![]() |
رواية علي سبيل الألم الفصل الثاني بقلم رانيا ممدوح
وَمَا كُنتُ مِمَّن يَدْخُلُ العِشقُ قَلْبَهُ
وَلَكِنَّ مَن يُبْصِر جُفُونَكِ يَعشَقِ
المتنبي
:
10
كان الضابط يجلس خلف مكتبه، يتأمل الصورة التي أمامه على طاولة التحقيق. كان القتيل شخصا طيبا، معروفًا في مجتمعه بحبه للخير، لا يمر يوم دون أن يقدم مساعدة لشخص محتاج أو يشارك في عمل تطوعي. فكيف؟ كيف وصل إلى هذه النهاية البشعة ؟ لماذا اختار القاتل أن يقتله بهذه الطريقة؟
تراكمت الأسئلة في ذهنه، وأخذ يتساءل بمرارة: "هل يمكن لشخص طيب كهذا أن يكون قد ضايق
أحدًا ليصل به الحال إلى هذا القتل الوحشي ؟" كانت الإجابة دائماً لا . لم يكن هناك أي علامة على محاولة سرقة، ولم يكن القتيل معروفًا بأعداء. لا شيء كان يفسر هذه النهاية المأساوية سوى خيوط مبهمة، تختفي خلف الجدران التي تفصل الحقيقة عن الظلال.
قطع هذه الأفكار صوت طرق على الباب. رفع رأسه وأشار قائلاً:
"أدخل."
دخل المساعد برشاقة، وأدى التحية العسكرية التي
اعتادها كلما كان في حضرة الضابط. لكن اليوم كان هناك شيء في نظره يعكس القلق، كأن هذا اليوم ثقيل جدا عليه.
ده تقرير الطب الشرعي يا فندم."
أخذ الضابط الورقة منه ببطء، وكأنه يدرك أن الحقيقة التي تحملها قد تغير مجرى التحقيق تماما. فتح التقرير بعناية، وقرأ الكلمات بصوت خافت كأن الكلمات نفسها كانت تؤلمه.
القتيل توفى إثر خمسة وعشرون طعنة ....
توقف الضابط عن القراءة للحظة، وهو يحاول
استيعاب ما ورد في التقرير. خمسة وعشرون طعنة ؟! هل هذا معقول ؟ كانت الكلمات تتردد في ذهنه مثل صدى بعيد، وتبدو غريبة على مسمعه.
"... منهم ثلاث طعنات في القلب مباشرة، والباقي موزع على الجزء العلوي فقط..."
استمر المساعد في قراءته، بينما كان الضابط يشعر وكأن قلبه يتوقف عند كل حرف. الطعنات لم تكن مجرد جريمة قتل عادية. كان هناك شيء أكثر تعقيدًا، شيئًا يتعدى القتل البسيط.
لكن واضح أنه اتعرض للعنف الجسدي أيضًا. تم ضربه بأداة صلبة على الجزء الخلفي من رأسه، وبعض الكدمات الخطيرة متفرقة في جميع أنحاء الجسد...
كانت تلك التفاصيل كالصواعق في رأس الضابط. ضرب على الرأس ؟ كدمات ؟ هذا لم يكن مجرد قتل عابر، بل كان تعذيبا بدم بارد وكان واضحًا من التقرير أن القاتل لم يكتف بالقتل السريع، بل أراد أن يبقي الضحية في ألم طويل قبل أن يسلبه حياته.
كانت الطعنات تتحدث عن مشاعر عميقة من الكراهية أو الانتقام، وقد كان واضحًا أن القاتل لم يكتف بالقتل فحسب، بل كان يهدف إلى إيصال رسالة، أو ربما كان يحاول أن يطهر نفسه من غيظ داخلي شديد. ما الذي دفعه للقيام بذلك؟ فكر الضابط، والعقل يحاول أن يحل هذا اللغز.
القاتل لم يكن يهدف فقط إلى إنهاء حياة الضحية
بل كان لديه دافع شخصي يعكس هذا الغيظ. لا شيء في الجريمة يشير إلى أنها كانت عفوية أو غير مدروسة. كان هناك شيء عميق، شيء لا يمكن تجاهله، كان واضحًا في كل طعنة وندبة على جسد الضحية.
