![]() |
رواية لعنة الخطيئة الفصل الخامس والاربعون بقلم فاطمة أحمد
في الطابق العلوي، انتفضت حكمت بحدة وهرعت تتصل بمساعدها لتصرخ عليه بمجرد أن أجاب على المكالمة :
- عدى وقت قد ايه من لما وكلتك تلاقي عديم الأصل اللي اسمه سليمان وكل مرة بتقولي انك لسه ملقتهوش اومال انا بدفعلكم ليه انت واللي معاك !
اندهش الآخر من عصبيتها المفاجئة وأدرك أن هناك شيء خطير ومتعلق بسليمان قد حدث فاِعتدل في وقفته باِحتراز مغمغما :
- أنا كنت لسه هتصل دلوقتي بحضرتك عشان الموضوع ده يا ست هانم، بصراحة مش عارف اذا الخبر هيبسطك ولا لا.
- عاوزني اسحب الكلام من بوقك ولا ايه يلا انجز.
- احنا قدرنا نعرف مكان الراجل اللي حضرتك بتدوري عليه ووصلناله اهو بس ... مع الأسف ملقيناهوش اظاهر انه هرب من البيت.
لم تكد فرحة حكمت بالاِنتصار تطول حتى وأدها مساعدها سريعا وهو يخبرها بأنه لم هرب ثم أضاف بحذر قائلا لها أن الفوضى التي في المنزل تدل على أنه غادر مستعجلا منذ سويعات قليلة فقط.
- انت بتهزر معايا ازاي سبتوه يضيع من إيديكو يا غبي مش عارف عملتك ديه هتوديني لفين ؟
- بعتذر منك يا هانم والله عملت كل جهدي عشان اوصله وكان صعب لان مفيش اي معلومات عنه واول ما...
- خلاص اخرس مش عايز اسمع كلام فاضي المهم صحيح الكلب ده غير مكانه بس بتقدر تسأل جيرانه وأهل القرية بتاعته ودور وراه ممكن تلاقي حد من رجالته يوصلنا لمكانه الجديد.
ثم زادت نبرتها سوادًا وهي تتابع بشر :
- اقسم بربي لو رجعت حكيتلي نفس المبررات من تاني ولو حفيدي وصل لسليمان قبلك قول على نفسك يا رحمان يا رحيم انت فاهم !
- الواطي ده نسي انه كان خدام تحت رجليا وبيترجاني ارضى عليه جاي دلوقتي وهو عاوز يلعب عليا عن طريق حفيدي، فاكر ان محدش قده بس أنا هوريك يا سليمان يعني ايه تتقاوى على أسيادك.
____________________
- لسه متكلموش ؟
- لا يا آدم بيه حاولنا كتير بس لسه منشفين دماغهم خاصة ابو شنب ده.
وقع نظر آدم عليهما وهما مكبلان من البارحة وحسبما قال فاروق فهما مازالا مصممان على أنهما لا يعرفان هوية الرجل الذي ترسلهما ولا المكان.
فزفر بغلظة وقبل أن يقوم بخطوة وجد صفوان يدخل بملامح لا تبشر بالخير هادرا :
- انتو لسه قاعدين تناهدو معاهم قولتلكم خلوني اقطع شرايينهم بس مرضيتوش.
مط فاروق شفته بيأس منه متذكرا كم مرة حاول منع صفوان عن قتل هاذين الوغدين منذ البارحة وبصعوبة كبيرة جعله يكتفي ببعض الضربات فقط، حسنا بالنظر إلى حالتهم المزرية الآن فهو لا يستطيع الجزم بأنها كان مجرد ضربات.
أفاق من شروده على صفوان وهو يقبض على تلابيب قميص الشاب ويهزه بعنف صائحا :
- ما تنطق يابن الكلب قولي مين استرجى يحرق المستودع بتاعي ويتهجم عليا وأنا في مزرعة الصاوي مين اللي وزك علينا يا *** اتكلم !
وكانت نفس النتيجة، نفي للمعرفة ثم صمت مقيت.
