رواية لا تترك يدي الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم هند رفاعي


 رواية لا تترك يدي الفصل التاسع والعشرون 

نزل الخبر على مريم كالصاعقة. وقفت مكانها عاجزة عن الحركة أو الكلام. فماذا تفعل وماذا تقول. الرجل كان كالوالد بالنسبة لها لبضع شهور. شعرت بالحزن يشلها عن التعبير عما بداخلها. ولكنها تذكرت خالد وصدمته وحزنه على عمه. فإن كانت هي حزينة على العم إبراهيم فحزن خالد أضعاف أضعافها. فهو عمه من دمه. سنده في هذه الدنيا بعد وفاة والده. كان يعتبره ابنه ويفضله عن أبناءه. 

تسمرت مريم في مكانها لعدة دقائق ثم اقتربت من خالد ببطء. جلست بجواره ووحاوطته بذراعها. ويدها الأخرى حركت رأسه إتجاهها. نظرت في عينيه وجدتهم زائغتين. كان تائه كالمغيب عن الدنيا. اقتربت منه وأحتضنته وهمست له.

"البقاء لله يا خالد. ما تعملش في نفسك كدة. قل لا إله إلا الله."

لم يجيبها خالد أو بالأحرى لم يسمعها. ابتعدت عنه قليلا ونظرت له وهزت رأسه بيدها وقالت له.

"خالد قول لا إله إلا الله."

تمتم خالد وردد وراءها.

"لا إله إلا الله. لا إله إلا الله. إنا لله وإنا إليه راجعون. إنا لله وإنا إليه راجعون."

أخذ خالد يردد الجملتين مرارا وتكرارا لعدة دقائق. ثم تنبه لمحيطه ووقف والتفت لزوجته وقال لها.

"قومي أجهزي هنسافر دلوقت. عاوز ألحق الدفنة الصبح."

نهضت مريم وقالت له.

"حاضر نص ساعة وكل حاجة هتكون جاهزة."

وصل خالد ومريم لمحطة أسيوط بعد منتصف الليل. أستقلا سيارة أجرة للقرية. نظر خالد عبر النافذة لسواد الليل المحيط بالغيطان من حوله. شعر بأن الأرض كلها في حداد على عمه. شعر بالخنقة والضيق بالرغم من الهواء المندفع من النافذة بسبب سرعة السيارة. وصلا للمنزل وحيتهم زوجة عمه بالصراخ والعويل. دخل خالد المنزل ووجد أولاد عمه جالسين مطأطأين الرؤوس أقترب من صالح الجالس بجوار زوجته الملتفحة السواد تبكي وتصرخ على حماها. وقف أمام ابن عمه وقال له.

"صالح عمي فين؟"

أنتبه صالح لصوت ابن عمه وسؤاله فرفع رأسه وجد خالد واقف أمامه فوقف وحضن ابن عمه واجابه بصوت مخنوق.

"عمك مات يا خالد. أبويا مات."

"عمي فين؟ عاوز أشوفه."

أشار صالح لخالد على غرفة إبراهيم فتركهم خالد ودخل لعمه ليودعه. دخل خالد الغرفة وأغلق الباب وراءه. وجد جثة عمه ممددة على سريره ومغطاه بملاءة. أقترب خالد بخطوات ثقيلة بطيئة من الجسد المسجى أمامه وبيد مرتعشة رفع الغطاء عن وجه عمه. وجد وجهه مضيء ومشرق بإبتسامة رضا. أطمئن قلب خالد لرؤية حال عمه وما دل على حسن خاتمته. أنحنى وقبل جبينه ثم سجاه ثانية بالملاءة. وجلس بجواره على السرير. 

في الخارج جلست مريم وسط زوجة صالح وعروس هشام صامتة. فهي تجهل ما يجب فعله أو قوله في هذه المناسبات. فهي لم تحضر أي جنازة أو عزاء من قبل. ولم يكن لها عزيز لتبكيه من قبل. حتى أخيها عند وفاته لم تقم له جنازة ولم تحضر دفنته فقد أخذت الشرطة جثته ولم تعلم ماذا حدث له وأين دفن. مكثت هكذا تبكي في صمت وكل تفكيرها وقلقها على خالد وحاله. بعد فترة ليست قصيرة ظهر خالد ثانيا وسأل صالح.

"هتدفنوه أمتى؟"

أجابه صالح بصوت خافت ضعيف.

"بعد الفجر إن شاء الله هنصلي عليه ونطلع على الجبل ندفنه."

"مين هيغسله؟"

"قبل الفجر بساعة هيجي المغسل يغسله علشان يكون جاهز على الفجر."

"قول لهم يسخنوا ماية وأنا اللي هغسله."

أنتبهت مريم للدهشة على وجه صالح الذي وقف أمام خالد وسأله.

"هتغسله أزاي يا خالد؟ المغسل هيجي هو يغسله." 