استفاق الضابط من شروده وأغمض عينيه للحظة وكأن شيئا في قلبه كان يهمس له أن الأمور أكبر مما يتصور. شخص طيب ،محبوب، لا أعداء له... لماذا؟ هل كان القتل بدافع الانتقام ؟ هل كان القاتل يعرفه جيدا ؟
همس بصوت منخفض، وكأن الكلمات تخرج من بين شفتيه بصعوبة
"ليه ؟ ليه كده؟"
:
10
كان الضابط جالسًا خلف مكتبه عينيه مشدودتين إلى الملفات أمامه وهو غارق في تفكير عميق. كانت القضية التي بين يديه تحمل الكثير من الغموض والشكوك تزداد مع كل تفصيل جديد مستحيل تكون بنت صغيرة عملت كل ده لوحدها، فكر في نفسه، ووجد نفسه يعيد السؤال مرارًا وتكرارًا. كان العنف الذي تعرض له القتيل أكبر من أن تكون طفلة قد ارتكبته بمفردها.
أخذ نفسًا عميقًا وهو يتابع تفكيره جايز ليها شريك في الجريمة، محدش عارف برضو كانت الحقيقة تتناثر أمامه في قطع صغيرة يصعب جمعها. كان يحاول أن يرى الصورة كاملة، لكن كل مرة كان يجد جزءًا مفقودًا.
ثم فكر للحظة، لكن سرعان ما تلاشى التساؤل في ذهنه ممكن تكون بريئة ؟ لم يكن لديه الإجابة، ولكن الشيء الوحيد الذي كان متأكدا منه هو أن التحقيقات هتظهر الحقيقة كاملة. كانت التحريات ما زالت مستمرة، وكل خيط جديد قد يقوده إلى اكتشاف شيء مغير.
رفع الضابط رأسه وقال له :
"طيب روح انت دلوقتي، وأنا شوية وهاروح كمان وبكرة الصبح إن شاء الله تكون هنا بدري."
أجاب المساعد باحترام وهو يرفع يده في تحية:
تمام يا فندم."
أغلق الباب خلفه في صمت، وغادر المساعد الغرفة. ترك الضابط وحده مع أفكاره، يحاول ترتيب فوضى القضية في ذهنه.
في صباح اليوم التالي، دخل الضابط المسؤول عن القضية إلى غرفة عمله بثبات، وألقى نظرة سريعة على الأوراق المبعثرة أمامه. جلس على كرسيه المريح، وتنهد بعمق قبل أن يطلب قهوته المعتادة. كان يشعر بثقل القضية التي بين يديه، وكأن كل
تفصيل صغير قد يحمل في طياته إجابة تؤدي إلى كشف الجاني. بعد لحظات التفت إلى أمين الشرطة الذي كان يقف بجانب الباب.
"أمرك يا باشا."
عملت اللي قولتلك عليه."
طبعا يا باشا، بدأ أمين الشرطة وهو يرفع تقريرًا صغيرًا أمامه. عرفنا إن القتيل مكانش ليه صحاب مجرد معارف من أجل العمل فقط. سألنا كل الجيران عن زوجته، لكن لا أحد يعلم عنها شيئا. كانت منعزلة ولا تخرج كثيرًا، وترفض الزيارات. أما بخصوص الفتاة، فكانت أيضًا مثل أبيها وأمها، تعيش في عزلة . لكن، قمت بإستدعاء زميل لها في التدريب، وكان من أشهر الأسماء بينهم، يدعى ليث
حسين.
"ماشي، دخله."
:
10
أعطى الضابط تعليماته بشكل حازم، ثم عاد إلى تأملاته. كان يشعر بأن هناك خيوطا بدأت تظهر، لكن لم يكن الوقت قد حان بعد لجمعها كلها.
