رواية لا تترك يدي الفصل الثاني والاربعون
جلست فريدة على الأرض بجوار مريم تحاول تهدئتها. حاوطتها بذراعها وبالأخر ملست على رأسها. همست في أذنها كلمات لتصبرها.
"أهدي يا حبيبتي ما تعمليش في نفسك كدة."
نظرت مريم للأعلى وقالت لها والدموع تنهمر من عينيها.
"أنت شايفة هو عامل أزاي يا ماما؟ ده مش دريان بحاجة خالص."
"يا حبيبتي ما قالوا لك أن الدكتور مديله منوم. إن شاء الله بعد ما مفعول المنوم يروح، هيفوق ويبقى زي الفل."
"هيبقى زي الفل أزاي يا ماما. بيقولوا لك مش هيقدر يستحمل الألم. هيفضل نايم على طول. ده إمتحانه يوم الحد الجاي. مستقبله هيضيع. تعب خمس سنين هيضيع. هنعمل أيه؟"
"سيبي الأمور على ربنا يا مريم. خالد طول عمره طيب وعمره ما أذى حد. أكيد ربنا أختار له الخير. مهما حصل أتأكدي أنه الخير."
علت شهقات مريم وقالت لفريدة.
"خير أزاي؟ أزاي اللي حصل له ده خير؟ أيه الخير في أنه يتألم الألم ده كله."
"أستغفري ربنا يا مريم. أنت حافظة كتاب الله. أزاي تقولي حاجة زي كدة."
"أستغفر الله العظيم."
"بس أستهدي بالله كدة وقومي أتوضي وصلي وأدعي له."
"حاضر."
وقفت فريدة ومدت يدها لمريم لتعاونها على الوقوف. مسحت فريدة دموع مريم من على وجهها. توجهت مريم للحمام لتتوضأ. مكثا الإثنان لساعات يصلون ويقرأون القرآن ويدعون لشفاء خالد. قبل الفجر بساعتين سمعا أنين خالد وأسرعت مريم وقفت بجوار السرير وأنحنت قبلت جبهته وملست على رأسه.
"آه. آه."
"بس يا حبيبي. أنا هنا أهه معك."
فتح خالد عينيه وبلل شفتيه الجافتين بلسانه. وتأوه من الآلم.
"آه. آه يا مريم. تعبان قوي."
جلست مريم بجانبه على السرير وأخذت بيده السليمة بين كفيها الصغيرين وقالت.
"معلش يا حبيبي. إن شاء الله هتخف وهتبقى كويس."
أقتربت فريدة منهما وقالت.
"حمد الله على سلامتك يا خالد. ربنا يخفف عنك ويشفيك يا رب."
"شكرا يا طنط. أدعي لي بالله عليك."
أبتسمت فريدة له وقالت.
"أكيد يا ابني. مريم أنا هجيب حاجة لخالد يأكلها علشان الدواء."
"يا ريت يا ماما. معلش تعباك معي."
قبض خالد على يد مريم بشدة ليعترض فقالت.
"حبيبي لازم تأكل علشان المسكن."
أغمض خالد عينيه وأستسلم لأمر زوجته. بعد دقائق قليلة قدمت له السيدة فريدة صينية عليها بعض الشطائر. سندت مريم خالد ليجلس مستندا على سور السرير وأطعمته بيدها. بعدما أنتهى من طعامه أعطته مريم أدويته وعاونته ليستلقي ثانيا على السرير ولكن خالد رفض وحاول النهوض فسألته زوجته.
"عاوز حاجة يا خالد؟"
"عاوز أتوضأ علشان أصلي. ما صليتش المغرب ولا العشاء."
أنحنت مريم ولفت ذراعه حول كتفها وقالت.
"تعالى أسندك للحمام."
أقتربت فريدة منهما وقالت لمريم.
"لا يا مريم. ما ينفعش تسنديه أنت. تعالى يا خالد معي أنا."
نظر خالد لمريم وفريدة ولاحظ توترهما فسال.
"في أيه يا مريم؟"
نظرت مريم لفريدة ثم لخالد وتلجلجت وأجابته.
"مفيش حاجة يا خالد. تعالى معي."
رفع خالد نظره لفريدة وسألها.
