رواية لا تترك يدي الفصل الثامن والعشرون
بعد شهرين كانت مريم تتناول وجبة الإفطار مع السيدة فريدة في شقتها. لاحظت فريدة شحوب وجه مريم وتعبيرات الألم على وجهها. ربتت على ظهر مريم بحنان وسألتها.
"مالك يا مريم؟ مش بتأكلي ليه؟"
نظرت إليها مريم وحاجبيها معقودان وأجابتها بصوت متحشرج من بكاء مكتوم.
"مفيش يا ماما تعبانة شوية."
نهضت فريدة أقتربت من مريم ومسكتها من كتفيها وسألتها.
"تعبانة من أيه يا حبيبتي؟"
أبتسمت مريم نصف إبتسامة وأجابتها بصوت ضعيف.
"العادي بتاع كل شهر يا ماما. هأخد مسكن دلوقت وهبقى كويسة."
فزت مريم من مكانها فجأة وجرت للحمام وتقيأت كل ما في معدتها. أسرعت فريدة إليها وتوقفت على عتبة الحمام عندما أشارت لها مريم بيدها لتبعد. ولكنها سرعان ما لاحظت شحوب وجه مريم أكثر وتصببها عرقا وفجأة وجدتها تترنح فوصلت إليها فريدة في خطوتين وسندتها قبل أن تسقط و تصطدم رأسها بحرف الحوض.
بللت فريدة كفها ومسحت به على وجه مريم عدة مرات ثم سندتها إلى غرفة النوم ساعدتها لترقد على السرير. دثرتها جيدا بالغطاء ودخلت المطبخ وأعددت لها مغلي أعشاب لتخفف آلامها. شربت مريم ما قدمته إليها فريدة مع قرص مسكن وأستسلمت للنوم.
بعد ساعة كانت فريدة جالسة أمام التلفاز تقلب في القنوات ووجدت مريم قادمة إليها تتسند على الجدار. وقفت فريدة واقتربت منها ساعدتها على الجلوس على أقرب كرسي وسألتها.
"أيه اللي قومك من السرير؟ ما كنت خليك مستريحة."
"ما ينفعش. لازم أروح أشوف اللي ورايا."
"بس أنت تعبانة النهاردة. خليك مرتاحة."
"ما ينفعش يا ماما. عاوزة أروح أجهز الغداء. خالد بيرجع من المدرسة جعان علشان مش بيفطر الصبح."
"بس يا بنتي أنت تعبانة. ممكن تجيبوا أي حاجة جاهزة. مش لازم تطبخي وأنت تعبانة."
هزت مريم رأسها بالنفي وأجابت بصوت ضعيف.
"مش بحب أجيب أي أكل من برا. بحب أعمل له كل حاجة بنفسي."
أبتسمت فريدة لإجابتها وقالت لها.
"طيب أنت عاوزة تعملي أيه وأعمله لك أنا."
"أمبارح كان قال نفسه في المحشي. وطلبت من عم علي الحاجات وجابها. يا دوب أبتدي فيه دلوقت."
"طيب روحي أنت كملي نومك وأنا هعمل كل حاجة."
أبتسمت مريم نصف إبتسامة وقالت لها.
"مش قولت لك بحب أعمل له كل حاجة بنفسي. ما تقلقيش علي أنا الحمد لله كويسة. المسكن ريحني وشوية الألم هيروح خالص."
"بس أنت تقريبا أغمي عليك من شوية يا مريم. مش ممكن اسيبك تروحي شقتك وتقعدي لوحدك وأنت تعبانة."
وقفت مريم ونظرت للأسفل لفريدة وقالت لها.
"ماما ما تقلقيش علي. أنا كويسة خالص أهه. سلام بقى علشان مفيش وقت المحشي بياخد وقت كبير زي ما أنت عارفة."
وقفت فريدة امامها ونظرت لها بحنان وقالت.
"مدام مصممة خلاص براحتك. لكن أنا جاية معك أساعدك."
حاولت مريم الإعتراض ولكن فريدة نظرت لها بتحدي فأستسلمت مريم للأمر. توجها الأثنان معا لشقة مريم وبالرغم من محاولات فريدة إلا أن مريم قامت بكل الأعمال بمفردها. عند إقتراب موعد رجوع خالد أستأذنت فريدة وعادت لشقتها.
"برضه عملت كل حاجة لوحدك يا مريم. أنا ماليش أي لازمة."
أنحنت مريم وأخذت رأس فريدة الجالسة أمامها بين يديها وقبلت أعلى جبهتها وقالت.
"أنت الخير والبركة كلها. مجرد وجودك جنبي بيضيع أي تعب أو وجع. ربنا ما يحرمني منك يا ماما يا حبيبتي."
جلست مريم بجانبها وحاوطتها بذراعيها. لفت فريدة ذراعها حول جسد مريم الصغير وضمتها إليها أكثر وقالت لها.