دخل الشاب الغرفة بخطوات ثابتة، وكأن ثقة غير عادية تتدفق منه. كان في مثل سن الفتاة المتهمة بقتل والدها، طويل القامة، يمتلك جسدا قويًا بالرغم من صغر سنه كانت بنيته الجسدية مثالية، عضلاته
المشدودة تبدو وكأنها نتيجة تدريب مستمر. عينيه كانتا بنيتين فاتحتين، تتألقان تحت الضوء بشكل لافت، بينما كان شعره الأسود ينسدل بشكل أنيق على جبهته. كان يرتدي ملابس رياضية أنيقة، كما لو كان قد انتهى للتو من مباراة تنس، وكان يحمل مضرب تنس في يده كأنه جزء من شخصيته.
توقف أمام الضابط، وأخذ نفسًا عميقا، ثم رفع رأسه بثقة وألقى عليه نظرة مباشرة.
الضابط نظر إلى ليث بعينين حادتين، ثم قال بصوت أجش:
"أقعد."
جلس ليث على الكرسي أمام الضابط، لكنه لم يستطع إخفاء التوتر الذي بدا واضحًا على وجهه. كانت هذه أول مرة يدخل فيها إلى قسم الشرطة وكان لا يعرف السبب وراء استدعائه. تساءل في نفسه إذا كان هناك خطب ما.
نطق بنبرة صوت قلقة وهو يحاول السيطرة على مشاعره
"ممكن أعرف أنا هنا ليه؟"
رد الضابط بنظرة ثابتة، ثم طرح سؤاله الذي أثار الصدمة :
تعرف البنت اللي اسمها سبيل ؟"
فوجئ ليث عندما سمع الاسم، حيث بدا أن لهذا الاسم مكانة خاصة في ذهنه. لحظة من الصمت مرت قبل أن يجيب، وكأن الصورة بدأت تتضح في ذهنه.
"أيوة، دي بنت زميلتي في التدريب."
الضابط لم يبد أي تغيير في تعبير وجهه، لكن سؤاله التالي كان أكثر تحديدا، أكثر حدة:
"بس؟"
كانت نبرة صوته تتسم بالغموض، كأن ثمة شيء خفي وراء هذا السؤال، ولم يكن يطلب مجرد إجابة عابرة.
إستعادة الذكريات .
بدأ يتذكر ليث ما حدث قبل عامين ونصف ، أتت سبيل لأول مرة الى النادي و كانت منقولة حديثا إليه
و النادي الرياضي يبعد خمسة عشر دقيقة عن منزلها
، فكانت تركض حتى تصل إلى التدريب كل يوم
وصلت سبيل إلى المكان ودخلت و ارتدت الملابس الخاصة بالتدريبات وكانت السترة مميزة باللون الاخضر و يوجد عليه من الخلف اسم سبیل و رقم سبعة ايضا الرقم الذي تعشقه سبيل كثيرا ، وقف المدرب و بدأ بالترحيب بالفتاة الجديدة .
يا ولاد رحبوا بزميلتكم الجديدة في التدريب ، سبيل لسه منضمة النهارده اول يوم ليها .
سبيل بصوت رقيق و خجل فهي غير معتادة على ذلك الجمع من الناس حولها .
" اهلا بيكم ."
نظر لها ليث من بعيد مثل البقية ، كان ليث هو المتفوق عليهم جميعًا ، لكن كان ذلك قبل مجيئ سبيل ، فسبيل منذ لحظاتها الأولى قد أثبتت مهاراتها المستثناه ، فهي ماهرة و دقيقة و تحب
التميز ، فهي حصلت على المركز الأول دائما و ليث المركز الثاني.
سخط ليث كثيرًا من هذه النتائج و اعترض عدة مرات على فوزها بالمركز الأول و أصابه الشك من أن تلك الفتاة تقوم بدفع رشوة من أجل الفوز ، بعدها ظل يتدرب طوال الوقت بسببها و كان ينافسها لكن هي لا تراه و لا ترى أي شخص آخر، فهي تتدرب من أجلها من أجل أنها تحب تلك الرياضة كثيرًا، كثرة تدرب ليث جعلته مميزا أكثر منها ، فهي صاحبة الفضل لوصول ليث للبطولة العالمية و هي ربحت بالجمهورية فقط و لم تؤهل للخارج مثله، فهو كان ينظر لها من بعيد و لم يتجرأ أن يتحدث معها ، فهي لا تتحدث مع أي شخص من الأساس
قطع شروده صوت الضابط الحازم وهو يقول:
ها، قولي كل حاجة تعرفها عن البنت دي."
