رواية لا تترك يدي الفصل الواحد والاربعون
تأهب خالد للخروج لعمله وسألته مريم وهي تناوله حذاؤه.
"النهاردة إن شاء الله أخر يوم في الشغل؟"
"إن شاء الله. خلاص فاضل ثلاث أيام على إمتحانات آخر السنة ومش فاضي."
"ربنا معك ويوفقك يا رب."
أنتهى خالد من تبديل ملابسه وتوجه لباب الغرفة ليغادر لعمله نظر لمريم ووجدها تتلفت يمينا ويسارا ولاحظ أنها مترددة في قول شيء فسألها.
"مالك عاوزة تقولي حاجة؟"
"أصل بصراحة كنت عاوزة أستأذنك في حاجة."
أقترب منها خالد خطوتين وسألها.
"خير؟"
"أصل ماما فريدة بقالها أسبوعين بتلح علي نروح للدكتور."
"خير هي تعبانة ولا أيه؟"
"لا مش علشانها هي."
رفع خالد حاجبه وسألها.
"أمال علشان مين؟ أنت تعبانة ولا حاجة؟"
"مفيش شوية تكسير جسم بس. وحكاية معدتي اللي كل شوية تعباني."
"فعلا أنت بقالك فترة كبيرة مش عاجباني."
"بس علشان كدة هي بتقول لي أروح لدكتور. مع أني شايفة أنه مالهوش لازمة أصلا."
"لا طبعا له لازمة. تحبي تستني لما أرجع من الشغل وأروح أنا وأنت؟"
"مش لازم علشان إمتحاناتك وكمان علشان ماما بتقول أفضل لو أروح أنا وهي من أني أروح أنا وأنت."
"أشمعنى بقى إن شاء الله."
"أصل إحنا رايحين لدكتورة نساء مش دكتورة باطنة."
"آه طيب. بس ليه دكتورة نساء. مش اللي عندك شوية برد أو مشاكل في الهضم. ولا انت عندك مشاكل تاني أنا ما أعرفهاش؟"
"أصل ماما بتقول إحتمال تكون كل اللي بيحصل لي ده أعراض حمل."
شحب وجه خالد وردد بصوت مهزوز.
"حمل!"
شعرت مريم بصدمة خالد لإحتمالية الحمل فأسرعت لطمأنته وقالت.
"ماما بتقول إحتمال. مش أكيد يعني. وإن شاء الله يطلع غلط."
بلع خالد ريقه بصعوبة وجلس على السرير. جلست مريم بجواره وهي قلقة. لاحظ خالد نظرات الخوف والقلق في زمردتيها فمد ذراعيه ملس على كتفيها وقال لها.
"كل اللي يجيبه ربنا كويس. الأولاد رزق وربنا بيبعت معهم رزقهم. سواء حمل أو مش حمل كله خير إن شاء الله. المهم بس نطمن على صحتك."
"يعني أروح النهاردة مع ماما."
"أيوة وإن شاء الله أول لما تعرفي حاجة طمنيني بالتليفون على طول."
"حاضر."
"أسيبك بقى علشان أتأخرت. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته."
* * *
دخل خالد مطبخ الفندق وألقى السلام على العاملين هناك.
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
نظر حاتم لخالد ثم أشاح وجهه بعيدا عنه ورد فرحات السلام.
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أزيك يا خالد عامل أيه يا إبني؟"
"الحمد لله يا عم فرحات. أنت عامل أيه وبناتك عاملين أيه؟"
"الحمد لله كله كويس. أنت أيه اللي جابك النهاردة؟ مش إمتحانك يوم الحد الجاي؟"
ائتزر خالد فوطة المطبخ وأجابه.
"أيوة إمتحاناتي هتبدأ يوم الحد الجاي. علشان كدة النهاردة أخر يوم لي معكم."
"ربنا معك ويوفقك. هتوحشنا."
"وأنتم كمان هتوحشوني."
"كفاية رغي وخلينا نشوف شغلنا. النهاردة ورانا شغل كتير."
"حاضر يا شيف."
بدأ خالد في عمله وبعد ساعة سمع صوت هاتفه فمسح يده في فوطة قريبة منه وأخرج هاتفه من جيبه وتلقى المكالمة.
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أزيك يا صالح عامل أيه؟"
"أيه أزاي ده؟"
"حصل أمتى؟"
"لا حول ولا قوة إلا بالله."
"أستغفر الله العظيم."