هنا نضبت آخر ذرات من صبر آدم وبدأ شيطانه يخوله لقتلهما طالما لن يتكلما لكنه قرر إعطاء آخر فرصة لهما فأزاح صفوان قليلا ونظر إلى الشاب الذي يبدو أضعف من رفيقه وأقلَّ تحملا، وسأله بلا مواربة :
- انت اسمك ايه ... رد عليا !
انتفض بخفة وتلعثم لسانه قبل أن يجيب :
- ممـ ... ممدوح.
همهم بتفهم ثم غمغم بنبرة جامدة :
- صدقوني مش هتكسبو حاجة من السكوت والتستر عليه أنا متأكد ان المعلم بتاعكو هرب من زمان زي مانا متأكد انه خلاص سابكم تدفعو تمن افعاله ومش هيسأل عليكو يبقى ليه المقاوحة ديه.
ارتعش هذا الأخير -ممدوح- وازدرد لعابه باِهتزاز استشعره آدم فأكمل وهو يرى أنه بدأ يؤثر على الشاب :
- لو الموضوع متعلق بخوفكم منه فأنا بطمنكم انه مش هيقدر يعملكو حاجة انتو خلاص بقيتو بين ايدينا -ولو تصرفتوا بهداوة وعقل- هتكونو في حمايتي أنا شخصيا.
بس اذا لسه بتعندو معانا وهتكررو نفس الكلام يبقى لمؤاخذة هحرص بنفسي ع انكم تتعذبو عذاب تتمنو الموت من غير ما تطولوه وكده كده انتو من قرية تانية محدش هيفكر انكو عندينا ولا المعلم بتاعك هيسأل عليكم يعني محدش هيقدر ينجدكم مني ... مننا.
أنهى كلامه وهو يشير لصفوان الواقف خلفه وكان مصمما هذه المرة على أنه سينهي حياتهما اذا لم يستجيبا لهذا الأسلوب، أسلوب الترهيب والضغط على الأعصاب هو أشد قسوة وسيطرة من التعنيف الجسدي.
بينما استشعر الإثنان مدى جدية آدم وأيقنا بالفعل أن سيدهما لن يحضر لإنجادهما، بادر الشاب ممدوح بعدما استنفذ قدرته على التحمل :
- سليمان ... اسمه سليمان.
انتفض من في الغرفة وتقدم صفوان بلهفة وهو يسمعه يقر بالاسم بينما زجره رفيقه مستنكرا :
- انت بتعمل ايه.
- أنا مش عاوز اموت فاهم أنا اصلا مليش دعوة وديه كانت اول مهمة ليا معاكم وياريتني موافقتش عليها.
ثم شرع يتحدث عن المدعو سليمان وهو رجل خارج عن القانون يمتلك مجموعة من الرجال الذين ينفذون أعمال الشغب تبعا لأوامره وكانت آخر مهمة هي أن يهاجموا على ابن عائلة الصاوي الساكن في القرية المجاورة.
بادر آدم بسؤاله المترقب :
- متعرفوش ايه هو اسمه الكامل ولا السبب اللي مخليه يتعدى على العيلتين.
هز رأسه بنفي فاِنتصب واقفا يوجه الأوامر لفاروق :
- خد الرجالة وروحو للمكان اللي قالنا عليه مع اني معتقدش هنلاقيه هناك بس ممكن نقدر نلاقي طرف خيط يوصلنا ليه.
تابع إلقاء تعليماته بحزم ثم أرسله لينظر له صفوان ويقضب حاجبيه هاتفا بحيرة :
- طلع اسمه سليمان الواطي ده بس مين هو أنا مسمعتش عنه قبل كده.
رفع رأسه إليه مستطردا :
- أنا هرجع ادور في السجلات احتمال الاقي اسمه جواها وهسأل العمدة كمان يمكن بيعرف واحد بالاسم ده حصلتله مشكلة مع العيلتين من زمان وراجع ينتقم دلوقتي.