"في أيه يا طنط؟"
"بصراحة يا خالد مريم ما ينفعش تسندك دلوقت خالص."
"ليه؟"
"أصل مريم حامل."
نظر خالد لمريم متسائلاً.
"صحيح الكلام ده؟"
أومأمت مريم برأسها خفيفاً وأجابته.
"أيوة صحيح. عملت تحليل إمبارح وطلعت حامل."
أبتسم خالد إبتسامة خفيفة وقال.
"الحمد لله يا رب. الحمد لله."
رفعت مريم رأسها وسألته.
"أنت فرحان يا خالد؟"
"طبعا فرحان. ولولا اللي أنا فيه دلوقت كان زماني بتنطنط من الفرحة."
"بجد يا خالد؟"
"طبعا يا مريم. ربنا ما بيجيبش حاجة وحشة أبدا."
لاحظت مريم علامات الألم على وجه خالد فسألته بلهفة.
"خالد أنت موجوع؟"
"آه تعبان شوية. دخلوني الحمام علشان أتوضأ وأصلي وأخد المنوم وأنام مش قادر أقعد."
"حاضر يا حبيبي."
أستند خالد على كتف فريدة للحمام ثم دخلت معه زوجته لمعاونته بعدما توضأ صلى المغرب والعشاء وبعد دقائق قليلة أذن الفجر وصلوا جميعا. عاونت فريدة ومريم خالد للسرير وأستلقى وأستسلم للنوم بعدما أخذ المنوم.
خرجت مريم وفريدة من الغرفة وأغلقا الباب حتى لا يزعجاه. جلسا معا في الصالة وقالت مريم.
"روحي ريحي أنت يا ماما. أنت تعبت معنا كتير النهاردة."
"أنا مش هروح. أنا هفضل هنا معكم. مش هقدر أسيبكم."
"ماشي على الأقل طيب أدخلي نامي أنت في الغرفة التانية."
"أنا هدخل أنام لو أنت هتنامي. مريم أنت لازم تريحي أنت كمان."
"مش عاوزة أنام دلوقت. لما يجي لي نوم هدخل أنام."
"خلاص يبقى أنا كمان مش هنام."
"ليه كدة بس يا ماما."
"هو كدة. أنا هدخل أعمل لك حاجة تأكليها خفيفة أنت ما أكلتيش حاجة من إمبارح الظهر وبعدين تنامي."
نظرت مريم لفريدة وقالت لها.
"أنت مش ناوية يعني تروحي تريحي شوية."
"لا مش ناوية. طول ما بنتي تعبانة أنا أنام أزاي؟"
"ماشي يا حبيبتي. هقوم أهه أجيب حاجة ناكلها إحنا الإتنين أنت كمان ما أكلتيش من إمبارح الظهر زيي. وبعدين نبقى ننام."
"أيوة كدة بنتي حبيبتي بتسمع الكلام."
أعدت مريم طعام لها ولفريدة. أكلا الإثنان وجلسا معا لساعتين يتحدثان ويقرءان القرآن ويدعيان بالشفاء لخالد. غلب النوم على فريدة فأخذتها مريم لغرفة خالد القديمة وهيأت لها السرير لتنام. ثم دخلت غرفتها ونامت بجوار زوجها.
بعد ساعتين شعرت بآنين زوجها ففتحت عينيها وجدته يستيقظ من نومه. جلست بجواره وملست على رأسه بحنان وسألته.
"عاوز حاجة يا خالد؟ عطشان؟ أجيب لك حاجة؟"
فتح خالد عينيه وقال بصوت رخيم من أثر النوم.
"عاوز أقوم أقعد."
نظرت مريم للأسفل له تترجاه بعينيها ألا يعارضها وقالت.
"ما بلاش يا خالد. الدكتور قال الأفضل تنام الفترة ده علشان الألم."
حاول خالد أن يستند على كوعه السليم ليجلس وقال.
"مفيش وقت للنوم. إمتحاني بعد بكرة."
مسكت مريم بذراعه تحاول أن تجعله يستلقي ثانيا وقالت.
"بس يا خالد علشان الألم."
نظر لها خالد بعيون يملؤها الغضب وقال لها بنبرة تحذير.
"علشان الألم أنا مش مستحمل أي مناهدة. بقولك لك عاوز أقوم."