"وإبنه كمان؟ ده ما كملش شهرين."
"أنا مش هقدر أسافر دلوقت. إمتحاني الحد الجاي. طمني عليهم أنت يا صالح."
"ما تقلقش إن شاء الله هيقوم بالسلامة."
"ربنا يشفيه يا رب."
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؟"
أنهى خالد المكالمة ووجد فرحات ينظر له متسائلاً.
"خير يا خالد. في حاجة؟"
وضع خالد هاتفه في جيبه مرة أخرى وأجابه.
"هشام إبن عمي عمل حادثة بالعربية هو ومراته وإبنه."
"لا حول ولا قوة إلا بالله. عمل حادثة أزاي؟"
"كان رايح يزور أهل مراته. عربية نقل جت في وشه. حاول يتفادها وقع في الترعة الإبراهمية."
"حد جرى له حاجة؟"
"مراته وإبنه حالتهم خطر الأثنين في العناية المركزة. وهشام عنده شوية كسور."
"إن شاء الله خير. بإذن الله ربنا هيقومهم بالسلامة."
"يا رب. ده يا دوب متجوز بقاله سنة وشهرين."
"يا عيني ابنه صغير."
"أيوة عنده ثلاث شهور بس."
"ربنا يلطف بيهم."
"يا رب."
* * *
"مالك قلقانة ليه كدة؟ أهدي وبطلي خبط برجلك."
نظرت مريم لفريدة بيعون زائغة وأنزلت يدها من على فمها وقالت.
"مش قادرة. هموت من القلق."
"وليه القلق ده؟ ما الدكتورة الحمد لله طمنتك وقالت مفيش أي مشاكل. وأدينا عملنا التحاليل ومستنين بس النتيجة. تحبي تروحي ونجيب النتيجة بكرة؟"
أتسعت عيني مريم وأجابتها.
"لا نتيجة أيه اللي بكرة. أنا مش همشي من المعمل ده ولا هتحرك من مكاني إلا لما أعرف حامل ولا لأ."
ضحكت فريدة وقالت.
"يا سبحان الله. مش أنا بقالي أسبوعين أتحايل عليك تيجي تطمني وأنت اللي رافضة تروحي لدكتورة."
"ما بصراحة ما كنتش متخيلة أن الموضوع جد. كنت فاكرة أن ممكن يكون شوية برد وخلاص. لكن لما الدكتورة بعد ما كشفت علي طلبت تحليل حمل. حسيت ان فعلا ممكن الحكاية تقلب جد. ومن وقتها وانا بطني وجعاني من القلق."
"لا أهدي كدة. اللي أنت فيه ده ما ينفعش. أنت لو حامل فعلا غلط عليك خالص أي توتر."
"ربنا يسترها."
أبتسمت فريدة وربتت على ظهر مريم وقالت.
"إن شاء الله خير. سيبيها على الله."
قطع حوارهما خروج أخصائية التحاليل من غرفتها ونادت بصوت عالي.
"مريم إبراهيم محمود."
وقفت مريم وأقتربت منها وقالت.
"أيوة أنا مريم."
نظرت الأخصائية لمريم من رأسها لأخمص أصابعها وسلمتها ظرف مغلق وسألتها مريم.
"خير النتيجة أيه؟"
"الدكتورة هتبلغك."
"ما حضرتك قولي لي دلوقت."
رددت الأخصائية جملتها بنبرة ضيق.
"الدكتورة هتبلغك بكل حاجة."
أقتربت فريدة منهما وسألت مريم.
"في أيه؟ التحاليل فيها حاجة؟"
"مش عارفة يا ماما. الدكتورة مش راضية تقول حاجة وتقول أودي النتيجة للدكتورة وهي اللي هتقول لي."
ألتفتت فريدة للأخصائية وسألتها.
"ما تطمنينا يا بنتي وتقولي لنا فيها أيه التحاليل."
تلجلجت الأخصائية وقالت لفريدة بصوت منخفض حتى لا يسمعها أحد من المرضى الآخرين.
"بصراحة مش عارفة أقول أيه لحضرتك. أنا بصراحة عملت التحليل أكتر من مرة وكل مرة بتطلع نفس النتيجة."
شحب وجه فريدة ومريم من القلق. بلعت فريدة ريقها بصعوبة وسألت.
"خير يا بنتي فيها أيه التحاليل؟"
ترددت الأخصائية لعدة ثواني ثم أجابتها دون أن تنظر لها.