أطرق آدم وذكرى خبيثة تهمس له "متبقاش واثق من نفسك كده مش ممكن انت اللي تتفضح لما تتكشف حقيقتي وسمعتك تبقى في الاراضي"
" كل اللي هقولهولك ان مصدر الضرر قريب منك بس انت مش قادر تشوفه ولو مش مصدقني روح اسأل الست حكمت هانم"
لقد وصل لاِسم عدوِّه وربما سيصل لمكانه ويعرف سر العداوة عما قريب فهل يجب عليه الاطمئنان أم القلق من مسألة
هل كانت جدته صادقة عندما أخبرته صباحا بأنها لا تعلم من هذا الرجل أم كانت مجرد كذبة تخفي بها طبيعة علاقتهما سويا ... أو بالأحرى السر الذي سيجعل سمعته في الأراضي مثلما قال ذلك الأخرق !
_______________
وكما توقع، فلقد وصله الخبر بعد فترة من فاروق الذي تمتم محبطا بأنه وجد البيت فارغا وسأل الأهالي ليخبروه بأنهم لا يملكون فكرة إلى أين غادر سليمان وحتى ليس لديهم معلومات كثيرة عنه هو مجرد تاجر صغير -حسب اعتقداهم- قدم إلى هذه القرية منذ سنتين وكان غريب الأطوار لا يتعامل معهم كثيرا.
قابل العمدة رفقة صفوان وسألاه عما إذا كان يعرف شخصا بهذا الاسم. كان من الصعب على العمدة تذكر جميع ما حدث خلال هذه السنوات الطويلة وكلّ الأسماء التي مرت عليه فأخذ فترة لا بأس بها حتى نظر لهما وغمغم بجدية :
- مفتكرش حصلت اي مشكلة مع حد بالاسم ده في فترة عموديتي بس هحاول اعرف لو حصل تعامل معاه في فترة عمودية جدك الصاوي.
والآن هاهو يقف أمام محل القماش وقد أعاد تعميره وبفضل الله أصبح أفضل عن السابق وسيعلن افتتاحه قريبا.
أخذ آدم نفسا عميقا مقررا التركيز في عمله الذي أصبح يهمله مؤخرا ريثما يجد حلولا تدريجية للمشاكل المتراكمة فوق رأسه ثم أفاق على مجيء سامح شريكه في مشروع المحل وهو يبادر بإلقاء التحية :
- السلام عليكم ازيك يا آدم بيه.
- وعليكم السلام يا سامح تعالَ جمبي أنا كنت واقف ببص ع المحل وبشوف لو في حاجة ناقصاه.
ابتسم الآخر باِستحسان معلِّقا :
- متشغلش بالك انا اطمنت من قبلك والحمد لله مفيش نواقص ان شاء الله المرة ديه نقدر نفتحه على خير ومن غير ما تحصل أي مشكلة.
التفَّ آدم إليه متذكرا الموقف الشهم الذي فعله سامح وكيف رفض أخذ التعويض المالي عندما قام ذاك الحقير -سليمان- بتحطيم المحل وأخبره بأنهما سويا في هذا المشروع وبالتالي سيتحملان الربح والخسارة معًا.
فربت على كتفه مرددا ببسمة :
- طالما في ناس زيك واقفة ع المشروع فمتقلقش هيتفتح ونشتغل فيه.
تلون وجهه بحرج من مديحه وهمس :
- استغفر الله اجي ايه انا جمب خبرتك في الشغل ده الرجالة كلها بتقف ع كلمة واحدة منك ولولاك مكنتش هحقق حلمي بالمشروع ده خالص.
- الفضل لربنا يا سامح.
هتف بهدوء دون أن يصيبه الغرور من المديح الذي سمعه وعادت انظارته توجه للمحل فعض سامح على باطن شفته بتردد مخططا لقول ما تدرب عليه لأيام ثم حسم أمره وألقى ما بجعبته :
- بعد اذنك ممكن تجي نقعد ع جمب شويا في موضوع مهم عاوز احكيهولك.