فزت مريم من صوته ونبرته الغاضبة. أسرعت لتنفيذ أمره وعاونته للجلوس وقالت بصوت مرتعش.
"أنا خايفة عليك."
شعر خالد بالذنب فقال.
"مريم أرجوك الفترة ده أنا الألم غير طبيعي. ما تعارضنيش خالص واللي أقوله تسمعيه. أنا بجد مش مستحمل."
نظرت له مريم وقالت.
"ما علشان كدة بقول لك مش هتقدر تذاكر دلوقت."
أخذ خالد نفس عميق ليخفف حدة الألم وقال.
"مفيش وقت يا مريم. أمتحاني بعد بكرة. وما ينفعش أسقط. أنت حامل ولازم أخلص المدرسة السنة ده. أنا الحمد لله كملت 18 من شهرين وانت فاضل لك أسبوع وتكمليها حسب البطاقة. يعني ما فاضلش غير أني أخلص المدرسة. ولازم أخلصها السنة ده. مش هينفع أسقط ولا أعتذر على الإمتحان."
"طيب هتذاكر أزاي وأنت بالحالة ده."
"مش عارف. لكن اللي أعرفه أني لازم أذاكر ولازم أنجح السنة ده بأي طريقة."
"طيب عاوزني أعمل لك أي حاجة؟"
"لا، جيبي لي بس فوطة مبلولة أمسح وشي علشان أفوق. وناوليني الكتاب الأزرق اللي على الكومودينو."
"حاضر."
فعلت مريم كما أمرها زوجها. أحضرت له الكتاب ليذاكر وجلست بجواره تراقبه. لاحظت تشتته كل دقيقة وأخرى بسبب الألم، وصعوبة مسك الكتاب بيد واحدة وتقليب الصفحات. فأقتربت منه وجلست بجواره وأخذت الكتاب من يده. نظر لها خالد غاضباً وقبل أن ينهرها أشارت له بيدها لينتظر وقلبت في الكتاب ونظرت فيه لعدة دقائق. راقبها خالد وهو متعجب لفعلها ولا يدري ما بنيتها. بعد عشر دقائق نظرت له وسألته.
"ده محاسبة؟"
"أيوة. أول أمتحان عندي محاسبة. أشمعنى؟"
"هذاكر لك أنا."
رفع خالد حاجبه وسألها.
"هتذاكري لي أزاي؟ أنت تعرفي محاسبة منين؟"
أغلقت مريم الكتاب وأسندت كوعها على ركبتها وأقتربت منه وقالت.
"أنت عارف أني بحب الرياضة جدا. وكمان أنا قريت الدرس دلوقت وفهمته."
مد خالد يده لها وقال.
"هاتي الكتاب يا مريم مش وقت هزار. بقول لك مش فاضي وتعبان وموجوع. مش وقته خالص دلوقت التهريج ده."
رفضت مريم أن تناوله الكتاب وقالت.
"وانا مش بهرج. أنت عارف قد أيه أنا بحب الرياضة. بص أنا هذاكر معك الدرس ده. لو ما أرتحتش معي هسيبك تذاكر لوحدك."
"يا مريم هاتي الكتاب بقى."
"مش هديه لك قبل ما أذاكر معك الدرس ده ونحل مسائله كلها مع بعض."
تأكد خالد أنه لن يستطيع التخلص منها والمذاكرة بهدوء قبل أن يسمح لها أن تذاكر معه ذلك الدرس. فأستسلم خالد لرغبتها حتى لا يضيع الكثير من الوقت. فتنهد وقال.
"ماشي يا ستي. أنا فاهم الدرس ده كله ماعدا المسألة رقم خمسة مش عارف هو جاب الرقم 562.75 منين. تقدري دلوقت تفسري لي جاب الرقم أزاي؟"
نظرت مريم للكتاب وقرأت المسألة التي اشار لها خالد. أستغرقت عدة دقائق في التفكير ثم لمعت عينيها وقالت.
"بص يا سيدي. الرقم ده جه من قسمة تكلفة المشترايات في الأسبوع على عدد أيام العمل. علشان يقدر يجيب تكلفة مشترايات اليوم الواحد."
"أيوة يا فالحة لكن لما قسمت تكلفة الأسبوع على 6 أيام عمل في الأسبوع ما جابش الرقم ده."