رفع ليث رأسه ببطء، محاولا استجماع أفكاره، ثم قال بتردد
هي كانت غريبة ... دائمًا لوحدها، مبتتكلمش مع حد كانت متميزة جدًا في طريقة لعبها، لكن محدش كان مقرب منها كانت بتخلص التدريب وتجري لحد ما توصل لبيتها معتقدش إن حد من اللي في التدريب يعرف حاجة عنها، كل اللي نعرفه إنها اسمها سبيل."
أخذ الضابط لحظة ليفكر، ثم عاد ليسأله:
:
10
امممم بس كده ؟ ده كل اللي عندك؟ في حاجة جديدة تحب تضيفها ؟"
هز ليث رأسه ببطء وهو يجيب:
"طيب، لو افتكرت أي حاجة، ياريت تتواصل معانا على طول."
حاضر، بس ممكن أعرف ليه التحقيق ده؟"
:
10
تغيرت ملامح الضابط قليلا، وكأنه كان يتحضر للإجابة على هذا السؤال، ثم قال بجدية
سبيل متهمة بقتل أبوها واختفاء أمها."
وقف ليث فجأة، كأن الكلمات أصابته بصاعقة.
صدمة كبيرة ارتسمت على وجهه، وعيناه اتسعتا بينما قال بصوت مرتعش
"إيه ؟ مستحيل تعمل حاجة زي كده هي صحيح غريبة ووحيدة وعلى طول ساكتة بس ده ميوصلش بيها إنها تقتل... وتقتل مين؟ والدها ؟ ده
كان أكثر شخص قريب منها و بتحبه جدا أكثر من نفسها كمان
أشار الضابط بيده مطالبًا إياه بالهدوء، وقال بنبرة أكثر هدوءًا:
"إهدأ... لسه التحقيقات شغالة، وأكيد الحقيقة هتبان. سواء كانت بريئة أو مذنبة، كل ده هيبان في النهاية. اتفضل أنت دلوقتي."
خرج ليث من الغرفة بخطوات متثاقلة، وصدره يعلو ويهبط بشدة من شدة الانفعال. كان يضرب كفا
بكف، وعقله غارق في دوامة من الأسئلة والدهشة.
هل يمكن أن تكون سبيل فعلت ذلك حقا ؟ قتل والدها ؟ فكرة مستحيلة، ومع ذلك، الظلال الكثيفة التي أحاطت بحياتها كانت تلقي بالشكوك في ذهن الجميع.
بصوت قوي صاح الضابط
"دخل اللي بعده."
فتح الباب ودخل حارس أمن المنطقة الراقية. جلس الرجل أمام الضابط، وبعد تدوين معلوماته
الشخصية مثل الاسم السن والعنوان، بدا التحقيق.
سأله الضابط مباشرة
"هل لاحظت أي فعل غريب في بيت عبدالله الوكيل ؟"
رد الحارس بلهجة عفوية
"لأ، كل حاجة كانت زي ما بتبقى من ساعة ما نقلوا."
سأله الضابط عن زوجة القتيل:
"زوجة القتيل ... تعرفها ؟"
هز الحارس رأسه وقال:
:
10
"أيوة، الست سميرة. كانت على طول تطلب مني أجيب طلبات ليها وللبيت بس كلامها كان على قد الطلب، مش زي باقي الستات ما كانتش بتفتح حوارات كتير بس بصراحة كانت ست ذوق وشيك جدا، ومحترمة أوي، زي ما تكون بنت ناس كبار مأصلين."
علق الضابط :
"ما هو جوزها راجل مقتدر طبيعي تكون كده.