تشنج وجهه بغرابة ورغم ذلك وافق وابتعدا قليلا ليهتف سامح بلا مواربة :
- انا راجل دوغري يا آدم بيه ومليش في اللف والدوران خاصة في المواضيع ديه واللي عاوز اقولهولك اني نويت اتجوز واجيب بنت الحلال لبيتي.
همهم آدم بترقب وقد بدأت خيالاته تنسج توقعات للكلمات التي ستأتي بعد هذه المقدمة وبالفعل أردف هذا الأخير بجدية :
- وبصراحة انا طالب اذنك عشان أجيب اهلي ونجي لبيتكم نطلب إيد اختك للجواز.
- بصراحة انت فاجأتني يعني مكنتش متوقع بس انت بتعرف اختي ولا شوفتها من قبل.
- مرة واحدة لمحتها صدفة وأنا جاي أوصل والدتي لبيتكم وسألتها عن الآنسة وهي شكرتلي فيها وده اللي كان مؤكد اساسا يعني بنت عيلة الصاوي أكيد هتكون بتشرف.
عشان كده انا ناوي الحلال يا آدم بيه.
- وانت كمان شاب ماشاء الله عليك بس معلش موضوع الجواز مفيهوش مجاملات أنا لازم اتشاور مع أهل بيتي قبل ما اديلك الرد وكمان انت عارف الظروف اللي بمر فيها دلوقتي وممكن الموضوع يطول.
- أكيد يا آدم بيه خد راحتك.
استأذن سامح وغادر يتابع أشغاله أما آدم فكان لاي زال رازحا تحت وقع الدهشة التي أصابته، عريس لأخته ليلى ! هذا ما كان ينقصه.
________________
في المساء عاد إلى السرايا وصعد مباشرة كي يغتسل وينزع عنه إرهاق اليوم ثم شرع يرتدي ملابسا مريحة وهو ينتظر دخول نيجار في أي لحظة.
لكن خاب ظنه حينما طال الوقت ولم يرَها فهمهم محدثا نفسه :
- يمكن مشافتنيش لما دخلت ولا مشغولة في المطبخ عشان كده مجتش للأوضة لغاية دلوقتي.
بعد دقائق طُرق الباب ودلفت أم محمود تطلب منه الانضمام إلى مائدة العشاء وحين كادت تذهب أوقفها متنحنحا :
- الست نيجار فين.
- قاعدة مع الست حليمة في الصالون.
- اه يعني مخدتش بالها اني رجعت.
- لا أنا قولتلها يا بيه بس هي قالتلي روحي انتي اندهي عليه عشان يجي يتعشا.
رفع إحدى حاجبيه بتعجب ونزل إلى الأسفل ليجدها تنضم للمائدة بعد قليل وعلى عكس المعتاد لم ترمي عليه نظرة واحدة حتى بل تجاهلته كأنه غير موجود وانشغلت يالتحدث مع عمته بينما تتناول طعامها وبعض العبارات المقتضبة التي تبادلتها رفقة ليلى، فحمحم وكاد يطلب منها مناولته الماء كمحاولة سخيفة لفتح حديث معها بيد أن نيجار نهضت فجأة وقالت بلباقة :
- بستأذن منكم بس أنا تعبانة شويا وطالعة ارتاح في اوضتي، ألف صحة وهنا.
تبعها آدم بنظراته مستشعرا وجود خطب ما ولولا نيته في الحفاظ على مظهره لكان سيقوم خلفها لكنه تراجع حينما لمح نظرة ماكرة من حليمة التي أعطته كوب ماء وقالت :
- اتفضل بل ريقك.
بعد مدة صعد آدم إلى السطح شاردا في الأمور التي عرفها اليوم حتى جاءت عمته وهتفت بعتاب خفيف :
- انت ليه محكيتليش عن اللي حصل امبارح خاصة ان مراد كان معاك.
