رواية عشق النمر الفصل الثانى 2 بقلم فهد محمود


 

رواية عشق النمر الفصل الثانى بقلم فهد محمود

 

كان هيثم يركض نحو المنزل، أنفاسه لاهثة، وملابسه قد تلطخت بالغبار بعدما تعثر أثناء عودته. يعلم أن التأخر ولو لدقائق سيجر عليه وابلًا من العقاب. وصل إلى الباب الخارجي وهو يتردد في الدخول، لكن صوت والده الجهوري لم يمنحه فرصة للتفكير.

"فين كنت لحد دلوقتي؟!"

فتح محمود الباب بعنف، نظراته كانت كفيلة بجعل الطفل الصغير يرتعد خوفًا.

"كنت بذاكر عند أصحابي يا بابا... والله ما اتأخرت."

لكن الكلمة الأخيرة كانت بمثابة وقود لغضب محمود، فشد هيثم من ذراعه وسحبه إلى الفناء الخلفي.
"تعالى ووريني ازاي هتتعلّم احترام الوقت!"

أمسك بحبل سميك وبدأ بربط يدي الطفل النحيل حول جذع شجرة كبيرة، ثم تركه تحت المطر الغزير الذي بدأ يهطل فجأة.

"هتفضل هنا لحد ما تعرف إن أي كلمة أقولها لازم تتنفذ!"

جلس هيثم صامتًا، عيناه تحملان براءة الطفولة ممزوجة بحزن عميق. كان يشعر أن كل قطرة مطر تخترق جسده الضعيف، لكنه لم يذرف دمعة واحدة. رفع عينيه إلى السماء الملبدة بالسحب الداكنة، وكأنها تعكس روحه المعذبة.

"يا رب... هو أنا عملت إيه عشان أستاهل ده كله؟" همس بصوت مبحوح يكاد يختفي وسط أصوات الرياح.

عند شروق الشمس، خرجت الجدة سميرة من غرفتها كعادتها لتتفقد أحوال المنزل. توقفت فجأة عند رؤية حفيدها مربوطًا بالشجرة، جسده منهك وملابسه مبللة بالكامل.

"يا ساتر يا رب! إيه اللي عمله فيك ده؟!"

ركضت نحو هيثم وفكت الحبال بعجلة، واحتضنته وهي تبكي.
"تعالى، ادخل بسرعة قبل ما تتجمد!"

أخذته إلى غرفتها، لفته ببطانية قديمة لكنها دافئة، وبدأت تمسح على رأسه بحنان.

"يا حبيبي يا هيثم... مش قادر أعمل حاجة عشان أحميك، لكن ربنا كبير وهو اللي هيقف جنبك."

نظر إليها هيثم بعينين ممتلئتين بالحزن:
"ما تخافيش يا تيتة، أنا هفضل أذاكر وأجتهد... مش هخليه يكسّرني."

في المدرسة: محاولة للنسيان
في اليوم التالي، ذهب هيثم إلى المدرسة، رغم جسده المُنهك. حاول أن يخفي الكدمات والحروق عن أصدقائه، لكنه لم ينجح تمامًا.

جلس بجوار أصدقائه الثلاثة: سيف، يونس، وأنس. كانوا يمثلون له العائلة التي لم يحصل عليها أبدًا.

"يا هيثم، إيه الجروح دي؟" سأل يونس بقلق.

"مافيش، وقعت وأنا بلعب." حاول هيثم أن يبتسم لكنه لم يفلح.

سيف كان يُدرك أن شيئًا أكبر يحدث، لكنه احترم رغبة هيثم في الصمت.
"طيب يا جماعة، خلينا نركز في الحصة... أنا مش فاهم حاجة من الدرس ده!"

أما أنس، فأضاف بابتسامة ساخرة:
"أيوة يا سيف، لأنك أصلاً ما بتذاكرش... سيب الشطارة لهيثم!"

ضحك الجميع للحظة، مما خفف قليلًا من وطأة الألم على قلب هيثم.

سيف: كان الابن الوحيد لعائلة غنية، لكنه يعاني من غياب والديه الدائم بسبب أعمالهما. كان يحاول دائمًا أن يظهر كشخص مرح، لكنه في داخله يشعر بوحدة قاتلة.

يونس: يعيش في بيت بسيط مع عائلة مكونة من خمسة إخوة، يتحمل مسؤوليات كبيرة رغم صغر سنه، مما جعله يبدو أكثر نضجًا من أقرانه.

أنس: يعيش حياة طبيعية ومستقرة، لكنه كان دائمًا يحلم بأن يصبح قائدًا ناجحًا، ويحب أن يشجع أصدقاءه على تحقيق أحلامهم.

مر الأسبوع التالي ببطء، مليئًا بالأحداث القاسية. كان محمود يبتكر كل يوم طريقة جديدة لمعاقبة ابنه، رغم كل محاولات هيثم لإرضائه.

ذات ليلة، بينما كان هيثم جالسًا في غرفته يراجع دروسه، سمع صوت والده يتحدث بصوت منخفض مع فتاة غريبة. الكلمات كانت تحمل ضحكات وهمسات.

بعد دقائق، اقتحم محمود الغرفة ووجهه غاضب كعادته.
"إنت بتتجسس عليا يا ابن الكلب؟!"

"لا يا بابا... كنت بذاكر."