"ما ده علشان قايل لك في المسألة أن الشركة ده بتشتغل 5 أيام في الأسبوع بس مش 6."
برقت عين خالد بالتعجب وقال.
"وريني كدة."
قربت مريم الكتاب منه وأشارت له على ما قالت في رأس المسألة. نظر لها خالد نظرة فخر وإعجاب وقال لها.
"لا طلعت فاهمة بجد."
"يعني هتسيبني اذاكر لك؟"
"ماشي يا ستي."
أبتسمت مريم وأستمرا معا لعدة ساعات يتدارسون لإمتحان خالد. بعد صلاة الجمعة أتى فرحات ومعه الطبيب للتغيير ضمادة خالد. وقفت مريم مع الطبيب وفرحات في غرفة خالد. بدأ الطبيب في فك الأربطة من على ذراع خالد وقبل أن يزيل آخر طبقة من الشاش نظر لخالد واشار بعينيه على مريم حتى لا ترى ما حدث لذراعه. فطن خالد لما يريد الطبيب وطلب من مريم الخروج. حاولت مريم أن تعارض ولكن نظرة من زوجها جعلتها تطيعه وتخرج في صمت. بعدما خرجت مريم من الغرفة حاول الطبيب أن يخفف التوتر فإبتسم وقال لخالد.
"أختك شكلها بتحبك قوي."
نظر له خالد وأجابه.
"ده مراتي مش اختي."
لم تخفى ملامح التعجب التي ظهرت على وجه الطبيب عن خالد ولكنه تجاهلها خاصة بعدما أزال الطبيب الطبقة الأخيرة من الضماد الملاصقة للحمه بعدما أختفى جلده تماما بسبب الحريق.
* * *
خرجت مريم من الغرفة وهي تتأفف لخروجها ومنعها من تواجدها بجوار زوجها في هذا الوقت. فهي أرادت أن ترى الجرح بنفسها وتطمئن على حال زوجها. ولكنها لم ترد أن تعارضه أمام الطبيب ورئيسه في العمل فرحات. جلست بجوار فريدة في الصالة صامتة وما أن جلست حتى سمعت صراخ زوجها من الألم. قامت وأرادت أن تجري عليه ولكن فريدة حاوطت جسدها الهزيل بذراعيها ومنعتها من مغادرة المكان. مكثا الأثنان معا في الصالة والدموع تنهمر من عينيهما وهما يستمعان لصراخ خالد الذي كان كالطعنات في قلب مريم. بعد ساعة من صراخ خالد المتواصل فجأة سكن وهدأ صوته وهلعت مريم لما خطر ببالها من ظنون.
حررت مريم نفسها من قبضة فريدة وجرت على غرفة زوجها وفتحت الباب. وجدت الطبيب يجمع أدواته في حقيبته وفرحات وجهه مبلل من الدموع وزوجها نائم أو فاقد الوعي على السرير. هرعت لزوجها وجلست على السرير بجواره تملس على وجهه وسألت الطبيب.
"هو ماله؟ هو أغمي عليه؟"
نظر لها الطبيب بشفقة وأجابها.
"لا أنا أديته حقنة مسكن ومنوم. الألم بعد التغيير بيبقى شديد قوي. لأن مفيش جلد خالص فتغيير الشاش بيكون غير محتمل."
وقفت مريم وأقتربت منه وسألته.
"وهو هيغير على الجرح كل قد أيه؟"
"بسبب الحر وخطورة جرحه فلازم يغير مرتين في اليوم على الأقل لمدة أسبوع. أو لغاية لما يكون طبقة جلد تاني."
شحب وجه مريم وسألته بصوت منخفض.
"يعني هيتعذب العذاب ده مرتين كل يوم."
"يا مدام الحرق ما كانش سهل أبدا. الحمد لله أنه كان بعيد عن أي عضو حيوي في جسمه. رجله كلها اليمين تقريبا مسلوخة تماما. أيده الأخف بكتير من رجله."
ردت مريم على الطبيب بدموعها المنهمرة في صمت. نظر الطبيب لفرحات فأومأ برأسه وتقدم ليوصله للباب ويعطيه أتعابه. خرج الطبيب وسمعته مريم يخبر فرحات أنه سيحضر في المساء ليعيد الكرة.