- هو اللي قالك ؟
- ايوة انا روحت لبيته المسا وشفت وشه متخرشم ولما سألته حكالي بس المسكين صعب عليا لانه كان قاعد لوحده وملوش حد يسأل عليه.
زفر آدم بضيق مختلط بالذنب فدرأه سريعا وهو يهمهم :
- مانتي عارفة الظروف اللي جمعتنا ببعض يا عمتي هو انا هحب اشوف اخويا عايش لوحده يعني ... وكمان انا فكرت اطلب رقمه منك النهارده عشان اتصل بيه بس انشغلت وملحقتش اقعد دقيقتين ع بعض.
انشرحت أسارير حليمة فهمَّت تعطيه هاتفها بحماس وتلهف بينما تردد :
- خد انقل رقمه وكلمه يلا.
- سيبيها لبكره طيب.
- لا دلوقتي يا عالم اذا هتفضى بكره ولا لأ.
وكما كان الحال سجل رقم مراد على الهاتف واتصل به بعدما غادرت عمته وبعد دقائق سمع صوت الآخر يجيب :
- ألو.
ارتبك بحرج من الموقف الذي وُضع فيه لكنه اضطر على التحدث فقال :
- السلام عليكم.
أدرك مراد هوية المتصل على الفور فنهض من الأريكة التي كان يجلس عليها ووقف أمام النافذة المطلة على الخارج قبل أن يردّ باِحتراز :
- وعليكم السلام اتفضل.
حك آدم طرف ذقنه من صعوبة الموقف وكأنه ليس ذات الرجل الذي يلقي نفسه في المخاطر دائما ثم تشجع وبادر بالحديث :
- اتصلت عشان اطمن عليك بعد اللي حصل امبارح انت تأذيت اكتر مني.
لا يعلم مراد سبب نبضات قلبه وقد ارتفعت بغتة ولا الابتسامة الخفيفة التي ظهرت على وجهه لكنه شدد على قبضة يده وتشدق :
- أنا كويس الاصابة مكنتش بالسوء اللي بتتخيله بس كنت بفكر يعني مين الناس دول واذا قدرت توصلهم.
- لسه موصلتش بس حاسس اني بقيت قريب منه وبتمنى الاقيه في أسرع وقت.
- وايه رأي حكمت هانم في الموضوع سمعت أنها ست ليها نفوذها معقوله مقدرتش تساعدك.
تشنج باِنزعاج لأن جدته نفسها ترفض مساعدته لكنه أجاب رغم ذلك :
- لأ مع الأسف هي لو بتقدر مكنتش هتقصر.
- انت واثق فيها للدرجة ديه.
- انا عارف انك بتكرهها بس ستي عمرها ما هتبادلك نفس الشعور وده لأنك حفيدها يا مراد مهما أنكرت زي ما أنا حفيدها وبتعتمد عليا.
صمت مراد ورافقته ذكرى زيارة حكمت له منذ مدة حينما عرضت عليه أن تضمه للعائلة مقابل أن يصبح يدها اليمنى ولمَّحت لإزاحة آدم وجعله هو في مرتبة الحفيد الأكبر وابن سلطان الصاوي.
انه يستطيع تخيل مدى خيبته اذا اكتشف ان من اعتبره نفسه ظهرا لها كانت مستعدة للتخلي عنه وإبخاس قيمته أمام ذاته، وفتح فمه بالفعل ليتحدث لكن توقف حين لمح من بين تلافيف الظلام تلك الجارة زينب وهي تفتح باب منزلها المقابل لتعطي الطعام إلى قطط الشارع ...
ثم سكت متراجعا عن كسر ثقة آدم بجدته، وتعجب من نفسه !!
**** بعد مرور وقت دخل إلى الغرفة فوجدها جالسة على الأريكة تعبث بهاتفها وبمجرد أن رأته امتقع وجهها وكساه البرود قبل أن تعود وتقلب في مواقف التواصل الاجتماعي متجاهلة حضوره.
فأشرف عليها من فوق وهدر بصوت هادئ :
- قاعدة بتعملي ايه.
- زي ما انت شايف.