أرتفعت نبرة صوت خالد قليلا وقال بكل وضوح لصالح ولكل الموجودين.

"عمي مش هينكشف على غريب. أنا غسلت أبويا وهأغسل عمي. عاوز تحضر الغسل تعالى معي لكن مفيش حد غريب هيدخل على عمي ويغسله."

"حاضر يا خالد. قومي يا أحلام هاتي ماية سخنة."

دخل خالد وصالح وهشام لتغسيل إبراهيم وناولتهم المياه أحلام ومريم. أما عروس هشام فجلست مكانها بسبب حملها. أنتهى خالد من تغسيل عمه وخرج هو وابناء عمه من الغرفة. قال صالح.

"خالد فاضل ثلاث ساعات على الفجر. أدخل ريح أنت ومرتك جوا أنت جي من سفر وبكرة يوم طويل."

أومأ خالد برأسه وأقترب من زوجته أخذ بيدها وحمل عنها حقيبتهم ودخل بها غرفة الضيوف. تمدد خالد على السرير بصمت وبدون أن يبدل ملابسه. بدلت مريم ملابسها ونامت بجواره. بعد دقائق قليلة غلبها الإرهاق والتعب وأستسلمت للنوم بعكس زوجها الذي لم تغمض له عين. 

بعد ساعة شعرت مريم بفراغ السرير جوارها. مدت يدها تتحسس زوجها ولكنها لم تجده. فتحت عينيها وبحثت عنه في الغرفة ووجدت نفسها بمفردها في الغرفة. نهضت من السرير ولبست إسدالها وخرجت تبحث عنه. وجدت الدار بأكمله ساكن هادئ والكل نائم في غرفهم. طلعت الدرج لسطح المنزل فخالد يحب الجلوس على السطح ومشاهدة الطبيعة ولكنها فشلت في العثور عليه أيضا. شعرت بالقلق عليه فحالته غير مستقرة وحزنه على عمه كبير. نزلت الدرج وقادتها قدميها لغرفة الحاج إبراهيم التي يشغلها لآخر مرة. فتحت الباب ببطء شديد وقلبها يرفرف من الخوف لإقترابها من جثة. طلت برأسها داخل الغرفة ووجدت خالد جالس بجواره على السرير والمصحف في يده ويقرأ القرآن بصوت عذب نقي. فتحت مريم الباب وخطت خطوتين داخل الغرفة وهي مرتعبة أقتربت من خالد ووقفت في صمت منتظرة حتى ينتهي من قراءته. بعد دقيقة شعر بها خالد ووقف بعدما انتهت الآية التي كان يقرأها وألتفت إليها وسألها.

"عاوزة حاجة يا مريم؟"

أقتربت مريم خطوتين وعينيها مسلطة عليه لا تريد أن تنظر للجثة المكفنة الممدة أمامها على بعد أقل من متر وأجابته.

"مش هتنام يا خالد؟ لازم تريح شوية قبل الجنازة بكرة. علشان تقدر تقف على رجليك بكرة مع الرجالة."

"أنا مش تعبان. لو عوزت أنام هروح أنام. سيبيني قاعد مع عمي شوية."

"بس يا خالد أنا قلقانة عليك."

"ما تقلقيش. روحي أنت أرتاحي وأنا لما أخلص هأجي لك."

أخذت مريم كرسي ووضعته بجانب باب الغرفة أبعد ما يكون من جثة إبراهيم وقالت لخالد.

"أنا هأقعد هنا معك لغاية لما تيجي تنام."

"يا مريم روحي نامي أنا مافياش حيل أتكلم ولا أناهد."

"مش هأعرف أنام من غيرك. هستنى هنا معك."

"براحتك اللي عاوزة تعمليه أعمليه."

جلست مريم على الكرسي بجوار الباب وأستأنف خالد قراءته للقرآن بجوار جسد عمه. بعد ساعة فتح الباب ابن عمه صالح ووجد خالد يجلس بجوار أبيه يقرأ القرآن وزوجته مريم جالسة على كرسي بجوار الباب ورأسها مسنود على الحائط ومستغرقة في النوم. أقترب من خالد ولمس كتفه عندما لم يشعر خالد بوجوده وقال له بعدما ألتفت له خالد.

"أنت ما ريحتش من أمبارح يا خالد ليه؟ وكمان مرتك نايمة هنا من أمتى؟"

ألتفت خالد لزوجته وجدها نائمة لى الكرسي ورقبتها مائلة في وضع غير مريح فقام وتوجه إليها وهز كتفها برقة وأجاب أبن عمه.

"ما أخدتش بالي منها نامت من أمتى كانت من شوية صاحية."

أنتبهت مريم لوجود صالح فوقفت على الفور. قال لها زوجها

"روحي يا مريم شوفي مرات عمي هتعمل ايه علشان خلاص الجنازة هتبدأ دلوقت."