ابتسم الحارس بخبث خفيف وأجاب:
:
10
"لا يا ساعة البيه هي العز باين عليها أكثر منه بكتير. عبدالله بيه شكله راجل شعبي كلامه وتصرفاته عادية زينا كده، لكن الست هانم دي حاجة تانية خالص كلامها كان بدلع، وتدخل كلمات أجنبية في كلامها. تقريبًا عاشت برة مصر لفترة طويلة. والغريب أنها كانت ست أيدها فرطة، تحب تكرم كل اللي يشتغلوا معاها."
مال الضابط بظهره إلى الخلف، يمعن التفكير فيما سمع، ثم تمتم:
قصدك إيه بإن جوزها أقل منها ؟"
أجاب الحارس بوضوح
:
10
يا بيه جوزها تحسه راجل عادي جدا. لبسه وكلامه بسيط، لكن الست سميرة حاجة مختلفة تماما. اللبس الشكل، الطريقة، كل حاجة تقول إنها ملكة جمال أو ست باشوات. ورغم كده ما كانش عندها خدامة، وما كانتش بتحب تخرج من البيت أبدا. سنتين ونص وأنا هنا ما شفتهاش غير مرتين أو تلاتة بالعدد، وما كانش ليها علاقة بالجيران أو أي حد."
سأله الضابط بدهشة:
"إزاي ست بالمواصفات دي، ما يكونش ليها أصدقاء أو معارف أو حتى خدم ؟ واحدة زيها المفروض تكون عندها شلة كبيرة."
أجاب الحارس بثقة:
:
10
يا بيه من ساعة ما نقلوا ما حدش زارها. لكن أخو عبدالله بيه كان بيجي عندهم أوقات. واحد كده خمرجي وأخلاقه مش قد كده، بس زيارته كانت نادرة جدًا."
علق الضابط وهو يقلب أوراقه:
"التحريات أثبتت إنه كان سكران ليلة الجريمة في بار، ورجع بيته وما خرجش إلا تاني يوم الظهر يعني بعد اكتشاف الجريمة على العموم استدعيناه وهنتحرى عنه أكثر."
قال الحارس بحزم
"أنا قلت كل اللي عندي يا بيه."
هز الضابط رأسه وأشار للورقة أمامه:
:
10
"خلاص، إمضي هنا على أقوالك. ولو احتجناك هنكلمك ."
أمسك الحارس القلم ووقع على أقواله، ثم وقف وألقى التحية وغادر الغرفة، تاركا الضابط غارقًا في بحر من الأسئلة والشكوك.
خرج حارس الأمن، ودخل بعده شوقي، الأخ الأكبر لعبدالله كان وجهه مليئًا بالانكسار والحزن على فقدان أخيه الأصغر الذي طالما كان يعوله منذ الصغر. كانت ملابسه رثة ومتسخة، تعكس شدة فقره وحاجته.
نظر إليه الضابط نظرة طويلة من رأسه حتى قدميه، ثم قال بصوت هادئ
اقعد يا شوقي."
:
10
جلس شوقي على الكرسي أمامه، يبدو عليه الألم والحيرة، وكأنه لا يصدق رحيل شقيقه بهذه الطريقة. بدأ الضابط حديثه بأسئلة مباشرة
"أخوك كان عنده أعداء؟"
هز شوقي رأسه سريعًا وقال بصوت متهدج :
لا يا بيه ده كان قلبه أبيض. أحن وأطيب شخص في الكون كله."
سأله الضابط بنبرة أكثر جدية:
ومراته سميرة ... تعرف إيه عنها ؟"
أخذ شوقي نفسًا عميقا، وكأنه يسترجع ذكريات بعيدة، وقال:
دي ست ولا كل الستات. مرة واحدة جه أخويا قالي إنه عايز يتجوز زميلته في الكلية. أخويا كان زينة شباب الحتة عندنا، شاطر أوي يا بيه. أبويا الله يرحمه كان نجار، علّمه الصنعة وهو صغير، وأخويا
اشتغل معاه. كان شاطر في شغله وذكي، قدر يجمع قرشين بالرغم من حالتنا اللي كانت ضنك. دخل دبلوم صنايع، وبرضو ما وقفش طموحه. ذاكر لحد ما دخل كلية الهندسة وبقا معيد كمان."