أتته الإجابة جامدة جمود ليلة قارسة في الشتاء فجز على أسنانه مغتاظا من أسلوبها الذي يجهل سببه وقبض على ذراعها عندما نهضت نيجار وكادت تتجاوزه :
- انتي مالك النهارده مش على بعضك ليه.
نظرت ليده الممسكة بها وأشاحتها بقوة متشدقة :
- مالي مانا قاعدة فحالي اهو ومش بصدعك ولا بحشر نفسي في خصوصياتك ولا حتى ده مش عاجبك ؟
حدجها آدم بغرابة كأنها مختلة عقلية وفجأة فأغمض عيناه لاعنا لسانه ثم فتحهما وقال بلين :
- أنا مكنتش بقصد الكلام اللي قولته.
- تقصد ولا متقصدش خلاص أنا فهمت ومعدتش هجي جمبك ولا اكلمك بما انك معتبر قلقي عليك حشرية ومبتعتبرنيش مراتك.
- مين قالك اني مبعتبركيش مراتي.
- انت ! تصرفاتك وتجاهلك ليا ولما تخبي أسرارك عني ومترضيش تحكيلي عن اي حاجة تخصك لدرجة اني بعرف اخبارك من ناس غيري.
لمعت عيناها بدموع الغضب والحزن معا وهي تتابع :
- انت لسه مبتثقش فيا وبتبصلي على اني واحدة بياعة رغم وعدك ليا انك تبدا صفحة جديدة معايا وعلشان كده قررت اني مذلش نفسي اكتر وخلاص اعمل ما بدالك.
رفعت يدها لتزيح كتفه الصلب عن طريقها بيد أن آدم منعها بل ضمَّ وجهها بين كفيه وأرغمها على النظر في عينيه شارحا نفسه بنبرة دافئة :
- والله العظيم مبقصدش اي كلمة من اللي قولتها ديه لحظة عصبية مكنتش شايف حاجة قدامي ولو بتعرفي ايه اللي بمر بيه الأيام ديه هتعذريني.
زمت نيجار شفتاها وعارضته :
- ولأني عارفة كنت عاوزة اطمن عليك، ولأني عاذراك سكت وقررت اتجاهلك بدل ما الشيطان بيوزني ع اني اغزك بالخنجر في نص قلبك.
شحب وجه آدم وسحبت الحياة من عينيه ... و كم ذكرها جمود تقاسيمه بنفس الجمود الذي شابه عندما اقتلعت سكينها من خاصرته، لقد ذكرته بتلك الحادثة مجددا !
أحست بفداحة ما قالت وعضت شفتها ندما ... لكنها توجست عندما بدأت كتفاه بالاهتزاز .. و ارتجفت شفتاه بابتسامة مكبوتة انبجرت فجأة بقهقة مجنونة.
ناظرت نيجار ضحكته المنفلتة بعته وشعرت بالاِستغباء فأبعدته صائحة بنزق :
- انت بتتريق عليا !
مسح آدم دموع الضحك من عينيه وهو لا يكاد يصدق مسرى الحديث الجنوني ليناظرها باستهانة بينما ترمقه وكأنه مخبول ثم يقول برضا :
- أنا كنت قلقان من حركات القطط المطيعة اللي بقالك فترة بتعمليها بس الحمد لله انا اتأكدت دلوقتي انك لسه زي ما كنتي ونيجار عمرها ما هتتغير.
تخضب وجهها بالحرج وصمتت لكن آدم كان يدرك أن غضبها لم يكن سوى لأنه جرحها وجعلها تشعر أنها ليست لديها قيمة في نظره فاِقترب يطبع قبلة على وجنتها ورفع يده يداعب شعرها بلطف هامسا :
- حقك عليا، أنا آسف.
عاد العتاب يكتسي تعابير نيجار وبرطمت بخفوت :
- مفيش داعي تعتذر أنا بعرف كويس انك لسه مبتثقش فيا لدرجة تحكيلي عن أسرارك ومشاغلك.
