله ليه قال له علشان أهلك من الأسكندرية."
"طيب ما تعرفش أي حاجة تاني أقدر أعرف بها أهلي. أسمهم أيه ولا مكانهم فين بالظبط في الأسكندرية؟"
"لا كل اللي عرفته أنك كنت مخطوفة أنت وعمر الله يرحمه من الأسكندرية من اتناشر سنة. إحنا كلنا أفتكرنا أنك وصلت لعيلتك لما أختفيت."
سألته مريم بعيون دامعة يملأها الأمل.
"يعني ما تعرفش أي حاجة تاني عن عيلتي؟"
"لا خالص. أنا حكيت لك على كل اللي أعرفه. إن شاء الله لما تمشي من هنا حاولي تدوري على أهلك؟"
"شكرا خالص يا محمود. أنا مش عارفة أشكرك أزاي بصراحة. اللي أنت قولته ده هيغير حياتي كلها."
"يا مريم أنت زي أختي. أحنا متربين كلنا مع بعض. يا ريت يكون لي أهل أقدر أرجع لهم. جوز أمي هو اللي طردني من البيت ورماني لإسماعيل وقال لي ما أرجعش البيت تاني. لكن أنت أهلك أكيد بيدوروا عليك وعاوزينك."
أجابته مريم بعيون يملأها الأمل والدموع.
"يا رب أعرف أوصل لأهلي. يا رب."
"إن شاء الله."
خرج محمود وترك مريم في قمة فرحها لسماعها معلومة عن أهلها. لأول مرة تستشعر حقيقة أن لها أهل. فهي تعلم يقينا أن لها أب وأم في مكان ما في هذا العالم. ولكنها لنشأتها في الشارع بعيدا عن الأهل والأسرة لم تتصور هذه الحقيقة في عقلها ولم تفكر فيها من قبل. دب أمل جديد في قلبها أن لها عائلة وأم وأب يبحثون عنها وعن أخيها. لأول مرة تشعر بإفتقادهم وتمنت رؤيتهم والإجتماع بهم. دعت ربها وترجته أن يجمعها بهم.
في الصباح التالي دخل عليها محمود وعلى وجهه علامات الفزع والقلق. سألته مريم.
"في أيه يا محمود مالك؟"
أجابها محمود بصوت مهزوز ومرتعش.
"أنت لازم تمشي من هنا بسرعة. قومي واطلعي اجري من هنا. عم إسماعيل سمعته بيتكلم في التليفون والناس اللي بيشتروا العيال هيجوا ياخدوكي بعد ساعة."
فزعت مريم لما سمعت ونهضت مسرعة.
"شكرا خالص يا محمود. لكن أنت هتعمل أيه مع عم إسماعيل. ممكن يقتلك لو عرف أنك هربتني."
"مالكيش دعوة أنت أهربي بس. حاولي توصلي لأهلك. وأجري من هنا بسرعة."
"أنت بتعمل أيه هنا يا واد أنت؟"
فزعا الأثنان لسماع صوت إسماعيل الواقف على عتبة الغرفة. ألتفتت مريم له ونظرة الفزع تملأ وجهها. عادت خطوتين للوراء وتقدم إسماعيل لها ومسكها من رأسها. صرخت مريم وهي تشعر بيده تجتز شعرها من جذوره تحت حجابها. أقترب منه محمود وحاول يخلص مريم من قبضته بذراعه السليم ولكن إسماعيل دفعه فسقط الطفل على الأرض. قبض محمود على عتلة ملقاه على الأرض ونهض وضرب إسماعيل على رأسه بها بكل قوته. سقط إسماعيل على الأرض في الحال والدماء تسيل من رأسه. وقفت مريم مكانها وشلتها الصدمة مما رأت. أقترب منها محمود ومسك ذراعيها وهزها ليخرجها من الصدمة. سمعته يقول لها.
"مريم. أجري من هنا. أهربي وأياك ترجعي هنا تاني. دوري على أهلك وروحي لهم. أجري يا مريم."
صاح فيها محمود فعادت مريم للواقع وأطلقت لساقيها العنان.
فلاش باك أنتهى
أنهت مريم قصتها ودموعها تفيض من عينيها بغزارة ولم يقاطعها خالد. أقترب منها وأخذها في حضنه حتى هدأت قليلا ثم سألها.
"ايه اللي وداك على المحطة؟ ما رجعتيش ليه على طول؟"
أجابته مريم وعيونها للأسفل وهي في حضنه.
"ما عرفتش أروح. فضلت أمشي في الشوارع مش عارفة أروح فين ولا أرجع البيت أزاي. أفتكرت لما قولت لي أن المحطة أمان. روحت على محطة القطر وقعدت على الرصيف هناك. ما كنتش متخيلة أني هشوفك تاني. كنت هأتجنن من الخوف والرعب. مش عارفة أروح فين ولا أعمل أيه."
"بس يا حبيبتي. أنت هنا في بيتك. مفيش حد يقدر يأذيك. يا ريت بعد كدة ما تخرجيش إلا بأذني أو معي وما تسيبيش الموبايل خالص من ايدك. خليه على طول معك."
نظرت له مريم للأعلى وأجابته.
"تفتكر لو كان معي الموبايل كانوا هيسبوه معي. دول كانوا هيتجننوا من لبسي ومن منظري. قعدوا يسألوني كنت فين الفترة اللي فاتت وروحت عند مين. لكن أنا ما رضيتش أقول لهم أي حاجة. خوفت يحسن يأذوك."
"الحمد لله. قدر الله وما شاء فعل. كويس أنك ما قولتيش أي حاجة علشان ما يقدروش يوصلوا لك بعدين. قومي بقى كدة أتوضي وصلي وأحمدي ربنا أنك رجعت تاني لبيتك. وأنا كمان أصلي علشان من الصبح ما صليتش حاجة. قومي استهدي بالله."
نهضا معا وصليا فروضهما وحمدا الله كثيرا على سلامة مريم وعودتها لمنزلها.
**********