"أنا أسفة خالص. لكن بنتك حامل."
رقصت الفرحة في عيني مريم ووضعت يدها على بطنها كأنها تتحسس جنينها وسألتها.
"يعني أنا حامل؟"
"أيوة."
حضنت فريدة مريم وهنأتها. نظرت لهم الأخصائية بإستغراب. فطنت فريدة لتعجبها وقالت لمريم بصوت مسموع لكل الموجودين.
"ألف مبروك يا حبيبتي. أتصلي بجوزكوفرحيه."
ركزت فريدة على كلمة جوزك لتعلم الجميع أن مريم متزوجة. أبتسمت الأخصائية لهما وباركت لمريم ودخلت غرفتها. أخرجت مريم هاتفها من حقيبتها وأتصلت بخالد. بعد فترة أعادت الهاتف لحقيبتها ونظرت لفريدة بقلق. سألتها فريدة.
"في أيه؟"
"خالد ما ردش. أتصلت ثلاث مرات التليفون يفصل من غير ما يرد."
"عادي يمكن مشغول ولا حاجة."
"لا أصل أنا قايلة له رايحة للدكتورة النهاردة وهو طلب مني أطمنه. فأكيد كان مستني تليفوني."
"عادي يا مريم ما تشغليش بالك. المهم أنت دلوقت لازم تاخدي بالك من نفسك كويس قوي. وما تنسيش ميعادنا مع الدكتورة بكرة علشان نوريها نتيجة التحاليل."
"ربنا يسترها يا رب ويكملها على خير."
عادت مريم وفريدة للمنزل وأتصلت مريم بخالد عدة مرات ولم تتلقى أي رد. أزداد قلقها مع الوقت وسيطرت الوساوس والظنون على عقلها.
"ما تقلقيش يا مريم. يمكن التليفون صامت أو بعيد عنه."
"أنا قلقانة عمره ما عمل كدة."
ظلت مريم تمشط صالة منزلها جيئة وذهابا وفريدة جالسة أمامها تحاول تهدئتها فترة ليست بقصيرة.
* * *
"خد بالك من البطاطس على النار يا خالد عقبال لما أروح الحمام وأجي."
"ماشي يا عم فرحات."
ذهب فرحات للحمام ووقف خالد يقلب أصابع البطاطس في طاسة القلي. بعد دقيقة لاحظ خالد قلة الزيت فطلب من حاتم أن يناوله المزيد.
"حاتم ناولني ازازة الزيت."
ناوله حاتم زجاجة الزيت ووضع منها خالد القليل في الطاسة وفي لحظة سكب الزيت أشتعلت الطاسة وتوهجت النيران وألتهمت النار ملابس خالد ونزل على الأرض يتدحرج عليها من شدة الألم. أتى فرحات مسرعا على صوت صراخ خالد وأمسك مطفأة الحريق وسلطها عليه وأطفأ النار. أقترب فرحات من خالد وجد أن ذراعه الأيمن ورجله اليمنى أحترقا بالكامل. أحضر سريعا فوط وبللها بالماء المثلج ولف خالد بها. لم ينقطع صراخ خالد من الألم الشديد. سانده فرحات وأخذ بيده للخارج وأحد العاملين بالفندق أخذه في سيارته لأقرب مستشفى.
* * *
أرادت فريدة أن تلهي مريم عن قلقها فقالت.
"بس أنا شوفتك فرحت لما عرفت أنك حامل."
توردت وجنتي مريم وجلست بجانب فريدة على الكنبة وقالت.
"فعلا سبحان الله. أول لما قالت لي أني حامل، حسيت إحساس غريب قوي."
"حسيت بأيه؟"
ملست مريم على بطنها وأجابت.
"حسيت أني فرحانة قوي. في حياة بتتولد جوايا. في إنسان هيتوجد في الدنيا ده بسببي. وجودي في الدنيا ده مش زي عدمه. في إنسان لو أنا ما كنتش موجودة هو مش هيجي. جزء مني ومن خالد يكبر جوايا."
حاوطت فريدة مريم بذراعها وضمتها إليها وقالت.
"يا حبيبتي. ربنا يسعدك ويهنيك يا رب."
"ربنا يخليك لنا يا ماما."
"أنت كمان خلاص هيجي اللي يقول لك يا ماما."
أتسعت حدقتي مريم وسألت.
"هيقول لي أنا يا ماما؟"
رفعت فريدة حاجبها وأجابتها.