نفى آدم ما تفكر فيه موضحا لها بصدق :
- أنا بثق فيكي يا نيجار وعارف كويس انك قلقانة عليا وعلى ابن عمك بس صدقيني اللي بيحصل معايا مخليني مش قادر استوعب كل الكلام اللي بقوله ومبحبش اضايقك معايا.
تنهدت نيجار مستشعرة مدى إرهاقه وملله من جميع المشاكل المتساقطة دفعة واحدة على رأسه ثم لانت ملامح وجهها المتجهمة وواسته بحنان :
- بس أنا موجودة عشان اشيل معاك يا آدم مستعدة افرح وازعل لما انت تفرح وتزعل ومستعدة اتعصب واشيل همومك لأني مراتك ولأني بحبك.
كلماتها كانت كالدواء بالنسبة إليه وعيناها الامعتان أصبحتا ملجأه في هذه اللحظة فجلسا جوار بعضهما وأسند آدم رأسه على كتفها وشرع متحدثا عن مكنونات قلبه، كاشفا لها عن جروحه ونقاط عجزه لتستقبلها نيجار بصبر وصدر رحب ....
(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) سورة البقرة، الآية 187
_________________
مرَّت ثلاث أيام لم يتغير فيهما شيء جديد.
وهاهو واقف على إحدى الأراضي التابعة لعائلته يرزح جوار حصانه سلطان يداعبه بشرود حتى رن هاتفه بمكالمة من العمدة ففتح الخط مرحبا به ليسمع الآخر يقول بجدية :
- من لما اتكلمنا وأنا بدور على حاجة توصلني لشخص اسمه سليمان و النهارده لقيت اسمه في سجل كان مخبي مع باقي السجلات السرية.
انتفض آدم بلهفة وردد سريعا :
- بجد لقيته حضرتك متأكد طب أنا دقايق ويكون عندك.
- معلش أنا عندي اجتماع بعد شويا مع رجالة المجلس عشان كده هحكيلك على التلفون بس ركز معايا كويس.
في فترة عمودية جدك ربنا يرحمه كان سلطان الصاوي وخالد الشرقاوي -والد صفوان- المسؤولين ع مجلس القضاء في القرية ومكلفين بالأحكام ع المسائل اللي بتوصلهم، لحد ما اتعرض قدامهم واحد اسمه سليمان عامل بسيط متهم بسرقة مبلغ مالي من الخزنة وهو اعترف بالجريمة وطلب السماح مقابل انه يعوضهم خاصة ان ديه اول غلطة بيعملها وملوش سوابق.
أماء آدم بإيجاب كأنه يراه ليتابع العمدة :
- بس والدك ووالد صفوان رفضو وحكمو عليه بالنفي فطردوه من القرية واتمنع من انه يدخل ليها تاني.
- كأنه حكم تقيل شويا خاصة انه اول مرة بيعملها.
- للضرورة أحكام يابني والاتنين كانت عليهم مسؤولية كبيرة وممكن شافو أن أمن القرية هيهتز لو سامحو سليمان على غلطته.
- علشان كده هو حاقد على العيلتين وشايف انه اتظلم من الحكم ... تمام أنا فهمت.
أخيرا أُزيلت الغشاوة وظهرت الحقيقة واضحة.
- في حاجة تانية لازم تعرفها يا آدم واللي هي ان سليمان كان واحد من رجالة عيلتكم.
- ايه ؟ ازاي مش فاهم كان حارس يعني.
- لا هو كان المساعد الشخصي لجدتك الست حكمت وطلب منها تتوسطله وقت الحادثة بس رفضت وقالت انها مع الحق حتى لو اضطرت تبقى ضد القريبين منها.
- قالت أنها مع الحق !
خرجت الجملة بخفوت من ثغره المبتسم بسخرية وأنهى المكالمة ثم اتصل بجدته طالبا منها الحضور إلى مكانه ، وبعد مرور فترة زمنية سمع صوت احتكاك عجلات السيارة في الأرض يليها خطوات تسير خلفه ثم نبرتها الرخيمة وهي تهتف :
- خير ياحفيدي.