"يا بكاشة. على طول تعرفي تضحكي علي بلسانك السكر ده."
نظرت لها مريم للأعلى ومطت شفتاها السفلى ظهرت كالطفلة الغاضبة وقالت لأمها.
"بقى أنا بكاشة؟"
قرصت فريدة انفها وأجابتها.
"أنت البكش كله."
ضحكت فريدة ضحكة خفيفة على منظر مريم الطفولي البرئ ثم وقفت وقالت لها.
"اروح شقتي أنا بقى زمان خالد قرب يجي."
وقفت مريم ومسكت يد فريدة بين كفيها الصغيرين وقالت لها.
"ما تخليك. اتغدي معنا. المحشي هيعجبك."
"بألف هنا وشفا لكم يا حبيبتي. لكن لما جوزك يرجع من برا لازم ما يلاقيش حد في البيت غيرك. علشان يقعد براحته ويقدر يرتاح."
"عادي يا ماما. هو متعود عليك ومش هيتكسف منك."
"برضه يا حبيبتي. أنا عارفة. لكن الصح صح. جوزك لما يرجع من برا لازم يلاقي البيت هادي ونظيف ومراته حبيبته تستقبله وتريحه."
"حاضر يا ماما."
غادرت فريدة وتوجهت مريم للمطبخ لأعداد السلطة. بعد دقائق معدودة سمعت جرس الباب. لفت حجابها وفتحت الباب تستقبل زوجها.
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
أعطت مريم له المجال ليدخل وردت عليه السلام.
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته."
أغلقت مريم الباب واسرعت لغرفتهما وعادت في ثواني حاملة خفيه بيدها. أقتربت منه وناولته الخف ليبدل حذاءه وسألته وهي مبتسمة.
"عامل أيه النهاردة؟"
أجابها وهو يخلع جورابه دون أن يلتفت إليها.
"الحمد لله."
أنحنت مريم حملت حذاءه من على الأرض ووضعته في الخزانة الخاصة بالأحذية وقالت له.
"دقيقتين والأكل يبقى جاهز."
أجابها وهو متوجه لغرفتهما دون أن يتوقف أو يلتفت إليها.
"مش جعان. كلي أنت."
تبعته مريم للغرفة وقالت له وهي تناوله ملابسه.
"بس أنت ما فطرتش."
خلع خالد ملابسه وألقاها على السرير وأخذ من مريم ملابسه النظيفة وارتداها.
"ماليش نفس يا مريم. كلي أنت وأنا هنام."
لمت مريم ملابسه المتسخة وتبعته للحمام وضعت ملابسه في سلة الملابس المتسخة واخذت منشفة ووقفت بجواره تنتظره حتى ينتهي من غسل وجهه ووضوءه. ناولته المنشفة وقالت له.
"بس انا عاملة لك محشي. مش أنت أمبارح قولت نفسك في المحشي."
نشف خالد وجهه وذراعيه وناولها المنشفة وقال لها.
"قولت لك مش جعان. يا ريت تسيبيني انام شوية."
شعرت مريم بالألم من نبرته الحادة معها تركته وخرجت من الغرفة.
"اقفلي الباب وانت خارجة."
ألتفتت مريم له وجدته تمدد على السرير ويشد الغطاء على جسده فاطفات الأنوار وأغلقت الباب وتركته بدون أي كلمة أخرى.
بعد ثلاث ساعات كانت مريم انتهت من اعمال التنظيف وكي ملابس خالد للأسبوع بأكمله. أستيقظ خالد وخرج من غرفته وجد مريم جالسة في الصالة وتحت ابطيها أبرتين تنسج بهم بإحترافية قميص له. جلس بجوارها ومسك جهاز التحكم وشغل التلفاز. تركت مريم الخيط والأبر ووضعتهم أمامها على المنضدة وسألته.
"أقوم أجهز لك الأكل؟"
أجابها إجابة مقتضبة.
"ماليش نفس."
لفت مريم بجسدها تواجهه ورفعت رجلها عن الأرض وطوتها تحتها وسألته.
"مالك يا خالد في ايه؟ حصل حاجة ضايقتك؟"
"مفيش حصل موقف بس في المدرسة خنقني."
"خير حصل أيه؟"
نظر خالد للأسفل وجاوبها بصوت مهزوز.
"موبايلي أتسرق."
أتسعت حدقتي مريم وسألته.
"نعم أتسرق أزاي؟ أيه اللي حصل."
"أهه أتسرق يا مريم زي أي حاجة بتتسرق. فجأة مالاقيتهوش في جيبي."
"طيب أستهدى بالله وما تضايقش نفسك. قدر الله وما شاء فعل. مش أنت على طول بتقول لي كدة."
"ونعم بالله. قومي جهزي لي أي حاجة أكلها علشان ما أكلتش أي حاجة من الصبح."
"حاضر من عيني."
"أنت أكلت ولا هتأكلي معي؟"
"لا ما أكلتش أنا كمان أي حاجة مستنياك."