صمت قليلاً ثم أكمل :
قال لي إنه عايز يتجوز زميلته، بنت يتيمة غلبانة وعايز يسكن في شقة إيجار في حتتنا الشعبية. بس لما شفتها مكانش باين عليها الغلب اللي حكاه."
رفع الضابط حاجبه وسأله:
ماکنش باين عليها الغلب... إزاي؟"
أجاب شوقي بنبرة مترددة:
:
10
يا باشا، كانت حتة بسكوتة كده، مدلعة وما تعرفش حاجة عن شغل البيت. لا طبيخ، لا غسيل، ولا حاجة. حتى لما اتجوزوا ما عملوش فرح زي الناس ولا لبست فستان أبيض زي البنات بعد الجواز أخويا عمل شركة هندسية صغيرة، ومع الوقت ربنا فتحها عليه، وكبرت الشركة نقل للبيت اللي اتقتل فيه بعد ما جمع قرشين."
سأله الضابط مباشرة
تتوقع سبيل هي اللي قتلت أخوك؟"
نظر شوقي بخبث واضح، وكأن الطمع في ميراث أخيه بدأ يسيطر عليه، ثم قال:
"أيوة، البنت دي ممكن تكون عملتها. بس ليه ؟... الله أعلم."
رفع الضابط حاجبه بدهشة وسأله:
ليه بتقول كده ؟"
أجاب شوقي بنبرة ممتلئة بالضغينة:
:
10
"ما بتحبنيش، دايما تبصلي من فوق لتحت وكأنها شايفاني مش بني آدم. تحسسني كأني جربة. غير كده، البنت مش طبيعية، كأنها مريضة نفسية أو عندها حاجة غلط."
أجاب شوقي بنبرة ممتلئة بالضغينة والحقد، وكأنه يبحث عن أي ذريعة لتوريط سبيل:
"البنت دي ماكنتش طبيعية أبدا، كانت غريبة في كل حاجة. مبتحبش حد يقرب منها، وكأنها عايشة في عالم لوحدها. حتى مع أخويا، عمرها ما كانت بنت لطيفة أو بنت بتحب أبوها. أنا شفتها مرة بتزعق له، وكان شكلها مرعب عنيها كانت مليانة غضب وحقد . بتعاملنى كأنى مش بنی آدم، تبصلی
من فوق لتحت كأني شحات، وهي اللي عايشة في خير أخويا."
صمت قليلاً، ثم أكمل وهو يحاول تبرير موقفه
البنت كانت مريضة يا بيه مريضة نفسيا تحس إنها شايلة حاجة جواها مش طبيعية، كأنها متضايقة من الدنيا كلها حتى لما كنت أروح البيت كانت بتدخل أوضتها وتقفل على نفسها، مبتحبش تتكلم مع حد. وأخويا الله يرحمه كان على طول بيقول إنها صعبة، وإنه مش فاهمها البنت دي كانت زي الغريب في بيت أبوها، لا كلام مع أمها ولا أبوها، ودايما الوش المظلم."
توقف شوقي للحظة، ثم أضاف بنبرة أكثر خبثا:
وبعدين يا باشا، هي الوحيدة اللي كانت في البيت وقت ما الجريمة حصلت يعني مين غيرها ممكن يكون عملها ؟ حتى أمها اختفت فجأة. دي أكيد وراها حاجة، وأنا متأكد إنها مش بريئة."
حاول الضابط أن يبقي وجهه محايدًا، لكنه شعر أن شوقي يحاول دفع التهمة نحو سبيل بأي طريقة.
فسأله بحدة:
"طيب، غير كل ده كان في حاجة تانية غريبة عنها ؟ تصرفات أو كلام لاحظته عليها ؟"
هز شوقي رأسه قائلاً:
يا باشا، تصرفاتها كلها كانت غريبة. البت دي عمرها ما حسستنا إنها طبيعية. تحسها بتخبي حاجة كبيرة جواها حاجة ممكن تكون السبب في اللي حصل."