استدار إليها آدم ولأول مرة يراها بشكل مختلف عن النظرة التي تعود رؤية حكمت بها، السيدة الوقورة، الجدة الحازمة، والمرأة الثابتة.
فوقارها وحزمها وثباتها تزعزعوا في نظره بعدما أنكرت عديد المرات وعاندت حتى تخفي عنه الحقائق.
ولعل آدم كان يدرك كل شيء في السابق ويتجاهله بيد أن هذه اللحظة لم تكن سوى القطرة التي أفاضت الكأس !!
سمعها تناديه مجددا وقد تقدمت لتقف أمامه فتنهد مثقلا بأنفاسه ونقل بصره للمنظر الطبيعي أمامه مبرطما بلهجة عادية :
-فاكرة زمان لما قولتيلي أن العيلة زي الأرض يا ستي.
لم يسمع جوابها فاِستطرد ناطقا جملتها على لسانه هو :
- زي ما الأرض بتقدر تشيل كل حاجة في الدنيا وبتدينا الحياة كذلك العيلة بتشيل الأفراح والأحزان مع بعض وبتقدملنا الراحة والحب، والصدق.
شدد على آخر كلمة في جملته.
- بس حضرتك مقولتليش المفروض اعمل ايه لما اكتشف أن الحاجات اللي مخبياها الأرض ديه جواها مختلفة عن اللي بتطلعهولنا.
كان يمارس عليها لعبة الضغط بالكلمات، هذا ما أدركته حكمت وهي ترشقه بنظرات صلبة مغمغمة :
- من الآخر ياولد ولدي قول اللي جبتني علشانه.
وكان لها ما تريد فلقد غامت عينا آدم بخشونة مستدركا :
- زي ما اكتشفت ان الراجل اللي انكرتي معرفتك بيه طلع مساعدك وايدك اليمين ... اسمه سليمان مش كده.
رمى القنبلة في وجهها مباشرة وقبل أن تنكر نفذ صبره من عقاله فطفق يصرخ عليها بشراسة :
- متنكريش يا ستي أنا عرفت الحقيقة خلاص فهمت انك كدبتي عليا بس اللي مش فاهمه هو ليه سليمان حاقد عليكي انتي بالذات معقوله عشان مرضتيش تساعديه بعد ما سرق ولا في سبب تاني.
صمت مسترجعا أنفاسه المسلوبة ومطالعا وجهها الملتاع بنظرات حادة تحولت لأخرى مستحقرة حينما مط طرف شفته لأعلى واستطرد ساخرا :
- ولا عشان انتي نفسك أمرتيه يسرق من الخزنة ولما اتكشف حطيتي كل الحق عليه ماهو مبقاش غريب اننا نطلع من عيلة حرامية في الآخـ...
وانطفأت حرارة صراخه المهينة فجأة وهو يحس بتلك الصفعة تهوي على وجهه تماما كما هوت مطارق كلماتها مزلزلة الوجود وهي تلكم صدره بعنف قابضة على قميصه :
- الست اللي بتقول عليها كدابة هي وصلتك لأنك تقف قدامي بكل وقاحة وقلة رباية وتقول اني حرامية، الست ديه هي نفسها صنعت عيلة الصاوي ولولايا مكنش جدك اللي اتجوز عليا هيبقى العمدة ولا انت هتكون آدم سلطان الصاوي اللي بيتعمله ألف حساب !!
- عاوز تعرف سليمان ماسك عليا ايه يخلي عيلتك تتفضح صح ماشي اسمع يا ولد ولدي ... قبل موت العمدة القديم كتب وصية يوكل فيها العمودية لحد غيره بس الحد ده مكنش جدك زي الناس ما فاكرة لأن انا زورت الوصية بمساعدة سليمان الكلب والاسم اللي كان مكتوب ع الوصية الحقيقية هو عدونا اللدود ... خالد الشرقاوي جد صفوان !!
__________________