"طيب كويس جهزي الأكل."
بعد دقائق عدة أعدت مريم مائدة الطعام وجلسا معا يتناولان الغذاء سألته مريم عندما لاحظت شروده وتوقفه عن الطعام.
"أنت دورت عليه كويس يمكن يكون وقع منك؟"
"لا ما وقعش أتاخد من جيبي."
"أزاي بس؟"
"أحكي لك أزاي."
فلاش باك
خالد وصديقه حسام متجهان لمعمل الحاسب الآلي ويضحكان معا ويمزحان. فجأة يصطدم شاب آخر بخالد من الخلف ويكمل طريقه دون الإلتفات ولا الإعتذار لخالد عما فعل. نظر خالد للكتب التي وقعت من يده على الأرض وألتفت للشاب وصاح إتجاهه.
"مش تفتح."
لم يعره الشاب أي إهتمام ولم يلتفت له. مما أثار غضب خالد أكثر فهم ليتبعه ولكن حسام مسك به وحاول تهدئته.
"خلاص يا خالد سيبك منه. أنت هتاخد على بيشوي الكل عارف قد أيه هو بيكرهك ويحقد عليك علشان أنت على طول الأول وهو التاني."
"أول أيه وتاني أيه؟ ده قلة ذوق."
أنحنى حسام ولم الكتب التي تبعثرت على الأرض وناولها لصديقه.
"ولا يهمك ولا تضايق نفسك. طنشه خالص."
أخذ خالد كتبه من صديقه وأستأنف طريقه للمعمل متناسيا ما حدث.
فلاش باك أنتهى
بعد كدة وأنا في حصة الكمبيوتر بطلع الموبايل علشان أستخدم الآلة الحاسبة مالاقيتهوش."
"طيب ما يمكن يكون وقع منك وقت لما خبطك زميلك."
"ما أنا رجعت أنا وحسام وقعدنا ندور مالاقيناهوش. ولما حاولت أرن عليه لاقيته مقفول. عرفت انه أتسرق."
"ما تضايقش نفسك. الحمد لله على كل حال."
"المشكلة أن علشان أشتري غيره دلوقت مش أقل من أربع أو خمس ألاف جنيه."
"ولا يهمك. كان ممكن نصرفهم في تعب لا قدر الله ودوا. الحمد لله أنها جت على كدة."
"أنا مش عارف هقعد أزاي من غير موبايل لغاية لما عمي يبعت لي الفلوس على أول الشهر. أحنا يا دوب يوم خمسة في الشهر دلوقت. يعني قدامنا شهر كامل. وانا ما ينفعش أقعد خالص من غير موبايل علشان الدروس أوقات تتغير مواعيدها او تتلغي وبيتصلوا بينا."
أبتسمت مريم له وقالت.
"عادي. أنا مش بأستخدم موبايلي خالص تقريبا. خد موبايلي لغاية لما تشتري موبايل جديد."
"بس يا مريم أنت بتتفرجي على الفيديوهات التعليمية منه. لو احتجتيني في أي وقت هتتصلي بي أزاي."
"ما لو أنا أحتجتك برضه مش هأعرف أتصل لو انت مش معك موبايلك. على الاقل أنا عندي تليفون البيت ممكن أتصل بيك لو أحتجتك. والفيديوهات يا سيدي أبقى أشوفها على الشاشة حتى تبقى أكبر وأوضح من شاشة الموبايل."
"يعني أنت مستغنية عن موبايلك الفترة ده؟"
"أيوة يا حبيبي. خليه معك لغاية لما تشتري واحد جديد."
"ربنا ما يحرمني منك يا رب."
"ولا يحرمني منك أبدا يا رب."
قطع حديثهما رنين هاتف المنزل. هم خالد للنهوض للرد عليه ولكن مريم قالت له.
"خليك أنت كمل أكلك وأنا هأشوف مين."
وقف خالد وقال لها.
"خليك أنت 90% معاكسة أو نمرة غلط. مفيش حد بيرن على تليفون البيت دلوقت."
توجه خالد للهاتف ورفع السماعة وبدأ بالتحية.
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
"أزيك يا صالح عامل أيه؟"
"معلش أصل التليفون مش معي."
"أيه أنت بتقول أيه؟"
فزت مريم من مكانها عندما سمعت نبرة الإنكسار في صوت زوجها وأسرعت إليه. جلس خالد على الكرسي وشحب وجهه وسقطت السماعة من يده. سألته مريم.
"في أيه يا خالد؟ حصل أيه؟"
ردد خالد جملة واحدة مرارا وتكرارا.
"إنا لله وإنا إليه راجعون. إنا لله وإنا إليه راجعون."
جلست مريم بجواره وسألته بتردد.
"في أيه يا خالد؟ مين مات؟"
نظر لها خالد بعيون زائغتين وأجابها.
"عمي إبراهيم مات."