"أيوة طبعا أمال هيقول لي أنا."
"مش قادرة أصدق. أنا بعد سبع شهور هكون أم."
"وهتكوني أحسن أم كمان."
"يا رب."
قاطعمهما صوت جرس الباب. لبست مريم إسدالها وفتحت الباب. صدمت مريم لرؤية خالد يسنده رجلين لا تعرفهما وذراعه ورجله ملفوفة بالشاش الأبيض وخالد مغيب عن الوعي تماما. صرخت مريم لرؤية حاله وهلعت.
"خالد؟ مالك يا خالد؟ في أيه؟"
أقتربت مريم منه وهمت تمسكه ولكن أحد الرجلين وهو رجل ممتلئ الجسد في منتصف الخمسينات من عمره حجب يدها وقال لها.
"حاسبي يا مدام."
نظرت مريم له متسألة. وقفت فريدة وأقتربت منهم وقالت لمريم.
"فسحي لهم خليهم يدخلوه يا مريم."
نظرت لها مريم بعيون زائغة تائهة لا تدري ماذا تفعل. مسكت فريدة بذراعها لتزيحها عن طريقهم. دخل الرجلين وهما يحملان خالد الشقة. قادتهما السيدة فريدة لغرفة خالد وتبعتهما مريم. بعدما وضعاه على السرير ألتفت الرجلين لفريدة ومريم التي أنهالت عليهم بالأسئلة.
"ماله خالد؟ في أيه؟ أيه اللي جرى له؟ هو مش بيتكلم ليه؟ أنتم مين؟"
أجابها الرجل الأكبر سننا فيهما.
"أنا الشيف فرحات. والأستاذ سعد شغال معنا في الفندق. خالد أتحرق وهو شغال في المطعم النهاردة."
صكت مريم على صدرها وشحب وجهها وقالت.
"أتحرق أزاي؟"
أجابها فرحات.
"محدش عارف أيه اللي حصل بالظبط. أنا سيبت المطبخ دقيقتين بس رجعت سمعت صوت خالد عمال يصرخ من الألم دخلت لاقيت النار ماسكة فيه. طفيت النار وأخدته للمستشفى."
جرت مريم لخالد وأقتربت منه وهو نائم على السرير. همت أن تحتضنه ولكنها منعت نفسها حتى لا تؤلمه. نظرت لعينيه المغمضتين وسألت فرحات.
"هو مغمى عليه؟ هو مش دريان بحاجة ليه؟"
"لما روحنا المستشفى الدكتور قال ان ذراعة من الكوع لصوابعه محروق ورجله من أعلى الفخذ لقدمه برضه محروق. الحروق من الدرجة الثالثة علشان كدة الألم شديد عليه قوي. الدكتور أضطر يديه له حقنة مخدرة وكمان منوم علشان يقدر يرتاح شوية."
"طيب هو هيصحى إمتى؟ ولما يصحى أعمل له أيه؟"
"الدكتور قال أنه هينام أربع أو خمس ساعات. وده الأدوية بتاعته كل دواء مكتوب عليه الجرعة والمواعيد. وإن شاء الله بكرة الدكتور هيجي يبص عليه."
سلم فرحات حقيبة ممتلئة بالأدوية لمريم. أخذت مريم الحقيبة ونظرت فيها وجدتها ممتلئة بالأدوية. نزلت على الأرض وجلست وأنهارت في البكاء. أقتربت منها فريدة وعاونتها للوقوف وقالت لها.
"أهدي يا مريم ما تعمليش كدة. إن شاء الله هيخف وهيبقى كويس. أمسكي نفسك يا مريم علشانه وعلشان اللي في بطنك."
وقفت مريم وأرتمت في حضن فريدة علت شهقاتها. تأثر فرحات لرؤيتها بهذه الحالة ونزلت الدموع من عينيه. مسح فرحات دموعه وقال لفريدة.
"تليفون خالد أهه. كان عمال يرن لكن أنا ما عرفتش أرد أقول أيه."
حاوطت فريدة مريم بذراعها ويدها الأخرى أخذت منه الهاتف. أستأنف فرحات وقال.
"نمرتي مع خالد. لو أحتجتوا أي حاجة في أي وقت أنا موجود. إن شاء الله بكرة هعدي عليه أطمن عليه."
"شكرا خالص يا أستاذ."
أنسحب فرحات وزميله من المكان وترك مريم منهارة في حضن فريدة وخالد مغيب عن الدنيا.
********