أشار الضابط بيده لينهي الحديث وقال ببرود:
طيب روح انت دلوقتي، ولو افتكرت أي حاجة مفيدة، تعال بلغنا."
وقف شوقي، وبدت على وجهه تعابير مختلطة بين الخوف والطمع، ثم خرج من الغرفة، تاركا الضابط في حالة من الشك والريبة تجاه دوافعه.
ثم قال الضابط لأمين الشرطة بنبرة هادئة لكن حازمة:
"خلي اللي بعده يدخل."
فتح أمين الشرطة الباب، ودخلت سلوى، زوجة شوقي شقيق القتيل. كانت ترتدي ملابس سوداء، ووجهها شاحبًا يوحي بحزن عميق. بدا واضحًا على ملامحها أثر البكاء الشديد، وكأنها قضت الليلة الماضية في نوبات من الدموع المتواصلة.
رفعت عينيها نحو الضابط بتردد، وجلست على الكرسي أمامه ببطء، بينما كان يراقبها بتمعن محاولاً
استنباط ما تخفيه وراء دموعها.
قال الضابط بهدوء: "علاقتك إيه بالقتيل ؟"
:
10
سلوى مسحت دموعها بطرف حجابها قبل أن تجيب بصوت متهدج
"كنا متربيين مع بعض في المنطقة بتاعتنا. عبدالله ماكنش في منه اتنين... الأدب والأخلاق والشطارة. كان محبوب من كل الناس.
نظر الضابط إليها بتمعن، ثم سأل بصوت هادئ لكنه مليء بالترقب
" يعني ما كانش عنده أي عداوات؟ حد ممكن يكون عايز له الشر؟ " محتاج منك تصفيلنا علاقة شوقي
بالمرحوم. هل كان في أي خلافات بينهم؟"
تنهدت سلوى وأجابت بصوت منخفض
:
10
"كان إنسان طيب، ودايما واقف جنبنا ، و جنب أي 11 حد عايز مساعدة "
ثم
رفعت سلوى رأسها بصعوبة وقالت بصوت مبحوح
"شوقي... شوقي كان دايمًا يحاول يساعد أخوه، مهما حصل بينهم كانوا زي أي إخوات... أوقات يختلفوا، بس مش حاجة كبيرة..." توقفت فجأة وكأنها تخشى أن تقول المزيد.
لاحظ الضابط التردد في كلامها وسأل بحذر:
يعني ما كانش فيه أي مشاكل كبيرة بين شوقي وأخوه ؟ طيب، آخر مرة شوفتي المرحوم، كان إيه اللي حصل ؟"
تنهدت سلوى بعمق وبدأت تمسح دموعها:
آخر مرة شفته كانت لما جه عندنا البيت من أسبوع. كانوا قاعدين في الصالة بيتكلموا... مش عارفة كانوا بيتكلموا في إيه. لما سألت شوقي بعد ما مشي، قالي إنها أمور شغل."
نظر الضابط إليها بتركيز وقال:
"هل لاحظتي على شوقي أي تصرفات غريبة بعد كده؟ أو قال حاجة غير عادية؟"
نظرت إليه سلوى بخوف وقالت
ما كانش طبيعي... الأيام اللي فاتت كان سرحان ومتوتر، كأنه شايل هم كبير. لما كنت بسأله، كان يقولي إنها مشاكل الشغل بس... "
أشار الضابط برأسه وسأل بصوت أهدأ:
"طيب، شوقي كان فين ليلة الحادث؟ هل كان في البيت ؟"
ترددت سلوى للحظات، ثم قالت بخوف واضح
كان في بيسكر زي عادته بس... أنا مش متأكدة."
تبادل الضابط وأمين الشرطة نظرات ذات مغزى، ثم قال لها بنبرة مطمئنة :
" شكراً يا مدام سلوى، لو افتكرتي أي حاجة تانية، إحنا موجودين. تقدري تمشي دلوقتي بس ممكن نحتاج نسألك تاني."
قامت سلوى بتثاقل وعيناها ما زالت مليئة بالخوف والحزن، وغادرت الغرفة ببطء، تاركة وراءها أسئلة أكثر مما جاءت بإجابات.