أومأت مريم برأسها وخرجت من الغرفة. بعد دقائق عدة توافد أهل البلد وأخذوا جثة إبراهيم وتوجهوا بها للمسجد لصلاة الجنازة عليه بعد صلاة الفجر. ودعته زوجته سعاد بالصراخ والعويل وردت عليها باقي النساء الحاضرات للجنازة. كان جنازة مهيبة حضرها المئات من أهل القرية والقرى المجاورة لها حضر اصدقاء خالد من القاهرة جاسر وياسين وحسام. وقفوا بجواره لمساندته في ذلك اليوم العصيب عليه. 

بعد الصلاة توجهوا للجبل لدفنه في مقابر العائلة. نزل خالد القبر هو وصالح وأستقبل جثة عمه وحل عقد كفنها. خرج خالد من القبر وتلقى العزاء في عمه مع أولاد عمه. بعد مراسم الدفن ذهب الجميع لباقي مراسم العزاء. مكث خالد بجوار القبر لساعات يقرأ القرآن ويدعو لعمه بالرحمة والمغفرة. لم يشعر بالوقت حتى أتى جاسر وذكره بضرورة تواجده مع أولاد عمه لتلقي العزاء في الصوان المنصوب. في الليل ودع خالد أصحابه وأخبرهم بمكوثه لمدة ثلاث أيام مع أولاد عمه في البلد. ذكره حسام بضرورة عودته في الميعاد لقرب إمتحاناته. 

عاد خالد لمنزل عمه وشعر بقبضة قلب ليقينه بعدم وجود عمه في هذا المنزل للأبد. جرجر رجليه لغرفة الضيوف ودخل وجلس على السرير. تبعته مريم للغرفة وهي تحمل صينية عليها بعض الطعام وأقتربت منه وقالت له.

"خالد خد كل أنت ما أكلتش حاجة من إمبارح."

"مش قادر يا مريم. مش عاوز أكل."

جلست مريم بجواره على السرير وقالت له.

"يا خالد وحد الله. ما تعملش في نفسك كدة. علشان خاطري كل حاجة بسيطة. بدل ما تقع من طولك."

"والله ما قادر. سيبيني لوحدي شوية."

وضعت مريم الصينية على السرير وأخذت قطعة خبز صغيرة بين أصابعها وغمستها في الطعام وقربتها من فمه.

"كل علشان خاطري أنا. معلش أغصب على نفسك."

نظر لها خالد نظرة إستسلام وفتح فمه قليلا ووضعت مريم اللقمة في فمه. بعدما أكل خالد بضع لقيمات من يد زوجته أزاح يديها بعيدا عن فمه وقال لها.

"خلاص بقى يا مريم. بجد مش قادر. شيلي الأكل ده."

"حاضر يا خالد هشيل الأكل."

أخذت مريم الصينية وخرجت من الغرفة وتركت خالد بمفرده. بعدما أنتهت مريم من تنظيف المنزل مع أحلام زوجة صالح وسلوى عروسة هشام ودخل الجميع غرفهم ليناموا بعد هذا اليوم العصيب، دخلت مريم غرفة الضيوف لزوجها ووجدته جالس على السرير على نفس وضعه التي تركته عليه. أقتربت منه ووقفت أمامه وجدته يمسح دموعه من على وجهه وأشاح بوجهه بعيدا عنها فقالت له.

"خالد وبعدين؟ ما تعملش في نفسك كدة."

صمت خالد ولم يجيبها ونظره بعيدا عنها أقتربت منه مريم أكثر وملست بيدها الصغيرة على رأسه وقالت له بصوت حاني.

"يا خالد أدعي له بالرحمه. هو أرتاح من التعب. إن شاء الله يكون في نعيم دلوقت. ما تزعلش علشانه."

لم يجيبها خالد ولكن دموعه لم تتوقف أبدا. فسألته مريم.

"تحب أسيبك لوحدك؟"

هلع خالد وألتفت إليها، حاوط جسدها الهزيل بذراعيه بشدة وقربها منه. وقفت مريم بين رجليه وحاوطت رأسه بذراعيها. دفن خالد رأسه في صدر مريم وبكى بشدة وقال لها.

"ما تسبنيش يا مريم. أوعي تسيبيني. أنت الوحيدة اللي فاضلة لي. أنا ماليش حد غيرك. أوعي تسيبيني. أوعي تسيبيني لوحدي."

أنحنت مريم وقبلت رأسه وهمست له.

"مش هسيبك يا خالد. أنا عمري ما أسيبك أبدا. بس يا حبيبي. أهدأ."

ظل خالد يبكي في حضن زوجته وتركته مريم حتى يهدأ تماما ثم ساعدته على الرقود على السرير ثم تمددت بجواره وهي تحتضنه بشدة. بعد فترة شعرت بإسترخاء خالد بين ذراعيها فقبلت رأسه وأستسلمت للنوم.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1