لكن محمود لم يستمع. أمسك هيثم من شعره وسحبه إلى المطبخ. أمسك عودًا مشتعلًا من الموقد، وبدأ بحرق ذراعي الطفل وساقيه، وسط صرخاته التي اخترقت صمت الليل.

عاد هيثم إلى غرفته بعد أن تركه والده. جسده يحمل آثار التعذيب، لكن روحه كانت أقوى مما يتخيل أي شخص. جلس على الأرض، ينظر إلى كتبه، وبدأ يكتب بصوت خافت:
". هخرج من الجحيم ده، وهكون أقوى من كل الألم."
ثم غفى على مكتبه الصغير بروح منطفئه وقلب محطم من كل الجهات. 

استيقظ هيثم فجأة على صوت تحطم زجاج النافذة بجانبه. كان شظايا الزجاج متناثرة في كل مكان، وجرحت ساقه ورأسه، لكن الألم كان آخر ما يفكر فيه جلس على سريره، ينظر إلى الشظايا التي تعكس ضوء الفجر الشاحب، دون أن يظهر أي تعبير على وجهه.

بروح منطفئة، نهض من مكانه ومسح الدم عن جروحه بقطعة قماش قديمة وجدها بجواره لم يذرف دمعة واحدة، وكأن جسده قد تعود على الألم واعتبره جزءًا من حياته اليومية.

دخل إلى غرفة جدته سميرة، التي كانت جالسة على كرسيها الخشبي المتأرجح، تسبح بحبات مسبحتها المتهالكة. ألقى عليها التحية بصوت منخفض

صباح الخير يا تيتة.
رفعت راسها نحوه ورات اثار الجروح الجديدة. لم

تستطع أن تخفي دموعها هذه المرة: يا حبيبي يا هيثم إيه اللي حصل تاني ؟!"

رد بصوت خافت ومبحوح

"مافيش يا تيتة شباك اتكسر وأنا نايم... عادي."

وضعت يدها على وجهها محاولة كتم دموعها ربنا كبير يا بني هو اللي هيوقف معاك."

اقترب منها وقبل يدها "ما تقلقيش عليا، أنا كويس.

في طريقه إلى المدرسة، مر بمنزل عمه طارق. كان عمه الوحيد الذي يحمل له بعضًا من الرحمة لكنه كان ضعيفًا أمام أخيه محمود. طرق الباب بخجل، وخرج عمه ليجده واقفا أمامه بملامح متعبة.

أ

"صباح الخير يا عمي."

نظر إليه طارق بقلق:

صباح الخير يا هيثم... مالك؟ شكلك مش مرتاح."

كنت عاوزك تكلم بابا... يمكن يهدى شوية."

تنهد طارق بعمق

هحاول يا بني بس إنت عارف إن كلامي معاه ما بيفرقش كتير."

أوماً هيثم برأسه:

"أنا عارف بس مش قدامي حد غيرك."

دخل هيثم إلى المدرسة، متجاهلا الألم الذي يشعر به كان يعلم أن هناك من يلاحظه دائما معلمه الأستاذ عادل، الذي كان ينظر إليه بعينين مليئتين بالشفقة والقلق.

هيثم، تعال هنا شوية.

اقترب هيثم وهو يحاول إحماء جروحه.

"نعم، يا أستاذ؟"

مالك يا بني ؟ إنت كويس ؟"

ابتسم هيثم ابتسامة باهتة

"أنا تمام، يا أستاذ... شكلي كده بس من المذاكرة والتعب."

نظر إليه الأستاذ طويلا، ثم وضع يده على كتفه: لو محتاج أي حاجة، أنا هنا ليك."

أومأ هيثم برأسه وشكر معلمه، قبل أن ينضم إلى أصدقائه الثلاثة سيف، يونس، وأنس.

جلسوا معًا في زاوية الفناء الخلفي للمدرسة حيث كانوا دائما يتحدثون بعيدًا عن أعين الآخرين. لاحظ أصدقاؤه الجروح الجديدة على جسده، وسأل يونس بقلق:

"إيه اللي حصل لك المرة دي يا هيثم؟"

رد أنس بنبرة جادة:

مش معقول كل يوم تقع يا هيثم. إحنا أصحابك لازم تقول لنا الحقيقة.

نظر إليهم هيثم بعينين خاويتين

حتى لو قلت لكم هتعملوا إيه؟ ده نصيبي."

تحدث سيف بحزم

"نصيبي إيه ؟ ده ظلم لازم نلاقي حل ما ينفعش تفضل كده طول عمرك.

" وأنا أعمل إيه؟ أهرب ؟ أسيب المدرسة وأمشي ؟"

صمت الجميع، لكنهم كانوا يشعرون بالعجز، رغم أن عقولهم الصغيرة كانت تحمل نضجا يفوق أعمارهم.
عاد هيثم إلى المنزل بعد يوم طويل. كان يعلم ان الانتقاص من علامتين في الامتحان الأخير سيكون كافيًا لإشعال غضب والده.

فين نتيجتك؟" سأل محمود بصوت حاد وهو ينظر إلى الورقة.

طلعت الأول يا بابا... بس نقصت علامتين.

نظر محمود إليه بغضب شديد، ثم أمسك بحزامه وبدأ يضربه دون رحمة.

"مش هتعرف تطلع الأول كامل أنا هعلمك إزاي تكون راجل"

لم يصرخ هيثم، ولم يبك. كان جسده يتحمل الألم بصمت، لكن روحه كانت تتأكل شيئا فشيئا.

تعليقات